الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شهداء في الدنيا سعداء في الآخرة «وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ» بالنصر والغلبة لأنكم أصبتم منهم ببدر أكثر ما أصابوا منكم بأحد والعاقبة الحسنة لكم، فاصبروا واطمأنوا ولا تجزعوا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (139) بما وعدكم الله به فلا تهنوا على ما وقع منكم ولا تحزنوا على ما فاتكم ولا على ما أصابكم والأحسن أن تؤول (إِنْ) هنا بمعنى إذ على التعليل أي إنما يحصل لكم العلو على غيركم لأنكم مؤمنون بالله مصدقون لما جاء به رسوله «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ» أيها المؤمنون في أحد «فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ» أعدائكم «قَرْحٌ مِثْلُهُ» إذ قتل منهم سبعون وأسر سبعون في حادثة بدر، والقرح بالفتح الجراحة وبالضمّ المها، وقد قتل من الكفرة نيف وعشرون رجلا وجرح كثيرون في حادثة أحد.
مطلب الأيام دول بين الناس، وكون الجهاد لا يقرب الأجل، وكذب المنافقين، واللغات التي تجوز في كأين:
«وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» من واحد لآخر ومن طائفة لأخرى، كما قيل:
فيوما علينا ويوما لنا
…
ويوما نساء ويوما نسر
وكلمة نداولها لم تكرر في القرآن، ومنه الدنيا دول تنتقل من أمة إلى غيرها وقيل:
هي الأمور كما شاهدتها دول
…
من سرّه زمن ساءته أزمان
«وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» أن هذا التداول يتميّز فيه المؤمن الصادق من المبطن المنافق الذي يرجع عن دينه لأدنى نكبة، قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ) الآية 12 من سورة الحج الآتية «وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ» جمع شهيد وهو من مات في صف القتال وسمي شهيدا لأنه يشهد على الأمم يوم القيامة مع الأنبياء ولأنه يشهد له في الموقف العظيم لدى رب العالمين على أنه قتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (140) من الكافرين والمنافقين وغيرهم لذلك لا يقدر لهم الشهادة كما لم يقدر لهم الإيمان
«وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» في هذا التداول فيعرفون الحكمة منه فيطهرهم وينقيهم من ذنوبهم وكرر هذا الفعل في الآية 154 الآتية، وكلمة يمحق في الآية 276 من
البقرة فقط وفي قوله «وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ» (141) يمحوهم ويفنيهم فلا يبقى لهم ذكر بخلاف المؤمنين فإن في قتلهم شهداء بقاء لذكرهم «أَمْ حَسِبْتُمْ» أيها المؤمنون «أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ» دار الكرامة مجانا بلا ثمن «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» بصدق وإخلاص «وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» (142) منكم على الأذى والقتل، أي ليظهر للناس صبركم على المشاق في أمر دينكم كما هو معلوم عند الله. تشير هذه الآية إلى تبكيت الذين انخذلوا ورجعوا من الطريق بعد أن خرجوا مع الرسول وهم عبد الله بن سلول وأصحابه لأنهم في مثابة المنهزمين من الجهاد لشدة جبنهم مع أنهم كانوا يتغنون بالجهاد بين الناس ويحبذونه فأظهر الله كذبهم وقيل:
وإذا ما خلا الحبان بأرض
…
طلب الطعن وحده والنزالا
والمعنى: أتظنون أن تدخلوا الجنة أيها الناس كما يدخلها هؤلاء الذين بذلوا مهجهم لربهم يوم أحد؟ كلا لا تحلموا بذلك أبدا وذلك أن هؤلاء المنهزمين كانوا يتمنون الشهادة بسبب ما أخبر الله عن الكرامة التي حازها شهداء بدر فلما حان وقتها هربوا فحرموا منها فأنزل الله تعالى «وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» (143) فكيف تنهزمون وهذا زيادة في توبيخهم وتقريعهم على هزيمتهم، ثم ندّد ما وقع من بعضهم فقال جل قوله «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» رجعتم إلى دينكم الأول. يقال لكل من رجع إلى ما كان عليه رجع وراءه ونكص على عقبيه «وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً» بل يضر نفسه كما أن قتل محمد وموته لا يوجب وهنا في الدين أو ضعفا بأهله ورجوعا عنه لأن الأنبياء قبله لم ينشأ عن قتلهم أو موتهم ارتداد أتباعهم بل تبروا على طريقة أنبيائهم ودعوا الناس إليها، وهذا توبيخ وتبكيت للمنافقين الذين قالوا عند ما سمعوا أن محمدا قتل نرجع إلى ديننا الأول وتقريع لبعض المسلمين الذين قالوا ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن سلول ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان كما مر في الآية 122 «وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» (144)
نعمة الإسلام الثابتين على دينهم في السراء والضراء مثل أنس بن النضر إذ قال إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل وقال لأولئك ما تصنعون بالحياة بعده فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه، ثم قال إني اعتذر يا رب إليك من هؤلاء المسلمين وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء المشركون ثم شد سيفه وقاتل حتى قتل رحمه الله، قال عبد الله بن رواحة حين نهض إلى الموت في جملة ما قال:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة
…
وضربة ذات قرع تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة
…
بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي
…
أرشدك الله من غاز وقد رشدا
وقال الحارث بن ظالم المزني:
فأقتل أقواما لئاما أذلة
…
يعضون من غيظ رءوس الأباهم
ولما سئل حضرة الرسول عن المراد بالشاكرين هنا فقال إن أبا بكر وأصحابه هم الشاكرون وقد التفوا حوله ووقره كلهم بأنفسهم. قال تعالى «وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا» لا يتعداه ولا يتقدمه، تفيد هذه الجملة أن الجهاد والجرأة لا تقدم أجل الإنسان، والجبن والحذر لا يؤخره، فلا يموت الإنسان إلا بأجله المقدر له عند ربه ولو خاض في المهالك واقتحم المعارك وفيها إشارة إلى حفظ الرسول من القتل مع تكالب الأعداء عليه وحرصهم على قتله وإعلام بأن الحذر لا يغني عن القدر وإيذان بأن المقتول ميت بأجله، قال صاحب الجوهرة:
وميت بعمره من يقتل
…
وغير هذا باطل لا يقبل
«وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا» بعمله وطاعته «نُؤْتِهِ مِنْها» جزاء عمله كالذين تركوا مكانهم الذي عينه لهم حضرة الرسول وحذرهم مفارقته فتركوه وطلبوا الغنيمة حتى سببوا الانكسار «وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها» كالذين ثبتوا في محلهم الذي أمرهم بالبقاء به والذين ثبتوا مع الرسول، وهي عامة في جميع الأعمال وخصوصها في أهل أحد لا ينفي عمومها وهكذا غيرها من الآيات لأن العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب «وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ» (145)
الذين يريدون بعملهم وجه الله، ولا تعد هذه الجملة مكررة لأنها منصرفة لمعنى آخر بالنسبة لما قبلها. روى البغوي بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا راغمة، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلا ما كتب له. وروى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها- وفي رواية يتزوجها- فهجرته إلى ما هاجر إليه.
قال تعالى «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ» نسبة للرب وقيل جماعات كثيرة والربيّة الواحدة عشرة آلاف مثل قوم طالوت المار ذكرهم في الآية 250 من سورة البقرة المارة «فَما وَهَنُوا» خافوا ولا جبنوا عند اللقاء في قتال الكفرة «لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» من القتل والأسر والجروح «وَما ضَعُفُوا» عن قتال عدوهم «وَمَا اسْتَكانُوا» خضعوا واستسلموا لهم ولكنهم ثبتوا وصبروا «وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ» (146) الذين لم يجزعوا في الجهاد ولم يفزعوا من الكثرة. واعلم أن كلمة كأين فيها خمس قراءات الأولى بإثبات النون في الوقف والخط وبالتشديد وهي اللغة المشهورة فيها كما هنا، والثانية كائن على وزن اسم الفاعل بلا ياء وعليها قوله:
وكائن لنا فضل عليكم ومنّة
…
قديما ولا تدرون ما من منعم
والثالثة بالياء مع الهمزة بلا نون كأي، والرابعة بالياء قبل الهمزة وبعدها النون كيئن وتقرأ بسكون الياء وكسر الهمزة، والخامسة كئن بكاف مفتوحة وهمزة مكسورة ونون ساكنة وعليها قوله:
كئن من صديق خلته صادق الإخا
…
أبان اختباري أنه لمداهن
قال تعالى «وَما كانَ قَوْلَهُمْ» أي الربيون عند اللقاء «إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا» أي إفراطنا وتجاوزنا حد العبودية «وَثَبِّتْ أَقْدامَنا» عند لقاء عدونا وأزل من قلوبنا الفزع والرعب
«وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» (147) نعمتك الجاحدين دينك المكذبين نبيك «فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا» بالنصر والغنيمة والثناء «وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ» بالغفران ودخول الجنان ومرافقة الأعيان لحسن صنيعهم «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (148) في أعمالهم ونياتهم، وهذه الآيات فيها تعليم من الله لعباده بأن يفعلوا كفعلهم ويقولوا كقولهم. قال الله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا» من المنافقين واليهود الذين يشيرون عليكم بترك الجهاد ويخوفونكم عاقبته «يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» في الكفر الذي كنتم فيه «فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» (149) في الدنيا والآخرة «بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ» فأطيعوه واستعينوا به «وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ» (150) لكم وهؤلاء الذين يغرونكم ويغرّونكم لا قدرة لهم على نصركم «سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» في الدنيا منكم حتى تقهروهم ويظهر دينكم على سائر الأديان
«بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ» بسبب اتخاذهم شريكا لله، والله تعالى ليس له شريك ولهذا قال «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ» في الآخرة وهو مثوى كل ظالم «وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ» (151) النار، وفي هذه الآية بشارة عظيمة للمسلمين لما فيها من إخبار الله تعالى لهم بالظفر في الدنيا ووعد لهم بالمغفرة في الآخرة، ويوجد في القرآن 36 آية مبدوءة بلفظ بل. قال تعالى «وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ» بالنصر والظفر قبلا في واقعة بدر وفي واقعة أحد أيضا لأن الظفر كان لهم مبدئيا وقد هزموا المشركين إلا أن أهل النبل لما خالفوا أمر الرسول وتركوا مواقعهم التي عينها لهم طلبا للغنيمة رأى الكفّار خلو ظهور المسلمين منهم كروا عليهم فغلبوهم وانقلب الأمر كما تقدم في القصة آنفا، واذكروا عباد الله «إِذْ تَحُسُّونَهُمْ» تقتلونهم وعليه قول عتبة الليثي:
نحسهم بالبيض حتى كأننا
…
نفلق منهم بالجماجم حنظلا
وقد استشهد بهذا البيت ابن عباس على أن معنى الحس القتل، وقال غيره:
ومنا الذي لاقى بسيف محمد
…
فحس به الأعداء عرض العساكر
ومعنى حسّه أصاب حاسته بآفة فأبطلها ولذا قال بعضهم: تبطلون حسهم بالقتل
الذريع. وما كان ذلك إلا «بِإِذْنِهِ» إذ أجاز لكم قتالهم فقتلوا بقضاء الله وقدره «حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ» الذي أمركم به رسولكم فقلتم وما نصنع بمكاننا وقد انهزم وغلبوا وقلتم إنما أمرنا أن لا نبرح مكاننا حتى الغلب وقد كان ولكنكم خالفتم «وَعَصَيْتُمْ» أمره إذ قال لكم لا تبارحوا أبدا غلبنا أو غلبنا «مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ» من النصر والظفر بأعدائكم تركتم مواقعكم الحربية المقدر نصر الله على ثبوتكم فيها وخذلانه لكم على مبارحتها وذلك لأن «مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا» فترك موقعه وذهب ابتغاء الغنيمة ولم تعلموا ما يصيبكم بسبب مخالفة رسولكم «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ» فثبت مكانه وحافظ على وصية رسوله حتى قتل كالأمير عبد الله بن جبير ورفقائه رحمهم الله «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ» عن الكافرين وكف معونته لكم فغلبوكم بسبب خلو ظهركم من أهل النيل الذين كانوا مانعين الكفرة من الوصول إليكم حسب التعبئة التي رتبها حضرة الرسول، وفعل ذلك «لِيَبْتَلِيَكُمْ» يمتحنكم ويختبركم ليعلم صبركم وثباتكم ويظهر لكم ضعيفي الإيمان من غيرهم الذين تعودوا الارتداد وطلب المعونة من المنافقين الذين سببوا لكم الهزيمة والانكسار بتركهم مواقعهم التي أمروا بالبقاء فيها «وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ» أيها المخلصون لما يعلم من نيتكم حين مبارحتكم أمكنتكم إذ غلب على ظنكم استمرار هزيمتهم وأمنتم من كرّتهم فأقدمتم على الغنيمة لئلا يختص بها أصحابكم وليس لأمر آخر، وهذا لم يعجل عقوبتكم بفضله «وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» (152) خاصة والعالمين عامة، وفي هذه الآية دليل على أن مرتكب الكبيرة مؤمن لأن الله سماهم مؤمنين مع أنهم خالفوا أمر الرسول بأشد الأوقات ومخالفته من الكبائر، وردّ لمن قال إن مرتكب الكبيرة كافر خلافا لما عليه إجماع أهل السنة والجماعة القائل قائلهم:
ومن يمت ولم يتب من ذنبه
…
فأمره مفوض لربه
واذكروا أيها المؤمنون «إِذْ تُصْعِدُونَ» بضم التاء أي في الأرض هربا من عدوكم لأن هذا الفعل من أصعد والإصعاد الإبعاد في الأرض، وقرىء بفتح التاء من صعد إذ يقال صعد في الجبل والصعود الارتقاء من الأسفل إلى الأعلى وضده
الهبوط «وَلا تَلْوُونَ» تلتفتون حال انهزامكم «عَلى أَحَدٍ» منكم بفتح الهمزة والحاء، وما قاله بعض المتهوكين بضمها لا صحة له ولم يقرأ بها أحد من القراء إذ لا معنى لها هنا، والقراءة الصحيحة على فتحها أي لا تنظرون ولا تميلون على أحد منكم لتعينوه أو تخلّصوه بل كل منكم هارب على جهة لا يهمه شأن غيره وكان الأجدر بكم أن تنأنوا وتراعوا بعضكم فتساعدوا العاجز وتعينوا الجريح وتعاونوا المريض وتأخذوهم معكم ولا تتركونهم لأعدائكم ليجهزوا عليهم «وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» يناديكم من ورائكم: إلي عباد الله من كر فله الجنة ولم تلتفتوا إليه ولم تعلموا أن من فرّ له النار، ولولا عفو الله عنكم إكراما لرسولكم لعاقبكم «فَأَثابَكُمْ غَمًّا» بالقتل والجرح مع الهزيمة «بِغَمٍّ» آخر أذقتموه رسولكم بعصيانكم له حتى سببتم له كسر رباعيته وجرح وجهه والفشل والهزيمة لغيركم من إخوانكم وهذه الخصال ليست من شأن المؤمنين الموقنين وسميت العقوبة هنا غما مجازا لأن لفظ الثواب يغلب استعماله في الخبر وقد يستعمل بالشر كما في قوله:
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه
…
أداهم سودا أو محدرجة سمرا
والأداهم هي القيود الحديد، والمحدرجة السياط، وقال الأمير لرجل والله لأحملنك على الأدهم فقال له مثل الأمير من يحمل على الأدهم والأسفر والأحمر، فقد صرف كلامه من المجاز إلى الحقيقة فعفا عنه لبلاغته وحسن ردّه. فتعلموا أيها الناس الفصاحة والبلاغة فكم أنجت من مهالك. روي أن الحجاج منع التجول ليلا وأوعد على المخالفة، وذات يوم صادف ثلاثة فأمر بتوقيفهم ثم استحضرهم وسألهم فقال أحدهم:
أنا ابن من دانت الرءوس له
…
يأخذ من مالها ومن دمها
فقال اتركوه لعله ابن أحد الأمراء، وقال الآخر:
أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره
…
وإن نزلت يوما فسوف تعود
فقال اتركوه لعله ابن أحد الأكارم، وقال الثالث:
أنا ابن الذي خاض الصفوف بنعله
…
فيضرب يمناها طورا ويسراها
فقال اتركوه لعله ابن أحد الشجعان فإذا هم حجام وفوال وحائك، فقد خلصتهم فصاحتهم من ظلمه. أي إنما أذاقكم ذلك الغم بسبب الغم الذي أذقتموه رسولكم وإنما عفا عنكم «لِكَيْلا تَحْزَنُوا» مرة أخرى «عَلى ما فاتَكُمْ» من النفع وتنهالوا عليه خلافا لما أمرتم به «وَلا» تحزنوا على «ما أَصابَكُمْ» من الضر بسبب عفو الله عنكم «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (153) في ذلك الوقت وغيره، وقد علم أن نيتكم لم تكن سيئة لأنكم تحققتم الظفر وعزوف العدو عن كرّه عليكم من بعد هزيمته «ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً» ثم فسّر هذه الأمنة بكونها «نُعاساً» نوما خفيفا لإزالة الرعب عنكم لأن الخائف لا ينام وهذه من جملة أفضال الله تعالى عليكم وجعله «يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ» أيها المؤمنون دون طائفة. روى البخاري ومسلم عن أنس عن أبي طلحة قال:
كنت فيمن يغشاهم النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي، مرارا يسقط وآخذه.
وأخرجه الترمذي عنه قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد وذكر نحو رواية البخاري بزيادة. والطائفة الأخرى هم المنافقون ليس لهم إلا هم أنفسهم أجبن قوم أرغبه وأخذله للحق وهم المعنيّون بقوله تعالى «وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ» فتشربوا بالخوف وظن السوء بالله وبإخوانهم لأنهم «يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ» أي بإخلاف وعده رسوله ويعتقدون أنه لا ينصره وأصحابه وكان ظنهم هذا «ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ» الذين لا يعتقدون بوجود الإله ولا يعترفون بكتبه ولا يصدقون رسله ويجحدون اليوم الآخر والقضاء والقدر لأنهم «يَقُولُونَ هَلْ لَنا» أي مالنا «مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ» فلم نقاتل، وذلك أن رئيسهم عبد الله بن سلول أشار على النبي بعدم الخروج لقتال أحد ولم يأخذ بقوله ولهذا راق لهم ما وقع بالنبي وأصحابه فأنزل الله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء المنافقين «إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ» وحده ولو شاء لما خرجنا ولكنه شاء ذلك ليري قومنا نتيجة مخالفتهم لأمر رسوله وليعلم أنه أعلم بضروب الحرب وفنونه من تعبئة الجنود وتعيين المواقع والكر والإقدام والإحجام والوقوف وغيرها، وهؤلاء المنافقون «يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ» من الكفر والشك في وعد الله «ما لا يُبْدُونَ لَكَ» ت (27)