الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ»
أو بأحد منهم ومنها «وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» من يكفر به ويجحده «فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً» (136) واستحق عذابا شديدا كما أسلم عبد الله بن سلام كما مر في الآية 47 جاء أسد وأسيد ابنا كعب وثعلبة بن قيس وسلام ابن أخت عبد الله بن سلام ومسلمة بن أخيه ويامين بن يامين وقالوا يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما عدا ذلك من الكتب والرسل، فقال صلى الله عليه وسلم بل آمنوا بالله ورسوله محمد والقرآن وبكل كتاب قبله وكل رسول أرسل، فأنزل الله هذه الآية. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» بموسى «ثُمَّ كَفَرُوا» بعده «ثُمَّ آمَنُوا» بعزير وداود «ثُمَّ كَفَرُوا» بيحيى وعيسى «ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً» بمحمد صلوات الله عليهم وسلامه وماتوا على كفرهم «لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا» (137) ينجون به من العذاب، راجع نظيرة هذه الآية الآتية 90 من آل عمران المارة وقد نزلت هذه الآية تبكيتا لليهود الموجودين زمن الرسول باعتبار عد ما صدر من أسلافهم كأنه صادر عنهم، وفي المنافقين الذين يؤمنون ويرتدّون عن الإيمان المرة بعد الأخرى.
مطلب في التهكم والكتاب والنهي عن مجالسة الغواة وأفعال المنافقين وأقوال اليهود الباطلة:
قال تعالى «بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ» يا سيد الرسل «بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (138) وهذا على طريق التهكم بهم مأخوذ من البشارة وهي كلمة تتغير عند سماعها بشرة الوجه سارة كانت أو ضارة، إلا أن استعمالها الشائع بالخير فقط، ولا يوجد في القرآن آية مبدوءة بمثل هذه الكلمة غير هذه. ثم وصفهم الله بقوله «الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» ويركنون إليهم، فسلهم يا سيد الرسل «أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ» بذلك الاتخاذ كلا لا عزة لهم به بل ذلة لهم ومهانة، وإذا كانوا يريدون العزة الحقيقية «فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» (139) وهو يعطيها أولياءه ويخص أصفياءه بها فيتخذون الله وليا وهو يعزهم «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ» في هذا القرآن في الآية 68 فما بعدها من سورة الأنعام ج 2،
ولهذا صحت الإشارة إليها لانها متقدمة في النزول على هذه كما ألمعنا إليه هناك، وإلا لما صحت الإشارة إليها، تدبر. وهذا من جملة الأسباب الداعية لترتيب هذا التفسير على حسب النزول، وقد يطلق على كل سورة من القرآن لفظ كتاب كما تقدم أول سورة هود في ج 2، وكرر لفظ الكتاب كثيرا في القرآن العظيم وخاصة أوائل السور المبدوءة بالحروف المقطعة وهو لفظ محبوب لكل كتاب، وفيه قال:
نعم الأنيس إذا خلوت كتاب
…
تلهو به إن فاتك الأحباب
لا مفشيا سرا إذا استودعته
…
وتنال فيه حكمة وصواب
فالسعيد الذي يتخذه رفيقا ليله ونهاره حضره وسفره ويغتني عن أصحاب السوء ومجالس اللهو المؤديين لسوء العاقبة وقبح السمعة، إذ قل أن تجد صديقا صادقا ومجلسا سارا. ثم بين هذا المنزل المشار إليه في قوله عزّ قوله «أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ» إذا قعدتم معهم حينما يخوضون بآيات الله، لأنكم تعدون راضين بهم وبما يخوضون فيه، وإلا لما جلستم معهم إذ الراضي بالشيء كفاعله فتصيروا منافقين اخوان الكافرين ويكون لكم ما لهم عند الله «إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» (140) لاجتماعهم على الكفر أنزل الله هذه الآية في النهي عن مجالسة المنافقين في المدينة، كما أنزل آيات الأنعام المذكورة في النهي عن مجالسة الكافرين في مكة، والغاية واحدة، ولذلك جاءت مؤكدة لها ومعطوفة عليها في المعنى. وتدل هذه الآية على أن من رضي بالكفر فهو كافر، ومن رضي بمنكر كان كمن فعله فينبغي للعاقل أن يبتعد عن أهل الأهواء والغواة، لأن مخالطتهم لا تخلو عن الإثم. وقد بينا ما يتعلق في هذا البحث هناك فراجعه.
ثم وصف الله المنافقين بوصف آخر فقال «الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ» الحوادث والدوائر لشدة حقدهم عليكم وحسدهم لكم «فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ» نصر وظفر وغنيمة «مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ» في الغزو فأعطونا نصيبنا، إذ لا هم لهم إلا الدنيا، فهم مهمو كون بها أبدا «وَإِنْ كانَ
لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ»
من الظفر «قالُوا» لأوليائهم الكافرين «أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ» أي نستول عليكم ونغلبكم ونتمكن من قتلكم وأمركم ولم نفعل «وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» فلم نتركهم يصلون إليكم ولو أردنا لأعناهم عليكم فغلبوكم ولهذا أعطونا مما أصبتم منهم لقاء عملنا هذا «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ» أيها المؤمنون الصابرون على مخالطتهم المتحملون أذاهم من أجلنا ويا أيها المنافقون المذبذبون المظهرون غير ما تبطنون لا بد أن الله يحكم بينكم وبين المؤمنين، كما يحكم بينكم وبين الكافرين «يَوْمَ الْقِيامَةِ» . واعلم أن الله تعالى لم يجهلهم ويؤخر عذابهم إكراما لهم بل لزيادة عذابهم، وإلا فهو قادر على تعجيل عذابهم في الدنيا «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» (141) في الدنيا لأن حجنهم غالبة وكذلك في الآخرة، لأن الله هو الحكم بينهم. أما تسليطهم الآن على بعض المؤمنين من حيث الغلبة الفعلية فهو لعدم تمسك المؤمنين بكتابهم وتعاليم نبيهم، فلم يكونوا مؤمنين حقا كما أراد الله منهم، ولو كانوا لما سلطهم عليهم، ومن أصدق من الله قيلا. فإصابة المؤمنين وخذلانهم من أنفسهم ومن انصرافهم عن دينهم، وإلا لكانت الغلبة الفعلية لهم بنصّ الله، ومن أصدق من الله حديثا، راجع الآيات 171 فما بعدها من سورة الصافات ج 2 وما ترشدك إليه. قال تعالى «إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ»
بإظهار الإيمان وإبطان الكفر مخاتلة ومغاششة وإغرارا «وَهُوَ خادِعُهُمْ»
فاعل بهم ما يفعل المخادع بالمخادع فيمتعهم بالدنيا وليكثر عليهم من نعيمها الزائل ومن مالها الذي عاقبته العذاب أو من الأولاد الذين عاقبتهم الوبال إذا ماتوا على كفرهم ونفاقهم، وبعد لهم الدرك الأسفل من النار يوم القيامة «وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى»
دون رغبة لأنهم لا يرجون بفعلها ثوابا ولا على تركها يخشون عقابا «يُراؤُنَ النَّاسَ»
بفعلها «وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا»
(142)
عند رؤيتهم المؤمنين فقط «مُذَبْذَبِينَ» متحيرين مترددين. ولم تكرر هذه الكلمة بالقرآن أبدا «بَيْنَ ذلِكَ» الإيمان والكفر «لا إِلى هؤُلاءِ» المؤمنين ينتمون انتماء صحيحا «وَلا إِلى هؤُلاءِ» الكفار يندرجون اندراجا كليا، وهذا شأن الضّال
«وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا» (143) إلى الهدى روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل المنافق كمثل الشاة العائرة (المتحيرة المترددة) بين الغنمين تعير (تذهب) يمينا وشمالا لا تدري لأيها تتبع إلى هذه مرة وإلى هذه مرة. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ» باتخاذكم هذا «أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً» (144) في تعذيبكم، فتكون عليكم الحجة، فستوجبوا النار، لأن مخالطة المنافقين أشد ضررا من مخالطة الكافرين، راجع الآية 113 من آل عمران المارة ولهذا قال تعالى «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» أي في قعرها الأسفل الأعمق «وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً» (145) من ذلك العذاب الأليم «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا» عملهم «وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ» وحده «وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ» نقوه من السمعة والرّياء طلبا لوجه الله خاصة وابتغاء لمرضاته «فَأُولئِكَ» يكونون في الدنيا والآخرة «مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً» (146) لا أعظم منه في جنة عظيمة «ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً» (147) يشكر الشاكر وإيمان المخلص. وهذا استفهام تقريري أي أي شيء يفعل الله بتعذيبكم؟. أيتشفى به من غيظ أم يدرك به ثارا، أم يستجلب به نفعا أم يتوقع به خيرا كما هو شأن الخلق؟ كلا ثم كلا، لأنه الغني المطلق المتعال عن أمثال ذلك. وإنما هو أمر يقتضيه مرض كفركم ونفاقكم، فإذا احتميتم عن النفاق ونقيتم نفوسكم بشرية الإيمان والشكر وطهرتم أجسامكم بصبغة الإسلام والصبر، سلمتم ونجيتم، وإلا فلا محيص لكم عن الهلاك. قال تعالى «لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ» القبيح ولا الإسرار به «إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» فله أن يجهر بمثل السوء الذي وقع عليه لقوله تعالى (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) الآية 47 من سورة الشورى المارة في ج 2 «وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً» لشكوى المظلوم «عَلِيماً» (148) بظلم
الظالم فيا أيها الناس «إِنْ تُبْدُوا خَيْراً» مكان الجهر بالسوء «أَوْ تُخْفُوهُ» فلم تجهروا به «أَوْ تَعْفُوا
عَنْ سُوءٍ»
المسيء لكم «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا» لإساءة عباده ولم يزل كذلك «قَدِيراً» (149) على الانتقام ممن لا يتحلى بالصفات الممدوحة منكم حالا، ولكنه يمهلكم فلا يعجل عقوبتكم لعلكم ترجعون وتتوبون، بخلاف خلقه فإنهم سريعو الانتقام إذا قدروا عليه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم تخلّقوا بأخلاق الله فاعفوا ممن أساء إليكم وتشبهوا بأخلاق بارئكم، واعلموا أن الله تعالت قدرته مطلع على أعمالكم ونياتكم، ولم يهمل شيئا ولم يعزب عن علمه شيء فراقبوه واخشوا سطوته. واعلموا أن عدم المحبة هنا كناية عن عدم سخطه، ولذلك صح الاستثناء المتصل أي فإنه غير مسخوط عنده تعالى، لا إنه يحب جهر المظلوم بالسوء على ظالمه، لأنه تعالى دائما يحب العفو ويرغب فيه، إلا أنه أجاز شكوى المظلوم وإظهار أمر الظالم ليتباعد الناس عنه ويعرفوه. قال مقاتل قال رجل من أبي بكر بحضرة الرسول فسكت عنه مرارا ثم رد عليه، فقام صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر يا رسول الله شتمني فلم تقل له شيئا حتى إذا رددت عليه قمت! قال كان ملك يجيب عنك فلما رددت عليه ذهب وجاء الشيطان، فنزلت هذه الآية. وقيل نزلت فيمن لا يحسن ضيافة الضيف فيخرج فيقول أساء ضيافتي. قال العلماء لا يجوز إظهار أحوال الناس المستورة لأن ذلك بسبب الوقوع للناس بالغيبة وللشخص بالريبة لكن المظلوم يجوز له إظهار مظلمته فيقول سرق أو غصب أو نحو ذلك، وإن شتم جاز له الرد بلا زيادة لقوله تعالى (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) الآية 195 من البقرة المارة وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال قال صلى الله عليه وسلم المستعبّان ما قالا فعلى الأول. وفي رواية فعلى البادي منهما حتى يتعدى المظلوم. وقد أسهبنا البحث في هذا الشأن في الآية 43 من سورة الشورى في ج 2 والآيتين 191/ 193 من سورة البقرة المارة فراجعها. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ» فيقولون إن الإيمان بالله غير الإيمان بالرسل، والحال أنه لا يصح الإيمان بأحدهما دون الآخر «وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ» الكتب والرسل كاليهود والنصارى «وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ» الكتب والرسل، مع أن الكافر بواحد منهما كافر بالجميع، ولا ينفع التصديق بواحد دون الآخر كما نوهنا به في
الآية 137 المارة «وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا» (150) مذهبا يدينون به بين الكفر والإيمان والحال لا واسطة بينهما تتخذ طريقا بدأت به البتة كما أنه لا درجة ولا مرتبة بين الجنة والنار كما نوهنا به في الآية 45 فما بعدها من سورة الأعراف في ج 1
«أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا» المستحقون العذاب الأليم، ولذلك فإنا هيأنا «وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً» (151) نزلت هذه في اليهود لأنهم كفروا بعيسى ومحمد والإنجيل والقرآن وآمنوا بموسى والتوراة، وفي النصارى لأنهم آمنوا بعيسى والإنجيل وكفروا بمحمد والقرآن. قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» في الإيمان والتصديق، وكذلك بكتبه فآمنوا بها كلها «أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ» كاملة يوم القيامة «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً» لما سبق منهم من الخطايا «رَحِيماً» (152) بهم يعفو عنهم. ثم طفق جل شأنه يعدد من مساوئ اليهود وجرأتهم على الله فقال جل قوله «يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ» وذلك أن كعب بن الأشرف وفنخاص بن عازوراء قالا يا محمد إن كنت نبيا فأتنا بكتاب جملة واحدة كما جاءنا موسى بالتوراة. وهذا سؤال تعنت، لأن الله لا ينزل الآيات على اقتراح المقترحين، ثم شرع يبين ما وقع منهم قبل من القبائح فقال يا سيد الرسل لا ترد عليهم «فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً» عيانا بعد أن أنزلنا عليهم الكتاب جملة واحدة وأسمعناهم كلامنا كما مر في الآية 54 من البقرة وتجاه جرأتهم هذه أمتناهم «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ» أنفسهم وتحكمهم على نبيهم ثم أحييناهم إكراما لنبيهم ولم يتعظوا ولم ينتهوا ومالوا عن دينه الحق «ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ» إلها وعبدوه من دوننا «مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ» على صدق رسولهم «فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ» ولم نعاقبهم عليه تفضلا منا بعد توبتهم، وكانوا استحقوا بذلك عذاب الاستئصال «وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً» (153) على من خالفه وأجبنا دعوته راجع الآية 153 من الأعراف في ج 1. قال تعالى «وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ» لئلا ينقضوه
«وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً» مطأطئين رؤوسكم عند دخول باب إيليا، فدخلوه زحفا على أستاههم «وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ» أي لا تتعدوا وتتجاوزوا حدود الله فيه، فحفروا حياضا أدخلوا فيها السمك وسدوها عليها وتركوها فيها ليوم الأحد، فأخذوها راجع الآية 163 من الأعراف في ج 1 أيضا لتقف على حيلتهم هذه على الله وتعديهم حدوده «وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» (154) مؤكدا في ذلك فنقضوه، ونكثوا عهد الله في ذلك كما فعلوا من قبل، وبعد، ولذلك عوقبوا بما قصه الله تعالى بقوله «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ» الذي أوقعنا عليهم العذاب لسببه «وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ» محجوبة عما تدعونا إليه فرد الله عليهم بأنها ليست غلفا «بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ» أي الطبع الذي هددوا به هو السبب لعدم فهمهم مراد الله وانقيادهم لأمر رسوله «فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (155) ببعض التوراة وبعض أوامر نبيهم، ولو أنهم آمنوا بكل ذلك لآمنوا بعيسى والإنجيل ولآمنوا بمحمد والقرآن، لأن هذا مما هم مأمورون به في كتابهم وتعاليم نبيهم، ولكنهم لم يعملوا بهما فأعمى الله قلوبهم عن سلوك الصواب. ترشدنا هذه الآيات للوفاء بالعهد والأخذ بما جاء من عند الله وما أمر به الرسل وعلى حرمة التضليل واتخاذ الحيل لتحليل ما حرم الله وعلى الأخذ بالقرآن وأقوال الرسل وزجر النفس عن اتباع الهوى والإقلاع عن المعاصي والتوبة إلى الله وعدم الرجوع إلى ما نهى عنه. وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك «وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً» (156) وهذا من جملة ما طبع على قلوبهم أيضا لأنهم أنكروا قدرة الله بخلقه من غير أب ورموا أمه الطاهرة بما لا يليق رماهم الله في طينة الخيال، وجحدوا المعجزات التي ظهرت عند ولادته وبعدها مما يدل على براءتها. وخلقه كخلق آدم «وَقَوْلِهِمْ» قاتلهم الله «إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ» بهت عظيم وكذب محض وزور مفترى.