الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى الأنبياء فلا يعملون شيئا إلا بإرشادهم. قال تعالى «وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً» حسب طلبكم فتهيأوا للقتال معه «قالُوا أَنَّى» من أين «يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا» وكيف يستحقه «وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ» لأنه ليس من سبط الملوك وفينا من
سبطه سبط يهوذا بن يعقوب كداود بن ميشا وغيره ولا هو من سبط النبوة سبط لاوى بن يعقوب الذي كان منه موسى وهرون وغير هما لهذا فانا لا نقبله ملكا علينا إذ يشترط أن يكون من أحد السبطين المذكورين فضلا عن أنه رجل دباغ فقير «وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ» فكيف نملكه علينا لأن الملك يحتاج للمال أكثر من احتياجه للسطوة بالرجال ويجب أن يكون من سبط الملك أو النبوة، قاتلهم الله على عنادهم هذا، الله يخبر نبيهم بأن طالوت أهل للملك وهم يقولون نحن أحق به منه «قالَ» نبيهم عليه السلام لا تعترضوا «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ» وكان أعلم بني إسرائيل في زمنه «وَالْجِسْمِ» وهذه فضيلة أخرى ينشأ عنها شدة القوة وهي مع العلم ركنان عظيمان لحفظ الملك والمال وليدلهما «وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ» من عباده لم يخصه بسبط ولم يجعله إرثا ولم يشترط له الغنى إذ قد يمكنه الله منه «وَاللَّهُ واسِعٌ» الرزق ويده أبوابه «عَلِيمٌ 247» بمن يؤهله للملك والرزق لأنهما من فضله وسعته يفيضهما على من يشاء من عباده.
مطلب في التابوت ومسيرهم للجهاد ومخالفتهم توصية نبيهم بالشرب من النهر وقتل جالوت وتولية داود عليه السلام:
ثم إنهم طلبوا من نبيهم علامة على ملكية طالوت من قبل الله تعالى بعد أن لم يقبل منهم ما طعنوه به فدعى الله ربه فأخبره بعلامته «وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ» الذي فقد منكم وآل فيه للعهد لأنه كان معروفا عند أسلافهم وعندهم بالاستقراء من أنبيائهم وهو على ما قالوا أنزل على آدم عليه السلام وكان فيه صور الأنبياء وهو من خشب الشمشام وكان طوله ثلاثة أذرع وعرضه ذراعين ولم أقف على نوعه وماهيته بأكثر من هذا،
وورثه شيث عليه السلام وتداوله أولاده من بعده إلى أن صار إلى ابراهيم وإسماعيل فيعقوب ثمّ وصل إلى موسى عليه السلام وكان يضع فيه التوراة وبعض الأشياء المقدسة وورثه أنبياء بني إسرائيل وكانوا يستنصرون به على أعداءها ويستشفون به «فِيهِ سَكِينَةٌ» قالوا هي كناية عن روح من روحه تعالى تخبرهم بلسان نبيهم عما يختلفون فيه وطمأنينة يسكنون إليها عند خوفهم وجزعهم هي لكم يا بني إسرائيل أمن «مِنْ رَبِّكُمْ» يوقعه في قلوبكم عند الخوف فتأمنوا وتخبتوا وتطمئنوا عند الجزع والفزع وتتسع قلوبكم عند الضيق وتنشرح له «وَبَقِيَّةٌ» فيه أيضا «مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ» من رضاض الواح التور والعصا وأشياء أخر محترمة عندهم تلقوها من الأنبياء الأقدمين، ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: أوتيت مزمارا من مزامير آل داود. أي داود نفسه، وهذه النساء جارية عند بعض العرب فيقولون آل فلان للشخص نفسه (وإن أهل قضاء الميادين من أعمال محافظة دير الزور تستعمل هذه النسبة حتى الآن) وهناك أقوال أخر في معنى التابوت والسكينة والبقية لا يركن إليها لعدم الوثوق بصحتها. قالوا وكانت العمالقة المار ذكرهم حينما غزوهم وسبوهم أخذوه منهم، وإنما سلطهم ان عليهم لتركهم تعاليم دينهم وإرشادات أنبيائهم وانشغالهم بشهواتهم واستحلالهم ظلم بعضهم ولما وضعوه في بيت أصنامهم رأوها تنكست فتشاءموا منه، ثم وضعوه في ناحية من مدينتهم فأصاب أهلها وجع في أعناقهم وهلك أكثرهم، فطرحوه في قرية من قراهم فسلط الله على أهلها الفأر حتى صارت الفأرة تبيت مع أحدهم فيصبح ميتا ثم دفنوه في فناء البلد قصار كل من يتبرز هناك يصاب بالباسور، فتحيروا في أمره فقالت لهم امرأة من بنات الأنبياء لا يزال المكروه فيكم ما زال عندكم، قالوا نعمل؟ فأمرتهم أن يأتوا بعجلة فيضعوه فيها ويربطوه لئلا يقع ويعلقوا العجلة بثور ويضربو هما ضربا مبرحا حتى يخرجا من حدود مدينتهم، ويتركوهما على وجههما ففعلوا ذلك ورجعوا، فأرسل الله أربعة من ملائكته يسوقونهما حتى أو صلاهما أراض بني إسرائيل، فلما رأوه كسروا نير الثورين وقطعوا حبالهما وأخذوا التابوت وانصرف الثوران لأهلهما، وإنما قال تعالى «تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ» لأنهم هم الذين وجهوا
الثورين إلى جهة بني إسرائيل، قالوا فصار بنو إسرائيل يهللون ويكبرون ويحمدون الله تعالى ودانوا لملكهم بعد أن رأوا هذه العلامة التي أخبر عنها نبيهم، وهناك أقوال أخر بأنهم رأوه نازلا من السماء وأن الملائكة أتتهم به من أرض التيه حتى أوصلته إلى بيت طالوت فأراهم إياه، والله أعلم، لأن القصة معلومة والكيفية مجهولة.
قالوا ولبث فيهم أشمويل عليه السلام أربعين سنة يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه إلى أن مات عليه السلام بعد قتل جالوت كما سيأتي «إِنَّ فِي ذلِكَ» أي إتيان التابوت بما فيه من السكينة والبقية بواسطة الملائكة «لَآيَةً لَكُمْ» عظيمة وبرهانا ساطعا على نبوة أشمويل وملكية طالوت «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 248» بربكم ورسالة نبيكم وتصديق ملككم، فلما رأوا الدليل القاطع أذعنوا وصدقوا، ثم أمرهم بالجهاد ليسترد لهم شرفهم من العمالقة فأجابوه ولم يتخلف منهم إلا العاجز والمعذور والصغير وساروا معه إلى العمالقة. قال تعالى «فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ» لهم نبيهم أشمويل «إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ» تعبرونه لأن عدوكم وراءه وقد يلحقكم العطش عنده وإن الله تعالى يمتحنكم هناك فيعلم الطائع منكم من العاصي له وسيقول لكم لا تشربوا من هذا النهر «فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي» ولست منه لمخالفة أمر الله «وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ» يذقه بتاتا «فَإِنَّهُ مِنِّي» وأنا منه لا نقياده لأمر الله «إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ» فشربها منه فلا بأس عليه لأنها رخصة له فيبقي من أهل بيتي وداخلا في طاعتي وتظهر طاعته لله وإلا فقد بارزه بالمعصية، ولما دخلوا النهر المذكور وكان قد لحقهم العطش كما أخبرهم نبيهم «فَشَرِبُوا مِنْهُ» خلافا لتوصية نبيهم وأمر ملكهم «إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» لم يشرب قالوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا. روى البراء بن عازب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوزه إلا مؤمن بضعة عشر رجلا وثلاثمائة- أخرجه البخاري-. قالوا وكان من اغترف منه بكفه كفته تلك الغرفة لنفسه ودابته وقوي قلبه وصح إيمانه وعبر النهر سالما لأنها معجزة نبي، ومن شرب منه رأسا فعبّ عبّا غلبه العطش فلم يروه ما كرع منه واسودت شفتاه وجبن وبقي ملقى على الشاطئ، وقالوا إن الشرب بعد العطش
والتعب يورث الاستسقاء ولهذا منعهم نبيهم وتراهم لكثرة ما شربوا منه انتفخت بطونهم وعجزوا عن المشي والعبور مع رفاقهم، وهذا النهر بين الأردن وفلسطين «فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا» المتخلفون الذين خالفوا أمر ملكهم وتوصية نبيهم عند ما شاهدوا كثرة العدو من وراء النهر «لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ» وذلك لما عرفوه من سطوتهم قبل وشدة بأسهم التي ذاقوها، ثم «قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ» الذين عبروا النهر مع ملكهم طالوت واكتفوا بغرفة من النهر وتمسكوا بتعاليم نبيهم وقد ازداد يقينهم بالله لما نفث في روعهم من القوة والإيمان بعد أن رأوا المعجزة بغرفة الماء بلى إن لنا من شدة صبرنا وإيقاننا بتحقق وعد الله لنا بالنصر والغلبة عليهم فإنا نقابلهم ولا نبالي بكثرتهم، قال تعالى «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ 249» بالنصر والمعونة والصبر ثمّ تأمروا بينهم على لقاء عدوهم وأقدموا على قتاله «وَلَمَّا بَرَزُوا» طالوت وجنوده «لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ» وصار بحيث كل منهم يرى الآخر لأن الأرض التي فيها الطرفان واسعة بارزة «قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً» على لقاء عدونا واصرف الرعب عن قلوبنا بسبب كثرتهم وقلّتنا «وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ 250» فأجاب الله دعاءهم بأن أزال الخوف عنهم وملأ قلوبهم بالإيمان وحبب إليهم الغلبة وألقى الرعب في قلوب أعدائهم ونصرهم عليهم
«فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ» حين التقى الجمعان وردوهم إلى الوراء فكسروهم «وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ» ملك العمالقة على ما هو عليه من القوة والعظمة وما معه من العدة والعدد «وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ» أي النبوة والحكم بين الناس ولم يجتمعا لأحد قبله من بني إسرائيل لأن الملك كان في سبط والنبوة في سبط كما تقدم آنفا فهو أول عظيم تولى السلطتين الدينية والزمنية، راجع الآية 50 من سورة ص المارة في ج 1، «وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ» من صنعة الدروع وغيرها زيادة على علومه في الدين والحروب والسياسة وكان عليه السلام مع ما أوتي من الملك الكبير لا يقتات إلا من كد يده وأنزل عليه الزبور المشتمل على الأدعية والاستغاثات والحكم والأمثال
وخصّه بحسن الصوت والألحان حتى كانت الوحوش تدنو منه عند ما يتلو الزبور وتظلله الطيور حنانا لسماع صوته وتسكن الرياح وتركد المياه عند ذلك، وكان بارعا في سياسة الملك وضبط أموره بتعليم الله تعالى إياه لأنه ليس في بيت الملك ولم يتلق تعاليمه من أحد ولم يختلط مع الساسة لأنه كان راعيا حتى تولى الملك وهو ابن ميشا أصغر أخواته الثلاثة عشر ولم يظن به ما ظهر منه قالوا أوتي سلسلة متصلة بالمجرة تأتي له بالأخبار الهوائية من كل مكان وكان يحاكم بعض الناس إليها عند عدم وجود الأدلة الظاهرة وكان إذا لمسها ذو العاهة شفي ثمّ رفعت عند ما ظهر المكر والخداع بين الناس فتمسكوا بالحيل مما يغر الناس في ظاهر القول وإبطان ضده فمن ذلك أن رجلا أودع آخر جوهرة ليردها إليه عند حاجته إليها فلما استحسنها الوديع وعمد على إنكارها نقر عكازه وجعلها فيه وسده عليها ولما جاءه المودع وطلبها منه قال رددتها لك فتحا كما إلى داود ولما لم يكن بينة لديه كلف الوديع أن يمس السلسلة فقال لصاحب الجوهرة إذ كلفتني هذا فامسك عصاي هذه كي أتقدم إلى السلسلة فأمسكها وهو لا يعلم أن جوهرته فيها فتقدم إلى السلسلة وقال يا رب إن كنت تعلم أن الوديعة وصلت لصاحبها هذا فقرب مني السلسلة فتقربت ولمسها إذا وصلت حقيقة لصاحبها باعتبارها في يده ضمن العكاز ثمّ رفعت السلسلة لهذه الحيلة. ثم إن الله تعالى زاد سيدنا داود على ذلك كله بأن علمه كلام الطيور والدواب وكل شيء كما أشرنا إليه في الآية 17 من سورة النحل ج 1 والآية 10 من سورة سبأ ج 2 «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ» بدل من الناس المنصوب بالمصدر وقرىء دفاع مصدر دافع «بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» وبطلت منافعها من الحرث والنسل لأن هذه الأشياء لا تتم إلا بالأمن والأمن لا يكون إلا بالسلطان ولهذا ينصر الله الصالحين لعمارتها على المفسدين فيها وقضى يبقاء أهلها لأجل مسمى عنده. واعلم أن صدر هذه الآية يضاهي الآية 41 من سورة الحج الآتية فراجعها «وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ 251» بإرسال الرسل وتنصيب الملوك لإزالة الفساد ونشر الصلاح بين الناس ولو لم يكفّ بالصالحين طغيان المفسدين وبغي العابثين لأهلك القوي الضعيف ودمر الفجار الأبرار وأعدم السخفاء الشرفاء وهكذا لو لم يدفع الله تعالى بجنوده
المسلمين وأصحاب حضرة الرسول الأعظم عدوان الكفرة والمنافقين لتعطلت معالم الدين وفسد الكون بانتشار المعاصي وإعلان الملاهي والمناهي، وقد ذكر الله تعالى لنبيه هذه القصة وما قبلها تذكيرا لأصحابه وإعلاما بأنه تعالى ينصر المؤمنين ويدحض الكافرين، وإيذانا بأنهم إذا صبروا وأطاعوا تكون لهم الغلبة والعاقبة الحسنة في الدنيا كما كانت من قبلهم وهذه العاقبة تفضي إلى العاقبة الحسنى بالآخرة أيضا. هذا وخلاصة هذه القصة على ما ذكره الأخباريون أنه لما خضع الإسرائيليون لطالوت وانتدبهم للقتال كان الوقت قيظا وسلكوا في طريقهم مفازة لحقهم على أثرها التعب والعطش، ولما طلبوا الماء من نبيهم قال لهم الماء أمامكم وان الله سيختبركم فيه على ما مر آنفا وكان من جملة الذين عبروا النهر سيدنا داود عليه السلام وكان يرمي بالقذافة (المقلاع) وكان يقول لأبيه لا أرمي شيئا إلا أصبته، فقال له قد جعل الله رزقك في قذافتك، ثم قال لأبيه يا أبت وجدت أسدا رابضا بين الجبال فأخذت بإذنه وركبته فقال هذا خير يريده الله بك، ثم قال يا أبت أرى الجبال تسبح معي إذا
سبحت فقال هذا خير أعطاه الله. ثم نادى طالوت في معسكره من قتل جالوت زوّجته ابنتي وناصفته ملكي، فلم يجبه أحد هيبة منه فاستشار النبي شمعون فيمن يبرز له، وذلك أن جالوت قال لطالوت لا حاجة للقتال واهراق الدماء فليبرز لي واحد فإن قتلني أخذ ملكي وإن قتلته أخذت ملكه (ومن هنا قال عمرو بن العاص إلى معاوية لماذا تهريق دماء المسلمين فابرز إلى علي فإن قتلته كفيته وإن قتلك كان الملك له، فلم يفعل لعلمه أنه ليس من رجاله، ثم قال معاوية ابرز له أنت ولك ملك مصر إن قتلته فقبل وتقدم إلى البراز فخطفه علي ورض به الأرض ونزل ليقطع رأسه فكشف له عن سوءته لأنه يعرفه كرم الله وجهه لا ينظر حتى إلى سوأة نفسه فتركه، وفيه يقول أبو فراس الحمداني في معرض الذم لأمثاله:
ولا خير في دفع الردى بمذلة
…
كما ردها يوما بسوءته عمرو)
فأوحى الله إلى شمعون أن يأتي بقرن فيه دهن القدس وتنور حديد ثمّ يدخل الناس في التنور ويضع على رؤوسهم القرن فالذي يسيل دهنه على رأسه حتى يصير كهيئة الإكليل ويملأ التنور وجوده بحيث لا يتغلغل فيه هو الذي يقتل جالوت، فدعا
عامة بني إسرائيل فلم تظهر تلك العلامة على أحد منهم فسأل هل بقي أحد قالوا لم يبق إلا أولاد ميشا وهم ثلاثة عشر فأحضرهم واختبرهم فظهرت العلامة على داود عليه السلام، فقال له طالوت هل لك أن تقتل جالوت؟ قال نعم، قال هل آنست من نفسك ما يدل على هذا؟ قال نعم إني أرى الغنم فيما بينها الأسد والنمر والذئب فيأخذ منها فألحقه فأفتح لحييه وأخرجها من قفاه واستخلص ما يأخذه، فقال أنت لها وكان رآه حينما سال الوادي يحمل شاتين شاتين ويخلصهما من السيل فقال الذي يرحم البهائم يكون بالناس أرحم فيجهد نفسه في تخليصهم من ضنك جالوت الغاشم، فأخذه إلى المعسكر وأمره بالبروز إلى جالوت فأخذ قذافته ووضع أحجارا في مخلاته، قالوا إنها كلمته بذلك بأن قالت له خذنا واحذف بنا جالوت فإنك تقتله ولهذا فإنه ترك السلاح الذي أعطاه له الملك طالوت قائلا إن لم ينصرني ربي لا ينصرني سلاح طالوت، فلما برز قال له جالوت أتيتني بأحجار كما يؤتى الكلب، قال نعم وأنت شر منه، فقال جالوت مهلا لأقسمنّك شطرين، وكان متأهبا بأعظم السلاح فضلا عن أنه مشهور بعظمته وجبروته وقوته وأن الملوك تخشاه وتهابه وتخاف لقاءه وتفزع منه الجيوش فلا تقابله أبطالها، فلما هجم عليه تلقاه داود بثلاثة أحجار متتابعة من قذافته أصابته كلها وخرقت دماغه وخرجت من قفاه وأصابت من وراءه فأماتته أيضا، فتقدم إليه وجره كالجيفة وألقاه بين يدي طالوت، ففرح وابتهج كل بني إسرائيل وهزم جيش جالوت واستسلم لطالوت فاستولى عليهم جميعا فقال داود لطالوت أنجز لي وعدك، قال هات الصداق، قال وما هو؟ قال لنا أعداه غلف (غير مطهرين) تقتل منهم مئتي واحد وتأتيني يقفهم، ففعل فزوجه ابنته وشاطره ملكه، فمال الناس إليه وأحبوه لما هو عليه من كريم السجايا والتقوى كيف وقد أهله الله تعالى الملك والنبوة، فلما رأى ذلك طالوت أحس بمفارقة الملك فصار يدبّر له المكائد ليمكر به فيقتله ليتخلص منه حرصا على ملكه وبقاء الرياسة في عقبه، فبلغ ذلك زوجته فقالت يا داود إنك لمقتول الليلة من قبل أبي وإني لا أقدر على ردّه، قال وما جرى؟ قالت لا علم لي إلا ميل الناس إليك، فملأ زقا من خمر ووضعه على تخته وسجاه ونام تحته، فجاء طالوت ليلا وقال لابنته
أين داود، قالت هو ذاك على التخت، فجرد سيفه وضربه تلقاء رقبته فانشق الزق وفاح ريح الخمر، فقال رحمه الله ما أكثر شربه للخمر وخرج، فلما أصبح عرف أنه لم يفعل شيئا فخاف منه أن يأخذ بثأره فأكثر حرسه وحجابه وأحكم غلق أبوابه، وتوارى داود عن الأنظار حتى سنحت له فرصة تمكن معها من الدخول على طالوت ليلا فوضع سهما عند رأسه وسهما عند رجليه وخرج، فلما أفاق ورأى ما رأى هاله ذلك وعرف أنه لو أراد قتله لقتله فقال رحم الله داود هو أرحم مني ظفر بي فكف عني وظفرت به فأردت قتله فهو خير مني، ثم شدد على حجابه وحرسه وأحكم أبوابه، فدخل عليه ثانيا وأخذ كوزه الذي يشرب به وقطع شعرات من لحيته وشيئا من طرف ثوبه وتركه وخرج، فلما أفاق ورأى ذلك تحير من أمره وعرف أنه لا يقدر على الاحتراز منه فسلط العيون عليه وأمر شرطته بطلبه وصار يتعقبه بنفسه فأدركه يوما بالبرية يلحقه فدخل غارا فتبعه فلم يجده وصار هو وجنوده يتحرونه فلم يجده ورأى العنكبوت معشعشا على الغار الذي اختبأ به، وهذه معجزة له تضاهي معجزة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أعطي معجزات الأنبياء كلهم فقالوا لو دخله لتخرق، ثم إن العلماء والعباد طعنوا على طالوت بملاحقة داود فقتل منهم خلقا كثيرا ليرتدع الباقون عن لومه فلم ينجع بهم ثمّ أتي بامرأة تعلم الاسم الأعظم فأمر خبازه بقتلها لأنها لم تعلمه به وقد تحقق أنها تعرف مكانه بسبب معرفتها الاسم الأعظم
فرحمها الخباز ولم يقتلها وأمرها بالتواري عن الأنظار وقال في نفسه لعلنا نحتاج إليها، ثم. أوقع الله الندم في قلب طالوت على ما وقع منه فاختلى عن الناس وطفق يحاسب نفسه على ما فعل بداود والعلماء والعباد وصار يبكي حتى رحمه الناس من كثرة بكائه وصار يذهب إلى المقابر فيسمع منها صوتا لا تؤذينا أمواتا كما أذيتنا أحياء، فازداد همه وحزنه وبكاؤه وصار يصيح ويقول من يعلم لي توبة أتوبها فيسمح الله لي ما فعلته، فقال له خبازه إن دللتك على عالم يقبل توبتك قتلته؟ قال لا والله فدله على الامرأة فذهب إليها وكانت مرابطة على قبر أشمويل عليه السلام الذي مات بعد قتل جالوت، فقالت يا صاحب القبر قم باسم الله الأعظم وذكرته فقام من قبره ينفض عن رأسه التراب وخرج فقال ما فعلت من بعدي يا طالوت لا تقبل