الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فتنفقوا منها جميعا، لأنه لا يجوز الإنفاق من مال اليتيم وفي حال خلطها مع أموالكم عدم مبالاة في حفظها ومدعاة للإنفاق منها على أنفسكم دونهم، إذ يجب على ولي اليتيم أن يفرق بين أمواله وأموال يتيمه وأن ينفق على نفسه وغيره من ماله فقط، وعلى اليتامى من أموالهم إنفاقا بالمعروف إذا لم تسمح نفسه بالإنفاق عليهم من ماله وعدهم من جملة عياله «إِنَّهُ» الأكل من مال اليتيم أو تبديله بأحسن منه «كانَ» عند الله ولا يزال «حُوباً كَبِيراً» (2) إثما عظيما عقابه عظيما عند الله.
مطلب في أخلاق الجاهلية وفوائد السلطان للبلاد والعباد. وأكل مال اليتيم:
كان رجل من غطفان معه مال كثير لابن أخيه، فلما بلغ منعه عمه منه، فترافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا عليهما هذه الآية فقالا أطعنا الله والرسول ونعوذ بالله من الحوب الكبير، ودفع إلى اليتيم ماله. هكذا كانت طاعة العرب الذين يسمونهم بعض الناس في خطبهم أجلافا، وما كانوا بأجلاف وإنما هم شم الأنوف، وقد هذبهم الإسلام فألانهم، وإلا فإن الخصال التي كانت عندهم من المروءة والشهامة والكرم ومكارم الآداب والأخلاق والعفو والصفح والعطف، لم تتحل بها أمة من الأمم الراقية لا قبل ولا بعد، وإنما يتأسى بهم من يفعل فعلهم، نعم كانت عندهم عصبية بعضهم لبعض وكان بينهم ظلم وفحش وجور وغلظة وقساوة من مقتضيات عاداتهم الجاهلية التي طبعوا عليها من مئات السنين، وقد محاها الإسلام وحرمها وأبدلها بأضدادها، ورب شيء محمود بالجاهلية مذموم في الإسلام، كما يكون ممدوحا في الشرع ومذموما بالطب وبالعكس، راجع ص 17 من حاشية الباجوري على ابن قاسم في كتاب الطهارة، وقد بقي آثار من أعمالهم الجاهلية في البوادي ووصلت إلى القرى، وقد توجد الآن عند بعض الأرياف فإنهم لا يورثون اليتيم ولا المرأة بل يرثونها، وذلك لقلة علمهم وعدم وجود العلماء عندهم وكثرة طمعهم، والقصور كله على الحكومة التي أهملتهم وتركتهم على ما هم عليه، وإلا لو أرسلت إليهم النصاح والمرشدين والمعلمين لما بقي لهذه العوائد من أثر، اللهم بصرهم لينفعوا عبادك وينشروا القسط في بلادك، لأن زمام الأمور بيد السلطان، وانه ليزع به أكثر مما يزع بالقرآن، فهو القطب الذي عليه مدار الدنيا، وقوام
الحدود، ونظام الحقوق، وهو حمى الله، وظله الممدود على عباده وبلاده، به يمتنع صريخهم، وينتصر مظلومهم، ويقمع ظالمهم، ويأمن خائفهم. على أن غير العرب في ذلك الزمن كان أكثر وحشية منهم وأشد ظلما وأعظم تكبرا، وحتى الآن توجد فيهم هذه الخصال وأشنع وأقبح وأفظع، كما يذكرونه في جرائدهم.
قال تعالى «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى» الذين هم تحت تربيتكم إذا أردتم الزواج بهن «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» غيرهن وزوجوهن لغيركم وتزوجوا من شئتم من غيرهن «مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ» أي اثنتين اثنتين أو ثلاثا ثلاثا أو أربعا أربعا فحسب، أما الزيادة على الأربع فحرام عليكم، وليس لكم أن تقتدوا بحضرة الرسول فيما هو من خصائصه، وهذا هو الحكم الشرعي. ولا دليل في هذه الآية على التسع بزعم جواز ضم الأعداد الثلاثة أي جمعها لأنها تكون عشرا لا تسعا بضم الواحدة التي قبل الاثنتين، لأنها مبدأ العدد، ولأن الخطاب للجميع، وسبب التكرار ليصيب كل ناكح يريد الجمع الذي أراده من العدد الذي أطلق له، كما إذا قلت لجماعة اقتسموا هذه الألف درهمين درهمين، أو عشرة عشرة، أو مئة مئة، فإن الواحد يناله أحد هذه الأعداد لا مجموعها، تدبر، يدل على هذا ما أخرجه أبو داود عن الحارث بن قيس قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اختر أربعا (أي واترك الباقي) . وما أخرجه الترمذي عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره رسول الله أن يختار منهن أربعا فقط. ومن هنا تعلم أن ما عليه بعض الإمامية ومن حذا حذوهم من تجويز الجمع بين التسعة لا يتفق وصريح الآية المؤيدة بهذه الأحاديث الصحيحة، ومخالف للإجماع، راجع أول سورة فاطر في ج 1. «فَإِنْ خِفْتُمْ» أيها الراغبون في زواج أكثر من واحدة «أَلَّا تَعْدِلُوا» بينهن «فَواحِدَةً» فقط فتقتصرون عليها «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» من الجواري إذ لا يجب العدل بينهن «ذلِكَ» الاقتصار على الواحدة مع تحقق عدم العدل بين الأكثر أقرب و «أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا» (3) تميلوا عن الحق الذي أوجبه الله عليكم من القسمة
بين الأزواج فتجوروا على بعضهن، من عال يعول بمعنى مال يميل، وبمعنى جاوز يجاوز، ومنه عول الفرائض إذا جاوزت المسألة سهامها تسمى عولية، وعليه يكون المعنى الاكتفاء بالواحدة أقرب من أن لا تجاوزوا ما فرضه الله لكم.
وقال الشافعي وهو حجة في اللغة كغيرها: من عال صار ذا عيال أي أن لا تكثر عيالكم فتعجزوا عن القيام بهم، وقد خطأه أبو بكر الرازي باعتبار أن سياق الآية يبعد المعنى المراد من العيال وسباقها كذلك، إلا أنه قد لا يؤخذ بقوله لأنه لا وقوف له على كلام العرب مثله، على أنه يجوز استعمال كلمة في معنيين ومعان أيضا بما يناسبها، وهذا مما يؤسفني لأنه قد فتح بابا لبعض الحمقى فصاروا يعترضون على أسلافهم الكاملين من حيث لم يفهموا أقوالهم وليسوا بأهل لنزالهم، فقال سامحه الله إدا كان من كثرة العيال فيقال عال يعيل لا عال يعول، ولا يعلم أن العرب تقول عال الرجل عياله يعولهم، كما يقال مان ويمونهم إذا أنفق عليهم، وقد روى الأزهري عن الكسائي قال: عال الرجل إذا اقتصر، وأعال إذا كثر عياله. وروى الأزهري أيضا في كتاب تهذيب اللغة عن عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم في قوله (ألا تعولوا) أي لا تكثر عيالكم، وعليه فيكون هو المخطئ لا الشافعي ولكنه استعجل ولم يتثبت. قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره بعد أن فند قول المخطئ: الطعن لا يصدر إلا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة، وذلك لأن اللغة العربية واسعة ولكلماتها معان كثيرة وان مجيئها لمعنى لا يعني أنها لا تكون لمعنى آخر، وإن من وقف على روحها وطاف على معناها وتفقأ في الإحاطة بمبانيها قد لا يخطىء أحدا لأنه يرى لكل وجهته، ولو أنه قال تكون بمعنى كذا وبمعنى كذا والأول أولى لمناسبة ما قبلها وما بعدها لكان خيرا له من أن يخطىء من هو أعلم منه، عفا الله عنه ووفقه لما به الصواب. هذا وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري ومسلم عن عروة أنه سأل عائشة عن قوله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ) الآية قالت يا ابن أخي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها (أي وهي ممن تحل له) فيرغب في جمالها أو مالها ويريد أن ينقص من صداقها، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن (أي إذا لم يعدلوا في صداقهن
مثل أمثالهن) قالت عائشة فاستفتى الناس رسول الله بعد ذلك، فانزل (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) الآية 127 الآتية، وسيأتي تمام البحث في تفسيرها إن شاء الله تعالى القائل «وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً» عطية وهبة عن طيب نفس ورغبة جنان «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً» فوهبة لكم بلا تكليف منكم «فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» (4) هذا خطاب لأولياء النساء اليتامى وغيرهم، بالنظر لإطلاقها، أي أن الله يأمركم أيها الناس أن تعطوا النساء مهورهن كلها ولا تأخذوا منه شيئا إلا إذا سمحن لكم بشيء منه عن طيب نفس بعد أن يتسلمنه فلا مانع من أن تأخذوه، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا زوجوا المرأة لمن معهم في العشيرة لم يعطوها من مهرها شيئا بل يأخذونه كله إلا ما يمنحونها به من ركوبة أو لباس، وإذا زوجوها غريبا عنهم حملوها على بعير إليه وأكرموها بلباس لا يعطونها غيره، فنهاهم الله عن ذلك، وهذه العادة القبيحة لها بقية أيضا حتى الآن في عرب الأرياف والبادية، وكذلك عند الأكراد والجراكسة، وأيضا الشغار لا زال جاريا بينهم إلا أنهم يعطونها ركوبة ولباسا سواء كانت لقريب أو لغريب لا على الخيار في القريب كما هو في الجاهلية الأولى. الحكم الشرعي:
وجوب إعطاء تمام المهر للزوجة في الشغار وغيره، إذ يجب إعطاء البديلة مهر مثلبا على من يبدلها، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار بما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار في العقد، وما روياه عن عقبة بن عامر قال: قال صلى الله عليه وسلم أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم من الفروج. وذلك لأنهم لا يراعون حقوق البلديات بل يأكلون مهورهن، والأنكى من هذا أنه إذا لم تمتزج إحداهن مع زوجها فتركته أجبرت الأخرى على ترك زوجها أيضا من قبل وليها بصورة لا يرضاها الشرع ولا المروءة، وهذا مما نفت في روع حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نهى عن المبادلة بالحديثين المارّين وغيرهما. واعلم أن ماجرينا عليه من كون الخطاب للأولياء أولى مما مشى عليه الغير بجعله للأزواج، لأن الخطاب فيما قبلها للناكحين مع أن ذكر الناكحين جاء استطرادا في بحث اليتامى الذي حذر الله أولياءهم من أكل أموالهم، فجعل الخطاب إليهم أيضا بتحذيرهم من أكل المهور