الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يوم عرفة هذا بيوم الحج الأكبر لأنه معظم الحج، ولأنه صادف يوم جمعة ووقع فيه هذا الإخطار العظيم، ولأن العرب كانوا يسمون العمرة حجا أصغر، وحاء عن علي كرم الله وجهه أن رجلا أخذ بلجام دابته فقال له ما الحج الأكبر؟ قال يومك هذا خل عن دابتي وكان يوم عرفة يوم الجمعة وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النّحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال: هذا يوم الحج الأكبر.
فكان يوم عرفة يوم الجمعة الذي أنزلت فيه (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية 4 من المائدة المارة ومن ذلك اليوم قد تعورف على أنه إذا صادف يوم عرفة يوم الجمعة يكون الحج حجا أكبر، أي أكبر أجرا من غيره لتوالي الخطب فيه، ولفضل يوم الجمعة على سائر الأيام، وهو عيد المسلمين، وحج الفقراء والمساكين.
مطلب إنذار الله إلى النّاس بانتهاء معاهدات الحرب وعدم صحة عزل أبي بكر من إمارة الحج وتهديد الكفار إذا لم يؤمنوا بعد هذا الانذار:
ثم بيّن تعالى هذا الأذان بقوله جل قوله «أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ» برىء منهم أيضا- على أن رسوله مرفوع- وقرأه بعضهم منصوبا عطفا على لفظة الجلالة، أي أن الله برىء وأن رسوله بريء منهم. ولا تجوز قراءة الجر على زعم الجر بالتوهم أو بالمجاورة أو بالتبعية، ويكفر مستحلها لما فيها من الكفر بنسبة البراءة من الله تعالى لحضرة رسوله وحبيبه وصفيه ومختاره من خلقه.
حكي أن أعرابيا سمع رجلا يقرؤها فقال إن كان الله بريئا من رسوله فانا منه بريء فلبّبه الرّجل إلى عمر، أي مسكه من لبته، وأخذة، وحكى قراءته إلى عمر، فزجره ونهاه عن أن يعود إليها، وأمر بتعليم العربية. وقال آخرون إن سبب الأمر بتعليم العربية قصة أبي الأسود الدّؤلي مع ابنته التي حكاها إلى سيدنا علي كرم الله وجهه، وانه هو الذي أمر بتعليم العربية، والكل وارد وجائز، قال تعالى «فَإِنْ تُبْتُمْ» أيها الكفار والمنافقون بعد هذا الإنذار فآمنتم وأخلصتم «فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» في الدّنيا حيث تأمنون على أنفسكم وأموالكم وأهليكم ودياركم وما ملكت أيمانكم، وفي الآخرة تأمنون من عذاب الله وتنالوا جنته «وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ» وأعرضتم عن التوبة المدعوين إليها وبقيتم على ما أنتم عليه «فَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ»
ولا خالصين من عذابه ولا سابقين عقابه إذ لا مهرب منه إلّا إليه، ولا تكرار هنا لأن الأولى جاءت في معرض التهديد لمدة نقض العهد، وهذه في معرض الوعيد لمن لم يتب وأصر على عناده. ثم خاطب رسوله بما فيه تقريعهم فقال عز قوله «وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (3) لا تطيقه قواهم ولا نجاة لهم منه، وهذه الآية جاءت على طريق التهكم، لأن البشارة عادة تكون في النّعم لا في النّقم على حد قولهم انهم قوم تحيتهم الضّرب وإكرامهم الشّتم.
وقوله تعالى (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) الآية: 5 من سورة الدّخان ج 2 تهكما به وتقريعا. واعلم أن ابتداء هذا الأجل الذي أشرنا إليه آنفا على القول الصحيح وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، لأن يوم التبليغ لا يحسب لأن يوم النّزول الذي هو غرة شوال وانتهاؤها اليوم العاشر من ربيع الآخر السّنة العاشرة من الهجرة، لأن العبرة بتاريخ التبليغ بالنسبة للمبلغين، وكان المبلغ لهذا سيدنا علي كرم الله وجهه، وذلك أن عادة العرب المطرّدة بينهم أن لا يبرم العهد ولا ينقضه إلا المعاهد نفسه أو واحد من أهل بيته، ولما كان حضرة الرّسول لم يحج في السّنة التاسعة وقد أمّر على الحج سيدنا أبا بكر رضي الله عنه وقد أمر الله رسوله بإبلاغ ما جاء في أول هذه السّورة للناس، ولم يمكن إجراء هذا التبليغ من قبل الصّديق أمير الحج للسبب المذكور، أرسل ابن عمه عليا كرم الله وجهه ليتلو أوائل هذه السورة على النّاس نيابة عنه في الموقف، ليطلع عليه كلّ النّاس، والشّاهد يعلم الغائب روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة ان أبا بكر بعثه في الحجة التي أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع في رهط ليؤذنوا في النّاس يوم النّحر أن لا يحج بعد اليوم مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان! وفي رواية ثم أردفه النّبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة، قال أبو هريرة فأذن معنا في أهل منى ببراءة أن لا يحج بالبيت بعد اليوم مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان! ولا يفهم من هذا الحديث عزل أبي بكر عن الإمارة بل دوامها بدليل إرساله أبا هريرة يؤذن في النّاس في رهط معه، وما كان إرسال علي كرم الله وجهه من قبل حضرة الرّسول بعد إلّا بسبب ما تقدم لأن العهد لا يقرّره إلّا سيد القبيلة ولا
ينقضه إلّا هو ولا ينوب عنه في التبليغ به إلّا رجل منه فلو أن أبا بكر مبلغ ما يتعلق بنقض العهود من هذه السّورة لأنكره النّاس ولن يعبئوا به لأنهم يقولون هذا مخالف لما نعهده ونعرفه فلا نعتبره، لأنهم كانوا ينقيدون بعوائدهم كقانون لا يخرمونها أبدا، ومما يؤيد دوام إمارة أبي بكر صلاة سيدنا علي خلفه في الموسم، فلو أنه جاء بدلا منه لصلى هو بالناس، لذلك فإن كلّ ما جاء في قضية عزل أبي بكر عن إمارة الحج لا صحة له البتة، إذ لا دليل على إبقاء إمارته أقوى من الصلاة، واعلم انه لا تكرار في الأذانين، لأن الأوّل يفيد براءة الله ورسوله من عهود المشركين وهو إعلان بثبوت البراءة أي قول الله تعالى (بَراءَةٌ) إلخ هو الأذان الأوّل. والأذان الثاني وهو قوله تعالى (وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ) يفيد الإخبار بوجوب الإعلام في براءة الله ورسوله منهم، ولذلك علقه بالناس أي إذا أعرضوا وأصروا على ما هم عليه فإنه لا يتولاهم ولا ينصرهم بل يهلكهم ويخذلهم والتكرار لا يسمى تكرارا إلّا إذا كان الثاني عين الأوّل باللفظ والمعنى والمغزى، فإذا كان كلّ يرمي لشيء آخر لا يسمى تكرارا قال تعالى «إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» هذا استثناء من المدة المضروبة يعني أن الله تعالى يبرأ من عهود المشركين كلها بعد تلك المدة إلّا من عاهدهم الرّسول وهم بنو حمزة، حي من كنانة «ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً» من شروط العهد الذي عاهدتموهم عليه «وَلَمْ يُظاهِرُوا» يعاونوا ويمالئوا «عَلَيْكُمْ أَحَداً» من أعدائكم فهؤلاء إذا وفوالكم بالشروط فضموا إليها هذان الشّرطان «فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ» التي ضربتموها لهم ولا تجروهم مجرى الكافرين والمنافقين الّذين نكثوا عهودهم وأخلوا شروطها إذ لا يقاس الموفي بالغادر ولا يعامل معاملته، واتّقوا الله في ذلك «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» (4) مخالفته الموفين بعهودهم المحافظين على أقوالهم، وإنما خصّ الله تعالى هذه الطّائفة ليعلّم النّاس ويحذرهم من أن يسووا بين النّاقض عهده النّاكث به والقائم به المحافظ عليه، وما عام إلّا وخصص: قال تعالى: «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ» الأربعة المضروبة في هذه المدة، وسماها حرما وليس كلها حرم لحرمة نقض العهد فيها ولأنها صارت محرمة بتخصيصها لانتهاء عهود المعاهدين حتى صار النّاس يعدون
أيامها عدا لما يترتب على انقضائها من أمور عظيمة، ومن قال أنها الأشهر الحرم الأربعة المعهودة المعلومة فلا دليل يؤيد قوله، إلا إذا أراد أن أولها عشرون من
ذي الحجة والمحرم كله من الأشهر الحرم وآخرها هو ربيع الأوّل وعشر من ربيع الثاني أدخلها معها فسمّاها كلها حرما تسامحا لأن صفر والرّبيعين ليسوا من الحرم، أما إذا أراد بها غرة شوال الذي كان بها نزول الآية فقد أخطأ أيضا ولم يصب الهدف إذ ليس شوال من الأشهر الحرم، ورجب لم يدخل فيها إذ لا عبرة لتاريخ النّزول، لأن النّاس لا يعلمون به، وإنما العبرة لتاريخ التبليغ، بدليل قوله تعالى (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) أي بعد الإنذار الكائن في التاسع من ذي الحجة، تأمل.
«فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» في الحل والحرم قاتلوا أولم يقاتلوا لأنهم أنذروا وأمهلوا لكي يؤمنوا ولمّا لم يفعلوا فلم تبق لهم حرمة «وَخُذُوهُمْ» أسرى واسلبوا أموالهم «وَاحْصُرُوهُمْ» في قراهم وديارهم وضيقوا عليهم في ملاجئهم وامنعوهم من الفرار من مكة حتى يؤمنوا أو يهلكوا «وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ» ممر يمرون به أو مجاز يجتازونه أو محل يختفون فيه أو مغارات يختبئون بها أو سريا ينفذون منه لمحل يقبهم أو غيره، فضيقوا عليهم الطّرق كافة حتى يؤخذوا من كلّ جهة فيضطروا إلى الإيمان قسرا «فَإِنْ تابُوا» من شركهم وآمنوا إيمانا صحيحا «وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ» اتركوهم لأنهم صاروا مثلكم لا فضل لكم عليهم إلّا بقدم الإسلام وزيادة التقوى «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» كثير المغفرة لما سبق منهم بعد أن تابوا وأنابوا «رَحِيمٌ» (5) بعباده لا تضيق رحمته التي وسعت كلّ شيء عمن التجأ إلى بابه ورجع إليه من خلقه بل يقبل توبتهم ويرفع القتل والسّبي عنهم ما لم يكونوا في حالة يأس من الحياة.
قال تعالى «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ» استأمنك يا سيد الرّسل ودخل في جوارك وأمانك بعد انسلاخ المدة المذكورة أو في أثنائها «فَأَجِرْهُ» آمنه على نفسه وماله وأهله ولا تقتله «حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ» ويعرف ما له من الثواب إن آمن وما عليه من العقاب إن بقي على كفره، فإن آمن بعد ذلك فقد نجا، وإلّا فلا سبيل لك عليه حالة كونه في جوارك وما دام في
أمانك «ثُمَّ» بعد أن تيأس من إيمانه لا تقتله أيضا بل «أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ» دار قومه التي يأمن فيها بأن توصله إليها بأمانتك وتحت خفارتك كما أتاك آمنا لئلا تنسب إلى الغدر أو التغرير أو غيره لأنه بعد أن أصر على كفره فإن تركته وشأنه يخشى عليه من أن يفتك به قبل وصوله أهله من قبل أصحابك بحجة انه كافر لا أمان له فتخفر ذمتك واعلم ان قبول المستأمن وإبلاغه إلى المحل الذي جاء منه أو الذي يأمن فيه على نفسه وماله وأهله واجب على المستأمن والمجير وكلّ من يعقل ويعلم واجبات نفسه وغيره ويحفظ سمعته وسيرته «ذلِكَ» الأمر بأمن المستأمنين على كفرهم «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ» ما يراد منهم في الآخرة ولا ما يكلفونه في الدّنيا فهم محتاجون إلى الإرشاد، فإذا نصحوا وتبينت لهم معالم الدّين ولم يقبلوا فتكون عليهم الحجة، ومن أنذر فقد اعذر وهذه الآية عامة محكمة واجب العمل بها إلى يوم القيامة. قال تعالى على سبيل التعجب «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ» وهم غير مؤمنين بها أي لا يكون لهؤلاء عهد عندهما البتة لأنهم ينقضون عهودهم وينكثون مواثيقهم ويخلفون وعودهم ويغدرون من استأمنهم، وهكذا شأن كلّ من لا يؤمن باليوم الآخر، لأن من يؤمن به يخاف الحساب والعقاب فيفي بوعده وعهده. ثم استثنى جل جلاله من ذلك طائفة خاصة بينها بقوله عز قوله «إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» ولم ينكثوا كبني حمزة فهؤلاء تربصوا بهم لانقضاء عهدهم واتركوهم الآن «فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ» على العهد ووفوا لكم بشروطه «فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ» على الوفاء وإياكم أن تنكثوا بهم وبكل معاهد لأن المحافظة على المواثيق من سمات المؤمنين وواجباتهم، واتقوا الله في عهودكم كلها واحذروه من أن تنقضوا شيئا منها «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» (7) نقض العهود وخلف الوعود والموفين بها والعهد هو العقد الموثق باليمين، والبراءة خاصة بالمعاهدين، والأذان المذكور بالآيتين لفظه عام فيهم وفي غيرهم قال تعالى:
«كَيْفَ» يكون للمشركين عهد وهم إن يظفروا بكم «وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ» بعد توكيد الأيمان «لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا» حلفا وقرابة «وَلا ذِمَّةً» عهدا وميثاقا «يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ» بكثرة ما يحلفون لكم وما يعطونكم
من عهد ووعد وميثاق «وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ» عن الوفاء بشيء من ذلك «وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ» (8) خارجون عن الطّاعة لا مروءة تمنعهم عن الكذب ولا شمائل تردعهم عن النّكث ولا شهامة تردهم عن الغدر، وهكذا شأن الكافرين إذ لا يتقيدون بشيء من ذلك لعدم خوف العاقبة من الله وعدم الحياء من النّاس، ولم يقل تعالى قوله كلهم فاسقون لأن منهم من يوفي بعهده ووعده ويؤمن من غدره «اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا» من متاع الدّنيا الفاني وأعرضوا عن ثواب الله الباقي «فَصَدُّوا» أنفسهم وغيرهم «عَنْ سَبِيلِهِ» المستقيم وطريقه القويم وشريعته العادلة «إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (9) من أنواع الكفر وفنون صرف النّاس عن الإيمان، وكيف لا تقاتلون هؤلاء وهم أبدا «لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً» ولا تكرار هنا أيضا، لأن الأولى مقيدة بقوله فيكم بما يفيد الخصوص، وهذه عامة مطلقة في كلّ مؤمن قدروا عليه فإنهم يقتلونه ويسلبونه ويستحلون ماله ودمه، إذ لا دين يزجرهم عن ذلك، فإذا ظفرتم بهم فلا تبقوا عليهم، كما إنهم إذا ظفروا بكم لم يبقوا عليكم، ولا تظنوا أن هذا اعتداء منكم عليهم، لأنكم أنذرتموهم ونصحتموهم وصبرتم عليهم حينما كانوا يؤذونكم ولم يرتدعوا ولم يرأفوا بكم «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» (10) عليكم الّذين بدؤوكم بنقض العهود
ومع هذا «فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ» اقبلوهم لأنهم صاروا مثلكم، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم فأنتم وإياهم بالحقوق سواء، لأنهم صاروا إخوانكم «فِي الدِّينِ» الجامع بينكم، ولا تكرار في هذه الآية أيضا لأن الأولى سيقت إثر الأمر بالقتل وشبهه فكان جوابها أمرا وهو «فَخَلُّوا» وهذه الآية سيقت بعد الحكم عليهم بالاعتداء فكان جوابها حكما وهو «فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ» لتساويهم في أحكامه وهذه أجلب لقلوبهم من تلك للفرق الظّاهر بين تخلية سبيلهم وبين إثبات الأخوة الدّينية لهم، وفيها دلالة على تحريم دماء أهل القبلة «وَنُفَصِّلُ الْآياتِ» الدالات على أحكامنا في خلقنا ونبيّنها بيانا كافيا ونوضحها توضيحا شافيا «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (11) معانيها ويفقهون مداركها. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال لما توفي النّبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبا بكر رضي الله عنه
وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي بكر حينما رآه مصرا على قتال مانعي الزكاة كيف نقاتل النّاس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل النّاس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فمن قال لا إله إلّا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلّا بحقه وحسابه على الله عز وجل؟ فقال أبو بكر والله لأقاتلنّ من فرق بين الصّلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها- وفي رواية عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها فقال عمر فو الله ما هو إلّا أني رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق، أي ان أبا بكر أخذ في هذه المقارنة بين الصّلاة والزكاة، فإن من جحد الصّلاة فقد حل قتله، وكذلك من يجحد الزكاة وهو اجتهاد صائب ورأي ثاقب في فطنة حادة وفقه منه وذكاء وفراسة. واعلم أن المراد بالعقال زكاة عام من الإبل والغنم لا عقال البعير الذي يربط به يده كما يقوله البعض، لأن مثل أبي بكر لا يقاتل النّاس على مثله، أما العناق فهو الأنثى من أولاد المعز، ولهذا ترقى رضي الله عنه بكلامه من القليل الذي هو سخلة إلى الكثير الذي هو زكاة سنة، وتطلق العناق أيضا على زكاة عامين وهو أولى بالمعنى هنا والله أعلم.
قال تعالى «وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ» على ألّا يقاتلوكم ولا يعينوا عليكم أحد «وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ» فعابوه وثلبوه وقدحوا به «فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ» رؤساءهم وشيوخهم «إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ» ولا عهد ولا ذمة ولا وفاء «لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» (12) عن النّكث في العهود والطّعن فيكم، وإذا لم تبادروهم بالقتال تقل هيبتكم في قلوبهم بل ابدأوهم به لتزداد هيبتكم في قلوبهم، وهذا الأمر فيهم وفي أتباعهم، لأن الأتباع تبع للقادة، وإن قتال رؤسائهم قتال لهم كافة طبعا، وإنما خص الأئمة لأنهم هم الّذين عقدوا عليهم العقود، وهم الّذين نكثوها، وأتباعهم تبع لهم في ذلك، أي قاتلوهم جميعا، قال تعالى منبها المؤمنين «أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ» في المعاهدات «وَهَمُّوا» قبلا «بِإِخْراجِ الرَّسُولِ» من بلده مكة حين أجمع رؤساؤهم على قتله كما تقدم في الآية 40 من سورة العنكبوت في ج 2 بيان عملهم هذا فراجعها، «وَهُمْ
بَدَؤُكُمْ»
بالقتال «أَوَّلَ مَرَّةٍ» حينما كنتم في مكة وأخرجوكم منها صاغرين حتى هاجرتم إلى الحبشة والمدينة ولم يمكنوكم من دخول مكة يوم الحديبية وقالوا يوم بدر لا ننصرف حتى نستأصل محمدا وأصحابه وقاتلوا حلفاءكم من بني خزاعة «أَتَخْشَوْنَهُمْ» الآن أيها المؤمنون وتنسون مساويهم القديمة معكم بعد أن منّ الله عليكم بما منّ من الفتوحات والقوة والكثرة في المال والرّجال وتتأخرون عن قتالهم، ولا يكون منكم هذا أبدا، وهذا التنبيه المصدر في هذه الآية ينمّ بالتوبيخ والتقريع على من يتمنع عن قتالهم ويحث على الانتقام منهم بعد أن أجاز الله ذلك لهم «فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ» في مخالفة أمره في ترك قتالهم، كلا لا تخشوهم أبدا واخشوا الله الذي سينصركم عليهم. ولا يرد على هذا قوله تعالى (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) الآية 23 من سورة الأنفال المارة، لأن المراد فيه عذاب الاستئصال وهو يشمل المذنب وغيره والمخالف والموافق، أما عذاب القتل المقصود في هذه الآية فإنه لا يتعدى إلى غير المذنب المخالف، بل هو مقصور عليها فاعلموا ذلك «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (13) به إيمانا كاملا ثم حثهم على القتال فقال «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ» لتشفّوا منهم «وَيُخْزِهِمْ» بالأسر والسّبي «وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ» بالقتل والجلاء «وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ» (14) من داء الأذى الكامن في صدورهم مما كانوا ينالونه منهم قبلا، وهذه الآية عامة في جميع الكفار، ونزولها في خزاعة التي تعدت عليها قبيلة بني بكر وأعانتها قريش عليها خلافا لعهد الحديبية المار ذكره في الآية 11 من سورة الممتحنة المارة لا يخصصها فيهم ولا يمنع إطلاقها وشمولها لغيرهم، لأن في قتل هؤلاء الكفرة أخذا لثأرهم وظفرا للمؤمنين عامة وسببا لقوة اليقين وثبات العزيمة «وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ» الوجد الذي كان فيها عليهم بما يحل فيها من الفرح العظيم والسّرور الجسيم بانجاز وعد الله تعالى لهم بالنصر والفوز «وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ» منهم يقوى إيمانه إذا تاب وأناب. وبعد نزول هذه الآية أسلم ناس كثيرون منهم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بمن سيقت له العناية بالهداية «حَكِيمٌ» (15) بما يفعل بعباده وما يأمرهم به وينهاهم عنه. قال تعالى «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا»
وتهملوا فلا تؤمروا بالجهاد ولا تمتحنوا به؟ وهذا استفهام معترض في وسط الكلام وفيه معنى التوبيخ على وجود الحسبان من بعضهم؟ والخطاب المؤمنين، وما قيل للمنافقين فليس بشيء، ودخول أم في هذا الاستفهام للفرق بين الاستفهام المبتدأ به وبين الاستفهام المعترض «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» أي يظهر صدقه وعزيمته في الجهاد ويميزه عمن لم يجاهد حقيقة فيعلن كذبهم للملأ ودعواهم الفارغة فيفضحهم على رؤوس الأشهاد، وإلّا فهو عالم بهم من قبل وبما يكون منهم كما هو عالم بما كان «وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً» أي بطانة من المشركين، فيفشوا أسرارهم إليهم، ولم يتخذوا خيانة للمسلمين بموالاة غيرهم فيكون وجودهم خديعة لهم، وكلّ شيء أدخلته فيما ليس منه فهو وليجة والرّجل في غير قومه وليجة راجع الآية 51 المارة في سورة النساء فيما يتعلق في هذا المعنى، ولم تكرر هذه الكلمة في غير هذه السّورة، ومن معاني لما التوقع فتدل على أن ذلك قد وقع من بعضهم، لذلك نبههم الله إلى اجتنابه «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (16) من موالاة الكفار
واتخاذ بطانة منهم وإخلاص المخلصين لله ولرسوله الّذين لم يوالوا غيره ولم يتخذوا سواه. قال تعالى «ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ» التي خصها لتوحيده والقيام بشعائره «شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ» أي لا يصح ولا يكون لهم ذلك ولا يستقيم فعله منهم ولا يمكنهم أن يجمعوا بين أمرين متضادين عمارة بيوت الله تعالى مع الكفر به في حالة من الأحوال أبدا «أُولئِكَ» الّذين هذه صفتهم «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» التي عملوها بالدنيا من جميع وجوه البر والخير لأنها لم تكن خالصة لوجهه بل لمجرد السّمعة والرّياء، وما كان خالصا منها فقد كوفئوا به في الدّنيا بما منّ الله عليهم من صحة ومال وولد وجاه وغيرها، وحرموا ثوابها في الآخرة، ولهذا قال تعالى «وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ» (17) لا يتحولون عنها أبدا ومن كان هذا شأنهم، وهذه عاقبتهم لا يكونون أهلا لعمارة مساجد الله المخصصة لعبادته وحده «إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ» في أمر دينه