الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْهُمْ أَوْلِياءَ»
فتميلوا إليهم وتدافعوا عنهم «حَتَّى يُهاجِرُوا» من دار الكفرة مرة ثانية هجرة صحيحة «فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ولأجله خاصّة لا لغرض أو عوض ويؤمنوا إيمانا حقيقيا «فَإِنْ تَوَلَّوْا» على ما هم عليه واستمروا على اعراضهم فلم يهاجروا ثانيا حال كونهم نادمين على ما وقع منهم مستغفرين من فعلهم ذلك تائبين توبة نصوحا.
مطلب من يقتل ومن لا يقتل ومن يلزمة الكفارة للقتل ومن لا وما هو يلزم القاتل وأنواع القتل:
وإلا فإن بقوا مصرين على بقاء إيثار دار الكفر ولم يهاجروا ويجددوا إيمانهم «فَخُذُوهُمْ» إذا ظفرتم بهم قبل إعلان إيمانهم عن صدق «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» في الحل أو الحرم أو الأشهر الحرم «وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» (89) على أعدائكم وإن بذلوا لكم ولايتهم ونصرتهم فلا تصدقوهم فهم أعداء لا يعتمد عليهم. ثم استثنى طائفين من القتل بين الأولى بقوله «إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ» وينتهون «إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» بأن عاهدوكم عليهم ولم يحاربوكم بعد هذا العهد وهم بنو أسلم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما خرج من مكة وادع هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه وعلى أن من وصل إليه من قومه أو غيرهم ولجأ إليه فلهم الجوار مثل ما لهلال. وما قيل انهم بنو بكر أو خزيمة فالمعنى واحد، لأن الآية عامة ومن كان داخلا في العهد، وهؤلاء من أولئك، فإذا لحق هؤلاء بهم وصاروا معهم فقد عصموا دماءهم تبعا لمن لجأوا إليهم، وهذه غاية في المحافظة على العهد ونهاية في احترام المعاهدين. والطائفة الثانية هي المذكورة في قوله تعالى «أَوْ» الذين «جاؤُكُمْ» على كفرهم لاجئين لبلدكم «حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ» وضاقت مذاهبهم كافين عن «أَنْ يُقاتِلُوكُمْ» مع قومهم «أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ» معكم فهؤلاء لا سبيل لكم على قتالهم لأنهم دخلاء «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ» ولكنه القى في قلوبهم الرعب وضيق صدورهم وبلادهم عليهم حتى لجأوا إليكم وهذا من جملة أفضاله عليكم ونصرته لكم
«فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ» ولم يتعرضوا لكم ولم يعاونوا قومهم بالفعل ولا بالقوة ولم يكونوا عونا لهم عليكم «وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ» فاستسلموا لكم بكليتهم ولم تشكوا بهم «فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا» (90) إلى القتال، لأن حكمهم حكم المعاهدين، وعلى هذا فالآية محكمة لا سبيل للقول بنسخها. ومن قال إنها نزلت في المتخلفين عن واقعة أحد فلا يتجه قوله لأن قوله تعالى حتى يهاجروا ينافي ذلك ومن قال إنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول في حديث الإفك فلا يصح أيضا لأن حادثة الإفك لم تقع بعد، ولم تنزل عنها سورة النور المشار إليها، لذلك فإن ما ذهبنا إليه أولى بالسياق وأنسب للسياق، وتأمّل
قال تعالى «سَتَجِدُونَ آخَرِينَ» من هذا القبيل قالوا لهم جماعة من أسد وغطفان وعبد الدار كانوا أتوا المدينة وأسلموا رياء، وعاهدوا المسلمين ليأمنوا على أنفسهم حتى إذا رجعوا إلى قومهم عادوا لكفرهم ونكثوا عهدهم وكانوا يظهرون بين قومهم كلمة الكفر ويسرونها بين المؤمنين، فنضحهم الله بقوله «يُرِيدُونَ» هؤلاء الخبثاء «أَنْ يَأْمَنُوكُمْ» أيها المؤمنون بإيمانهم الكاذب كي لا تتعرضوا لهم «وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ» بإعلان الكفر ليفهموهم أنهم باقين على كفرهم مثلهم، فيخدع الفريقان على السواء، وصاروا يؤمنون قومهم بأنهم معهم، وان اتصالهم بالمؤمنين خداعا، ويقولون المؤمنين كذلك بأنهم معهم ومواصلتهم للكافرين خداعا «كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ» بدعوة قومهم لقتال المسلمين «أُرْكِسُوا فِيها» رجعوا إليها وكانوا أشد عداوة للمسلمين من غيرهم فعليكم أن تخطروهم بعدهم البقاء بين أظهركم وتأمروهم بالخروج من بلدكم لئلا يكون ما توقعونه بهم غدرا «فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ» بعد إنذارهم ولم يسيروا إلى بلدهم «وَ» لم «يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ» بان يطلبوا منكم الصلح ولم ينقادوا لما نكلفونهم «وَ» لم «يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ» عن قتالكم بمظاهرة قومهم وبأنفسهم «فَخُذُوهُمْ» أسرى «وَاقْتُلُوهُمْ» إن لم يستسلموا إليكم «حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ» وأدركتموهم وظفرتم بهم وتمكنتم من قتلهم إذا هربوا قبل الاستسلام «وَأُولئِكُمْ» المخادعون المنافقون «جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً» بسبب انكشاف حالهم
وظهور طويتهم بالإصرار على العداء. قال تعالى «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً» من غير قصاص البتة، إذ لا يصح ولا يجوز له ذلك بوجه من الوجوه أبدا «إِلَّا خَطَأً» بأن ضرب حيوانا أو حربيا فأصاب إنسانا غير مقصود، وهذا الاستثناء منقطع، أي لكن إذا وقع القتل خطأ على هذه الصورة فيلتزم القاتل بما قال تعالى «وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً» محضا غير مقصود، كأن انطلقت من يده عفوا أو ضرب حيوانا فأصابه من غير أن يعلم أن هناك إنسانا «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» عليه كفارة لفعله عند الله «وَدِيَةٌ» لازمة عليه أيضا «مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ» الأقربين الأحق بإرثه «إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا» أي ورثة القتيل على القاتل بأن يعفوا عنهم ويتركوا الدية فلا يطلبوها منه، وهذا إذا كان المقتول مؤمنا وأهله مؤمنين «فَإِنْ كانَ» المقتول «مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ» كافرين «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» لا ورثة له «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» على القاتل فقط ولا تلزمه الدية إذ لا توارث بين المؤمن والكافر، ولم يتعلق بقتله إلا حق الله تعالى، فعليه حقان حق الله وحق الورثة المؤمنين الذين يجب تطييب خاطرهم بإعطاء الدية «وَإِنْ كانَ» المقتول كافرا ولكنه «مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» أي معاهدة «فَدِيَةٌ» مخففة تلزم بها أنت أيها القاتل وعائلتك تؤديها مقسّطة على ثلاث سنين وتكون خلالها «مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ» الأدنين المستحقين لميراثه «وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» كفارة عليه تجاه حق الله والدية حرمة للعهد الذي بينكم، لأن المعاهدين لهم ما لنا وعليهم ما علينا ما داموا مؤمنين بالعهد قائمين بالشروط التي التزموها وإلا فلا، هذا ولما كانت أحكام الله تعالى بينة بعدم الحرج فقد خفضه بقوله «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» رقبة يعتقها أو لم يقدر على شرائها «فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ» كفارة من عتق الرقبة ويكون هذا الصيام «تَوْبَةً» له مقبولة «مِنَ اللَّهِ» عما وقع منه، لأن توبة الله عليه متوقفة على عتق الرقبة، وعند الاعياء عنها يقوم الصيام مقامها، فإن لم يفعل أحد هذين لا تقبل توبته «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً» بما يشرعه لعباده فيما يكون من صالحهم «حَكِيماً» (92) بأفعاله كلها. واعلم أن حكم هذه الآية عام في كل ت (38)
ما يقع من القتل على الصورة المذكورة. وسبب نزولها هو أن عياش بن أبي ربيعة المخزومي كان أسلم في مكة سرا وهرب إلى المدينة، فقالت أمه لا بنيها أخويه لأمه، الحارث وأبي جهل: والله لا يظلّني سقف ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى تأتياني به، فذهبا إليه وذكرا له ذلك، وجزع أمه عليه، وعاهداه على أن لا يكرهوه على شيء من الكفر والردة عن الإسلام، وبعد أن توثق من حلفهما له ذهب معهما أداء لحق أمه، فلما أوصلاه مكة أوثقاه ثم جلده كل واحد مائة جلدة، فحلف لئن تمكن من الحارث ليقتلنه، فقالت أمه لا أحلّ وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به، وتركته بالشمس، إلى أن أعطاها ما أرادت، ثم أسلم وهاجر، فلقي الحارث وحده فقتله، فقال له الناس ويحك إنه أسلم لأن ذلك كان بعد قتل أبي جهل، فذهب إلى الرسول وأخبره
، فأنزل الله هذه الآية.
وقيل نزلت في الرجل الذي قتله أبو الدرداء بعد أن نطق بالشهادتين. وهذا الحكم في القتل خطأ. أما في شبه العمد وهو أن يضرب إنسانا بما لا يقتل عادة فيموت أو يدفعه بما لا يظن فيه الموت فيموت كوكز موسى عليه السلام القبطي، راجع الآية 15 من سورة القصص في ج 1، فيلزمه الدية مغلظة تستوفى من عائلته خلال ثلاث سنين أيضا، وتلزم الكفارة وهي عتق رقبة، أو عند العجز صيام شهرين كما مرّ. أما في قتل العمد فلا دية ولا كفارة، إذ لا يطهر القاتل المتعمد إلا القصاص، لأن قتل العمد شبه الاستحلال لا يطهر القاتل منه إلا بتسليم نفسه للقتل إظهارا للتوبة النصوح الصادقة أو العفو من قبل ورثة القتيل أو بعضهم، لأن القتل لا يتجزأ، وترجح جهة العفو على غيره، فإذا عفا عنه بعض الورثة سقط القصاص عنه وتلزمه الدية المغلظة أيضا لورثته وهي مئة من الإبل أو قيمتها ألف دينار ذهبا، أو اثنا عشر الف درهم فضة، أو مئتا بقرة، والفا شاة، وكيفية تغليظها أن تكون ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة، في بطونها أولادها. وتخفيفها أن تكون عشرين بنت مخاض، ومثلها بنات لبون، ومثلها حقاق، ومثلها جذاع، ومثلها أبناء لبون. ودية المرأة على النصف في كل ذلك. هذا هو الحكم الشرعي الخطأ وشبه العمد أو العمد، أما الاستحلال
للقتيل فقد ذكره الله بقوله «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً» قاصدا لقتله لكونه مؤمنا استحلالا لقتله «فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً» (93) وهذا التشديد في عقابه دليل استحلاله القتل لأنه بذلك القصد كفر، ولو لم يكن المراد منه ما ذكر لما رتب الله عليه هذا العقاب الشديد، لأن القاتل مؤمن عاص متروك أمره لمشيئة الله تعالى غير داخل في التخليد، قال صاحب الشيبانية.
ولا يبقى في نار الجحيم موحد
…
وإن قتل النفس الحرام تعمدا
وهذه الآية عامة أيضا وإن كان نزولها على ما قيل في مقيس بن جنابة الكناني الذي راجع حضرة الرسول بأنه وجد أخاه هشاما مقتولا في بني النجار، فأرسل صلى الله عليه وسلم معه رجلا من بنى فهد إليهم ليسلموه قاتل أخيه وإنهم إذا لم يعرفوه يعطونه الدية فقالوا والله لا نعلم له قاتلا وأعطوه الدية. وهذا هو الحكم الشرعي الآن، فإن من وجد قتيلا في قرية أو محلة ولم يعرف قاتله فإنه يحلف خمسين رجلا منهم يقول كل واحد والله ما قتلته ولا أعلم له قاتلا، ثم يعطون الدية لورثته. وبعد الفراغ منهم وسوس له الشيطان وقتل رفيقه الفهري وذهب مرتدا إلى مكة. وهذه الآية محكمة لأنها نزلت بعد آية الفرقان بستة أشهر، وآية الفرقان هي إحدى الآيات من 68 إلى المشار إليها عند قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية 48 المارة إذ نزلت بالمدينة. هذا وما قيل أن توبة المتعمد غير المستحل غير مقبولة غير سديد لأنها تقبل من المشرك فلأن تقبل من القاتل سواء كان مستحلا متعمدا أو متعمدا فقط أولى، لأن ذلك كله دون الشرك، والمؤمن العاصي إذا مات ولم يتب فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه. قال في الجوهرة:
ومن يمت ولم يتب من ذنبه
…
فأمره مفوض لربه
واعلم أنه إذا اجتمع قوم على قتل رجل كلهم قد ضربه ضربة قاتلة فإنهم يقتلون به كلهم، لما روي أن سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا فقضى عمر رضي الله عنه بالقصاص عليهم كلهم، وقال لو تمالا عليه أهل صنعاء لقتلتهم به، راجع مبسوط الرضى ج 26، ولهذا البحث صلة في الآية 31 من سورة المائدة الآتية. قال تعالى
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ» سافرتم «فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا» المؤمن من الكافر لا تتهوكوا فتتعجلوا فتقتلوا المؤمن على ظن أنه كافر «وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ» بصيغة تحية الإسلام أو بادركم بالإسلام «لَسْتَ مُؤْمِناً» وتقتلونه بذلك «تَبْتَغُونَ» بقتله «عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا» لتسلبوا ماله وتعدوه غنيمة، كلا لا تفعلوا هذا أبدا «فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ» حلالا لا شبهة فيها يمنحكم، إياها تغنيكم عن، هذه التي ملؤها الإثم «كَذلِكَ» كما كان هذا كافرا وأسلم «كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ» إسلامكم كفارا مثله فسبقته لكم العناية «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» بالإسلام قبلهم فافعلوا بمن يريد الدخول بالإسلام كما فعل بكم عن طرق الحث والترغيب فيه والصبر على التمنع عنه ليسلم. ثم أكد عليهم ثانيا بقوله «فَتَبَيَّنُوا» وهذا تأنيب وتنقيد لما وقع منهم.
وتقريع وتبكيت لعملهم «إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» (94) لا حاجة بأن تخبروا رسولكم به، لأن الله تعالى يخبره بحقيقة حالكم، وهو يجازيكم على فعلكم بحسب نياتكم. وفي هذه الجملة تهديد لهم وتحذير لمن يعمل عملهم أي إياكم أيها المؤمنون والتهافت على القتيل طلبا للغنيمة فإنه يؤدي بكم إلى الهلاك وعليكم بالاحتراز والاحتياط، قالوا كان مرداس بن بهنك من أهل فدك من بني مرّة بن عوف أسلم وحده فسمع قومه بسرية لرسول الله تريدهم فهربوا وتركوه، فلما جاءت السرية تكبر نزل إليهم مكبرا قائلا لا إله إلا الله محمد رسول الله فضربه أسامة بن زيد فقتله واستاق غنمه، فلما جاءوا إلى الرسول قال أقتلتموه إرادة ما معه؟ فنزلت هذه الآية قبل وصولهم. وهذه من معجزاته صلى الله عليه وسلم إذ أخبره الله بما فعلوا قبل أن يصلوا إليه، وكان صلى الله عليه وسلم وجد وجدا شديدا، فقال أسامة، ما قالها يا رسول الله إلا خوفا من السلاح، قال أشققت قلبه؟ فقال أسامة استغفر لي يا رسول الله، فقال كيف أنت بلا إله إلا الله كررها ثلاثا؟ قال أسامة وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ، أي ما وقع منه مكرا مع جملة الذنوب، لأن الإسلام يجب ما قبله، وطلب من حضرة الرسول أن يستغفر له وأمره أن يعتق رقبة. قال تعالى «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ» عن الجهاد والغزو «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ» بالرفع
صفة للقاعدين وبالنصب على الاستثناء وبالجر صفة للمؤمنين «أُولِي الضَّرَرِ» المرضى والعميان والعرجان وجميع ذوي العاهات المخلة بالقوى والجوارح. «وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» بل بينهما بون شاسع ظاهر، وإنما ذكره الله مع العلم به توبيخا وتبكيتا للقاعدين، وتحريكا لهم وتحريضا على الجهاد والغزو «فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً» عظيمة لا يقدر قدرها إلا الله والمراد بالقاعدين في هذه الآية الذين هم ظهر للاسلام الغائبين بقيامهم على ذراريهم وأموالهم ونسائهم لا المتخلفين نفاقا ولا القاعدين كسلا وجبنا، لأن هؤلاء لا فضل لهم حتى يفضل الله عليهم غيرهم، بل منافقون عاصون آثمون خاسرون، ولهذا قال تعالى بحق أولئك المتخلفين على أهالي الغزاة وأموالهم «وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى» الجنة، ولكنهم درجات متفاوتون، أما القاعدون خوفا وجبنا أو كلّا فبعيدة عنهم هذه الحسنى، إلا أن يتغمدهم الله برحمته، وأما القاعدون نفاقا أو عدوانا فموعدهم النار في الآخرة، والهوان في الدنيا. ثم أكد الله تعالى فضل أولئك بقوله «وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ» بأموالهم وأنفسهم فقط «عَلَى الْقاعِدِينَ» في مواطن المجاهدين لحفظ أموالهم وذراريهم أو القاعدين الذين أنفقوا أموالهم على المجاهدين أو جهزوا الغزاة بما قدروا عليه القاعدين كسلا أو جبنا أو نفاقا كما مر، لهذا جعل الله لهم «أَجْراً عَظِيماً» (95) لا يعلم كنهه إلا الله العظيم. ثم فسر هذا الأجر بقوله «دَرَجاتٍ» جليلات بدليل إضافتها إليه جل شأنه لأنها «مِنْهُ وَمَغْفِرَةً» لذنوبهم «وَرَحْمَةً» تطهرهم «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (96) لأن هؤلاء من قبيل المرابطين، وقد أشرنا إلى ما يتعلق بالرباط والجهاد في الآية 195 من سورة البقرة، أما المجاهدون بأموالهم فقط فلهم أجر عظيم عند الله أيضا، ولكن دون المجاهدين بأنفسهم ودون المرابطين أيضا لذلك بينا آنفا أن تفضيل المجاهدين بأنفسهم فقط أو بأنفسهم وأموالهم على هؤلاء المرابطين، لأن المجاهدين بأموالهم فقط ليسوا مثلهم بالفضل فضلا عن أنهم يفضلون عليهم. واعلم أنه لا يوجد في القرآن إلا ثلاث آيات مبدوءة بحرف الدال هذه الآية 10 من سورة يونس والآية 160 من سورة الأنعام في ج 2، وذكرنا
أيضا ما يتعلق في بحث الجهاد والرباط في الآية 60 من الأنفال والآية 176 من آل عمران المارتين وبينا أن الجهاد فرض عين إذا دخل العدو دار قوم من المؤمنين أو بلدا من بلادهم، على جميع أهل البلد والبلدان المجاورة لها، وإذا لم يكفوا فيجب على كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وإلا فهو على الكفاية روى مسلم عن جابر قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال رسول الله إن بالمدينة رجالا ما سرتم سيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض. وروى البخاري عن أنس قال رجعنا من غزوة مع النبي فقال: إن أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا حبسهم العذر. أي معنا بقلوبهم ولولا أعذارهم
لخرجوا لأنهم سمعوا ما أنزل الله بفضل الجهاد وحزنوا لعدم اشتراكهم فيه ولولا أن الله استثناهم لخاطروا بأنفسهم رغبة بما أعد الله لمجاهدين، لأن المرضى والعجزى ساقط عنهم الجهاد، والله تعالى أكرم من أن يحرمهم أجره، وهؤلاء غير المتخلفين لمناظرة عيال الغزاة والذين هم ظهر للمجاهدين المار ذكرهم قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ» بالقعود بين الكفرة وترك الهجرة من بلادهم وهم أناس تكلموا بكلمة الإسلام وبقوا في مكة ولم يهاجروا لأن من أسلم ولم يهاجر لا يتم إسلامه، وبقي الأمر كذلك إلى فتح مكة، وفيهم نزلت هذه الآية، وهؤلاء تسألهم الملائكة عند موتهم كما ذكر الله بقوله «قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ» أمع المسلمين أم المشركين استفهام توبيخ وتقريع «قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ» أطلق لفظ الأرض على مكة لشرفها «قالُوا» لهم الملائكة أيضا «أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها» وتتركوا أرض المشركين، فسكتوا وعجزوا عن الجواب إذ لا عذر لهم بذلك لأن من لم يستطع أن يخرج علنا يهرب هربا، ومن لم يستطع أن يأخذ أهله يتركهم ويختار الله عليهم «فَأُولئِكَ» الذين هذا شأنهم وماتوا على ما هم عليه يكون «مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً» (97) هي لأن بقاءهم مع الكفر عون لهم وتكثير لسوادهم وخذلان للاسلام، ولأن إسلامهم كان مقتصرا على الكلام فقط بينهم وبين أنفسهم، ولا يعرفون من أركانه شيئا، ولا يقدرون أن ينبسوا بشيء منه بين المشركين، وربما خاضوا معهم بالكفر
وقدمنا ما يتعلق بالهجرة في الآية 59 من سورة العنكبوت ج 2 فراجعها ففيها كفاية.
ثم استثنى الله تعالى العاجزين حقيقة بقوله «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ» الذين «لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً» في الخروج لفقرهم وعجزهم «وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا» (98) إليه بسبب ضعفهم وصغرهم «فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ» وعسى من الله تعالى إطماع وترج، وإذا أطمع الله عبده ورجّاه أوصله وأعطاه وهو أكرم من أن يخيب عباده كيف وهو القائل أنا عند ظن عبدي بي «وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً» (99) لا يضيق عفوه ولا ينقص فضله ولا يقل ستره عن أمثالهم. قال ابن عباس كنت أنا وأمي من المستضعفين روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال لما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة الثانية، قال اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كني يوسف. ثم رغب الله في الهجرة بقوله «وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فارا بدينه من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام ليتمكن من القيام بما فرضه الله عليه واجتناب ما نهى عنه، كما أمر وأراد «يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً» طريقا يسلكه على رغم أنف من يهاجر عنهم ومتحولا يتحول إليه ومحلا ينزل به في المحل الذي يهاجر إليه غير أرضهم ومتجولا رحبا «كَثِيراً وَسَعَةً» في الرزق والمحل «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ» قبل بلوغ مهاجره «فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» بمقتضى فضله ووعده «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً..» (100) بهم يستر ما مضى منهم ويدخلهم في سعة رحمته. قال ابن عباس لما نزلت الآية الأولى وشاعت في مكة. قال شيخ من بني ليث اسمه جندح بن حمزة، والله ما أنا ممن استثنى الله ولي من المال ما يبلغني المدينة، والله لا أبيت بمكة وكان مريضا فأخرجوه على سرير، فلما وصل التنعيم أدركه الموت فصفق بيمينه على شماله، وقال اللهم هذه لرسولك أبايعك على ما بايعك رسولك. ثم مات، فقال المشركون ما أدرك ما طلب، وقال المؤمنون لو وافي المدينة لتم أجره، فأنزل الله هذه الآية الدالة على أن المهاجر له إحدى