الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيهم وفي غيرهم، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. ويفهم من هذه الآيات جواز لعن المرتد والكافر على العموم، وعدم جواز تخصيص أحد منهم باللعن إلا إذا تحقق موته على الكفر. وأن العمل الصالح شرط لقبول التوبة ممن يتوب من كفره، وأنها تمحو ذنوب التائب إذا خلصت نيته، ثم بين تعالى أن من لم يتب توبة خالصة ورجع إلى كفره فسيغلق الله في وجهه باب التوبة بقوله «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» بسيدنا عيسى «بَعْدَ إِيمانِهِمْ» بسيدنا موسى وما أنزل عليهما من الإنجيل والتوراة «ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً» بجحودهم رسالة محمد وما أنزل عليه من القرآن «لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ» (90) الذين لا سبيل إلى هدايتهم، لأن الله تعالى إنما قبل توبة المرتد والكافر على أن يطهر دخيلة قلبه بالأعمال الصالحة التي يستدل بها الناس على صحة إيمانه وقبول توبته فلا تقبل توبته، ولهذا أجمعت الأمة على أن المرتد يمهل ثلاثة أيام فإن أصر على كفره قتل وإلا فلا، أما الكافر الذي نشأ على الكفر فقد جعل الله أمامه باب التوبة مفتوحا، ووعده بغفران ما كان منه حال كفره إذا أسلم. قال تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) الآية 39 من سورة الأنفال المارة، فإذا حق عليه الشقاء ومات على كفره فتبا له وسحقا، وإذا حفته السعادة فآمن نجا، قالوا نزلت هذه الآية في اليهود خاصة، وقيل في المشركين والنصارى لأنهم كفروا بمحمد وازداد كفرهم بإقامتهم على الكفر، إلا أنها لا تنطبق على المشركين لأنهم لم يؤمنوا قبل بسيدنا محمد ولا بموسى ولا بعيسى لأنهم أهل شرك انقرضت النبوة فيهم وآثارها بعد وفاة إسماعيل عليه السلام الذي لم يترك لهم كتابا أو يدون لهم شريعة يتدينون بها من بقايا الشرائع القديمة، لذلك فان نزولها باليهود أوفق للمعنى وأطبق للحال.
مطلب وقت قبول التوبة وعدم قبولها. ومعنى البر والإثم. والتصديق بالطيب. والوقف الذري. وتبدل الأحكام بتبدل الأزمان:
ومعنى قوله لن تقبل توبتهم محمول على قوله (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ) الآية 18 من سورة النساء الآتية، لأن الله تعالى علم قولهم فيما بينهم أنهم يبقون على الكفر
حتى إذا نزل بهم الموت تابوا، ولا تقبل التوبة عنده. ولا حال اليأس كما بينته في الآية المذكورة قال في بدء الأمالي:
وما إيمان شخص حال يأس
…
بمقبول لفقد الامتثال
وقد علم أنهم لم يتوبوا قبل نزول الموت، لذلك قال لن تقبل توبتهم، وإنما يظهرونه نفاقا إيمانا كان أو توبة ولا قيمة لهما عند الله، لأنه لا يقبل إلا الخالص من الإيمان والنصوح من التوبة، وهؤلاء فضلا عن أنه لا يقبل توبتهم فإنه يزيدهم وبالا على وبالهم إذ لا تقبل توبة من أقام على شرك أو نفاق حتى يقلع عنهما أو يتوب توبة خالصة قبل وقت الحشرجة بأن يكون له أمل بالحياة،
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (91) ينصرونهم ويخلصونهم من ذلك. ومن المعلوم أن أحدا لا يملك يوم القيامة شيئا ولا يقبل منه الفداء على سبيل الفرض بأنه يقدر عليه لينجي نفسه من عذاب الله، فلو أمكنه التقرب إلى الله بخلاصه مما حل به بملء الأرض ذهبا لفعل، وأنّى له ذلك؟
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به؟
فيقول نعم، فيقول أردت منك أهون من ذلك وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا الشرك. ألا فلينتبه العاصون، ألا فليحذر اللاهون، ألا فليتفطن الغافلون، وليشتروا أنفسهم من عذاب الله حال قدرتهم عليه، ولينفقوا من أموالهم قبل أن يتركوها لغيرهم ويلقون وبالهم عند الله وحدهم. تشير هذه الآية إلى مصير الذين يموتون على كفرهم والعياذ بالله بأن هذا مصيرهم، وأن ما أسلفوه من عمل لا عبرة به لأن الشرط بحصول الثواب على الأعمال هو الإسلام والإيمان، وترمي إلى أن العبرة بخواتيم العمر فمن مات مؤمنا فقد نجا والله أولى بأن يعفو عنه، ومن مات على كفره فقد هلك ولا ناصر له من الله، وهذه الآيات من 84 إلى هنا تضاهي الآيات من 134 إلى 140 ومن 159 وإلى 62. من سورة البقرة. قال تعالى «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ» أيها الناس ولن تعطوا الخير الكثير والإحسان الجزيل فتعدوا
من الأبرار المحسنين «حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» من أنفس أموالكم لتؤجروا عليها بأحسن منها، وهذه الآية بمقابل قوله تعالى (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) الآية 267 من سورة البقرة «وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ» نفيس تحبونه أو خبيث تكرهونه «فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» (92) فيجازيكم على حسبه، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا. وروى مسلم عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال البرّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس منك. وعن وابصة بن معبد الجهني دفين الرقة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جئت تسأل عن البرّ؟ قلت نعم: فقال استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأقنوك. - بالقاف أي أرضوك- وروي بالفاء وأفتوك من الفتيا، وهي الإرضاء أيضا، والمعنى وإن أقنعك المفتون بأنه ليس بإثم فلا تقبل منهم لأن الإثم يحز القلب والبر يشرحه وهذا الحديث من باب الكشف لما روي أن رابصة جاء يتخطى الناس حتى جلس بين يدي رسول الله فقال له تحدثني بما جئت به أو أحدثك، فقال بل تحدثني يا رسول الله فهو أحب إلي، قال جئت تسأل عن البر والإثم؟ قال نعم، ورويا عن أنس بن مالك قال كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا وكان أحب أمواله إليه (بئر ماء) وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت هذه الآية قام أبو طلحة فقال يا رسول الله إن الله تعالى يقول في كتابه (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) الآية وإن أحب أموالي إلي (بئر ماء) وإنها صدقة لله عز وجل أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال صلى الله عليه وسلم بخ بخ ذلك مال رابح أو قال رائج أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمّه، وهي حائط (بستان) عظيم فيه ماء، ومن هذا أخذ الوقف الذري وتداول حتى الآن،
وأبقى أسماء الواقفين مخلدة بالذكر الحسن ويعيش بخيرهم جماعات يدعون لهم بالخير كلما انتفعوا، وهذا هو الصدقة الجارية التي لا ينقطع أجرها فهو رضي الله عنه أول من سن الوقف بإرشاد رسول الله فله أجره إلى يوم القيامة في صريح قوله صلى الله عليه وسلم من سن سنة حسنة إلخ الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث أحدها الصدقة الجارية (وبخ) كلمة تحسين تقال عند ما يرى الإنسان أو يسمع ما يحب ويستحسن وهي مبنية على السكون، وتكرر للمبالغة بالكسر والتنوين، ثم إن بعض الأصحاب اقتدوا بأبي طلحة وتصدقوا من أموالهم النفيسة على أقاربهم وذراريهم كعمر وابنه عبد الله وزيد بن حارثة، وتفيد هذه الآية بان الطاعة إنما تتحقق بتضحية النفيس وإنفاق العزيز من المال
وإن خير الصدقة المستمرة الدائمة وأحسنها التي تخصص للأقارب، قالوا نزل ضيف عند أبي ذرّ فقال للراعي ائتني بخير إبلي فجاءه بناقة مهزولة، فقال له خنتني، فقال الراعي وجدت خير إبلك فحلها فذكرت يوم حاجتكم إليه، فقال أبو ذر يوم حاجتي إليه يوم أوضع في قبري. ولما قال اليهود يا محمد تزعم أنك على دين إبراهيم وتأكل لحوم الإبل ولبنها وهو لا يفعل ذلك، فقال لم يحرمه إبراهيم، فقالوا كل ما نحرم اليوم بمقتضى التوراة فهو حرام على نوح وإبراهيم وانتهى إلينا كذلك، فأنزل الله عز وجل «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ» لأن يعقوب عليه السلام اعتراه مرض قيل هو عرق النسا وقد منعه الطبيب من أكل لحوم الإبل بداعي انه يزيد في ذلك المرض فحرمه على نفسه لهذه العلة لا بتحريم الله تعالى، وقد اقتفى أولاده أثره بعدم أكلها، فلما أنزلت التوراة حرمه الله على بني إسرائيل، فأنكروا ذلك فقال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء المعاندين «فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (93) بأن الإبل كانت محرمة على إبراهيم فأتوا بها فلم يجدوا ذلك وظهر كذبهم، وهذا من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه من قبيل الإخبار بالغيب إذا لم يقرأ ولم يعرف ما في التوراة، ففي هذه الآية ردّ على قول اليهود بأن النسخ غير جائز إذ جاء بالقرآن حل لحوم الإبل، راجع الآية 145 من سورة
الانعام ج 2 وهو ناسخ لما في التوراة كما جاء في الإنجيل نسخ بعض أحكامها بالنظر للمصلحة والعصر كما في الآية 49 المارة، وهذا معنى قوله تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) الآية 107 من البقرة المارة بالنسبة لما تقتضيه المصلحة والزمان ولانقضاء الوقت المقدر للعمل فيه عند الله تعالى كما ذكر الشيخ محي الدين في فتوحاته، ومن هنا أخذت قاعدة تبدل الأحكام بتبدل الأزمان، ومن هذا قول علي كرم الله وجهه لا تقسروا أولادكم على طباعكم فإنهم خلقوا لزمن غير زمانكم. قالوا والسبب في إصابة يعقوب هو أنه كان نذر لأن أعطاه الله اثنى عشر ولدا وأتى بيت المقدس صحيحا ليذبحنّ أحدهم تقربا إلى الله تعالى، ولما منّ الله عليه بذلك توجه لبيت المقدس لإيفاء نذره فلقيه ملك على صورة بشر فحسبه لصا فتصارع معه فغمزه في فخذه. فعرض له عرق النسا، ولما وصل أراد ذبح ابنه ولم يعرف أيهم يذبح، فجاءه الملك الذي عرض له وقال لا سبيل لك لذبحه لأنك لم تصل صحيحا، وإنما غمزتك في فخذك للمخرج من نذرك فكف عن ذبحه، وهناك منعه الأطباء عن أكل لحوم الإبل ولبنها، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم دواء هذا العرق بقوله: شفاء عرق النساء إلية شاة اعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم تشرب على الريق كل يوم جزءا. وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده وابن ماجه والحاكم وهو حديث صحيح كما في شرح العزيزي، قال أنس رضي الله عنه قد وصفت ذلك لثلاثمأة نفس كلهم تعافوا. وهذا والله أعلم، إذا حصل من يبس في بلاد حارة كالحجاز، لأن فيها تليينا وإنضاجا. وقيل إذا طبخ دماغ الوطواط بدهن الورد ودهن به عرق النسا يسكن وجعه بإذن الله.
ومثل ما وقع لسيدنا يعقوب وقع لعبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه فدى ابنه الذي أراد ذبحه بمئة من الإبل ولهذا صارت دية الرجل مئة من الإبل. قال تعالى «فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ»
البرهان القاطع الدال على كذب اليهود وحل أكل لحوم الإبل وألبانها زمن إبراهيم عليه السلام وأصر على افترائه «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»
(94)
أنفسهم وغيرهم «قُلْ» يا سيد الرسل «صَدَقَ اللَّهُ» وكذبتم أيها اليهود «فَاتَّبِعُوا» أيها الناس «مِلَّةَ