الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
به أمام من يعرفه. أو أمام صاحب تلك اللّغة ليبين له أنه يعرف لغته وأنه يميل إليها بقصده التقرب منه، أما إذا كان التكلم بين جماعة لحاجة فجائز، والمذموم التكلم بها لغير حاجة يخشى من اطلاع الغير عليها بحضور من لا يعرفها، لأنه من علائم النّفاق. روى الحاكم في مستدركه بسند صحيح عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن منكم أن يتكلم بالعربية فلا يتكلمن بالفارسية فإنه يورث النّفاق. ويدل هذا الحديث على أن جميع اللّغات غير العربية إذا تكلم بها بلا موجب من تعليم أو تفاهم أو حاجة كما مر يورث النّفاق، وإنما اختار الفارسية بحديثه صلى الله عليه وسلم دون غيرها من اللّغات لأنها أقدس منها وأكثر أهل الشّرق يتكلمون بها.
مطلب آداب المجالسة وفضل العلم والعلماء وما يتعلق بذلك:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ» التي أنتم جالسون بها لقدوم غيركم عليها «فَافْسَحُوا» وسعوا لهم ليجلسوا بينكم لأن هذا من آداب المجالسة وكرم الأخلاق التي يهذبكم الله بها ويريدكم إليها ويأمركم بها فإذا فعلتم ذلك «يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ» في جميع أموركم من الأمكنة والأعمال والأرزاق وغيرها لاطلاق اللّفظ «وَإِذا قِيلَ» لكم أيها المؤمنون «انْشُزُوا» ارتفعوا وانهضوا عن مواقعكم ليجلس فيها إخوانكم القادمين عليكم الّذين يرى النّاس لهم فضلا من علم أو فصاحة أو أدب أو شجاعة أو أمارة أو فعل ما «فَانْشُزُوا» وأخلوا لهم مواضعكم وأكرموهم بالجلوس فيها ولا تضاموا أو تغضبوا، وليكن ذلك عن طيب قلب منكم محافظة على التفاضل الذي سنة الله في خلقه المنوه به في قوله «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ» على غيرهم بكثرة الطّاعة وامتثال الأوامر «وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ» كثيرة يرفعهم على غيرهم في الدّنيا والآخرة قال تعالى (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الآية 9 من سورة الزمر ج 2، والآية 254 من البقرة المارة، وهي مكررة في القرآن العظيم باللفظ وبالمعنى وهذا التفاضل نسبي بين النّاس أجمعين، حتى الأنبياء، قال تعالى (لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) الآية 56 من
سورة الإسراء ج 2، وقال تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) الآية 253 من البقرة المارة وفي الرّزق أيضا قال تعالى (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) الآية 71 من سورة النّحل ج 2 «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (11) وسبب نزول هذه الآية على ما قالوا هو أنه جاء أناس من المهاجرين والأنصار إلى مجلس الرّسول فسلموا فرد عليهم السلام ثم سلموا على الجالسين فردوا عليهم السلام وبقوا قائمين حيال رسول الله لعدم وجود محل يجلسون فيه، لأن المجلس غاص بالناس، فشق قيامهم على حضرة الرسول لمكانتهم عنده، فقال لمن حوله قم يا فلان وأنت يا فلان فأقام من المجلس يقدر أولئك النّفر وأجلسهم، فشق ذلك على الّذين أقامهم وعرف الكراهية في وجوههم، فلما أنزل الله هذه الآية طابت نفوسهم وركنت إلى أمره الذي هو من أمر الله وفيها تعليم لعباده واخبارهم بأنهم متفاضلون، وإن من الأدب أن يحترم الأدنى الأفضل، قال صلى الله عليه وسلم لا تزال أمتي بخير ما تفاضلت. ومن كمال الآداب احترام من هو دونه أيضا بالملاقاة والتكلم والمجالسة على أن لا يتجاوز فيه الحد بالنسبة له، مثل أن يقوم العالم أو الفاصل لمن هو دونه، فيقدم له الحداء فهذا بعد تخاسا لا أدبا، إذ لكل شيء حد يجب الوقوف عنده، لأن الإفراط والتفريط قد يقضيان للحط من كرامة الرّجل ويوجبان الغيبة له، ورحم الله امرأ جبّ الغيبة عن نفسه، بأن يتحاشى أن يفعل ما يغتاب عليه به فيقطع ألسنة الناس عنه، ومما جاء في فضل العلم ما أخرجه الترمذي عن بن كثير قال قدم رجل من المدينة على أبي الدّرداء وهو بدمشق، فقال ما أقدمك يا أخي؟ قال حديث بلغني انك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أما جئت لحاجة غيره؟ قال لا قال أما قدمت في تجارة؟ قال لا، قال ما جئت إلّا في طلب الحديث؟ قال نعم، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنّة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السّموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء،
وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر. وأخرج أبو داود نحوه وهذا الفضل لا يختص بمن يأتي لطلب العلم من مكان بعيد، بل إذا ذهب لطلبه من دار لأخرى في بلده أو حيه ينال هذا الأجر، والله ذو الفضل العظيم يضاعف لمن يشاء بحسب بعد المكان وقربه وحسب نية الطّالب، فأين من يطلبه ويتعرض لنفحاته. وجاء في بعض الأخبار كن عالما أو متعلما أو مستمعا ولا تكن الرّابعة فتهلك، أجارنا الله من الهلاك. وروى البخاري ومسلم عن معاوية ابن أبي سفيان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين
. وأخرج الترمذي مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروى البغوي بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إليه، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه، فقال كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه، أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه، وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ويعلمونه الجاهل فهؤلاء أفضل. وإنما بعثت معلما. ثم جلس فيهم.
مطلب في تقديم الصّدقة عند مناجاة الرّسول وعفوها وبعض أحوال المنافقين في الدّنيا والآخرة:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ» أي إذا أردتم مناجاته والتكلم معه «فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً» أي قبل مناجاتكم له تصدقوا ثم ناجوه «ذلِكَ» التصدق قبل المناجاة لحضرته «خَيْرٌ لَكُمْ» في دينكم ودنياكم لما فيها من احترام الرّسول والثناء الحسن والأدب الوافر والأخلاق الكاملة والاعتراف بالفضل والمحبة الصّادقة لحضرته وفي آخرتكم لما فيها من طاعة الله ورسوله وامتثال أوامره عن طيب قلب «وَأَطْهَرُ» لأن الصدقة زكاة المال والمتصدق «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا» ما تنصدقون به «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (12) بعباده الفقراء، ومن رحمتة بهم عفوهم من تقديمها ولهم أن يناجوه بلا تصدق. لما أكثر النّاس من سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصّغيرة والكبيرة وشق ذلك عليه أراد الله تعالى أن يخفف عنه ويثبط النّاس عن ذلك فأمرهم
بالتصدق عند إرادة مناجاته لا عظامها ونفع الفقراء ولئلا يقوم كلّ أحد فيما أهمه وما لم يهمه على سؤاله وليختصروا على الأهم الذي لا بد لهم من معرفته أو القضاء به إلّا ببيان الرّسول، فنزلت هذه الآية، فتوقف النّاس لأنهم لم يعرفوا بعد هذه الجهة ولم يعلموا ما هي هذه الصّدقة وكم هي، قال علي كرم الله وجهه قال لي الرسول ما ترى في قدر هذه الصّدقة أدينار؟ قلت لا يطيقون، قال فكم؟ قلت شعيرة أي وزنها ذهبا، قال إنك لزهيد أي قليل المال قدرت على قدر حالك فتصدق علي بدينار، ونزلت الرّخصة في الآية الآتية، فكان عليه السلام يقول في خفف الله عن هذه الأمة، وقال آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد غيري وفيها منقبة عظيمة له عليه السلام وهو أبو المناقب، وليس فيها طعن على أحد لأن الزمن لم يتسع للعمل بها، إذ نزلت الرّخصة بتركها فور اذاعة أمر الصّدقة بين النّاس والتحدث بها على أثر تصدق سيدنا علي كرم الله وجهه لأن القصد منها زيادة احترام حضرة الرّسول، وقد حصلت بمجرد نزول الآية ووقر في قلوب النّاس معناها وعرفوا المراد من مغزاها وتحاشوا عن كثرة المراجعة له. قال الكلبي ما كان إلّا ساعة من نهار، وقال مقاتل كان بين هذه الآية وبين آية الرّخصة عشرة أيّام. وهو الأصح إذ لا يمكن إذاعتها للآفاق دون هذه المدة بالنسبة لذلك الزمن. قال تعالى «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ» مع حضرة الرّسول «صَدَقاتٍ» أي خفتم العيلة والفاقة أم بخلتم بهذه الصّدقة أو خشيتم من أدائها «فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا» ما أمرتم به من التصدق فقد خفف الله عنكم ويسر عليكم وأزال عنكم المؤاخذة على عدمها وسهل لكم مناجاة الرّسول بدونها وجعلها لكم مجانا كما كانت إذا حصل المقصود منها وهو تعظيم حضرة النّبي واحترامه والتباعد عن الإفراط في سؤاله والميزة بين المؤمن والمنافق من حيث تلقي هذا الأمر بالقبول «وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» في عدم مسارعتكم إلى فعل هذه الصّدقة.
وتشير هذه الآية إلى تأخرهم عن أداء تلك الصّدقة حال نزول هذه الآية ذنب بالنسبة لمن هي لأجله وإلى زيادة تعظيم قدر الرّسول عند ربه عز وجل، ولهذا أمرهم بقوله جل قوله «فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ»
تداركا لما فاتكم في المسارعة لإنقاذ أمره قبل إنزال التخفيف والترخيص بعدمه أي إذ فاتكم التصدق في المناجاة وفرطتم بها فلا تفرطوا بإقامة الصّلاة وأداء الزكاة وطاعة الله ورسوله فيما يأمركم وينهاكم، بعد بل سارعوا له واغتنموا فعله ولا تقاعسوا ولا تتوانوا عنه أو تعتذروا منه وفيها إشارة إلى فعل أحد هذه الثلاثة قبل المناجاة لحضرة الرّسول بدلا من الصّدقة «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (11) وهذه إحدى الآيات الثلاث التي نوهنا بها في المقدمة في بحث النّاسخ والمنسوخ وبينا توجيهها هناك وإنها غير ناسخة للآية قبلها والآية الثانية مرت في سورة المزمل ج 1 والثالثة في سورة الأنفال المارة، راجع بحث النّاسخ والمنسوخ في المقدمة ج 1 ولما اختلا المنافقون باليهود ونصحوهم (بل غشوهم) عن موالاة الرّسول ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين وقالوا لهم نحن نتولاكم من دونه أنزل الله عز وجل «أَلَمْ تَرَ» يا سيد الرسل «إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» وهم اليهود «ما هُمْ» أولئك المنافقون «مِنْكُمْ» أيها المؤمنون لأنهم يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان «وَلا مِنْهُمْ» أي اليهود الّذين ولوا أمرهم المنافقين وهم كما وصفهم الله مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء الآية 43 من سورة النّساء المارة «وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ» بأنهم مؤمنون مثلكم «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (14) انهم كاذبون يحلفهم «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً» في الآخرة لكذبهم وحلفهم على الكذب إنه ليس بكذب «إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (15) في دنياهم هذه إذ «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً» وقاية يتقون بها حفظ أنفسهم من الجلاء والأسر والقتل وأموالهم وأولادهم ونسائهم عن الاستيلاء عليها والسّبي «فَصَدُّوا» الناس «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» وأعرضوا عن رسوله في الدّنيا «فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (16) جزاء ذلك، قالوا إن حضرة الرّسول صلى الله عليه وسلم قال لأحدهم عبد الله بن نبتل في قولهم لليهود لا توالوا الرّسول إلخ كما مر آنفا فحلف أنه لم يقل وجاء بأصحابه فحلقوا كذلك فكذبهم الله تعالى في هذه الآيات التي أنزلها على رسوله فيما وقع منهم قاتلهم الله ما أكذبهم، وهؤلاء أشد من مغالاتهم، لأن حب المال والدّنيا هو الذي حدا بهم إلى ذلك، ولا ريب أن الّذين لا يؤمنون بالآخرة يغريهم حب المال والرّئاسة
قال تعالى «لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ» المنافقون المتولون لليهود والحالفون كذبا متخذون إيمانهم وقاية لصون دمائهم وأموالهم وأولادهم، الصادون النّاس عن سبيل الله المعرضون عنه هم «أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (17) أبدا لا يتحولون عنها. واعلم يا حضرة الرسول أن هؤلاء المنافقين وأصحابهم اليهود «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً» في الموقف المهيب فيسألهم عما وقع منهم في الدّنيا من هذه الأحوال وغيرها وهو غني عن سؤالهم لأنه يعلم كلّ ما وقع منهم أزلا ولكن ليفضحهم على رؤوس الأشهاد «فَيَحْلِفُونَ لَهُ» في ذلك المشهد العظيم «كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ» يا أكمل الرسل بأنهم صادقون وهم كاذبون «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ» من قبول أيمانهم الكاذبة عند الله كما كانت تقبل منهم بالدنيا ظاهرا، كلّا ليسوا على شيء من ذلك أصلا «أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ» (18) في الدّنيا والآخرة تشير أداة التنبيه في مطلع هذه الآية والتوكيد بأن واللام على توغلهم بالنفاق والكذب وتعودهم عليهما وفساد ظنهم على رواج إيمانهم بين يدي علام الغيوب وفضيحتهم على رؤوس الأشهاد. قال تعالى «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ» أي استحوى واستولى عليهم فملك قلوبهم وغلبهم على أمرهم وأحاط بهم من كلّ جانب، وجاء هذا الفصل على خلاف قاعدة اللّغويين من أن الواو إذا تحركت بالفتحة تقلب الفاء على هذه القاعدة يكون استحاذ إلّا أنه جاء على الأصل، ومثله استصوب واستشوف، والأحوذي السّائس الضّابط للأمور، قالت عائشة رضي الله عنها كان عمر أحوذيا أي مدبرا للأمور ضابطها وهؤلاء الّذين استولى عليهم الشّيطان «فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ» إذ أشغل ليهم عن التفكير والمراقبة بجمع حطام الدّنيا وتدبير شئونها، فأشغل حواسهم الظّاهرة والباطنة وحصرها في أمور الدّنيا وصرفها عما يتعلق بالآخرة فلم يبق في
قلوبهم خطرة للتفكير في آلاء الله أو لمحة لشكر نعمائه أو حركة للنظر في ملكوت أرضه وسمائه وأشغل ألسنتهم عن ذكر الله بالغيبة والنميمة وقول الزور في الكذب والافتراء والبهتان، فلم يترك لها فسحة لتلاوة شيء من ذكره ولا فرجة لتحميده وتسبيحه، وأشغل جوارحهم بالأكل والشّرب واللّباس والمساكن
فلم يفسح لهم طريقا للانفاق وعمل الخير ومساواة الفقراء والمساكين «أُولئِكَ» الّذين هذه صفتهم هم «حِزْبُ الشَّيْطانِ» وأولياؤه وحلفاؤه وأنصاره «أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ» (19) في الدّارين. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» يعادونهما وأوليائهما ويتعدون حدودها ولا يعملون بأوامرها «أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ» (20) في جملة من أذلهم الله في الدّنيا وإن ما هم عليه من النّعم الفانية لا قيمة لها لأن مرجعهم للآخرة التي سيهانون فيها ويحقرون ويعلمون أن ما رأوه في الدّنيا هو ذلّ أيضا بسبب تكالبهم على جمعها وعدم مبالاتهم بجمعه إذ لا يتورعون عن مغصوب وحرام، فالعز الذي نالوه من هذا المال هو ذل أيضا من حيث النّتيجة.
قال تعالى «كَتَبَ اللَّهُ» في لوحه المحفوظ أذلا «لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» المحادين والمخالفين والمعرضين مهما كانوا عليه من قوّة ومنعة «إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ» لا يغلب منيع لا ينال «عَزِيزٌ» (21) لا يدرك عظيم لا يرام راجع الآية 172 من الصّافات في ج 2 والآية 56 من المائدة الآتية واعلم يا سيد الرّسل انك «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فإذا رأيت متصفا بالإيمان موادا لهؤلاء فاحكم بنفاقه وبأن إيمانه صوريّ لا ينتفع به، لأن المؤمن لا يوالي الكافر ولا يخالف الله ورسوله ولا يحب أعدائهما، لذلك من الممتنع جدا أن تجد قوما مؤمنين متصفين بتلك الصّفات «وَلَوْ كانُوا» أي المحادون «آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» فلا ينبغي أن يوالوهم، بل يجب عليهم أن يخذلوهم ولو كانوا أولى الناس بهم. ولهذا البحث صلة في الآية 34 من سورة التوبة الآتية فراجعها.
ولهذا فإن عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قتل أباه يوم أحد، وعبد الله استأذن حضرة الرّسول بقتل أبيه عبيد الله أبي بن سلول كما مر في الآية 8 من سورة المنافقين، وأبا بكر الصّديق رضي الله عنه أراد قتل ابنه يوم بدر فمنعه حضرة الرسول من مبارزته، ومصعب ابن عمر قتل أخاه عبد الله وأبو عبيدة بن الجراح وحمزة بن عبد المطلب وعلي كرم الله وجهه قتلوا عتبة وشيبة بن ربيعة، والوليد ابن عتبة يوم بدر وهم من عمومتهم، وعمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام