الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مت هماما كما حييت هماما
…
وأحي في ذكرك المجد الرفيع
وإذا كان الموت لا بد مدرككم «وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ» وحصون محصنة وقلاع عالية مطلية بالشيد وهو الجصّ. وقال بعض المفسرين أجساد قوية مستدلا بقول القائل:
فمن يك ذا عظم صليب رجابه
…
ليكسر عود الدهر فالله كاسره
وهو هنا ليس بشيء، وقال الحصكفي ملغزا في نعش الميت:
أتعرف شيئا في السماء نظيره
…
إذا سار صاح الناس حيث يسير
فتلقاه مركوبا وتلقاه راكبا
…
وكل أمير يعتليه أسير
يحضّ على التقوى ويكره قربه
…
وتنفر منه النفس وهو نذير
ولم يتزر عن رغبة في زيارة
…
ولكن على رغم المزور يزور
«وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ» من خصب وصحة ورفاه «يَقُولُوا» المنافقون «هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ» من جدب ومرض وغلاء «يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ» يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم، وهذا كقول قوم موسى عليه السلام (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) الآية 130 من الأعراف في ج 1، وكقول قوم صالح لصالح عليه السلام (اطّيّرنا بك وبمن معك) الآية 47 من سورة النمل وكما قال أهل انطاكية سئل عيسى عليه السلام (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) الآية 19 من سورة يس ج 1 أيضا.
مطلب في قوله تعالى كل من عند الله، وكيفية حال المنافقين مع حضرة الرسول، وان كلام الله لا يضاهيه كلام خلقه محمد فمن سواه صلى الله عليه وسلم:
وذلك أن اليهود والمنافقين لعنوا وأخزوا تشاءموا من حضرة الرسول وهو منبع الخير وأهل الفلاح، فقالوا منذ دخل المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها، فرد الله عليهم بقوله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الزائغين «كُلٌّ» من الخير والشر «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» لأنه خالقهما وموجدهما. وإنما أضاف السيئة للعبد لأنها من كسبه عن رغبة واختيار فلحقته بذنبه عقوبة له. ومن الأدب أن لا ينسب السوء إلى الله ولو كان في الحقيقة هو منه، قال- كما حكاه القرآن الكريم- (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ
يَشْفِينِ»
الآية 71 من سورة الشعراء ج 1 فقد أضاف المرض لنفسه تأدبا مع الله مع أنه لا يشك أنه من الله لأن الله يوقعه في العبد عقوبة إسرافه في الأكل والشرب وعدم وقايته من الحر والبرد، إذ لا سبب للمرض ظاهرا غير هذين، وما يطرأ عليه من الكسر والجروح، ونسب الشفاء لله، وهكذا يجب على كل عاقل أن ينسب ما يصيبه من شرّ مهما كان لنفسه، وما يصيبه من خير لربه، ولهذا يقول الله تعالى «فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ» أعميت قلوبكم حتى صاروا «لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً» (78) فيعلمون أن موقع الخير والشر في العبد هو الله وحده، ويقولون «ما أَصابَكَ» أيها الإنسان على العموم ويجوز أن يكون المخاطب سيد المخاطبين والمراد به غيره كما مر غير مرة «مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ» مكافأة لما قدمت من خير وتقوى ومجاملة «وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» عقابا لما اقترفته من شر وفسق وفظاظة، وقد جاءت الآية الأولى على الغيبة، وهذه على الخطاب بطريق التلوين والالتفات وهو من محسنات البديع في الكلام إيذانا بمزيد الاعتناء بفهم المراد من قوله عز وجل، واهتماما يردّ اعتقاد أهل الباطل وزعمهم الفاسد وإشعارا بان ذلك مبني على كلمة دقيقة حريّة بان يتولى بيانها علام الغيوب، واعلم أنه لا تعلق للقدرية في هذه الآية إذ ليس المراد من الحسنة حسنة الكسب من الطاعات، ولا السيئة المكتسبة من المعاصي، بل المراد كل ما يصيب الإنسان من النعم والنقم، وهذا ليس من فعل الإنسان لأنه لا يقال في الطاعة والمعصية أصابني، بل أصبتها، ويقال في النعم والنقم أصابني بدليل عدم ذكر الثواب والعقاب، وهي كقوله تعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) الآية 131 من الأعراف ج 1، ولهذا قدرنا كلمه يقولون قبل قوله تعالى ما أصابك حتى لا يتناقض مع قوله (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) في الآية المتقدمة، لأن السيئة وإن كانت من عمل صاحبها فهي بتقدير الله تعالى، إذ شاء لما تركه يفعلها، فأصبح الكل من الله، ألا إن الخير برضاه، والشر بقضاه، تأمل. «وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا» يا حبيبي لتبشرهم وتنذرهم «وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» (79) على إرسالك للناس كافة لا للعرب فقط كما تقوله اليهود وغيرهم ممن حذا حذوهم «مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ»
محمدا أيها الناس «فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى» عن طاعتك «فَما أَرْسَلْناكَ» يا صفوة الخلق «عَلَيْهِمْ» أي منكري رسالتك «حَفِيظاً» (80) تمنعهم من أن يقولوا ما يشاؤن ولا رقيبا على أعمالهم فتحاسبهم عليها ولا مسيطرا فتعاقبهم من أجلها، لأن هذا كله لله وحده
«وَيَقُولُونَ» هؤلاء المنافقون أأمرنا يا محمد فشأننا «طاعَةٌ» لك لأننا آمنا بك وصدقناك، ففضحهم الله بقوله اعلاما لرسوله «فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ» إلى شأنهم «بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ» أي تلك الطائفة التي قالت طاعة أو غير الذي عهدته إليهم والتبيّت كل أمر يفعل بالليل أي يرتب فيه، فيقال هذا أمر دبر بليل، أو بيت أو قضى به فيه، أي أنهم قد دبّروا ليلا غير الأمر الذي أعطوكه نهارا. وقيل إن بيت هنا بمعنى غيّر وبدّل الأمر الذي عهدته إليهم، وإنما خص طائفة من المنافقين إعلاما بأن منهم من يرجع عن نفاقه ويتوب إلى الله «وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ» ويخبرك به يا سيد الرسل لنذكرهم به كي ينتهوا عن مثله «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ» الآن، ولا تحدث نفسك بالانتقام منهم، ولا تغتر بإسلامهم أبدا، ولا تعتمد على أحد منهم «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» (81) عليهم يخبرك بأسرارهم. قال تعالى تعجيبا لنا من أمرهم بعد أن عجب رسوله المرة الخامسة «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ» فيقهمون معانيه ويتفكرون في مغازيه، فيفقهون المراد منه، ويعون ما يرمي إليهم، وفي هذا ردّ على الروافض القائلين إن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير من الرسول والإمام المعصوم لأنه لو كان كذلك لما وبخ الله هؤلاء على عدم فهمهم ما يشير إليه، ولأحالهم على رسوله وأولي العلم ونظير هذه الآية الآية 25 من سورة محمد الآتية. واعلم أن هذا التدبر الوارد في صدر هذه الآية بكون من ثلاثة أوجه: الأول في فصاحته التي عجز عنها الخلائق أجمع بأن يأنوا بمثلها، الثاني إخباره عن الغيوب الصادرة من المنافقين وغيرهم إذ أطلع الله نبيه عليها وفضحهم فيما يخفون فضلا عن اخباره عن الأولين والآخرين مما لا يعلمه إلا الله، الثالث سلامته من الاختلاف والتناقض وهو المراد من قوله جل قوله «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ» من جن أو أنس أو ملك
أو كلهم بالاشتراك «لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» (82) وتفاوتا جزيلا وتناقضا عظيما من حيث الشرك والتوحيد والتحليل والتحريم والبيان والفصاحة والبلاغة لعظمه وتكرر آياته ولكنه من عند الله، لذلك لا يرى فيه شيئا من ذلك البتة فضلا عن أنه بالعا الغاية من حيث المبنى والمعنى، ولهذا احتج فيه على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والإخبار بالغيوب لسلامته من الاختلاف والتناقض، وإن كلام الغير مهما كان فلم يكن على وتيرة واحدة بالفصاحة والبلاغة وتصديق بعضه لبعض، لأن منه ما هو فائق حد الاعجاز باللفظ، ومنه ما هو قاصر عنه، ومن حيث المعاني فبعضه إخبار يوافق المخبر عنه، وبعضه إخبار مخالف للمخبر عنه، وقسم منه دال على معنى صحيح عند علماء المعاني، وقسم منه دال على معنى فاسد غير ملتئم. أما ما قاله بعض الملحدين من وجود الاختلاف في القرآن العظيم محتجا في قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) الآية 24 من سورة القيمة في ج 1، وقوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) الآية 104 من سورة الأنعام ج 2 وقوله تعالى (ثُعْبانٌ) في الآية 107 من سورة الأعراف مع قوله (جَانٌّ) في الآية 11 من سورة النحل ج 1 وفي قوله (لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) في الآية 93 من سورة الحجر ج 2 مع قوله (لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ» في الآية 40 من سورة الرحمن الآتية. فما هو لفظا ومعنى يراه الجاهل مخالفا وهو في الأصل واحد كما بينا ذلك كلا في محله، فليرجع إليه في تفسير تلك الآيات ليعلم أن الاختلاف من مفترياته والتناقض من عاداته، والتباين من فهمه السقيم، وما قوله إلا بهت محض ناشيء عن خلل في عقله، وعمه في بصيرته، راجع الآية 7 من آل عمران المارة. هذا ومن هذا القبيل الذي تقوّل به المنقولون الذين أذهب الله مفكّرتهم وطمس على قلوبهم ما قاله الكفرة قديما ومن حذا حذوهم بعد إن هذا القرآن من كلام محمد صلى الله عليه وسلم! ومن أين لمحمد أن يأتي بمثله وقد تحدى الله الخلق أجمع على الإتيان بسورة من مثله؟ لأن ظاهر كلامه وباطنه لا يضاهي قول البشر من كل وجه، ولا كلام محمد على ما هو عليه من الفصاحة والبلاغة يشبه كلام ربه.
قال تعالى «وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ» من خبر السرايا المبعوثة من قبل
حضرة الرسول كفتح وغنيمة وسلامة كتموه، لأنه لم يرق لهم التحدث به لما في قلوبهم من الغلّ والحقد والحسد «أَوِ الْخَوْفِ» من خبر خذلان السرايا وقتلهم أو هزيمتهم «أَذاعُوا بِهِ» أفشوه علنا حالا وأشاعوه بين الناس بقصد المفسدة وتثبط الناس وتفنيد ما يدبره القائد الأعظم لأمور جيشه. وظاهر الآية أنهم يذيعون الخير والشر، وعليه يكون المعنى أنهم يقصدون بإذاعة الخير كالنصر والغنيمة تهيج الناس ضد أصحاب الرسول بما يتقولونه من أنهم فعلوا بأقاربكم وجماعاتكم من القتل والسبي والجلاء ما فعلوا ليفزعوا لهم على أصحاب رسول الله وإن كان شرا من هزيمة أو قتل فإنهم يقصدون بإذاعته إلقاء الرعب والأراجيف في قلوب أقارب الغزاة وتعلقاتهم ليوقعوا اللوم على حضرة الرسول بإرسالهم، فعابهم الله قاتلهم الله على ذلك وكلهم عيب «وَلَوْ رَدُّوهُ» أي الخبر المتعلق بالسرايا على علاته «إِلَى الرَّسُولِ» الذي هو وحده له الحق بكتمانه وإذاعته «وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ» من كبراء الأصحاب البصراء بالأمور الخبراء بعواقبها «لَعَلِمَهُ» أي علم التدبير فيما أخبروا به «الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» يستخرجون بذكائهم وحدة فطنتهم وتجاربهم وخبرتهم بأمور الحرب ومكايدها ما يجب أن يدبروه، لأن الأعداء بالمرصاد لهكذا أخبار فيتدار كون ما أخبروا به، وكان عليهم إذا سئوا أو أخبروا بما يتعلق في هذا الشأن ألّا يجيبوا عنه سلبا ولا إيجابا، بل عليهم بأن يفوضوا أمر الجواب إلى الرسول ووزرائه، ويجعلوا أنفسهم كأن لم يسمعوا بشيء، إذ قد لا يوافق إفشاء خبر الإنتصار أحيانا لما يخاف من نجدة الأعداء والتطويق، كما لا يوافق بيان خبر الخذلان بتاتا لما فيه من كسر القوة المعنوية. ويجب دائما التقيد بالأمرين واستعمال المعاريض في الكلام والثوري وإعطاء الجواب على خلاف السؤال من حيث المعنى، وغير ذلك مما يعرفه المحنكون للأمور الخائضون غمارها، لأن الحرب لها أبواب وعلوم غير العلوم الأخرى، والسّبط هو الماء الذي يخرج من البئر أول حفره واستنباطه استخراجه، فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل جودة ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل عليه. وفي هذه الآية دليل على جواز القياس لأن من العلم ما يدرك بالنصّ وهو الكتاب والسنة، ومنه ما يدرك بالاستنباط وهو القياس