الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقعت على وجهه فردها الرسول لمكانها فصارت أحسن ما كانت عليه، ثم انصرف الرسول من مكانه فأدركه أبي بن خلف الجمحي وهو يقول لا نجوت إن نجوت، فتناول رسول الله الحربة من الحارث بن الصمة فطعنه في عنقه، فسقط وخار خوار الثور يقول قتلني محمد، فقال له أصحابه لا بأس، فقال لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم ومات بعد يوم. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد غضب الله على من قتله نبي في سبيل الله. اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه نبي الله. ولما صار الرسول يدعو الناس من على الصخرة عرفه كعب بن مالك فنادى بأعلى صوته يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول
الله، فأشار إليه أن اسكت، فانحدرت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم على الفرار، فقالوا فديناك يا رسول الله بآبائنا وأمهاتنا، قالوا قد قتلت فولينا مدبرين من الرعب، فنزلت هذه الآية والتي بعدها والآيات 48/ 49/ 50 من سورة القلم في ج 1 كما أشرنا إليها فيها.
مطلب من أمي قديم، إلى حزن حادث وفي الربا ومفاسده. ووجود الجنة والنار والأوراق النقدية:
وفي هذه الساعة من يوم الثلاثاء 14 صفر سنة 1358 جاء إليّ قائد الدرك السيد محمد أمين العاشق الحديدي من أهالي دير الزور نعى إلي بمزيد الأسف وفاة ملك العراق المحبوب الشريف غازي الأول بسبب اصطدام سيارته بعامود الكهرباء في بغداد، تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته وجبر مصاب أهل البيت والمسلمين أجمع بفقده، وعوضهم خيرا منه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون، فتركت القلم إلى العزاء بهذا المصاب الأليم وبصفتي وكيلا للقائمقام بقضاء القنيطرة علاوة على وظيفة القضاء أمرت بتنكيس الأعلام الرسمية وقعدت لأتقبل التعزية، وهكذا لمدة ثلاثة أيام، ثم عدت بعد انتهاء العزاء إلى ما أنا فيه جعلها الله خاتمة المصائب إلى إكمال هذا الحزن الذي فيه من أسى ما وقع لجده في حادثة أحد التي تكبد فيها حضرة الرسول ما تكبد من مشاق بسبب مخالفة أصحابه أوامره، ولكن ما قدره الله أزلا فهو كائن لا محالة.
قال تعالى «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ» لقلة عددكم وعددكم «فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (123) نعمه، فإن التقوى هي الأساس الأقوى لنيل كل خير ودفع كل ضر، ولم تكرر لفظة بدر بالقرآن.
واذكر يا محمد لقومك «إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ» يوم بدر وعليه اكثر المفسرين وقيل يوم أحد ولكل وجهة في تأويل القلة بالنسبة ليوم أحد، والكثرة بالنسبة ليوم بدر، وهو أحوج لأنه أول بادرة وقعت من المسلمين تقوية لقلوبهم وخذلانا لأعدائهم، ومقول القول «أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ» (124) من قبل الله منزلين الخوف بقلوب أعدائكم «بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ» من ساعتهم مأخوذ من فارت القدر إذا غلت واستعير إلى السرعة الشديدة التي لا ريث فيها، ولذلك وصف الفور «هذا» لتأكيد السرعة فكأن المؤمنين لما رأوا كثرة المشركين وبلغهم أنه سيأتيهم مدد، حصل لبعضهم خوف بسبب قلتهم، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما ذكره الله في صدر الآية وأكد لهم قربه لنصرتهم بقوله هذا، كأنه ينظر إلى نزول الملائكة من السماء ويشير إليهم قائلا هذا «يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» (125) معلمين بعلامات يعرفها الفارس يوم اللقاء، قال عنترة:
فتعرفوني أنني أنا ذلكم
…
شاركي السلاح في الحوادث معلم
قال تعالى «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ» إمداد الملائكة «إِلَّا بُشْرى لَكُمْ» بالنصر والمعونة «وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ» فتقوى ولا يتخللها الجزع من كثرة عدوها «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ» الذي لا غالب له النادر الوجود «الْحَكِيمِ» (126) بإعطائه النصر والظفر لمن يريد لا لمن نريد نحن حسبما هو كائن في علمه لأن كل ما يكون في الكون عبارة عن إظهار ما هو مدون أزلا عنده، لا من الملائكة ولا هو منكم، وقد فعل الله ذلك «لِيَقْطَعَ طَرَفاً» يهلك طائفة «مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ» يوهنهم ويصرعهم على وجوههم «فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ» (127) من الظفر الذي أملوه في غزوتهم هذه. تشير هذه
الآية إلى أن القصد من إنزال الملائكة في حادثة أحد هو هذا لا غير، ولهذا ذكرهم بنصرهم بواسطة الملائكة في حادثة بدر مع قلتهم لأخذهم بتعاليم الرسول، وكان مددهم بألف من الملائكة لأن عدوهم كان ألفا، قال تعالى (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ) الآية 10 من سورة الأنفال المارة فكان النصر لكم وفي واقعة أحد هذه قد أغاثكم أولا بثلاثة آلاف لتكثير سوادكم بأعين عدوكم، وإلا فملك واحد يكفي لإبادتهم، ألم تر كيف أدخل السيد جبريل جناحه تحت قرى قوم لوط الأربع ورفعها إلى العلو ثم قلبها كما مرت الإشارة إليه في الآية 82 من سورة هود ج 2، وان عدد الخمسة آلاف مشروط (1) بالصبر (2) والتقوى (3) ومجيء الكفار مددا، وبما أن مدد الكفار لم يأت لسماعهم بخذلان قومهم فالآية لا تشير إلى حضورهم إلا بتلك الشروط الثلاثة، وكان الوعد بإنزال الخمسة آلاف ليناسب عدد الكفار فيها كما كان الألف مناسبا لحادثة بدر بالنسبة لعددهم والله أعلم. قالوا إن الملائكة في حادثة أحد لم تقاتل إلا عند الدفاع عن الرسول.
روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد. وقال عمير بن إسحاق لما كان يوم أحد انجلى القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي سعد بن مالك يرمي وفتى شاب يتنبل له كلما فنى النبل أتاه فنثره وقال إرم أبا إسحاق، إرم أبا إسحاق، فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل فلم يعرف ذلك الرجل. ولهذا قال ابن عباس إن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر، وفي بقية الحوادث تنزل تكثيرا لسواد المسلمين، وحمل ما جاء في هذا الحديث وهذا الخبر على أنهما كانا جبريل وميكائيل، ومعنى يقاتلان أي يذبان ويدافعان عنه ويردان ضربات المشركين عنه بعد ما أصابه ما أصابه، ولم يغلب المؤمنون إلا بسبب مخالفتهم تعاليم حضرة الرسول كما مرّ. قال تعالى «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ» (128) روى مسلم عن مالك بن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته وشجّ في رأسه فجعل يسلت الدم عنه ويقول كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو
يدعوهم إلى الله؟ فأنزل الله هذه الآية وذلك لما رأى رسول الله تمثيلهم بحمزة وتجاسرهم عليه أراد أن يدعو عليهم. وقيل إنه أقسم ليمثلنّ في سبعين من خيارهم فرد الله عليه لعلمه بإسلام بعضهم وأنه قد يولد منهم من يوحد الله تعالى، ولهذا خاطبه بأن أمر إهلاكهم ليس لك بل هو لي وحدي إن شئت عذبتهم بظلمهم وإن شئت عفوت عنهم ووفقتهم للإيمان، وهنا نزلت الآيات من آخر سورة النحل كما ألمعنا إليها في محلها ج 2. وما قيل إن هذه الآية نزلت في حادثة بئر معونه ينافيه سياق التنزيل وسياقه ومؤخره. قال تعالى «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وما فيهما كيف يشاء فينصر من يشاء ويخذل من يشاء و «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (129) بعباده لا يعجل عقوبتهم لسابق علمه بما يئول أمرهم إليه، فقد أخرج البخاري وأحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية، فنزلت الآية، ثم يتوب عليهم كلهم كما سيأتي بعد هذا، وكان قدوم قريش إلى أحد يوم الأربعاء في 12 شوال سنة 3 من الهجرة وخروج الرسول وأصحابه بعدم. ومن هنا يعلم أن الآيات من 90 إلى إلى 127 نزلت متأخرة عما بعدها كما هو معلوم من سياق القصص تأمل، وكان التقاء الجمعين يوم السبت الخامس عشر منه، وسبب الانكسار ما ذكره الله من المخالفة لأمر الرسول لأنه حذرهم من مبارحة أمكنتهم وأكد عليهم ملازمتها سواء غلبوا أم غلبوا كما مر آنفا في الآية 122، وقد أراد الله بذلك أن يمنعهم عن العود إلى مثلها فيتباعدوا عن مخالفته ولا يتجاسروا على معارضته ولا يميلوا إلى غير رأيه، وأن لا يدخل في قلب أحد منهم ريب بأن ما يريده هو الصواب وليعلموا أن ظفرهم يوم بدر كان ببركة نبيهم وطاعته ولطف الله ومعونته لا بقوتهم.
وسيأتي لهذه الحادثة زيادة تفصيل بعد هذه الآيات الواردة كالمعترضة بين آيات القصة وهي قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ» بالابتعاد عن تعاطي جميع أنواع الربا «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (130)
في الآخرة فتفوزوا بالسعادة وزيادة الثواب المتوقفين على التقوى في المحرمات كافة ومن تعاطي الربا في الدنيا لأنه من الكبائر
بدليل قوله تعالى «وَاتَّقُوا النَّارَ» بانكفافكم عنه لأنه يؤدي إليها، ويوجب الوقوع فيها وذوق عذابها المؤلم وهي «الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» (131) وهيئت لهم لاستحلالهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل. وأنتم أيها المؤمنون إذا لم تنتهوا عن الربا يكون مصيركم مصيرهم.
تشير هذه الآية بهذا التهديد والوعيد لهذا الصنف من الناس وهي أخوف آية في القرآن إذ أوعد الله المؤمنين بما أعده للكافرين إن لم يجتنبوا محارمه، وهذه الآية والآية 44 من سورة البقرة المارة تؤيد أن النار مخلوقة ومهيأة للكفار، كما أن الجنة معدة ومهيأة للمؤمنين، وهما كافيتان المراد على قول القائلين بعدم وجود الجنة والنار وأن الله سيخلقهما بعد، فضلا عن الآيات الأخر المثبتة وجودهما والأحاديث المخبرة عن ذلك، وخاصة حديث المعراج المصرح فيه اطلاع حضرة الرسول عليهما ليلة أسري به، راجع أول سورة الإسراء ج 1، فلم يبق من قيمة لما يتقولونه بعدم خلقهما بعد هذا تدبر «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ» فيما يأمركم وينهاكم عنه «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (132) فتخلصون من النار وتدخلون الجنة برحمته.
هذا، وقد ذكرنا في الآية 39 من سورة الروم في ج 2 ما يتعلق بربا البيوع كالعينة وشبهها وفي الآية 275 فما بعدها من البقرة المارة ما يتعلق بربا النسيئة وهذه الآية الثانية النازلة في الربا المبينة ربا الفضل وهو نوع آخر من أنواع الربا الثلاثة وهو أعظمها إثما عند الله تعالى، راجع الآية 175 من البقرة، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا استحق الدين الذي أصله ربا أو غيره على المدين ولم يقدر على إيفائه يقول له الدائن زدني في المال لأزيدك في الأجل، فيفعل مضطرا لعدم القدرة على أدائه ولربما استحق ثانيا وثالثا فيزيده في المال ويزيده في الأجل حتى يكون الفضل أكثر من الأصل، ولذلك شدد الله تعالى فيه ونهى عن أكله، وقد حرم الله الربا بأنواعه الثلاثة في هذه الآيات الثلاث وبالأحاديث التي ذكرناها قبل وفي سورة البقرة وحديث أحمد الذي لفظه: درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية في الإسلام. وحديث ابن جرير وأبي الدنيا: الربا اثنان
وستون بابا أدناها الذي يقع على أمه. وحديث النسائي قال ابن مسعود إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، إذا علموا ذلك يلعنون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. وهذه الآيات الثلاث كلها محكمة، لأن كلا منها في نوع مخصوص كما بيناه في محله، وما قاله بعضهم من أن هذه الآية ناسخة للآية والآيات من سورتي الروم والبقرة لا مستند له ولا حجة ولا دليل، بل جاءت تبين أن عذاب هذا الصنف كعذاب الكفرة، لأن التضعيف في الربا دلالة على الاستحلال والعياذ بالله.
هذا وما قاله بعضهم من أن آية البقرة مطلقة وآية آل عمران مقيدة لها فلا يكون الربا محرما إلا بالأضعاف المضاعفة لا وجه له ولا حجة ولا عبرة به، لأن قوله تعالى (وَحَرَّمَ الرِّبا) في البقرة نص على العام، وأل فيه إما أن تكون للجنس فيكون مطلقا في سياق النهي فيعم ضرورة كل أنواعه، وآية آل عمران هذه نص على فرد من أفرد ذلك العام ولا تعارض بين منطوقيهما، وإن التعارض بين منطوق الأول ودلالة الخطاب في الثانية لا يتحقق إلا إذا لم تكن هناك فائدة للقيد غير فائدة التخصيص، وقد اتفق علماء الأصول على ترجيح المنطوق على المفهوم في باب المطلق والمقيد ولو لم يكن للقيد فائدة أخرى، وعليه فلا تعارض بين هاتين الآيتين وبقي الحكم للعام على فرض أن أضعاف مضاعفة ليس لها فائدة في التقيد بها غير التخصيص باتفاق الأصوليين، وإما أن تكون للاستعراق فيكون من قبيل العام أيضا وحاصله كذلك نص على العام ونص على فرد من أفراده، ولا تعارض بين منطوقيهما، وإنما التعارض بين منطوق الأول ومفهوم الثاني، ولا عبرة بالمفهوم حتى يكون القيد ليس له فائدة غير فائدة التخصيص، وقد اتفقت العلماء على أن القيد للتقبيح والتشنيع، ومثله مثل خشية إملاق في قوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) لأن القتل منهى عنه سواء وجد خوف الفقر والفاقة أم لا كما أشرنا إليه في الآية 33 من سورة الإسراء في ج 1 والآية 15 من سورة الأنعام في ج 2 ومثل (أَرَدْنَ تَحَصُّناً) في قوله تعالى (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) الآية 33 من سورة النور الآتية، لأن الإكراه على البغاء ممنوع شرعا سواء أريد التحصن أم لا كما سنوضحه في محله إن شاء الله. وهذا الأسلوب
وهو التنصيص على أشنع الحالات وأقبحها أسلوب معروف في لغة العرب وكتاب الله وسنة رسوله، لأنه أدخل في الزجر وأقوى باعث على امتثال النهي، لا أنه هو العلّة التي يدور عليها الحكم وجودا وعدما، بل العلة غيره، وهذا هو أقبح الصور التي سيتحقق فيها، والذي يقطع الشك في تحريم القليل والكثير ويرد قول القائل بحل قليل الربا الذي يعين بالاجتهاد على زعمه الفاسد (ويجهل أن لا اجتهاد في مورد النص) ويعتبران آية (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) ناسخة لآية (وَحَرَّمَ الرِّبا) لأنها مطلقة ومتأخرة عنها والمتأخر ينسخ المتقدم أو يقيده أو يخصصه، قوله تعالى (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لأنها جملة حاصرة للخبر المقدم على المبتدأ المؤخر وللصفة على الموصوف، لأن معناها لكم رءوس أموالكم التي خرجت من أيديكم لا غيرها، ثم تأكيدها بقوله (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) فهو تأكيد يدفع كل احتمال ويقطع كل شك ويجتث كل شبهة، لأن معناه لا تظلمون الآخذ بأن تأخذوا منه أكثر مما أعطيتموه، ولا تظلمون أنفسكم بحط شيء من رأس مالكم فتأخذوا أنقص منه إلا ما عفوتم، وعلى هذا فلم يبق من شك أن الحكم للعام باتفاق العلماء وعلى جميع قواعد الأصوليين. على أنا قد ذكرنا آنفا في تفسير الآية 275 من البقرة أن هذه الآية مقدمة في النزول على آية البقرة لأنها آخر آية نزلت في العقود، فلم يبق محل لدعوى النسخ، تدبر ما يأتي فيما يدل على ما ذكرناه. هذا، وأن ما استأنس به هذا القائل بحل الربا القليل وعدم تحريمه إلا أن يكون أضعافا مضاعفة من قول عمر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ينتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب الربا.
وفي رواية: الحد بالحاء. وقوله رضي الله عنه إلا أن آخر ما نزل من القرآن هو آية الربا. ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يفسرها لنا، فدعوى الربا والريبة هو استيناس بغير محله، لأن عمر وسائر الأصحاب رضوان الله عليهم يعلمون ما بينه الله ورسوله من تحريم الربا الذي كان يتعاطى بالجاهلية قليله وكثيره، وجميع أنواعه لا سيما وأن الرسول قال في خطبته المشهورة في حجة الوداع على رءوس الأشهاد: كل ربا في الجاهلية موضوع لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.
ألا وان حضرة الرسول بين بالأحاديث المتقدمة في سورة البقرة ما يكون فيه الربا من الأنواع الستة مما حدا بسيدنا عمر رضي الله عنه أن يقول ما قال وهو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بأحاديثه التي بلغت عمر وما يلتحق بها فحسب، أو أن المراد بالربا معناه اللغوي، فيدخل فيه ما ذكره الرسول وما لم يذكره مما يتدرج تحت المعنى اللغوي الذي هو زيادة على مزيد عليه في معاملة بين طرفين عينا كانت أو نقدا، حاضرة أو نسيئة، ويدخل في هذا الباب الأوراق النقدية التي أحدثتها الحكومة وأمرت بالتعامل بها بدلا من الذهب والفضة بين الناس في مبايعاتهم وأنكحتهم وغيرهم إذا بيعت بالتفاضل حالا أو نسيئة، لأن الله تعالى حرم الربا بصورة عامة لم يقيده بشيء ما، والحديث الشريف إنما عد الأشياء الستة لأنها كانت مما يرابى بها بالمدينة ولم يحصرها بها ليقال لا يجوز أن يزاد على ما ذكره الرسول، ولا يقال إن هذه الأوراق من قبيل العروض فلا مانع من التفاضل ببيعها، لأن العروض لها قيم خاصة معروفة ومجهولة، أما الأوراق النقدية لولا طابع الدولة فلا قيمة لها، لأن الذي جعلها تتداول بين الناس بمثابة الذهب والفضة هو طابع الدولة وتكفلها بدفع قيمتها عند الحاجة. واعلم أن القول بعدم الربا في هذه الأوراق يجرّ إلى القول بعدم وجوب الزكاة فيها والنقد المتداول كله منها، فيتعطل ركن من أركان الدين الإسلامي والعياذ بالله. هذا، ونعود إلى البحث الأول فنقول وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق: إذا كان المراد بالربا معناه اللغوي أي مطلق الزيادة اعتبار بإطلاق الآية المندرج تحتها كل ما فيه تفاضل فيا ترى ما حد هذا الاندراج، أيشمل ما قصد وما لم يقصد فيشمل زيادة العين وزيادة الانتفاع وغيرهما، أم لا يشمل إلا ما قصد إليه في المعاملة فحسب، أم هو المراد؟ فلهذا ود عمر أن يكون بينه الرسول حتى لا يقع في هذا التورط الشاق وهذه المسئولية العظيمة، وكيف لا وهو إن أخذ بالأول من غير مرجح له وحمل الناس عليه أوقعهم في معاملات كثيرة قد تكون الآية شاملة لها إن كان المراد المعنى الثاني، وإن أخذ بالمعنى الثاني ولم يكن مرادا في نفس الأمر أحرج الأمة وضيق عليها فيما لا قطع فيه، لذلك احتاط لنفسه في الفتوى وأخذ بأحوط الأمرين لأنه تردد بين احتمال مبيح واحتمال محرم، ت (26)
ولما كان من الأحوط الأخذ بالتحريم فقد نصح لهم أن يتركوا ما فيه ريبة في ذلك اتباعا لقوله صلى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وقوله صلى الله عليه وسلم: الحلال بيّن والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه. فالتقي الورع الذي يخشى عتاب الله يجتنب كل ما فيه شبهة ربا من نقد ومكيل وموزون وما يقوم مقام النقد من أوراق نقدية وغيرها حتى بيع العينة التي نهى الرسول عنها بأحاديث متعددة وهي أن يبيع الرجل آخر سلمة بثمن ثم يشتريها منه بأنقص مما باعها، لأن هذا من باب الاحتيال على الله بشأن الربا، وهو لا تخفى عليه خافية، ألا ترى أن بني إسرائيل لما احتالوا على صيد السمك الذي نهاهم الله عنه يوم السبت مسخوا قردة وخنازير كما بيناه في الآية 164 من سورة الأعراف في ج 1؟ ولهذا البحث صلة في الآية 63 من سورة المائدة الآتية وفي الآية 16 من سورة النساء أيضا فراجعهما. وان قول عمر رضي الله عنه في الأثر الأول (وأبواب من أبواب الربا) يفيد أن
اشتباهه لم يكن مداره القلة والكثرة في تحريم الربا ولكن فيما لم يعهد إليهم فيه عهد منه مما لم يتبيّنه ولم ينته إليه علمه من غير الأمور الستة التي كانت متعارفة في المدينة ولم يقل صلى الله عليه وسلم لا ربا في غيرها ليكمل الاحتجاج به إلى عموم الآية وهي (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) أي بجميع أنواعه وأصنافه من كل ما فيه زيادة تأمل. هذا واعلم أن قوله في الأثر الثاني (إن آخر القرآن تنزيلا هو آية الربا) كما ألمعنا إليه في الآية 275 من البقرة المارة، أي إن الآية التي هي من آخر ما نزل من القرآن هي آية البقرة وقد علمت أنها تمنع القليل والكثير. ومما يدل على أن المراد بآية البقرة ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه وابن جرير أنه قال:
من آخر ما نزل آية الربا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يقسرها لنا، فدعوا الربا والريبة، أي كل ما يشك به من الربا. ولو أن عمر رضي الله عنه كان مدار اشتباهه في الآية على عدم التمييز بين الربا القليل الذي هو حلال، والربا الكثير الذي هو حرام، لكانت آية آل عمران هذه هي محل الاشتباه، ولو كان
في هذه الآية لديهم من ريبة لسألوا عنها حضرة الرسول لأنها نزلت قبل وفاته بكثير، لأن آية قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية 4 من المائدة، نزلت بعدها، وقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها واحدا وثمانين يوما ولم ينزل بعدها إلا آية (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) الآية 280 من البقرة المارة، فراجعهما.
هذا وقد علمت مما تقدم أن الأثرين حجة عليه لا له، وإن تذرعه بالاجتهاد مردود عليه، إذ لا اجتهاد في مورد النص، وممنوع إذ يصادم قوله تعالى (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم وان ربا الجاهلية موضوع لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، مما يدل دلالة صريحة على أن آخر آية في الربا نزولا هي آية البقرة المذكورة. واعلم أن القصد من معارضة هذا المعارض إرادته إباحة إنشاء المصارف (البنوك) وأخذ الناس منها بربا يسير أقل من ربح البايع فيما يبيعه، وهذا لمن يتكلم بحق إرادة الباطل مثل دعاة السفور وهم يريدون الخلاعة لا غير، وإذا بحثنا في هؤلاء الذين يأخذون من المصارف تجدهم إنما يأخذونه لغير حاجة ماستة لأنهم إما يريدون تكثير زراعتهم إن كانوا مزارعين، وتجارتهم إن كانوا تجارا، أو زواجا أو بناء أو ملكا ما أو بذخا ليساووا من هو فوقهم وأكبر منهم وأغنى، أو طمعا بربحه اليسير وإعطائه بأضعاف ريحه لمن لا يقدر أن يأخذ من المصرف ليكاثر وينامي غيره به ومع هذا إنا نرى الذين تعاطوا هذا لم يتيسر لهم ما أملوه، فلم تمض مدة حتى ترى الملاك حجزت أملاكه، ولتاجر أعلن إفلاسه، والمزارع صار يستلف على زراعته لأداء ما عليه منه، والآخر أصبح فقيرا معدما، وهذا هو السر في قوله تعالى (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا) فكان الأحسن لهذا والأجدر به أن يكون داعيا إلى الله موصيا الناس بالقناعة بما في أيديهم، ويحث الأغنياء على زكاة أموالهم لكفاية الفقراء، ويحبذ لهم القرض لمن يأمنوا على أدائه لهم وجواز إعطاء الفقير بما دون حد الغنى من الزكاة، فلو أعطى هؤلاء وأقرض الآخرون لقدر الفقراء على تأمين معيشتهم من البيع والشراء بالأشياء العادية من الخضروات وشبهها مما هو من حوائج العامة فيغنيهم الله من فضله ويبارك لمن ساعدهم ويعطى هذا المحبذ للمصارف والأخذ منها أكثر مما يعطونه أهلها، لأن
عطاء الله ممدود، وعطاءهم مقصور محدود، فيتكل على الله ويمنع أولئك من الأخذ من المصارف والاشتغال بما في أيديهم فهو أنفع لهم من الازدياد بما يوجب دمارهم، ويعلمهم بأن أخذ بعضهم من بعض سواء كان بطريق القرض أو التجارة أو الصدقة أبقى للرابطة بينهم، واحفظ لمادة التفاضل، قال صلى الله عليه وسلم: لا تزال أمتي بخير ما تفاضلت.
وقال تعالى (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) الآية 72 من سورة النحل، وقال (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) الآية 253 من البقرة المارة، ولهذا فإن نظام العالم لا يقوم ولا يدوم إلا بهذه الصورة. وإذا أنعمت نظرك علمت أن الربا لا يجوز بوجه من الوجوه، لأن المال الذي يعطيه الغني إلى الفقير هو مقدار ما بذل من جهود إلى الهيئة الاجتماعية فلا يستحق عليها مزيدا، ولأنه ليس سلعة معينة بيد الآخذ ينهكها العمل ويؤثر فيها الاستعمال حتى يستحق تعويضا في نظيرهما، ولأن كل ما حصله الآخذ بواسطتها إنما يكون بجهوده، وهو المستحق لثمرة حصلت بها دون سواء، ولأن الزائد الذي يدفعه إلى المرابي إنما هو زيادة أخذها من جهوده فوق ما قدم للوجود من جهود، فأخذه لها من غير استحقاق ظلم بحت ومعاملة مخالفة للنظامه الفطري الذي هو التعاون الموجب للتوادد والتحابب بين الناس، لأن معاملة الربا تؤدي للتنازع والتفرقة والبغض والحقد، وكل هذا مما يضر بالمجتمع ويرهقه ويضعف مادة التناصر المجبولة عليها الفطر السليمة، فضلا عن أنه فيه قلب لوضع الذهب والفضة لأنهما بعد أن وضعا مقياسا للأشياء ووساطة في نظام التبادل أصبحا سلعا يقصد بها الربح الربوي مما يسبب تعطيلا للأيدي العامة اتكالا على ما يدره إليها من ربح الربا فيجعل مجهود العامل لغيره وليس له حق فيه أو بينه وبين المرابي، وهذا مما ينهكه أيضا ويضاعف جهوده على حساب غيره فلا يستطيع القيام بأعباء الحياة. وإن هذه الطريقة تجعل المال دولة بين الأغنياء إرهاقا للفقير بأخذ مجهوده ليتنعم الغني ويبلس الفقير، ومن هنا تنشأ العداوة والضغائن وتقع التفرقة والبغضاء، وتضعف الروح المعنوية بين المجتمع الإنساني، فتحصل الأضرار التي لا تتلافى حتى يعقد الفقير في قلبه التربص للانتقام من الغني أو الانتحار لنفسه، ولأنه يؤدي لاحتكار النقدين لقصد التعامل بالربا فقط فيقلان في أيدي الناس