الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصاروا يفعلون فيه كل شيء، وانقسم الناس ثلاثة أقسام قسم صاد واستحل السبت، وقسم امتنع وسكت، وقسم امتنع ونهى، ولكنه لم يؤثر فيهم، فغضب الله عليهم ولعنهم وفصل بينهم وبين الآخرين بجدار حتى لا يرونهم، فقصدوهم وتسوروا الجدار لينظروهم، فإذا هم ممسوخون قردة وخنازير يتعاوون، وبقوا ثلاثة أيام ثم هلكوا عن آخرهم، قالوا ولم يمكث مسخ بعد ثلاث، ولم يتوالد البتة، وكان زعمهم هذا بتأويل الجواز، ولم يعلموا أن الله تعالى لا تخفى عليه حالتهم ونيتهم، ولهذا البحث صلة في الآية 73 الآتية إن شاء الله، ولهذا حذرهم الله تعالى سوء صنيع أسلافهم، لئلا يصيبهم ما أصابهم بأن يجعلوا هذه الحادثة نصب أعينهم يتذكرون فيها.
مطلب ما قاله الإمام المراغي وقصة البقرة وإحياء الميت:
هذا والعجب كل العجب من أن سماحة الأستاذ المراغي بمصر العظيمة اعتبر هذا المسخ عند تفسير الآية 65 من سورة البقرة معنويا، مستدلا بما رواه ابن جرير عن مجاهد بأنه ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم، وهو يعلم بأن ابن جرير ينقل الأقوال ثمّ يعلّق عليها، وقد بسط الموضوع بصورة لم تبق شكا في أن المسخ كان حقيقيا، على أن الله تعالى كرر هذه الحادثة في الآية 63 من سورة المائدة الآتية وأشار إليها في الآية 162 من الأعراف ج 1 بصورة صريحة لا مجال للتأويل فيها، وعلى قوله يقال أيضا بأن رفع الجبل كان معنويا، وموت السبعين المختارين في الآية 155 من سورة الأعراف كان صوريا، وما ذكره الله عن موسى والخضر وقصة البقرة كان صوريا، فما أدري أستكثر على الله ذلك، كلا وحاشا، ولكن قد يكبو الجواد، وزلة الكبير كبيرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال تعالى «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً» وذلك أن رجلا فقيرا ذبح ابن عمه الغني ليستولي على ماله وألقاه في قرية أخرى وادعى لدى موسى عليه السلام بدمه عليهم ودفعوا دعواه ببراءتهم منه ولا بينة لديه سوى وجود جثته في قريتهم، فسأل موسى ربه فأمره أن يذبحوا بقرة ويضربوا المقتول ببعضها فإنه يحيا ويخبر بقاتله «قالوا» أي المتهمون بالقتل
يا موسى ما جوابك بموافق للسؤال «أَتَتَّخِذُنا هُزُواً» نحن ندفع عن أنفسنا دعوى القتل وأنت تأمرنا بذبح بقرة؟ وذلك لعدم علمهم الحكمة من ذلك لما بين الأمرين من التفاوت «قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» (67) الساخرين بكم وإني مثلكم في هذا ولكن الله أمرني به لإظهار أمر القتل الذي اتهمتم به، وهؤلاء كان عليهم أن يأتوا حالا بمطلق بقرة فيذبحوها، لأن موسى لم يعين لهم بقرة مخصوصة ولم يأمره الله بذلك ولكن شدّدوا فشدد الله عليهم، «قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ» حقيقتها وكم سنها «قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ» الفارض المسنة التي لم تلد أي لا كبيرة «وَلا بِكْرٌ» البكر الفتية التي لم تكن أهلا للولادة أي صغيرة «عَوانٌ» العوان النصف والوسط والتي نتجت بعد بطنها البكر من الخيل والبقر ومن النساء التي كان لها زوج ثمّ بين المراد بقوله عوان «بَيْنَ ذلِكَ» بين المسنة والبكر «فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ 68» ولا تكثروا السؤال عما لا يعني، فلم يكتفوا بذلك «قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ» شديد الصفرة كما تقول أسود حالك وأبيض أنق وأزرق صاف وأخضر أدهم أي «لَوْنُها» اصفر جدا «تَسُرُّ النَّاظِرِينَ» (69) رؤيتها لحسنها وتعجبهم بهجتها فيظهر على وجه ناظرها السرور «قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ» أسائمة أم عامله «إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ» (70) لما تأمرنا به
«قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ» ليست مذالة بالعمل «تُثِيرُ الْأَرْضَ» تحرثها للزراعة «وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ» ليست بساقية يستقى عليها الماء من البئر وغيره «مُسَلَّمَةٌ» من كل عيب «لا شِيَةَ فِيها» لا علامة ولون آخر من أبيض أو أسود أو غيره «قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ» البيان الشافي الذي لا إشكال فيه فصاروا يطلبون بقرة متصفة بما ذكر فلم يجدوا إلا واحدة عند غلام يتيم فكان هذا السؤال منهم لحكمة أرادها الله تعالى أيضا وهي أن رجلا صالحا عنده غلام صغير وعجلة صغيرة فتركها في غيضة وقال استودعنك يا رب هذه العجلة لا بني ثمّ مات، ونشأ الغلام
صالحا مرضيا لأمه فقالت له يا بني إن أباك استودع ربك عجلة في الغيضة (الحرج) فاذهب وأت بها وعلامتها أنك إذا رأيتها يتخيل لك شعاع الشمس يخرج من جلدها فذهب فرآها فقال أعزم عليك برب إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلا أقبلت إلي فأقبلت فأخذها، وكان الناس عند ما يرونها يسمونها المذهبة فلما أتى بها إلى أمه قالت اذهب وبعها بثلاثة دنانير ولا تطلق بيعها إلا برأيي فأخذها إلى السوق فأرسل الله ملكا بصورة إنسان وأعطاه بها ثلاثة دنانير فباعها له على رضاء أمه، فقال له الملك أعطك ستة دنانير وبعينها دون مشورة أمك، قال لو وزنتها بالذهب لا أبيعها إلا برضاء أمي، فرجع فأخبر أمه، فقالت بعها بستة على رأيي، فرجع بها إلى السوق فجاءه الملك فقال بعتها لك بستة على رأي أمي، فقال أعطيك اثني عشر ولا تستأذن أمك، فقال مقالته الأولى، ورجع فأخبر أمه، فقالت بعها باثني عشر برأيي، ثم انثنت وقالت قد وقع في روعي أنّ الذي يأتيك ملك، فقل له أتأمرني أبيعها أم لا؟ فذهب وأخبره بما قالت أمه، فقال قل لأمك أمسكيها فإن موسى ابن عمران سيشتر بها بملء مسكها (جلدها) ذهبا، فرجع وأخبر أمه بما قال، واحتفظت بها ولما لم يجد أهل القرية بقرة موصوفة بما ذكر موسى إلا هذه أخذوها منه بوزن جلدها ذهبا، وأحضروها لموسى «فَذَبَحُوها» بأمره بقصد براءة ذمتهم من جرم القتل «وَما كادُوا يَفْعَلُونَ» (71) شراءها وذبحها لغلاء ثمنها ولكنهم اضطروا لذلك لبراءتهم، قال تعالى خطابا للمتخاصمين «وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها» اختلفتم وتدافعتم بسببها، لأن رب القتيل يسن قتل قريبه إليهم وهم ينكرون، وبعد أن قمتم بما أمرتم فاتركوا المخاصمة الآن «وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» (72) من أمر القتل لأنه سيفضح الأمر، قال تعالى «فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها»
فأخذوا لسانها فضربوا به القتيل فحيي وقال قتلني ابن عمي المدعي المذكور، فظهرت براءة أهل القرية وكذب المدعي فحرمه موسى من إرثه كله وأوقع عليه القصاص. وقد جاء في الخبر عن سيد البشر ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة، وهذا مما هو موافق لشرعنا الذي جاء به خاتم الرسل من حرمان القاتل ميراث مقتوله «كَذلِكَ»
كما أحيا الله هذا الميت
يوم القيامة فلا تستبعدوا على الله شيئا أيها المنكرون البعث «وَيُرِيكُمْ آياتِهِ»
هذه وأشباهها «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»
(73)
معانيها فتدبرونها وتستدلون بها على غيرها، هذا وإنما لم يقدم قصة القتيل على قصة البقرة لئلا تكون واحدة ويذهب الغرض من تقريعهم على قتل النفس المحرمة وعلى ترك المسارعة إلى امتثال الأمر بذبح البقرة. وفائدة الضرب المأمور به في هذه الآية الكريمة مع أن الله تعالى قادر على إحيائه دون ضربه ودون ذبح البقرة، لئلا يتوهموا بأن موسى أحياء بضرب من السحر الذي اتهموه به أو بالحيلة التي يزعمونها.
وإنما كانت بقرة ولم تكن شاة لأنها أعظم القرابين عندهم، وقد جرت عادتهم أن يتقربوا إلى الله بمثلها، ولحصول المال العظيم لصاحبها ابن الرجل الصالح، ولأنها كانت وديعة الله. هذا وهل يستطيع الأستاذ المراغي أن يقول ان هذه القصة معنوية، وهل قصة عزيز وقصة إبراهيم الآتيتين في الآية 258 فما بعدها وغيرهما مما لا يعد، صورية، رحمه الله لا نعلم ماذا أراد بجرأته هذه؟ تجاوز الله عنه.
الحكم الشرعي في مثل هذه الحادثة إذا وجد قتيل في قرية أو محلة ولم يعرف القاتل ولا بينة على القتل ولم يعلم الذي رماه فيها، فإن الإمام يختار خمسين رجلا من صلحاء القرية أو المحلة برأيه أو برأي ولي المقتول ويحلف كل منهم فيقول والله ما قتلته ولا أعلم له قاتلا، فإن حلفوا لا يقتصّ منهم ولكن تؤخذ دية القتيل من أهل القرية أو المحلة كافة، وإن كان في الطريق العام كانت ديته على بيت المال، لأن السلطان مكلف بأمن الطريق. قال تعالى «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» البرهان العظيم وهو إحياء الميت وإخباره عن قاتله وانتزعت منكم لرحمة وتلطختم بأدران الذنوب، فغلفّت وتكاثف صدأها «فَهِيَ كَالْحِجارَةِ» في صابتها «أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً» منها، لم قل كالحديد مع أنه أصلب من الحجارة لأنه يلين بالنار لكل أحد، وقد لان لداود عليه السلام بغيرها، والحجارة غير قابلة للتلبين وقد تصير ترابا بالحرق لكنها لا تلين أبدا «وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ» فهي أفضل إذا من القلب القاسي ويرجى منها الفائدة بخلافه «وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ» كالعيون التي هي