الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيكفيهم ما ذمهم الله به في القرآن العظيم في آيات عديدة وليس بعد ذم الله ذم، فمن تسول له نفسه الاقتداء بفعلهم هذا فليشاركهم بغضب الله عليهم في الدّنيا وعذابهم في الآخرة وبهما كفاية له ولأمثاله. روى البخاري ومسلم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق السّموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مفرد الذي بين جمادى وشعبان. أي حافظوا عليها ولا تبدلوا أو تؤخروا أو تحوروا فتخالفوا أمر الله فتسترجبوا غضبه. واعلم أن أول من سنّ التأخير في الأشهر الحرم نعيم بن ثعلبة وتبعه فيه قومه ومنهم جنادة بن عوف الذي أدرك رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وآخر ملوكهم القلمس وهو الذي أخر المحرم عن وقته من أجل السّبب المتقدم ذكره وفيه يقول الكميت:
ونحن النّاسئون على معدّ
…
شهور حلّ نجعلها حراما
وهذا من باب الافتخار الجاهلي لأنهم كانوا لا يبالون بأن يفتخروا بالقتل والسّبي والتحريم والتحليل، كما يفتخرون بالكرم والشّجاعة والفصاحة، لأنهم لا يتقيدون بدين يمنعهم عن ذلك، ولا عادة يذمون بها، لذلك فإن افتخارهم بما هو مباح كافتخارهم بما هو محرم على حد سواء، وكلّ منهما عندهم مما يفتخر به.
مطلب فى المجاهدين وما ذكره الله من هجرة رسوله والحث على الجهاد وغزوة تبوك وما وقع فيها:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ» تباطئتم عن تلبية الأمر حالا ولم تسرعوا للاجابة وملتم الى الإخلاد «إِلَى الْأَرْضِ» والمكث فيها وكراهية الذهاب للجهاد في سبيل الله «أَرَضِيتُمْ» أيها المؤمنون الأعزاء الكرام «بِالْحَياةِ الدُّنْيا» الدنيئة واغتررتم بزخارفها المموّهة الفانية وآثرتموها «مِنَ الْآخِرَةِ» الباقية ذات النّعيم الدّائم، فتبّا وخسرا لمن آثر ما يفنى على ما يبقى، وآثر القعود على الجهاد «فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي» جنب الحياة «الْآخِرَةِ» مستمرة الرّاحة عظيمة الاستراحة «إِلَّا قَلِيلٌ» (38) جدا، أخرج مسلم عن المسور قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم
والله ما الدّنيا من الآخرة إلّا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم ثم يرفعها فلينظر بم يرجع. أي لا يرجع بشيء أصلا. وهذه الآية تشير الى وجوب الجهاد في كل وقت وحال لأنها تنصّ على أن التشاغل عنه منكر، ولذلك عابهم الله عليه.
ثم ذكر ما يترتب على عدم إجابتهم والمسارعة للجهاد فقال «إِلَّا» إن لم «تَنْفِرُوا» الى ما استنصركم إليه رسولكم وتخرجوا حالا إلى جهاد عدوكم الذي يوجهكم اليه وتتقاعسوا عن تلبية أمره لقتال أعداء الله أعدائكم الحريصين على استئصالكم «يُعَذِّبْكُمْ» ربكم الذي أمر نبيكم بذلك إرادة عزكم وإكرامكم «عَذاباً أَلِيماً» في الدّنيا بالذل والهوان والخزي والعار، وفي الآخرة بالعذاب الأليم وإحراقكم بنار الجحيم، ويوشك أن يدمركم حال مخالفته «وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ» يلبون دعوته ويسرعون لما أمرهم به دون توان رهبة من الله ورسوله ورغبة في إعلاء كلمته وإهلاك أعدائه وانتشار دعوته وإعزاز المسلمين وإذلال الكافرين. ونظير هذه الآية في المعنى الآية الأخيرة من سورة محمد عليه الصلاة والسلام والآية الثالثة من سورة الجمعة المارتين «وَلا تَضُرُّوهُ» أيها المخالفون أمره «شَيْئاً» أبدا بعدم تلبيتكم أمره كما أنه لا يضرّه شيء إذا أبادكم وأتى بغيركم بل يعود الضّرر كله عليكم «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (39) لا يعجزه شيء لأن إهلاككم وإحداث قوم غيركم يكون بكلمة كن ليس إلا. ثم أكد تعالى استغناء رسوله عنهم إذا شاء بقوله «إِلَّا تَنْصُرُوهُ» حين يستنصركم لما به صلاحكم ونجاحكم «فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ» من قبل وأغناه عنكم في حادثة بدر والأحزاب وغيرهما، وهو قادر الآن أيضا على نصره «إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» حين عزموا على قتله أو إخراجه من مكة أو حبسه فأذن الله له بالخروج من بينهم وأعمى أبصار أعدائه عن أن يروه حين خروجه وهم على بابه بانتصاره مصلتين سيوفهم لقتله حين خروجه، وحتى عليهم التراب ولم يروه وأعمى الّذين لحقوه من أن يدركوه وأعجزهم من أن يمسكوه حينما كان «ثانِيَ اثْنَيْنِ» هو وصاحبه أبو بكر فقط لا ثالث لهما إلّا الله، وقد حفظه ورعاه «إِذْ هُما فِي الْغارِ» الواقع في الجبل الكائن عن يمين مكة على مسيرة ثلاث فراسخ وكان
يسمع قوله «إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ» أبي بكر رضي الله عنه الذي من أنكر صحبته فقد كفر لجحده ما نص الله عليه في كتابه. روى البخاري ومسلم عن أبي بكر قال نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على روسنا، فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ وقد بقينا فيه ثلاثا بحمى الله فقط وخفارة ملائكة الكرام.
ولما ضاق ذرع أبي بكر أنزل الله على رسوله قوله جل قوله يا محمد قل لصاحبك «لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» ومن كان الله معه لا يخاف ولا يحزن ولا ينبغي له أن يضيق صدره مما يقدره عليه «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ» أمنه وطمأنينته «عَلَيْهِ» وعلى صاحبه «وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها» وهم الملائكة الّذين تولوا حفظهما وصرفوا وجوه الكفار عنهما في الغار، فلم يروهما مع وقوفهم عليهما، لما رأوا من أعشاش الحمام ونسج العنكبوت وكأنها قديمة مما أيقنهم أنه لم يكن في الغار أحد، ولم يدخل إليه من عهد قديم، وكذلك كلأه ورفيقه حينما خرجا من الغار وأعمى المشركين عنهم وفعل ما فعل بسراقة كما بيناه في قصة الهجرة المندرجة آخر الجزء الثاني، فراجعها، وقد أيده بهذه الجنود أيضا في حوادث بدر والأحزاب وحنين وأحد بعد الهزيمة «وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى» لأنها مدعاة الى الكفر به «وَكَلِمَةُ اللَّهِ» بالرفع والواو فيها للحال وقرأ بعضهم كلمة بالنصب عطفا على كلمة الأولى وليست بشيء، وقراءة الرّفع أولى وأبلغ لأن كلمة الله عالية ولا تزال عالية سامية، وهي نداء للاسلام ودعاء للإيمان ولذلك فإنها «هِيَ الْعُلْيا» في الماضي والحال والاستقبال إلى الأبد إن شاء الله «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» غالب قوي على أعلائها ودوامها ورفعة شأنها وشأن الإسلام على غيرهم «حَكِيمٌ» (40) بإعلاء كلمته وإعظامها وإذلال كلمة الكفر وإدنائها، فيعلي الإيمان وأهله بعزته، ويهين الكفر وملته بعظمته، قال الزهري: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الغار أرسل الله زوجا من الحمام فباضتا في أسفل النّقب ونسجت العنكبوت بيتا. وقال صلى الله عليه وسلم اللهم أعم أبصارهم، فجعل الطّلب يضربون يمينا وشمالا
حوالي الغار ويقولون لو دخلاه لتكسر البيض وتفسخ نسج العنكبوت، وأنشد أبو بكر رضي الله عنه:
قال النّبي ولم يجزع يوقرني
…
ونحن في سدف في ظلمة الغار
لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا
…
وقد تكفل لي منه بإظهار
وإنما كيد من نخشى بوادره
…
كيد الشّياطين قد كادت لكفار
والله مهلكهم طرا بما صنعوا
…
وجاعل المنتهى منهم إلى النّار
وهذا البحث قد مر في الآيتين 31 و 36 من الأنفال، وفي الآية 40 من سورة العنكبوت ج 2 فراجعها. قال الأبوصيري:
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على
…
خير البرية لم تنسج ولم تحم
إلخ الأبيات من البردة. وقال في الهمزية:
أخرجوه منها وآواه غار
…
وحمته حمامة ورقاء
إلخ الأبيات، وقيل في هاتين القصيدتين ما مدح خير البرية بأحسن من البردة والهمزية، وهو كذلك، لأنهما جامعتان مانعتان، وكلّ المداح عيال على صاحبهما رحمهم الله.
قال تعالى «انْفِرُوا خِفافاً» نشطين سراعا حال النّداء بلا توان «وَثِقالًا» متروين بكمال الاستعداد ركبانا ومشاة شبانا وشيوخا، فقراء وأغنياء، عزلا ومسلحين، عزبانا ومتأهلين، مشاغيل وبطّالا، فيدخل في كلمتي خفافا وثقالا كل من لم يستثنه الله الآتي ذكرهم في الآيتين 93 و 94 من هذه السّورة، والمنقطعين إلى طلب العلم المشار إليهم في الآية 123 الآتية، وكذلك الّذين هم في ثغور المسلمين، والّذين على ذراريهم وأموالهم وادارتهم. ولا نسخ في هذه الآية لأن عمومها مقيد بالمستثنى منها كالآية 18 من سورة الفتح المارة، والقاعدة أن العام يحمل على الخاص، والمطلق على المقيد دائما، ولهذا فإن هذه الآية محكمة «وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ» وهذا الأمر للوجوب بهما أو بأحدهما، فمن لم يقدر عليهما معا لأجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه وإعزاز لأمته أن يجاهد فيهما «فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فليكن بأحدهما «ذلِكُمْ» الجهاد بالمال والنّفس «خَيْرٌ لَكُمْ» مع القدرة عليهما عند الله في الآخرة وعند النّاس في الدّنيا،
لما يترتب عليه من المصالح، لأن التخلف عنه والقعود مذمّة لكم عندهما، فضلا عن أنه يغضب رسول الله وأصحابه والمسلمين أجمع «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (41) ما ترمي إليه هذه الدّعوة من النتائج الحسنة والخيرات الكثيرة والمبرات النّافعة، ومذمّة ما ينشأ عن التخلف من العاقبة السّيئة والمضرات العامة والذل والهوان نزلت هذه الآيات في غزوة تبوك، وذلك أن حضرة الرّسول صلى الله عليه وسلم بعد أن فتح مكة وغزا هوازن وحنين وأوطاس وحاصر ثقيفا بالطائف وفتحها وأتى الجعرانة احرم بالعمرة، ثم رجع إلى المدينة أمر بغزو الرّوم، وكان ذلك في شدة الحر وزمن عسرة وقلة وحاجة، وكانت عادته صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورىّ بغيرها إلا في غزوة تبوك، فإنه جلّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا لعدوهم أهبة كاملة بكل ما يستطيعون من العدة والذهاب لاستقبالهم سفرا بعيدا ومفاوز وعدوا كبيرا كثيرا ذا عدد وعدد، وكان ذلك في شهر رجب سنة تسع من الهجرة، وهؤلاء الرّوم هم بنو الأصفر، وإنما سمّوا روما لأن العيص بن إسحق تزوج بنت إسماعيل عليه السلام فولدت له ولدا به صفرة فنسبوا إليه وسمي روما، وتسمى هذه الغزوة غزوة العسرة، لأنها كانت في سنة مجدبة، وسببها أنه قد بلغ حضرة الرّسول تجمع الرّوم في تبوك لغزو المسلمين، فجمع جموعه وقد أتى له عثمان رضي الله عنه بعشرة آلاف دينار، فجعل يقلبها بيده ويقول ما على عثمان ما فعل بعد اليوم، ثم أعان عثمان حضرة الرّسول أيضا بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وخمسين فرسا، وجاءه أبو بكر رضي الله عنه بأربعة آلاف درهم، وعمر رضي الله عنه بنصف ماله، وعبد الرّحمن بن عوف بمئتي أوقية، والعباس وطلحة بمال كثير، وعاصم بن عدي بتسعين وسقا من تمر، والنّساء بكل ما قدرن عليه من حليهنّ، وبعد أن جهز جيشه المبارك بما قدر عليه سار على بركة الله بثلاثين ألفا، وقد رأوا في غزوتهم هذه شدة وضنكا، حتى إنهم لينحرون الإبل بغية الشّرب من كروشها مما وقر فيها من الماء، وقد استخلف على المدينة محمد بن سلمة، وخلف عليا على أهله، فقال له أتخلّفني على الصّبيان والنّساء؟ فقال له ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي.