الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير سورة محمد عليه السلام عدد 9- 95 و 47 وتسمى سورة القتال
نزلت بالمدينة بعد سورة الحديد عدا الآية 13 فإنها نزلت بالطريق أثناء الهجرة وهي ثمان وثلاثون آية، وخمسمائة وثمان وثلاثون كلمة، وألفان وخمسمائة واثنان وعشرون حرفا، ولا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به ولا بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» (1) أي ضيعها الله عليهم، فلم ينتفعوا بها في الآخرة، لأن ما يفعلونه من البر وإطعام الطّعام وإقراء الضّيف وصلة الرّحم وإجارة المستجير وإغاثة الملهوف وفك الأسرى وغيرها كان للسمعة والرّياء ونشر الصيت لا لوجه الله تعالى، فلذلك جعل مكافأتهم عنها في الدّنيا من بلوغهم ثناء الناس ومدحهم، وما أعطاهم الله من عافية ومال وولد وجاه وغيرها. وهذه الآية عامة في كلّ كافر مات على كفره، كما أن قوله تعالى:«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ» (2) عام أيضا في كلّ مؤمن مات على إيمانه. والبال هو القلب والشّأن والأمر والحال «ذلِكَ» إبطال أعمال الكفرة وإصلاح بال المؤمنين «بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ» فصدوا أنفسهم وغيرهم عن الطّريق الموصل للسعادة الأبدية «وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ» فأوصلهم لسعادته الأبدية وأحلهم بدار كرامته «كَذلِكَ» مثل هذا المثل المضروب للفريقين «يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ» (3) ليعتبروا ويتعظوا ويتدبروا حال الطّرفين في الدّنيا ومصيرهم في الآخرة «فَإِذا لَقِيتُمُ» أيها المؤمنون «الَّذِينَ كَفَرُوا» في صف القتال بعد أن طلبتم منهم الإيمان بالله ولم يفعلوا «فَضَرْبَ الرِّقابِ» (4) لتقطعوا منهم أشرف الأعضاء وهو الرأس، وفي قطعه إهانة لهم أكثر من قطع غيره من الأعضاء المؤدية للموت، وهو أسرع في الموت من غيره «حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ» وأكثرتم فيهم القتل
واثقلتموهم بالجراح فاعمدوا لأسرهم «فَشُدُّوا الْوَثاقَ» من المأسورين لإظهار ذلتهم لكم، ولئلا ينفلتوا فيلتحقوا باعدائكم ويكونوا أكثر شرا من غيرهم، عليكم، لكم لم تفلتوهم ليكون لكم يد عليهم وليكن شأنكم هذا حتى انتهاء الحرب، فإذا وضعتم السّلاح وتمّ لكم ما أمثلتم «فَإِمَّا» أن تمنوا على أسراكم «مَنًّا بَعْدُ» فتركونهم كرما منكم «وَإِمَّا» أن تفدوهم «فِداءً» فتأخذون المال المتفق عليه منهم أو تبدلونهم بأسراكم، وهذه الآية محكمة غير منسوخة بآية 58 من الأنفال المارة، وهي (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ) ولا بآية السّيف وهي قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) عدد 37 من التوبة الآتية، كما قاله بعض المفسرين، لان للامام الخيار بين أربعة أمور حسبما يراه لا معارض له في ذلك، وهي إما أن يقتل الأسرى، أو يسترقهم، أو يمن عليهم فيطلقهم بلا عوض، أو يفاديهم بالمال أو بأسرى المسلمين، وإلى هذا ذهب ابن عمر وبه قال الحسن وعطاء وأكثر أصحاب وجل العلماء، ومشى عليه الشّافعي والنّووي واحمد واسحق رحمهم الله.
تشير هذه الآية الكريمة إلى حث المسلمين على القتال لما فيه من إعلاء شأنهم وعظمة شوكتهم، وأن لا يميلوا إلى قبول فداء الأسرى إلّا بعد الإثخان في القتل من العدو، ولهذا عاقبهم الله تعالى على قبول الفداء في أسرى بدر، كما مر في الآية 68 من سورة الأنفال وسبب نزولها على ما قاله ابن عباس، هو أنه لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزلها وهو الصّحيح لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال بعث النّبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة أتال، فربطوه في سارية من سواري المسجد، فخرج إليه النّبي صلى الله عليه وسلم فقال عندك يا ثمامة؟ فقال عندي خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فاسأل تعط منه ما شئت، فتركه النّبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد قال ما عندك يا ثمامة؟ قال ما قلت لك (وكرر الألفاظ) بعينها فقال صلى الله عليه وسلم أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، أو قال عبده ورسوله، والله ما كان على وجه الأرض أبغض إلي من وجهك فقد أصبح
وجهك أحب الوجوه إليّ، والله ما كان دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدّين كله إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل أصبوت؟ قال لا، ولكن أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن عمران بن حصين قال أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل فأوثقوه، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب رسول الله، فقداه رسول الله بالرجلين الّذين أسرتهما ثقيف- أخرجه الشّافعي في مسنده وأخرجه مسلم وأبو داود- فعلى هذا يكون القول بالنسخ لا وجه له.
فيا أيها المؤمنون داوموا على هذه الحالة، فاقتلوا وأسروا وأبقوا الأسرى «حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» أثقالها من سلاح وغيره من أدوات الحرب ولوازمها فيعزّ الله المسلمين بنصره ويخذل الكافرين «ذلِكَ» الحكم في الأسرى فافعلوه «وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ» فأهلكهم وأسرهم بغير قتال ولكفاكم أمرهم «وَلكِنْ» لم يفعل وقد أمركم بقتالهم «لِيَبْلُوَا» يمتحن ويختبر «بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ» وليثيب المؤمن بالشهادة أو السّعادة ويعاقب الكافر بالخيبة والنّار «وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» منكم أيها المؤمنون أو سلموا «فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ» (4) بل ينميها لهم ويثيبهم عليها وأنه «سَيَهْدِيهِمْ» بالدنيا إلى طرق الرّشاد «وَيُصْلِحُ بالَهُمْ» (5) فيها ويوفقهم للسداد إذا سلموا من القتل «وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ» في الآخرة إذا قتلوا ويفيض عليهم من خيرها ونعيمها وقد «عَرَّفَها لَهُمْ» (6) إذ وصفها لهم بالدنيا، فيكونون في الآخرة أعرف بمواقعهم فيها من دورهم في الدّنيا فلا يحتاجون إلى دليل يدلهم على منازلهم فيها، هذا إذا كان الفعل مأخودا من التعريف وإذا كان من العرف وهو الرّائحة الطّيبة فيقال طيبها لهم بالطيب، وكلاهما جائز. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ» فتنضموا إلى حزبه لإعلاء كلمته «يَنْصُرْكُمْ» على عدوكم «وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» (7) عند القتال في الدّنيا وعلى الصّراط في الآخرة