المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مطلب مثالب بني إسرائيل وتحويفهم كلام الله ونقضهم عهوده: - بيان المعاني - جـ ٥

[ملا حويش]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء الخامس]

- ‌[خطبة الكتاب]

- ‌تفسير سورة البقرة عدد 1- 87 و 2

- ‌مطلب الإيمان يزيد وينقص وحال المنافقين وفضيحتهم وأفعالهم:

- ‌مطلب في المثل لماذا يضرب وما هو الرعد والبرق وضمير مثله:

- ‌مطلب في ثمار الجنة ونسائها وأهلها وضرب المثل والعهود التي أخذها الله على خلقه:

- ‌مطلب في المخترعات الحديثة والتحليل والتحريم وبحث في الخلق وقصة الجنّ ومغزى اعتراضهم:

- ‌مطلب تفضيل الرسل على الملائكة وامتناع إبليس عن السجود وكونه ليس من الملائكة:

- ‌مطلب إغواء إبليس لآدم وحواء وخروجهما من الجنة وإسكانهما الأرض:

- ‌مطلب في العقل ومعناه وأحاديث ومواعظ في الصبر والتقوى وغيرهما والصلاة وما خوطب به بنو إسرائيل:

- ‌مطلب خروج بني إسرائيل من مصر وأخذهم ضريح يوسف وإنجائهم وإغراق فرعون والميقات الأول:

- ‌مطلب في الشكر وتوبة بني إسرائيل والميقات الثاني:

- ‌مطلب في التيه والمنّ والسلوى ومخالفتهم أمر الله ثانيا:

- ‌مطلب رفع الطور على بني إسرائيل وكيفية مسخهم قودة وخنازير:

- ‌مطلب ما قاله الإمام المراغي وقصة البقرة وإحياء الميت:

- ‌مطلب مثالب بني إسرائيل وتحويفهم كلام الله ونقضهم عهوده:

- ‌مطلب حرص اليهود على الدنيا وعداوتهم لجبريل عليه السلام وابن حوريا وعمر بن الخطاب وقوة إيمانه:

- ‌مطلب في السحرة وهاروت وماروت والحكم الشرعي في السحر والساحر وتعلمه وتعليمه والعمل به:

- ‌مطلب في النسخ وأسبابه وأنه لا يكون إلا بمثله أو خير منه:

- ‌مطلب الاختلاف في سبب نزول الآية 108 وتفنيد الأقوال فيها ومجهولية الفاعل:

- ‌مطلب مناظرة اليهود والنصارى، ولغز في ذلك:

- ‌مطلب فيما ابتلى به إبراهيم ربه والكلمات التي علمها له وبناء الكعبة وغيرها:

- ‌مطلب وصية يعقوب وبقية قصة إسماعيل عليهما السلام:

- ‌مطلب بناء البيت وحدوده من جهاته وتحريمه واحترام ما فيه وبدء بنائه:

- ‌مطلب كيفية الإيمان والإسلام والمعمودية ومن سنها وتحويل القبلة وأن الشهادة قد تكون بلا مشاهدة ومنها شهادة خزيمة:

- ‌مطلب آيات الصفات والشكر على النعم والذكر مفرد أو جماعة وثواب الشهيد:

- ‌مطلب في الصبر وثوابه وما يقوله المصاب عند المصيبة:

- ‌مطلب في السعي وأدلة السمعية والحكم الشرعي فيه وكتم العلم:

- ‌مطلب الدلائل العشر المحتوية عليها الآية 164 من هذه السورة:

- ‌مطلب في الأكل وأحكامه وأكل الميتة والدم وغيرهما من المحرمات:

- ‌مطلب أنواع البرّ والقصاص وما يتعلق بهما:

- ‌مطلب في الوصايا ومن يوصى له ومن لا وما على الوصي والموصى له والموصي:

- ‌مطلب في الصوم وفرضيته والأعذار الموجبة للفطو والكفارة وإثبات الهلال وإنزال الكتب السماوية:

- ‌مطلب الدعاء وشروطه والجمع بين الآيات الثلاث فيه وشروط الإجابة:

- ‌مطلب أخذ أموال الناس باطلا والقضاء لا يحلل ولا يحرم ومعنى الأهلة وما كان في الجاهلية وأنه القتال الأولى:

- ‌مطلب المقابلة بالمثل وفضل العفو والإنفاق في سبيل الله والإحسان:

- ‌مطلب في المحافظة على الأدب في الحج ولزوم التقوى فيه وجواز البيع والشراء في الموسم ودوام ذكر الله تعالى:

- ‌مطلب مقتل زيد بن الدثنة وخبيب الأنصاري وإظهار حبهم لحضرة الرسول والصلاة عند القتل وقصة صهيب:

- ‌مطلب لا يصح نزول الآية في عبد الله بن سلام وبحث قيم في آيات الصفات وأن المزين في الحقيقة هو الله تعالى:

- ‌مطلب الأنبياء والرسل المتفق عليهم والمختلف فيهم ورسالتهم وعددهم وعدد الكتب المنزلة عليهم:

- ‌مطلب في الإنفاق والجهاد وفوائدهما وما يترتب على القعود عنهما من البلاء:

- ‌مطلب في الخمر والميسر ومخالطة اليتامى والنظر إليهم وبحث في النفقة أيضا وحفظ بيت المال

- ‌مطلب في الحيض والنفاس وما يجوز معهما وما يمتنع وكفارة من يقرب الحائض وفي الإتيان في الدبر:

- ‌مطلب في الأيمان وكفّارتها والإيلاء والطلاق والعدة وكلمات من الأضداد وما يتعلق بحقوق الزوجين:

- ‌كراهة الطلاق وجواز الخلع على مال وحرمة أخذه إن كان لا يريدها ووقوع الطلاق الثلاث:

- ‌مطلب في الرضاع وعدة الوفاة والطلاق وما يجب فيهما ونفقة الأولاد والمعتدات:

- ‌مطلب قصة ذي الكفل ونادرة السلطان سليم وقصة أشمويل عليه السلام:

- ‌مطلب في التابوت ومسيرهم للجهاد ومخالفتهم توصية نبيهم بالشرب من النهر وقتل جالوت وتولية داود عليه السلام:

- ‌مطلب التفاضل بين الأنبياء واختصاص كل منهم بشيء وتفضيل محمد على الجميع وإعطائه ما أعطاهم كلهم من المعجزات:

- ‌مطلب عظمة العرش والكرسي وأفضل آية في القرآن والأحاديث الواردة في ذلك والإكراه في الدين:

- ‌مطلب محاججة النمروذ مع إبراهيم عليه السلام وقصة عزير عليه السلام وسؤال إبراهيم عن كيفية إحياء الموتى وجوابه عليها:

- ‌مطلب في الصدقة الخالصة والتوبة وما يتعلق بهما وبيان أجرها وعكسه:

- ‌مطلب أدل آية على فرض الزكاة ومعنى الحكمة والحكم الشرعي في الزكاة والنذر:

- ‌مطلب الهداية من الله، وفضل إخفاء وإعلان الصدقة، والربا وما يتعلق به والحكم الشرعي فيه:

- ‌مطلب فائدة انظار المعسر وتحذير الموسر عن المماطلة بالأداء وأجر العافي عن الدين والتوبة عن الربا وآخر آية نزلت فيه:

- ‌مطلب في الكتابة والشهادة على الدين وتحذير الكاتب والشاهد من الإضرار بأحد المتعاقدين وحجر القاصر ومن هو بحكمه:

- ‌مطلب المحاسبة غير المعاقبة ومعنى الخطأ والنسيان والهمّ والطاقة والإصر وغيرهما:

- ‌تفسير سورة الأنفال عدد 2 و 98 و 8

- ‌تفسير سورة آل عمران عدد 3 و 89 و 3

- ‌مطلب في وفد نجران ومناظرته مع حضرة الرسول، وبيان المحكم والمتشابه في القرآن العظيم:

- ‌مطلب آيات الله في واقعة بدر. ومأخذ القياس في الأحكام الشرعية. وأن الله خلق الملاذ إلى عباده ليشكروه عليها ويعبدوه:

- ‌مطلب في معنى الحساب وعلامة رضاء الله على خلقه وموالاة الكفرة وتهديد من يواليهم أو يحبتهم:

- ‌مطلب من معجزات القرآن تماثيل الأعمال كالسينما وفي طاعة الله ورسوله التي لا تقبل الأولى إلا مع الثانية وهناك من الأمثال ما يقاربها:

- ‌مطلب ولادة مريم من حنة وتزويج زكريا من إيشاع وقصتهما وما يتعلق فيهما:

- ‌مطلب في الاصطفاء، ومن كمل من النساء، وما احتوت عليه هذه الآيات وما يتعلق بها:

- ‌مطلب معجزات عيسى عليه السلام وقصة رفعه إلى السماء وعمل حوارييه من بعده:

- ‌مطلب في المباهلة ما هي وعلى أي شيء صالح رسول الله وقد نجوان وحكاية أسير الروم

- ‌مطلب في الحلف الكاذب والمانّ بما أعطى والمسبل إزاره وخلف الوعد ونقض العهد:

- ‌مطلب وقت قبول التوبة وعدم قبولها. ومعنى البر والإثم. والتصديق بالطيب. والوقف الذري. وتبدل الأحكام بتبدل الأزمان:

- ‌مطلب في البيت الحوام والبيت المقدس وفرض الحج وسقوطه وتاريخ فرضه والزكاة والصوم والصلاة أيضا:

- ‌مطلب فتن اليهود وإلقائها بين المسلمين وسبب اتصال الأنصار بحضرة الرسول وألفتهم:

- ‌مطلب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاجتماع والفرقة وكون هذه الأمة خير الأهم ومعنى كان والتذكير والتأنيث:

- ‌مطلب حقد اليهود والمنافقين ورؤية حضرة الرسول وقصة أحد وما وقع فيها:

- ‌مطلب من أمي قديم، إلى حزن حادث وفي الربا ومفاسده. ووجود الجنة والنار والأوراق النقدية:

- ‌مطلب في التقوى وكظم الغيظ والعفو والإحسان، ومكارم الأخلاق والتنزه عن مذامتها:

- ‌مطلب الأيام دول بين الناس، وكون الجهاد لا يقرب الأجل، وكذب المنافقين، واللغات التي تجوز في كأين:

- ‌مطلب المقتول ميت بأجله، وأنواع العبادة ثلاثة، وبحث في الشورى ومن يشاور، وخطبة أبي طالب:

- ‌مطلب في حياة الشهداء، وخلق الجنة والنار، وقصة أهل بنو معونة، وما قاله معبد الخزاعي:

- ‌مطلب غزوة حمراء الأسد، وبدر الصغرى، وأحاديث في فضل الجهاد والرباط:

- ‌مطلب في الزكاة وعقاب تاركها، وتحذير العلماء من عدم قيامهم بعلمهم، وحقيقة النفس:

- ‌مطلب إخبار الله تعالى عما يقع على المؤمنين وقتل كعب بن الأشرف والاعتبار والتفكر والذكر وفضلهما وصلاة المريض:

- ‌مطلب فيما وقع للنجاشي مع أصحاب رسول الله ووفد قريش. ومأخذ قانون عدم تسليم المجرمين السياسيين. والصلاة على الغائب:

- ‌تفسير سورة الأحزاب عدد 4- 90 و 33

- ‌مطلب في غزوة الخندق وما سلط فيها على الأحزاب وهزيمتهم

- ‌مطلب لا يسمى ما وقع من حضرة الرسول وما في بعض آيات القرآن شعرا لفقد شروطه وقصة بني قريظة:

- ‌مطلب في تخيير المرأة ونساء الرسول صلى الله عليه وسلم وتبرج النساء وتسترهن

- ‌مطلب زواج حضرة الرسول بمطلقة زيد، وكونه خاتم الأنبياء، والطلاق قبل الدخول:

- ‌مطلب منع النبي من الزواج والطلاق ورؤية المخطوبة وجواز الرؤية للمرأة في تسع مواضع وما أحدث في زماننا:

- ‌مطلب كيفية الصلاة على النبي، وهل يجوز إطلاقها على غيره، والذين لعنهم الله ومن يؤذي أولياءه:

- ‌مطلب تفطية وجه المرأة، والنهي عن نقل القول، وما اتهم به موسى من قومه والأمانة:

- ‌تفسير سورة الممتحنة عدد 5- 91 و 60

- ‌مطلب الاخبار بالغيب في كتاب حاطب لأهل هكة ونصيحة الله للمؤمنين في ذلك:

- ‌مطلب من جحد عهد الحديبية وما يتعلق بالنسخ ونص المعاهدة وما وقع فيها من المعجزات:

- ‌تفسير سورة النساء عدد 6 و 92 و 4

- ‌مطلب في أخلاق الجاهلية وفوائد السلطان للبلاد والعباد. وأكل مال اليتيم:

- ‌مطلب في الوصايا وأموال الأيتام وحفظها وتنميتها ورخصة الأكل منها للمحتاج:

- ‌مطلب حد الزنى واللواطة. وأصول التشريع. والمراد بالنسخ. وإيمان اليأس والتوبة:

- ‌مطلب في المحرمات من النساء وفي نكاح الحرة والأمة ونكاح التبعة والتفاضل بين الناس:

- ‌مطلب أكل المال بالباطل وجواز البيع بالتراضي ومن يقتل نفسه وكبائر الذنوب وصغائرها وما يتعلق بهذا:

- ‌مطلب تفضيل الرجل على المرأة. وعدم مقاصصتهن لرجالهن. وأمر تأديبهن منوط برجالهن أيضا:

- ‌مطلب أجمع آية في القرآن لمصارف الصدقة. وحق القرابة والجوار وشبههما وذم البخل:

- ‌مطلب أن الخمر الثالثة ونزول آية التحويم والأصول المتممة في النطق، وعدم اعتبار ردة السكران وطلاقه:

- ‌مطلب طبايع اليهود أخزاهم الله واسلام عبد الله بن سلام وأصحابه وغفران ما دون الشرك وعلقة اليهود:

- ‌مطلب توصية الله الحكام بالعدل ومحافظة الأمانة والأحاديث الواردة فيها وتواصي الاصحاب في ذلك:

- ‌في مطلب معنى زعم قصة بشر واليهودي والزبير والأنصاري وامتثال أوامر الرسول:

- ‌مطلب ما فعله ابو نصير وفتح خيبر وتبوك وما وقع فيهما من المعجزات وظهور خير صلح الحديبية الذي لم يرض به الأصحاب

- ‌مطلب في قوله تعالى كل من عند الله، وكيفية حال المنافقين مع حضرة الرسول، وان كلام الله لا يضاهيه كلام خلقه محمد فمن سواه صلى الله عليه وسلم:

- ‌مطلب أمر حضرة الرسول بالقتال والآية المبشرة إلى واقعة أحد وبدر الصغرى والشفاعة والرجاء ومشروعية السلام ورده:

- ‌مطلب من يقتل ومن لا يقتل ومن يلزمة الكفارة للقتل ومن لا وما هو يلزم القاتل وأنواع القتل:

- ‌مطلب في قصر الصلاة وكيفيتها وهل مقيدة بالخوف أم لا ومدتها، وقصة سرقة طعيمة بن أبيرق وجواز الكذب أحيانا:

- ‌مطلب غفران مادون الشرك وتوبة الشيخ على يد رسول الله:

- ‌مطلب ارث النساء والقسم من الزوجات وجواز الفداء والعداء والظلم والعدل:

- ‌مطلب في التهكم والكتاب والنهي عن مجالسة الغواة وأفعال المنافقين وأقوال اليهود الباطلة:

- ‌مطلب عدم تيقن اليهود بان عيسى هو المصلوب، وآية الربا الرابعة، وعدد الأنبياء والرسل وفرق النصارى ونص الأقانيم الثلاث:

الفصل: ‌مطلب مثالب بني إسرائيل وتحويفهم كلام الله ونقضهم عهوده:

دون الأنهار «وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» أي ينزل بسرعة من قمة الجبل إلى أسفله انقيادا لأمر الله تعالى وهو قادر علي إفهامها. روى مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، وإني لأعرفه الآن. أي وان قلوبكم يا بني إسرائيل لا تخشى ولا تلين ولا تعقل قول المرسلين، فاعملوا ما شئتم «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (74) في الدنيا من الشرور.

‌مطلب مثالب بني إسرائيل وتحويفهم كلام الله ونقضهم عهوده:

وفي هذه الآية توبيخ على أفعالهم القبيحة الماضية وتهديد ليكف عنها أهل زمنه ولا يقدم على مثلها في المستقبل أبناؤهم. قال تعالى «أَفَتَطْمَعُونَ» يا سيد الرسل وإنما خاطبه بلفظ الجمع تعظيما له وتكريما لشائة لأنه هو الداعي للإيمان بالله وحده «أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ» هؤلاء اليهود وقد سمعتم ما وقع منهم تجاه نبيّهم «وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ» أي من آبائهم مع موسى عليه السلام يوم الميقات «يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ» معه وبعده كانوا يسمعون التوراة التي هي كلام الله من موسى عليه السلام نفسه «ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ» يغيرونه ويبدلونه «مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ» وعوه وفهموه إذ قالوا لموسى سمعنا الله يقول إن تفعلوا فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا، فخالفوه عمدا «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (75) أن الله تعالى لم يقل ذلك ويعلمون أنهم اختلفوه من أنفسهم فإذا حرفوا نعتك الموجود في التوراة الذي سمعه أسلافهم من موسى عليه السلام فقالوا غير الواقع فليس بشيء عندهم أن يكذبوا عليك بعد أن كذبوا على الله تعالى «وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا» بك «قالُوا آمَنَّا» بما آمنتم به يا أصحاب محمد وقد علمنا أن صاحبكم صادق ونعته موجود عندنا في التوراة كما هو عليه الآن، ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى بحق المنافقين، وهذه بحق اليهود فقط، «وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا» أي رؤساؤهم الذين نزلت بحقهم هذه الآيات وهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد ووهب بن يهودا وأضرابهم إلى منافقيهم «أَتُحَدِّثُونَهُمْ» كيف تحدثونهم «بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» في كتابكم من وصف محمد وتخبرون أصحابه

ص: 54

بأنه حق «لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ» بما تحدثونهم «عِنْدَ رَبِّكُمْ» في الآخرة كما يخاصمونكم به في الدنيا «أَفَلا تَعْقِلُونَ» (71) أن تصديقكم لهم يكون حجة عليكم فيحق عليكم القول باعترافكم، فيا سيد الرسل قل لهم «أَوَلا يَعْلَمُونَ» هؤلاء «أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» (77) من أقوالهم وأفعالهم وأنه يخبر نبيه بها أفلا ينتهون عن مثل هذه الأعمال وهم يعلمون أن الله يفضحهم كما فضحهم في مواقع كثيرة. ثم طفق يعده مثالبهم فقال «وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ» جمع أمنية أي تلاوة مجردة، وكلمة تمنى تأتي بمعنى تلا كما في قوله:

تمنى كتاب الله أول ليلة

تمني داود الزبور على رسل

وهي في الأصل بمعنى الأكاذيب «وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» (78) لا يدرون ما هو الكتاب «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ» قال بأيديهم مع أن الكتابة لا تكون بغيرها تأكيدا لنفي احتمال أمرهم غيرهم بها ولعلمه أن ستكون الكتابة بالآلة، وهذا ما يؤيد ما ذكرناه في الآية 48 من سورة العنكبوت في ج 2، على أنه صلى الله عليه وسلم لا يكتب «ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» بلا خجل ولا حياء افتراء على الله، وذلك أنهم حرفوا صفة الرسول فكتبوا أنه طوال أزرق العينين سبط الشعر، بدل ما هو مكتوب في الأصل بأنه ربعة أكحل العينين حسن الشعر حسن الوجه، وصاروا إذا سئلوا عن صفته تلوا على السائل ما كتبوه وكتموا ما هو الواقع عند الله ومثبت في التوراة، وذلك ليس إلا «لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا» من جهلتهم وسفلتهم «فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» (79) من الجعل الذي يأخذونه من عوامهم على تبديلهم كلام الله وافترائهم عليهم «وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً» بقدر مدة عبادتهم العجل وهي عشرة أيام على ما قيل «قُلْ» لهم يا خاتم الرسل «أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً» على هذا وتمسكتم به «فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ» حتى قلتم هذا من حيث لم تأخذوا به عهدا من الله «أَمْ تَقُولُونَ» كذبا من عند أنفسكم «عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» (80) بهتا وافتراء عليه ورجما بالغيب

ص: 55

«بَلى» تمسكم النار حتما إن بقيتم على كفركم، لأن «مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ» بأن مات مصرا عليها وهي لعظمها محيقة به من كل أطرافه «فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (81) لا يخرجون منها أبدا.

وأعلم أنه يوجد في القرآن ثماني آيات مبدوءة بلفظ بلى هذه والآية 111 الآتية والآيتين 75/ 125 من آل عمران الآتية والآية 81 من سورة يس و 14 من سورة القيامة في ج 1 و 59 من الزمر و 15 من الانشقاق ج 2، أما الآيات المبدوءة بالباء فهي 55 آية. «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (82) قال تعالى «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ» في التوراة «لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ» وحده «وَبِالْوالِدَيْنِ» أحسنوا «إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ» أحسنوا إليهم لخلوهم عمن يقوم بمعاشهم ومصالحهم وأخر المساكين لأنهم دون اليتامى القاصرين عن درجة البلوغ لأنهم يقدرون على أن ينتفعوا بأنفسهم في الجملة ويقدرون على نفع غيرهم بالخدمة كما قدم ذا القربى لأنهم أقدم والشفقة عليهم أعظم أجرا منها على غيرهم «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» عاملوهم بالمعروف وعاشروهم باللطف وألينوا لهم القول واخفضوا لهم الجانب وأحسنوا أخلاقكم معهم «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» وقد عدل في هذه الأوامر الثلاثة الأخيرة من الغيبة إلى الخطاب، وهي تتمة التكاليف الثمانية التي أمروا بها بالتوراة إيذانا بأمرهم بها، لأن الأول قوام الأخلاق، والأخير ملاك الدين وإعلاما بعدم قيامهم بها بدليل قوله «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ» عن القيام بهذه العهود وأعرضتم «إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ» أخذوا بها ولم يعرضوا عنها «وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ 83» حتى الآن أيها المخاطبون كإعراض الأكثر من آبائكم، وذكرنا في الآية 151 من الأعراف والآية 15 من الإسراء في ج 1 ما يتعلق بآيات بني إسرائيل والوصايا التي أنزلت عليهم ليعلموا بها بصورة مفصلة في الآية 151 من الأنعام في ج 2 فراجعها، «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ» أيها الإسرائيليون «دِماءَكُمْ» بأن يقتل بعضكم بعضا «وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ» أي لا يخرج أحدكم الآخر من داره وبلده «ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ» بهذا العهد وتعهدتم بإنقاذه

ص: 56

«وَأَنْتُمْ» أيها الحاضرون الآن «تَشْهَدُونَ 84» على أحقية ذلك ووجوب الوفاء به كما شهد من قبلكم به لأنه مدون في كتابكم ولكنكم تفعلون بخلافه كالذين من قبلكم لقوله تعالى «ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ» المخاطبون «تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ» الآن كأن هذا العهد لم يؤخذ عليكم ولم تتعهدوا به وها انكم «تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» وتتعاونون على ظلمهم «وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ» بمالكم وتنقذونهم من أيدي أعدائهم «وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ» كما هو محرم عليكم قتلهم وعدم معاونتهم فهذه أربعة عهود نقضتموها باختياركم جرأة على الله وهي ترك القتل وترك الإخراج وترك المظاهرة ولك الأسرى وتمسكتم بغيرها «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ» فتوقنون ببعض ما عاهدتم الله عليه وهو فداء الأسرى «وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» وهو القتل والإخراج وعدم التعاون «فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ» أيها اليهود على هذه المخالفات «إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» وهوان وذلة ومسكنة فيها «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ» الذي لا تطيقه الرواسي ولا مخلص لكم منه «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ 85» بل محصيه عليكم ومجازيكم به لا محالة «أُولئِكَ» الذين هذه صفاتهم وتلك حالتهم هم «الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ» بمقابل ثمن بخس فان «فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ» يوم القيامة «وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ 86» فيها. وسبب نزول هذه الآيات هو أن بني قريظة حلفاء الأوس وبني النضير حلفاء الخزرج كان بينهما عداوة قديمة وكانا يحاربان مع حلفائهم فإذا غلب أحد الفريقين خربوا ديارهم وأخرجوهم منها، وكانوا إذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له مالا وفدوه به، فعيرتهم العرب كيف يقتلونهم ثم يفدونهم، فيقولون أمرنا الله بأن نفديهم، فقال لهم العرب كيف إذا تقاتلونهم، قالوا نستحي أن تذل حلفاؤنا، فعيرهم الله تعالى فيما أنزله على رسوله في هذه الآيات، وأخزى بني قريظة بالقتل والأسر والسبي، وبني النضير بالإجلاء عن منازلهم إلى أريحا وأذرعات من أرض الشام كما سيأتي تفصيله في سورة الحشر الآتية. قال تعالى

ص: 57

«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا» اتبعنا «مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ» واحدا تلو الآخر، فبعد موسى يوشع، لأن هرون توفي قبله، ثم شمويل، فداود، فسليمان، فأرميا، فحزقيل، فالياس، فاليسع، فزكريا، فيحيى، وكل هؤلاء وما بينهم ممن لم يقص الله علينا أسماءهم وأقوامهم شريعتهم التوراة، ولما بعث عيسى بن مريم وأنزل الله عليه الإنجيل عدل بعض أحكامها وصار عمل عيسى ومن بعده بالتوراة والإنجيل معا، ولهذا قال تعالى «وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ» الموضحة

لأحكام التوراة والمعجزات الظاهرات التي لا تقبل التأويل كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وشفاء المرضى «وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» جبريل عليه السلام، وقد أمر أن يكون معه من حين ولادته إلى وقت رفعه، وهذا هو معنى التأييد، وما قاله بعض المفسرين إن المزاد به الإنجيل لأن فيه حياة الأرواح كالقرآن بعيد عن المراد، وإن كان الإنجيل كذلك، لمخالفته للظاهر الذي هو الحقيقة، فالعدول عنها إلى المجاز دون صارف لا وجه له، وقد صرح الله تعالى بإتيانه بالإنجيل بآيات كثيرة عدا هذه كما صرح بالتوراة لموسى ثمّ ذكر آياته كاليد والعصا وبعض معجزاته الأخرى، وروح القدس أطلق على سيدنا جبريل بمواقع متعددة حتى صار كأنه علما له، أما لفظ الروح فقط فيطلق على القرآن وعلى التوراة وعلى الإنجيل بذلك المعنى وعلى نوع خاص من الملائكة كما مر في الآية 38 من سورة الأنبياء في ج 2 «أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ» أيها اليهود «بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ» من الأمور «اسْتَكْبَرْتُمْ» عنه وخالفتموه تبعا لهواكم «فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ» مثل عيسى قبلا ومحمد الآن «وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» (87) كزكريا ويحيى ومن تقدمهما «وَقالُوا» هؤلاء اليهود «قُلُوبُنا غُلْفٌ» خلقة مغشاة بأغطية لا يصل إليها ما جاء به محمد فأكذبهم الله بقوله ليست كذلك «بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ» طردهم وأقصاهم من رحمته بسبب كفرهم «فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ» (88) منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، والأكثر الذين يكفرون به «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ» من التوراة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم «وَكانُوا مِنْ قَبْلُ» قبل نزوله وبعثة محمد «يَسْتَفْتِحُونَ»

ص: 58

يستنصرون به «عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا» من مشركي العرب وغيرهم، إذ كانوا يقولون عند الشدة اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان الذي وصفته لنا في التوراة فكان يستجاب لهم وينصرون على أعدائهم، وكانوا يقولون للمشركين قد أطل زمان نبي يخرج بتصديق ما نحن عليه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فأكذبهم الله تعالى إذ لم يوفوا بقولهم هذا لقوله تعالى «فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا» وهو محمّد صلى الله عليه وسلم «كَفَرُوا بِهِ» بغيا وحسدا لأنه ليس منهم «فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ 89» بما في كتب الله الجاحدين لرسله «بِئْسَمَا» قبح شيء «اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» على رسوله من القرآن بأن استبدلوا الباطل بالحق «بَغْياً» وعدوانا وإنكارا من «أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» كمحمد مثلا حسدا وطلبا لما ليس لهم، ولأنه ليس منهم «فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ» لأنهم ضيعوا التوراة إذ لم يأخذوا بما فيها، وكفروا بمحمد والقرآن أيضا، أي أنهم رجعوا بغضب كثير، لأن المراد به الترادف والتكاثر لا غضبان فقط، وعلى هذا قوله:

ولو كان رمحا واحدا لاتقيته

ولكنه رمح وثان وثالث

أي رماح كثيرة «وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» (90) عند الله في الآخرة، وهذه الآية بلفظها هذا لم تكرر في القرآن.

قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» القرآن فما قبله «قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا» أي التوراة فقط مع أنهم لم يؤمنوا بها لجحدهم ما جاء فيها من لزوم الإيمان بالرسول محمد «وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ» أي الكتاب العظيم الذي أنزل بعد كتابهم والرسول الكريم الذي أرسل بعد رسولهم أي الإنجيل والقرآن وعيسى ومحمد «وَهُوَ الْحَقُّ»

لأن كلا جاء «مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ» من الكتاب العظيم الصحيح «قُلْ» لهم يا سيد الرسل إذا كنتم تؤمنون بما أنزل إليكم «فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ» قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ونزول كتابه ومن قبل مولد عيسى ونزول كتابه إلينا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (91) بالتوراة، لأنها تمنع من معارضة الأنبياء ولو قولا، فضلا عن القتل، وتأمر باتباعهم ولم تتبعوهم.

ص: 59

هذا، وقد أضاف الله تعالى ما فعله آباؤهم إليهم لرضاهم به، والراضي بالشيء كفاعله، ولأنهم أنفسهم مصرون على ما فعله أسلافهم بيحيى وعيسى ومحبذون له. قال تعالى «وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ» حينما ذهب لميقات ربه ليأتيكم بالتوراة «وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ» (92) كرره تأكيدا لإيقاع الحجة عليهم وتبكيتا بهم وتقريعا «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ» وقلنا لكم «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» كرره أيضا لتلك الغاية بزيادة قوله «وَاسْمَعُوا» سماع قبول وطاعة لما تؤمرون به. ونظير هاتين الآيتين الآيتان المارتين 51 و 67. قال تعالى حاكيا عنادهم «قالُوا سَمِعْنا» قولك «وَعَصَيْنا» أمرك ولولا مخافة هبوط الجبل علينا لما سجدنا «وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ» بأن تداخل حبه وتغلغل في قلوبهم فاندمج فيها، والأصل حب العجل وقد حذف إيجازا والحذف في مثله كثير في القرآن لأنه من أنواع البديع، وعبر بالشرب لأن من أراد حصر الحب أو البغض استعار له اسم الشراب لأنه أبلغ مساغا في البدن، ولهذا قال الأطباء الماء مطية الأغذية والأدوية.

وكان شدة حبهم العجل «بِكُفْرِهِمْ» بسببه حرصا على عبادته «قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ» الذي تزعمونه إشارة إلى قولهم (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) والمخصوص بالذم ما تقدم من قولهم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) وعبادة العجل، وفي إسناد الأمر إلى الإيمان تهكم بهم، وفي إضافة الإيمان إليهم إيذان بأنه ليس بإيمان حقيقة ينبيء عنه قوله جل قوله «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (93) لأن حرف (إِنْ) يؤذن بالشك ويدل على عدم الوقوع غالبا وهو تكذيب لهم من الله بدعواهم الإيمان، أي لو كنتم مؤمنين ما فعلتم «قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ» كما تزعمون وهذا إشارة لقولهم (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) في الآية 111 الآتية، ولقولهم (نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) الآية 21 من المائدة الآتية بما يدل على أنهما نزلنا قبل هذه الآيات، أي إذا كنتم كما تزعمون من خلوص الدار الباقية لكم «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (94) لأن من علم أن الجنة مأواه أحب الإسراع إليها تخلصا

ص: 60