المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تفسير سورة الرحمن عدد 11- 97 و 55 - بيان المعاني - جـ ٦

[ملا حويش]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء السادس]

- ‌تفسير سورة الزلزلة عدد 7- 93- 98

- ‌تفسير سورة الحديد عدد 8- 94- 57

- ‌تفسير سورة محمد عليه السلام عدد 9- 95 و 47 وتسمى سورة القتال

- ‌مطلب الآية المكية وصفة الجنّة وعلامات السّاعة وحال أهل الجنّة وأهل النّار:

- ‌مطلب عصمة النّساء وصلة الرّحم وتدبر القرآن ومثالب المنافقين والكافرين والبخل وما نفرع عنه:

- ‌تفسير سورة الرّعد عدد 10- 96 و 13

- ‌مطلب في قوله تعالى بغير عمد. وفي قارات الأرض الخمس ومعجزات القرآن والمعقبات:

- ‌مطلب ينتفع الميت بعمل غيره وبصلة الوفاء والصّدقات ويجوز قضاء حجه وصومه من قبل أوليائه وفي ذكر الله تعالى وصلة الرّحم:

- ‌مطلب في أحوال أهل الكتاب، والمحو والإثبات ونقص الأرض وحكم الله تعالى:

- ‌تفسير سورة الرّحمن عدد 11- 97 و 55

- ‌مطلب أن الآيات نقم على أناس، نعم على آخرين ومزية الخوف من الله تعالى:

- ‌تفسير سورة الإنسان عدد 12- 98 و 76

- ‌مطلب في الحين والنّذر والكرم وأنواعه وثوابه وأول من سنه:

- ‌تفسير سورة الطّلاق عدد 13- 99- 65

- ‌مطلب الحكم الشّرعي في الإشهاد على أن الطّلاق والرّجعة بعد بيان أحوال المطلقات والآية الوحيدة الدّالة على أن الأرضين سبع كالسماوات:

- ‌تفسير سورة البينة عدد 14- 100 و 98

- ‌مطلب المراد بالإخلاص وأهل الكتابين والمشركين وغزوة بن النّضير وسبب إسكان اليهود في الحجاز:

- ‌تفسير سورة الحشر عدد 15- 101- 59

- ‌مطلب أمر الرّسول أمر الله وبيان قسمة الفيء والغنيمة وذم البخل والشّح وعمل أبي طلحة رضي الله عنه وحب الأصحاب حب الرّسول:

- ‌مطلب قصة برصيصا الرّاهب وكفره وجريج الرّاهب وبراءته، وتسبب العلماء لإهانة أنفسهم:

- ‌تفسير سورة النّور عدد 16 و 102 و 24

- ‌مطلب في كفر من يقذف السّيدة عائشة بعد بيان هذه الأحكام العشرة المبينة بالآيات في أول السّورة إلى هنا وقصة الإفك:

- ‌مطلب آداب الدّخول على الدّور وطوق الباب والدّخول بلا أذى والوقوف أمام باب الدّار وحومة النّظر إلى من فيها:

- ‌مطلب فيمن يجوز نظره ومن لا وستر الوجه وغيره وما هي الزينة التي لا يجوز النّظر إليها والنّكاح:

- ‌مطلب ارجاء زواج الفقير لفناه. وجواز الكاتبة ندبا. وفي معنى (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) . ومعنى قوله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) :

- ‌مطلب في الزيتون ونوره تقالى ومعنى ضرب المثل وما ينقل عن كعب الأحبار:

- ‌مطلب تأليف المطو والبرد وكيفية حصول البرق والرّعد وكون مخلوقات الله كلها من مادة الماء:

- ‌مطلب في معجزات الرّسول، الإخبار بما يأتي، وعوائد الجاهلية الباقي أثرها وجواز الأكل عند الأقارب والأصدقاء، ووجوب ملازمة الرّسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌تفسير سورة الحج عدد 17- 103- 52

- ‌مطلب إظهار قواعد البيت، وعمارته، والحج إليه، وفوائد الحج، والدّبائح وما يتعلق فيها المادية والمعنوية:

- ‌مطلب في قصة قوم صالح عليه السلام وأسباب إهلاك بعض الأمم وتسمية بعض البلاد بما وقع فيها والآيات المكيات:

- ‌مطلب تعجيب الله رسوله وخلقه في بعض أفعاله وضرب الأمثال وكون شريعة محمد ناسخة لكل الشّرائع وعجز الأوثان وسجود التلاوة

- ‌تفسير سورة المجادلة عدد 19 و 105- 58

- ‌مطلب آداب المجالسة وفضل العلم والعلماء وما يتعلق بذلك:

- ‌تفسير سورة الحجرات عدد 20- 106 و 29

- ‌مطلب في الصّلح ومراعاة العدل بين الطّرفين من قبل المصلحين والسّخرية والظّن والتجسس والغيبة والشّعوب وتفرعاتها:

- ‌تفسير سورة التحريم عدد 21- 107 و 66

- ‌مطلب استئناس عمر رضي الله عنه مع حضرة الرّسول وما قاله ابو رواحة إلى زوجته حتى تخلص مما اتهمته به:

- ‌مطلب في المثل الذي ضربه الله تعالى لنساء الأنبياء وقصة آسية زوجة فرعون ومريم ابنة عمران:

- ‌تفسير سورة التغابن عدد 22- 108- 64

- ‌تفسير سورة الجمعة عدد 42 و 110 و 62

- ‌مطلب أول جمعة أقيمت في الإسلام وفضلها والعمل بها وسبب تسميتها:

- ‌تفسير سورة الفتح عدد 25- 111 و 63

- ‌مطلب قصة الفتح وأعني بالفتح فتح مكة لا غير وبيان الّذين هدر دمهم رسول الله وما وقع فيه وسببه:

- ‌مطلب فيما امتاز به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ودينه ووصف أصحابه والتوقي من ذكرهم بسوء:

- ‌تفسير سورة المائدة عدد 26 و 112 و 5

- ‌مطلب في النّسخ والحرمات وأسباب تحريمها والأنصاب والأزلام وغيرها والآية المستثناة:

- ‌مطلب في أحكام الصّيد وما يؤكل منه وما لا، وما هو المعلم من غيره والصّيد بالبندقية والعصا وغيرهما

- ‌مطلب في أحكام التيمم وكيفيته وجواز الوضوء الواحد لخمس صلوات وإن كلمة إنا لا تفيد العموم وفروض الوضوء وكيفيته:

- ‌مطلب تذكير رسول الله ببعض النّعم التي أنعم الله بها عليه بخلاصه من الحوادث والتآمر، وقصة موسى عليه السلام مع الجبارين:

- ‌مطلب في مدة الفترة وما بين عيسى ومحمد من الزمن وعوج بن عنق وتيه بني إسرائيل والحكمة منه:

- ‌مطلب موت هارون وموسى عليهما السلام وقصة ولدي آدم عليه السلام:

- ‌مطلب في حد المفسدين في الأرض ومن تقبل توبتهم ومن لا تقبل وحكاية داود باشا حاكم العراق:

- ‌مطلب في الرّابطة عند السّادة النّقشبندية وفي حد السّارق ومعجزات الرّسول والقصص وما يتعلق به:

- ‌مطلب في الّذين ارتدوا عن الإسلام في زمن الرّسول وبعد واخبار الرّسول بذلك عن طريق الاعجاز ومن دخل في الإسلام:

- ‌مطلب في مثالب اليهود والتفرقة في الدّين وما ينشا عنها وأن تبليغ الرّسول مقصور على القرآن وأمره بترك حراسته:

- ‌مطلب أشد النّاس عداوة وأقربهم مودة للمسلمين وان التشديد في الدّين غير مشروع ولا ممدوح وكفارة اليمين:

- ‌مطلب تحريم الخمر بتاتا وأسباب هذا التحريم وذم الخمر والميسر وشبههما والحكم الشّرعي فيه وضرره في الوجود:

- ‌مطلب في الخبيث والطّيب والنّهي عن سؤال الله بما لم يكلف به عباده وما حرمته الجاهلية قبل الإسلام:

- ‌مطلب لا يستفاد من هذه الآية ترك الأمر بالمعروف وكيفية استماع الشّهود على وصية الميت وسبب نزول هذه الآية:

- ‌مطلب في نزول المائدة وما قاله عيسى عليه السلام لطالبيها وما أجاب به ربه عند سؤاله عما عزى إليه قومه:

- ‌تفسير سورة التوبة- براءة عدد 27- 113 و 8

- ‌مطلب إنذار الله إلى النّاس بانتهاء معاهدات الحرب وعدم صحة عزل أبي بكر من إمارة الحج وتهديد الكفار إذا لم يؤمنوا بعد هذا الانذار:

- ‌مطلب تفضيل الإيمان على كلّ عمل مبرور كعمارة المساجد والإطعام وفك الأسرى وغيرها:

- ‌مطلب في الرّخص والعزائم وواقعة حنين

- ‌مطلب أسباب ضرب الجزية على أهل الكتاب وما هي، ومعاملتهم بالحسنى وبيان مثالبهم التي يفعلونها ويأمرون بها:

- ‌مطلب في ذم مانعي الزكاة وعقابهم، ومعنى الكنز، وسبب نفي أبي ذر، والأشهر الحرم، واختلاف السّنين، وعدد أيامها:

- ‌مطلب فى المجاهدين وما ذكره الله من هجرة رسوله والحث على الجهاد وغزوة تبوك وما وقع فيها:

- ‌مطلب مثالب المنافقين ومصارف الصّدقات وسبب وجوبها وتحريم السّؤال:

- ‌مطلب في الأصناف الثمانية ومن يجوز إعطاؤه من الزكاة ومن لا يحوز وبعض مثالب المنافقين أيضا:

- ‌مطلب ظهور المنافقين وفضحهم وعدم قبول أعذارهم

- ‌مطلب في فضايح المنافقين وإسلام بعضهم وما قيل في الأيام وتقلباتها والصّحبة وفقدها

- ‌مطلب قصة ثعلبة وما نتج عنها وحكم وأمثال في البخل والطّمع والجبن وغيرها:

- ‌مطلب موت ابن أبي سلول وكون العلة لا تدور مع المعلول، وأسباب التكرار في الآيات وعدم زيادة (ما) ولا غيرها في القرآن:

- ‌مطلب في المستثنين من الجهاد، والفرق بين العرب والأعراب وأول من آمن وخبرهم، وتقسيم المنافقين، وعذاب القبر:

- ‌مطلب سبب اتخاذ مسجد الضّرار ومسجد قباء وفضله، والترغيب في الجهاد وتعهد الله للمجاهدين بالجنة، وعدم جواز الاستغفار للكافرين:

- ‌مطلب في إيمان أبي طالب وسبب استغفار ابراهيم لأبيه وكذب ما نقل عن ابن المقفع وقصة المخلفين الثلاثة وتوبتهم:

- ‌مطلب في مدح الصّدق وفوائده وذم الكذب ونتائجه وما يتعلق بذلك والرّابطة عند السّادة الصّوفية:

- ‌مطلب في فضل الجهاد والنّفقة فيه وفضل طلب العلم واستثناء أهله من الجهاد، والحكمة في قتال الأقرب بالأقرب وكون الايمان يزيد وينقص وبحث في ما:

- ‌(تفسير سورة النّصر عدد 28- 114 و 110)

- ‌(الخاتمة نسأل الله حسنها لديه)

الفصل: ‌تفسير سورة الرحمن عدد 11- 97 و 55

مختومة بما ختمت به هذه السّورة ولا بما بدئت به. والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.

‌تفسير سورة الرّحمن عدد 11- 97 و 55

نزلت بالمدينة بعد سورة الرّعد، وهي ثمان وسبعون آية، وثلاثمائة وواحد وخمسون كلمة، وألف وستمئة وستة وثلاثون حرفا، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي، ولا ناسخ ولا منسوخ فيها.

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى بصدد تعداد بعض نعمه على عباده مبتدئا بأول شيء وأقدمه من حروف آلائه وصنوف نعمائه «الرَّحْمنُ» (1) الذي وسعت رحمته كلّ شيء هو الذي «عَلَّمَ الْقُرْآنَ» (2) لسيدنا محمد عبده ورسوله وبيّنه له حتى ووعاه عن ظهر غيب، وهو أمي لا يعرف القراءة ولم يتعلمها من أحد ولا اختلقه من نفسه كما زعم أعداؤه، على أنه وجميع الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله أو بشيء منه. وقد جعل تعالى هذه النّعمة العظمى بطليعة النّعم الآتية لأنها أكبر النّعم وسنام مراتب الدّين، وأقصى مراقبه، وأعظم كتب الله رتبة، وأعلاها منزلة، وأحسنها أثرا، وأثبتها حكما، ومصداقا ومعنى، وأجلها قدرا، وأدومها بقاء «خَلَقَ الْإِنْسانَ» (3) الذي أنزل عليه وهو الإنسان الكامل محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. وقال بعض المفسرين إن المراد بالإنسان آدم عليه السلام، وليس بشيء لأن آدم سيأتي ذكره بعد صراحة، وإذا أطلق المفرد العلم يراد به أكمل أنواعه، والإنسان الكامل من كلّ وجه هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المخاطب به الذي «عَلَّمَهُ الْبَيانَ» (4) فصاحة النّطق وبلاغة الكلام الذي امتاز به على سائر الخلق قال الأبوصيري:

خفضت كلّ مقام بالإضافة إذ

نوديت بالرفع مثل المفرد العلم

قال تعالى «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) » معلوم وتقدير سوي يجريان بلا فتور في بروجهما ومنازلهما وفي منافع الخلق فيصرّف بهما الأيام والشّهور والسّنين

ص: 55

المترتب عليها أعمال النّاس في المواسم وآجال الدّيون والإجارات والرّهون وأوقات الحج وغيرها مما يتعلق بالحيض والنّفاس والرّضاع والعدة والايمان وغيرها «وَالنَّجْمُ» هو مالا ساق له من النّباتات. ومما يدل على أن المراد به هذا قوله «وَالشَّجَرُ» حيث عطفه عليه، لأن الشّجر من النّبات الذي له ساق حقيقة في اللّغة، فظهر أن ليس المراد به النّجم المعروف «يَسْجُدانِ» (6) خضوعا وخشوعا له تعالى لأنهما خلقا لذلك «وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ» (7) العدل ليقوم النّاس بالقسط في أرضه بين عباده كما هو في سمائه بين ملائكته. ثم حذر النّاس جل وعلا عن الانحراف عن طريق الرّشد فقال ما رفعت السّماء ووضعت الأرض إلّا لأجل «أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ» (8) فتجنحوا عن الحق إلى الباطل، وتميلوا من العدل إلى العوج. ثم أمرهم بإقامته تأكيدا وتأييدا فقال «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ» هو لسان الميزان الحسّي المادي الذي هو آلة الوزن «بالقسط» للطرفين والأحسن للبايع الترجيح خوفا من أن يخسر المشتري فيدخل البايع في قوله تعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) لذلك قال عز قوله «وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ» (9) بأن تطففوه فتكونوا خاسرين، والأحسن أن يراد بهذا الميزان الذي جعله الله تعالى بمقابل السّماء العدل المحض في كلّ شيء، لا العدل في الوزن فقط، لأن هذا مهما بلغ لا يقابل السماء ذات الكواكب العظيمة والبناء الشّامخ «وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ» (10) لجميع مخلوقاته لا يختص بها عالم دون آخر،

ثم بين بعض نعمه فيها لبعض خلقه فقال «فِيها فاكِهَةٌ» عظيمة متنوعة «وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ» (11) الأوعية التي يكون فيها التمر وهي الطّلع وقد خصه دون سائر الأشجار لأنه أعظمها نفعا وبركة، والنّخل كله نفع فثمره غذاء وفاكهة ويدخر حولا فأكثر، وشجرة يبرم من ليفه الحبال، ومن خوصه الحصر والسّلال، ومن سعفه المقاعد والتخوت، وجذوعه لا تؤثر فيها الأرضة، وتعمر كثيرا، ولذلك يجعلونها في السّقوف بخلاف بقية الأشجار، إذ لا يوجد فيها ما يوجد في النّخل من المنافع «وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ» التين ويدخل فيه كافة الحبوب «وَالرَّيْحانُ» (12) ذو الرّائحة الطّيبة وكلّ ذي ريح طيب من النّبات والأزهار يطلق عليه ريحان وهو نبات مخصوص معروف في

ص: 56

كافة البلاد الشّرقية بهذا الاسم وفي لغة حمير يقال له الرّزق فهذا وما تفرع عنه يخرج من الأرض المخلوقة بما فيها لكم أيها الثقلان «فَبِأَيِّ آلاءِ» نعم وأفضال «رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (13) أيها الإنس والجن، وقد كرر الله تعالى هذه الآية في هذه السّورة إحدى وثلاثين مرة ولم تذكر في غير هذه السّورة أبدا في جميع القرآن، وإنما وقع هذا التكرار تقريرا لنعم الله وأفضاله على خلقه، وتأكيدا على التذكير بها، وتنبيها على لزوم شكرها، وليتفكر الثقلان فيها فيفهم قدرها ويعظم أمرها ويحمد التفضل بها. أخرج الترمذي عن جابر قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرّحمن فسكتوا، فقال لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن منكم ردّا، كنت كلما أتيت على قوله تعالى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قالوا ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد. وليس المراد بقوله صلى الله عليه وسلم (ليلة الجن) اجتماعه بهم أول مرة كما ذكرنا أول سورة الجن في ج 1، ولا ما ذكرناه في الآية 29 من سورة الأحقاف في ج 2 بل هو اجتماع آخر إذ ثبت اجتماعه بهم ستّ مرات فيما أظهر لأصحابه رضوان الله عليهم، أما اجتماعه بهم فيما لم يطلع عليه أصحابه فلا يعلم مداه، وهذا الاجتماع بالمدينة، وذلك في مكة.

مطلب كيفية خلق آدم عليه السلام وخلق الجان ومعجزات القرآن في المشرقين والمغربين وكيفية التقاء البحرين ومعنى كلّ يوم هو في شان:

«خَلَقَ الْإِنْسانَ» آدم عليه السلام «مِنْ صَلْصالٍ» طين يابس إذا ضربته بعضه يصلصل أي بصوت فكان من شدة جفائه «كَالْفَخَّارِ» (14) الطّين المصنوع لبنا المطبوخ بالنار، وقد ذكرنا في الآية 8 من سورة النّساء المارة إذ لا خلاف في آي القرآن بمثل هذه الألفاظ، لأن المعنى بينها متقارب بعضه من بعض، ولا منافاة بين هذه وبين آية خلقه من تراب أو من طين أو من حما مسنون الواردة في السّور الأخرى، لأن التراب جعل طينا ولما اختلط بالماء وعجن ضار لازبا، ولما اختمر صار حمأ، فلما زادت خمرته صار مسنونا أي طينا أسود منتنا، فلما يبس صار صلصالا، ثم خلق زوجته حواء من أقصر أضلاعه اليسرى، وجميع

ص: 57

الخلق من بعدها سلائل ذريتها إلى يوم القيامة «وَخَلَقَ الْجَانَّ» أي أصله أيضا وهو إبليس عليه اللّعنة أبو الجان فما بعده أيضا، وجاء ذكره بمقابلة ذكر آدم عليه السلام أبي البشر كما مر مثل هذا في الآيتين 27 و 28 من سورة الحجر في ج 2 «مِنْ مارِجٍ» لهب صاف من الدّخان «مِنْ نارٍ» (15) وهو لهيبها الأحمر فالأخضر فالأصفر فالأزرق الصّافي من الدّخان الذي يكون بين جمرها بعد استوائه «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (16) لا بشيء من نعمك ربنا نكذب بل نصدق بها ونثني عليك بالحمد والشّكر ما حيينا «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ» (17) لم تأت هاتان اللّفظتان في الكتب السّماوية كلها غير القرآن.

واعلم أنه قبل اكتشاف أمريكا لم يكن أحد يعلم أن الأرض مشرقين ومغربين، فاعتبروا أيها النّاس، واعلموا أن القرآن جمع فأوعى، وفيه علوم الأولين والآخرين منها ما كشف ومنها ما لم، فمشرق الصّيف غابة ارتفاع الشّمس وانحيازها لجهة الشّمال ومشرق الشّتاء نهاية انحطاطها وجنوحها لجهة القبلة أي الجنوب ويقابلها المغربان وانحيازهما على العكس من جنوح المشرقين نحو القبلة والشّمال، وهذا بالنسبة لما نرى نحن أهل القطر، ولكل قطر ما يراه أهله من هذا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ 18 مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ» (19) الملح والعذب في مصب واحد كالأنهر الحلوة حينما تنصب في الأبحر، أي أنه تعالى أجراهما وأرسلهما في المرج حتى جعلهما يجتمعان «بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ» (20) بعضهما على بعض فيختلطان ويكونان كالشيء الواحد، فتنعدم من الحلو المنفعة. وقيل إن المراد بحر الرّوم وبحر الهند والحاجز بينهما نحن. وقيل بحر فارس والرّوم والبرزخ الذي بينهما هو الجزائر، وإنهما يلتقيان في المحيط إلّا أنهما خليجان يتشعبان فيكونان شيئا واحدا وقبله كانا متباينين

«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ» (22) أي من كلّ منهما لا من المالح فقط كما هو ظاهر الآية، خلافا لما قاله بعض المفسرين باختصاص المالح فقط، لأن العذب يخرج منه الصّدف، وقد يوجد فيه اللّؤلؤ أيضا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ» السفن الكبار الجاريات فيهما أيضا «الْمُنْشَآتُ» المحدثات بإحداث البشر وأصلها

ص: 58

سفينة نوح عليه السلام والفضل للبادي، وهذه المراكب الفخمة وليدتها وفرع عنها حيث تدرج البشر في صنعها حتى بلغ منها الغاية القصوى مما يحمل بعضها ما لا يتصوره العقل من الأثقال، فصارت الواحدة منها كالجبال مصداقا لقوله تعالى فتراها «فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ» (24) الجبال الشّامخات فكل ما بالغوا في عظم صنعها لا تبلغ قدر بعض الجبال، ويطلق لفظ الأعلام على الأشياخ، قال ابن الفارض:

نصبت في موكب العشاق أعلامي

وكان قبلي بلي بالعشق اعلامي

أي أشياخي، وهو أيضا جمع علم بمعنى الرّاية التي توضع على دور الحكومة، وتحمل في الحروب، كما أن أصل هذه القطارات والسّيارات والدّبابات هو العجلة، وقد تدرجوا في صنعها أيضا وتحسينها وتكبيرها وتسريع حركاتها أيضا حتى بلغت ما ترى إذ طاروا بالسماء بسرعة خارقة، فكل هذه فرع عنها، وكلها من خلق الله القائل (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 96 من الصّافات، والآية 8 من النّحل في ج 2 نظيرتها في المعنى، راجع الآية 25 من سورة الحديد المارة «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ» (26) إنسانا كان أو حيوانا نباتا أو بناء فكل ما على الأرض مصيره الفناء «وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ» ذاته وحده «ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (28) أخرج الترمذي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الزموا وتمسّكوا) بيا ذا الجلال والإكرام أي أكثروا من ذكر هذه الجملة العظيمة من صفاته عزت وعلت والالتجاء إليه والاستغاثة به فإنه تعالى يغيثكم بكرمه وفضله.

قال تعالى وهو ابتداء كلام آخر، لأن الأوّل ختم بفناء الكون وبقاء الكون جل جلاله «يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» سؤال استعطاء من إنس وجن وملك يطلبون رحماه بلسان المقال، وبقية خلقه من نبات وجماد بلسان الحال يرجون لطفه، ولا غنى لشيء ما عن عطفه، وقد أسهبنا البحث فيما يتعلق في هذا في الآية 14 من سورة الإسراء ج 1 فراجعها. وهو جل شأنه «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» (29) ولا يشغله شأن عن شأن، وهذه الآية فيها رد على اليهود القائلين إن الله تعالى لا يقضي بشيء يوم السّبت، وهو يقول عزّ قوله كل

ص: 59

يوم، فلم يستثن جمعة ولا سبتا ولا أحدا، وهي شؤون عظيمة يبديها ولا يبتديها كما هي في أزله من إحياء وإماتة، وعز وذل وفقر وغنى، وصحة ومرض، وبسط وقبض، وسرور وحزن، وقيد وإفراج، وخير وشر، ونفع وضر، وما لا يحصى، لأن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة. قال جاء الخضر عليه السلام بصورة رجل إلى عالم يحدث في المسجد وقد تطرق إلى تفسير هذه الآية، فسأله ما شأن ربك اليوم؟ فلم يقدر أن يعطيه جوابا فبقي مهموما نهاره وليله وهو يقدح فكرته لنسج جواب صالح فلم يوفق، فنام على حالته هذه فرأى المصطفى صلى الله عليه وسلم فأخبره به، فنهض فرحا مسرورا، وبكر إلى الجامع وطفق يحدث، فجاءه السائل وسأله ثانيا، فقال له ما تلقاه وهو (يرفع أناسا ويخفض آخرين) فقال له صلّ على من علمك. وما يقرب من هذه الحادثة هو أن عالما قال في جملة حديثه الحيا من الإيمان وأسنده لحضرة الرّسول، وفي نومه رأى حضرة الرّسول فقال له ما قلت هذا فأفاق مرعوبا، وراجع مالديه من الصّحاح فوجد الحديث، وسأل من لديه من العلماء، فأجابوه به، ثم نام فرأى حضرة الرّسول فقال ما قلت، ثم ذهب إلى مصر فأجابه علماؤها بصحة الحديث، ثم نام فرأى حضرة الرّسول فقال ما قلت، ثم ذهب إلى المدينة المنورة وقص قصته على علمائها ففطن له بعضهم فقال الحيا هو المطر، ولم يكن من الإيمان، وإنما الحياء بالمد والهمزة هو من الإيمان وقد صدق المصدق باخبارك لأنك لم تتيقظ لهذه النّكتة فتنبه لغلطه، ونام فرأى حضرة الرّسول فقال له نعم قلت هذا الحديث كما تفطن له من سألته وعفا الله عنك اه شرح البردة للخربوطلي

«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ» (31) فيها وعيد شديد وتهديد عظيم كقولك لمن تريد الإيقاع به سأفرغ لك. وليس فراغ الله بفراغ عن شغل، لأن هذا من شأن الخلق به سأفرغ لك. وليس فراغ الله بفراغ عن شغل، لأن هذه من شأن الخلق وهو منزه عن ذلك، وإنما هو إنظار الخلق لأجل قدره عليهم من إنجاء وإهلاك وغيرهما. وسمي الانس والجن ثقلين لإثقالهما الأرض أحياء وأمواتا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» جوانبها وأطرافها هربا من قضائي

ص: 60

عليكما «فَانْفُذُوا» إن كنتم قادر بن ولكنكم «لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ» (33) عظيم وقوة قاهرة وليس لكم ذلك وأنى لكم هذه الغلبة على النّفوذ، بل أنتم عاجزون عنه وقدم الجن هنا على الإنس لأنهم أقدر على النّفوذ وأقوى من الإنس لا لفضلهم إذ لم يقل أحد به ولهذا قدم الإنس في الآية 88 من سورة الإسراء ج 1 لأنه فيها أقدر من الجن ولو أنه لا قدرة له عليه، فعلى الّذين يريدون الصّعود إلى القمر أو المريخ كما يزعمون إن الصّعود إليهما بإمكانهم وهما في أقطار السّماء، والّذين يريدون اختراق القطب المتجمد الذي هو في أقطار الأرض أن يستحضروا مالديهم من قوة قاهرة للتوصل الى ذلك، لأن الله تعالى يقول إن هذا النفوذ من الممكنات لا تقدرون عليه إلّا بسلطان، ومن أين لكم هذا السّلطان الذي ذكره الله، بما يدل على وصفه بالعظمة، لأن العظيم لا يقوم إليه إلّا شيء عظيم، وقد صار لهؤلاء المتنطعين مئات السنين وهم يتغنون بالصعود للقمر والمريخ وغيره ويحتجون بأنهم لم يستكملوا بعد هذه القوة الكافية الدّافعة للوصول إليهما، ولهذا فيجدر أن يقال لهم إنكم عاجزون عن ذلك، لأن هذا وإن كان العقل يجوزه بالنسبة لما حدث في هذا القرآن من العجائب والغرائب إلّا أنه متوقف على قوة عظيمة لم يتسن للبشر إدراكها، وما على البشر بعد بذل جهده ووسعه في ذلك وعدم تمكنه منه إلا أن يظهر عجزه عن ذلك، وعن القول بأن كلا من هذه الكواكب كرة أرضية مسكونة رجما بالغيب، لأن أحدا لم يرها ولم يخبر عنها من يؤخذ بقوله من الأنبياء الّذين أطلعهم الله على بعض غيبه وأخبروا به قيل وقوعه، فضلا عن أن كلّ ما لا يرى عيانا يكون من الأمور الحدسية الغالب عليها الكذب، وما كان كذلك فلا ينبغي للعاقل أن يقطع بصحته «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ 34 يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ» لهب خالص لا دخان فيه «مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ» دخان محض لا لهب فيه، هذا فإن قيل من أين عرف هذا الأوربيون حتى اخترعوا الغيوم من الدّخان وغيره بحيث يمتنعون عن الرّؤية في البر والبحر والسّماء؟

فالجواب أنهم عرفوه لأنه من لوازم الحياة الدّنيا، وكلّ ما هو من هذا القبيل قد يطلعهم الله عليه. قال تعالى (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية 8 من

ص: 61