الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا جاهلا ضالا غبيا، ولكن إذا كان الأكثر منهم على هذا فانهم يسيطرون على الأقل لأن الحكم غالبا للأكثرية.
مطلب لا يستفاد من هذه الآية ترك الأمر بالمعروف وكيفية استماع الشّهود على وصية الميت وسبب نزول هذه الآية:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» فالزموها وأصلحوها واحفظوها من الوقوع فيما لا يحل، واعملوا لخلاصها من عذاب الله وما يقربها منه وباعدوها عن الحرام، ولا تركنوا إلى الظّلم فتمسكم النّار، فإذا تقيدتم بهذا وفعلتموه فاعلموا أنه «لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» إلى ذلك وتمسكتم به وقمتم بالحق، لأن عصيان الباغي وكفر الطّاغى لا يضركم، وإنما يعود ضرره عليه إذا نصحتموه ولم يقبل نصحكم ولم يسترشد بإرشادكم، ولم يؤمن كإيمانكم وهؤلاء ان كانوا كافرين مشركين فاقسروهم على الإيمان إذ لا دين لهم، وان لم يقبلوا فاقتلوهم، وان كانوا كتابيين فاضربوا عليهم الجزية واتركوهم وشأنهم لأنكم لم تؤمروا بقتالهم على الإسلام. قال تعالى (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) الآية 257 من البقرة راجع تفسيرها تعلم أن دين الإسلام قام بالعدل لا بالإكراه، وبالرغبة لا بالرهبة، ولهذا فإن حضرة الرّسول لم يجبر أحدا من أهل الكتابين على الإيمان به، هذا وليعلم أن المطيع من هذه الأمة لا يؤخذ بذنب العاصي، كما لا ينتفع العاصي بطاعة المطيع، وان المؤمن لا يؤخذ بذنب الكافر، والكافر لا ينتفع بإيمان المؤمن، راجع الآية 10 من سورة التحريم المارة. قال سعيد بن جبير نزلت هذه الآية في أهل الكتاب أي في عدم جبرهم على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنكم وإياهم «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً» في الآخرة وحينذاك «فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (105) في هذه الدّنيا. واعلم أن هذه الآية لا يستدل فيها على عدم الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر كما زعم بعضهم وضرب بها المثل، لأن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ثابتان بالكتاب والسّنة ثبوتا قطعيا لا قول فيه البتة؟ أخرج الترمذي عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر الصّديق رضي الله عنه قال أيها النّاس انكم تقرءون هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ) إلخ ولا تضعونها موضعها
ولا تدرون ما هي، واني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن النّاس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمهم الله بعقاب منه. وأخرجه أبو داود بزيادة ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ولا يغيروا إلّا يوشك أن يعمهم الله بعقاب. قال ابن مسعود مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قيل منكم فإن ردّ عليكم فعليكم أنفسكم، إن القرآن نزل منه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن كقصص الأوّلين وأخبارهم، ومنه وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه أي قد وقع تأويلهن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير، كارتداد بعض العرب والحوادث التي وقعت، ومنها قتل عثمان رضي الله عنه، ومنه آي يقع تأويلهن آخر الزمان كأشراط السّاعة وغيرها (والأشياء المحدثة مما أشار إليها القرآن وحضرة الرّسول من البواخر والصّواعق وتقارب البلدان وكثرة القتل وغيرها) راجع الآية 8 من سورة النّحل ج 2 ومنها آي يقع تأويلهن يوم القيامة كالحساب والعقاب والنّار، فما دامت قلوبكم واحدة فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر وإذا اختلفت قلوبكم وأهواءكم والبستم شيعا وأذاق بعضكم بأس بعض جاء تأويل هذه الآية ويكون على كلّ امرئ نفسه، قيل لا بن عمر لو صليت في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله يقول «عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» فقال إن هذه الآية ليست لي ولأصحابي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا ليبلغ الشّاهد الغائب، فكنا نحن الشّهود وأنت الغائب، ولكنها لأقوام بعدنا ان قالوا لم يقبل منهم. وأخرج الترمذي في حديث غريب عن أمية الشّعباني قال أتيت أبا العالية الحسني فقلت كيف نصنع بهذه الآية، قال أيّة آية؟ قلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) إلخ قال أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متّبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أيّام الصّبر، فمن صبر فيهن قبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم. وفي رواية قبل يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال لا بل أجر خمسين رجلا منكم. راجع الآية 39 من سورة الرّوم
في ج 2 في بحث التفرق
في الدّين تجد ما يتعلق بتمام هذا البحث، قال تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إن مما أمرتم به «شَهادَةُ بَيْنِكُمْ» أي أن يشهد ما بينكم «إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» قارب وقته بما يراه المريض من نفسه أو يرى أولياؤه فيه من علاماته وأراد أن يوصي بشيء فليشهد «حِينَ الْوَصِيَّةِ» على ما يوصي به من بعده «اثْنانِ» بالرفع خبر شهادة رجلان «ذَوا عَدْلٍ» موصوفان بالعدالة من أهل الصّلاح والتقوى والأمانة «مِنْكُمْ» من ملتكم المؤمنين، وإذا لم يوجد حين الوصية من أهل دينكم فأشهدوا من حضر من الملل الأخرى، وقدموا أهل الكتاب على غيرهم لشمول قوله تعالى «أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» أي من أي ملة كانوا «إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ» سافرتم «فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ» فإذا أدى هؤلاء الشّهود شهادتهم ور كنتم إليها فاعملوا بها، وإلّا إذا اتهمتموهم بالخيانة أيها الأولياء والورثة فلكم أن «تَحْبِسُونَهُما» توقفونها «مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ» الأحسن أن تكون صلاة العصر لما جاء فيها من الأخبار، واللّفظ مطلق يدخل فيه كلّ صلاة مفروضة، لأن أل فيها للعهد، والقصد من تحليفهما بعد الصّلاة اجتماع النّاس ليشهدوا حلفهما ويتبينوا صدقهما من كذبهما، لأن الرجل قد يحلف وحده ويستنكف عن الحلف أمام النّاس خشية سوء سمعته، وكان أهل الحجاز قبلا يقعدون للخصومة بعد العصر، هذا إذا كانا مسلمين، وإذا كانا كتابيين أو من ملة أخرى يحلفون بالوقت وفي المكان الذي يعظمونه، ولهذا كانت اللام للعهد، إذ لو كانت للجنس لكان التحليف بعد مطلق صلاة وكأن لم يشهده أحد وفي شهوده فرية للتحليف، تدبر «فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ» أمام الجمع الغفير بحضور الورثة في أعظم محل معظم عندهما، فإذا كان بالمدينة مثلا يكون التحليف في مسجد رسول الله عند المنبر الشّريف، وإن كان في المسجد الأقصى يكون عند الصّخرة الشريفة، وإذا كان في مكة يكون بين الرّكن والمقام، وفي البلدان الأخرى في أعظم مسجد عندهم، وإن كان من الكتابيين في القدس في كنيسة القيامة، أو في بيت لحم، عند محل الولادة الشّريفة، أو في ضريح موسى عليه السلام، أو في أعظم كنيسة أو بيعة، أو عند المبكى، وكذلك إذا كانا كافرين ففي أعظم
محل يعظمونه وبحضور علمائهم وقسوسهم ورهبانهم وحاخامهم ورؤساهم، وهذا التحليف لا يكون إلا «إِنِ ارْتَبْتُمْ» في صدقهما وظننتم الكذب في شهادتهما ويكون اليمين بالله تعالى وحده، ويجوز أن يشدد الحلف بشيء من صفاته الجليلة، وإذا كانا كتابيين جاز توثيق حلفهما بالتوراة والإنجيل، أما الكفار فبالله فقط، لأن ما يعظمونه لا قيمة له عند الله، سواء كان إنسانا أو حيوانا أو كوكبا أو جمادا لأنها كلها أوثان لا يجوز تعظيمها بالحلف ولا بغيره، وتعظيم الزمان هنا مثل كونه بعد العصر مما يكثر فيه الجماعة، وفي المكان مثل الجوامع والبيوت المعدة لذكر الله عند أهل الأديان والصّيغة بأن يقول والله العظيم المنتقم الجبار الذي أنزل القرآن على محمد، أو التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود، أنّا نقول الحق ونشهد به «لا نَشْتَرِي بِهِ» أي اليمين الذي هو عهد الله الذي أقسمنا به «ثَمَناً» عوضا بشيء من حطام الدّنيا، ولا نحلف كاذبين بالله لأجل عوض نأخذه، أو غرض نقصده، أو شيء نرغبه، أو حق نجحده، أو خوف نهابه «وَلَوْ كانَ» المشهود له «ذا قُرْبى» منا «وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ» التي أمرنا بحفظها ونهينا عن كتمها «إِنَّا إِذاً» إن كتمناها أو شيئا منها أو أدينا هذه الشّهادة على غير ما هي، أو خنّا فيها ولم نؤدها كما سمعناها من الموصي «لَمِنَ الْآثِمِينَ» (109) عند الله المستوجبين عقوبة شهادة الزور «فَإِنْ عُثِرَ» اطلع وظهر بعد حلفهما هذا «عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً» أي عقوبة لظهور خيانتهما وبيان كذبهما (وكلّ من اطلع على أمر كتم عليه أو أخفى عنه قيل له عثر عليه «فَآخَرانِ» أي شاهدان من أولياء الميت وأقربائه «يَقُومانِ مَقامَهُما» مقام الوصيين الّذين اطلع على كذبهما في اليمين وخيانتهما فيما أوصاهما به الميت أو أشهدهما على ما أوصى به، وهؤلاء لا يكونان إلا «مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ» أي جنى عليهم من أهل الميت وعشيرته وأقربائه «الْأَوْلَيانِ» بالميت في غيرهما الأحقان بإرثه «فَيُقْسِمانِ» هذان المختصان بإرث الميت، ويجب أن يراعى فيهم الأقرب فالأقرب، لأن الله تعالى وصفهما بالأولوية «بِاللَّهِ» يحلفان به جل جلاله في الزمان والمكان والصّفة المذكورة آنفا وبتعظيم اليمين بشيء من صفات الله وكتبه
وبحضور جماعة بعد الصّلاة، وحضور رؤساء الدين
كما مر في الشّاهدين الأولين، لأن الله تعالى قال (يَقُومانِ مَقامَهُما) أي بكل ما هو مطلوب في الشّاهدين الأولين يطلب في هذين، ثم يزيدان في حلفهما ثلاثة شروط أخر في صيغة الحلف علاوة على الشّروط المارة، وهي ما ذكرها الله بقوله عز قوله «لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما» أي أعدل من شهادة الوصيين والشّاهدين الّذين حلفا أولا، وأيماننا نحن الوليين أصدق من أيمانهما، ويقولون أيضا «وَمَا اعْتَدَيْنا» في حلفنا هذا ولم نتجاوز الحق فيه ولم نتعد الصّدق به، ويختمون حلفهم بما قاله تعالى «إِنَّا إِذاً» إن كنا كذبنا بحلفنا أو زدنا في قولنا أو نقصنا أو غيرنا شيئا فيه «لَمِنَ الظَّالِمِينَ» (107) أنفسنا وغيرنا المستحقين عقاب الله للكاذب المعتدي المتجاوز الحق «ذلِكَ» الحكم الذي ذكرناه من رد اليمين على أولياء الميت عند الاشتباه بالوصيين بعد حلفهما «أَدْنى» أقرب وأولى «أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها» بأن يؤدوها كاملة كما سمعوها دون زيادة ولا نقص ولا تغيير ولا تبديل ولا خوف ولا خشية ولا غرض ولا عوض ولا تحوير ما كما هو الواجب على جميع الشّهود في جميع الخصومات أن يكونوا كذلك «أَوْ يَخافُوا» أي وأقرب وأولى لخوف الأوصياء والشهداء الأولين في «أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ» على أولياء الميت، كما في هذه الحادثة الآتي بيانها فيفتضحون بظهور خيانتهم ويسقطون من أنظار النّاس، كما افتضح هؤلاء في الدّنيا واستحقوا عذاب الله في الآخرة كما استحقاه «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أنتم أيها الأولياء والأوصياء والشّهداء، من أن تخونوا أو تكذبوا فيما عهد إليكم به أو كلفتم بيانه «وَاسْمَعُوا» ما يعظكم الله به، وأطيعوا أمره، ولا تخرجوا عن حدوده، «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (108) المتجاوزين أمره المخالفين نهيه الحائدين عن طريق الصّواب. واعلم أن رفع (اثْنانِ) على خبر كما جرينا عليه أولى من جعله فاعلا على قول الغير إذ يحتاج إلى تقدير جملة وهي (فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان) وأولى من قراءة النّصب في شهادة، وجعل جملة (إذا حضر) ظرفا للشهادة، وجملة (حين الوصية) بدلا منه، وفي إبداله دليل على وجوب الوصية وهو كذلك حرصا على براءة الذمة فيما له وعليه، راجع الآية 8
من سورة النّساء المارة. وخلاصة هذه الحادثة على ما روي بأن تميما الدّاري وعدي بن بدا النّصرانيين خرجا في تجارة إلى الشّام ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص فمرض فكتب جميع ما عنده في كتاب وجعله بين أمتعته وأوصى تميما وعديا أن يدفعا متاعه لأهله في المدينة، ومات رحمه الله ففتشا متاعه فوجدا فيه إناء فضة منقوشا بالذهب وزنه ثلاثمائة مثقال، وغيباه، فلما رجعا إلى المدينة دفعا متاعه لأهله، ففتشوه فوجدوا الكتاب، فقال أهل الميت لهما هل باع صاحبنا شيئا من متاعه؟ قالا لا، قالوا هل اتجر تجارة؟ قالا لا، قالوا هل طال مرضه فأنفق شيئا على نفسه؟ قالا لا، قالوا إنا وجدنا في متاعه كتابا فيه جميع ما كان معه، وقد فقدنا إناء فضة منقوشا بالذهب وزنه ثلاثمائة مثقال، قالا لا ندري به، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بهما فأصرّا على الإنكار، فحلفهما رسول الله عند المنبر بطلب الورثة فحلفا وخلى سبيلهما، لأن الكتاب بخط المتوفّى لا بخطهما، ولذلك فإن حكمه لا يسري عليهما ولا توجد بينة حاضرة غيرهما، قالوا ثم بقي ورثة الميت يتحرون على ذلك الإداء، فوجدوه بمكّة عند رجل اعترف أنه اشتراه منهما. فجيء بهما أمام رسول الله فسألهما، فقالا إنا اشتريناه من بديل قبل وفاته وبعناه إلى هذا بمكة، وإذ لم يتذرعا بهذا الوضع عند سؤالهما أولا وحلفهما على عدم وجوده عد كلامهما تناقضا مانعا من سماعه، فقد طلب حضرة الرّسول البينة من أهل الميت فتقدم عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة من أهله وورثته وحلفا بعد العصر على الصّورة المذكورة في الآية، وأن الإناء لمورثهما فدفع الإناء إليهم، وأفهم المشتري أن له حق الرّجوع باسترداد ثمنه من المذكورين، ولما أسلم بديل قال صدق الله إنا أخذنا الإناء وبعناه، فنزلت هذه الآية. الحكم الشّرعي عدم وجوب الحلف على الشّهود وعليه فيراد بهما الوصيان، وهما لا يحلفان إذ لا حلف عليهما إذا أرادا براءة ذمتهما فيحلفان ليطمئن الوارث بقولهما، فلهما ذلك، والاستشهاد مطلوب على الوصية، وهذه الحادثة لم يشهد عليها لعدم وجود أحد إذ ذاك غيرهما والموصي، ومن
زعم أن هذه الآية منسوخة على رأيه لأن شهادة الكافر لا تقبل على المسلم اقتباسا من قوله تعالى (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) الآية 283
من سورة البقرة فهو زعم فاسد، لأن آية البقرة مقدمة على هذه، والمقدم لا ينسخ المؤخر قولا واحدا، وقد أجمعت العلماء على أن المائدة من آخر القرآن نزولا ولا نسخ فيها البتة، وهذه الآية المصدرة بيا أيها الّذين آمنوا صرحت أولا بلفظ (منكم) بما يدل على أنه يريد المؤمنين، وفي حالة عدم وجود أحد من المؤمنين قال (من غيركم) وغير المؤمنين يدخل فيه الكتابي والكافر بما يدل على قبول شهادة غير المؤمن دلالة ظاهرة لا احتمال فيها ولا تأويل، ولهذا فإن الله تعالى أوجب الحلف على المذكورين لأن الشّاهد المسلم لا حلف عليه، وغيره يحلف للتوثق منه، وإذا جاز نصا استشهاد غير المسلم فلأن تجوز توصيته من باب أولى حرصا على محافظة الحقوق وصيانته أربابها، لأن من كان بأرض لا إسلام فيها يجوز أن يشهد أو يوصي من حضر عنده كتابيا كان أو كافرا، لأن الضّرورات تبيح المحظورات، وكما يختار المسلم على غيره عند وجوده يختار الكتابي على الكافر، قال القاضي شريح: تقبل الشّهادة في مثل هذه الحالة ولو كافرا من عبدة الأصنام.
أخرج أبو داود عن الشّعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري، فأخبراه وقدما تركته ووصيته، فقال أبو موسى هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا، وأنها لوصية الرّجل وتركته، فأمضى شهادتهما ولأنه لو لم يشهد في مثل هذه الحالة من حضر عنده من النّاس أيا كان يضيع المال ولربما كان له ديون أو عليه أو عنده وديعة أو أمانة فيسبّب عدم الإشهاد ضياع ذلك، ولهذا فلا مانع شرعا من ذلك، بل يطلب أن يشهد أو يوصي غير المسلم ولو كان وثنيا على وصيته عند الحاجة. مسألة: إذا ادعى الوصي أن الميت باعه شيئا من متاعه أو أوصى له به أو وهبه إياه ولا شهود لديه على ذلك، والورثة تنكر، فيحلف الوصي على ذلك، ثم ترد اليمين على الورثة الأدنياء من الميت، فإذا حلفوا على كذب الوصي الموصى له بذلك الشّيء أخذوا المال المدعى بيعه أو هبته أو الوصية به، وإذا فكلوا ترك الموصي، وهذا تصوير ما جاء
في هذه الآية لأن تميما وعديا بعد أن وجد الإناء ادعيا أنهما اشترياه من الميت ولا بينة لهما، فلذلك حلف الورثة على أنه ملك مورثهما وأنهما لم يعلموا بأنه خرج من ملك مورثهم بوجه من الوجوه الشّرعية. واعلم أن هذه الآية وأوائل سورة البينة والآية 73 من آل عمران المارتين من أصعب ما في القرآن العظيم نظما وأعرابا وحكما فكانت من أصعبها تفسيرا أيضا. قال تعالى واذكر لقومك يا سيد الرّسل «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ» يوم القيامة للسؤال «فَيَقُولُ» جل قوله لهم «ماذا أُجِبْتُمْ» من قبل أممكم حينما دعوتموهم في الدّنيا الى توحيدي وطاعتي وهذا الاستفسار بقصد التوبيخ لأقوامهم الّذين لم يلبوا دعوتهم، وإلّا فهو عالم بمن أجاب ومن اعرض «قالُوا لا عِلْمَ لَنا» يا ربنا «إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» (109) تعلم بما كان منهم وإنما اختاروا السّكوت عن البيان مع أنهم يعلمون بعض أحوال أممهم أدبا مع الله عز وجل، ولعلمهم بإحاطة علمه بكل شيء قد فوضوا الأمر اليه لأنه لا يعرّب عن علمه شيء مما عمله أقوامهم ولا شيء مما عملوه هم أيضا لأجلهم، وانهم وان كانوا اطلعوا على بعض ظواهر أممهم فانهم لا يعلمون بواطنهم وهو جل شأنه حليم لا يسفه وعادل لا يظلم، وانّ إجابتهم لا تدفع في ذلك اليوم عن أممهم شرا ولا تجلب لهم خيرا ما لم تتعلق به المشيئة فكأنهم قالوا لا حقيقة لعلمنا إزاء علمك البالغ ولا نعلم حقيقة أفعالهم وأقوالهم تجاه علمك بذلك حال حياتنا معهم ولا ما أحدثوه بعد وفاتنا فعلم ذلك كله مختص بعلمك. واذكر يا أكمل الرّسل لأمتك «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ» إذ أنبتها نباتا حسنا وطهرتها واصطفيتها على نساء زمانها وهذا أول نعمة أنعمتها عليك إذ أخرجتك منها و «إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ» جبريل عليه السلام حالة كونك «تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ» وأنت طفل أنطقتك ببراءة أمك مما وصمها به قومك «وَكَهْلًا» تكلمهم أيضا بما أعطيتك من المعجزات وأنزلت عليك الآيات، وشرفتك بالرسالة لتدعو قومك حال بلوغك سن الكهولة إلى الإيمان بك من غير تفاوت في كلامك من حيث الفصاحة في هذين الوقتين، وهذا من جملة ما خصصتك به «وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ» الإنجيل الذي أنزلته عليك بعد أن
علمتك الكتابة والقراءة تتلو عليهم، وقيل إنه علمه كتب الأولين النّازلة على الأنبياء قبله لأن فيها التوراة، مع أن التوراة ستأتي بعد، ولهذا فالأحسن الإيراد بالكتاب هنا الكتابة بالقلم «وَالْحِكْمَةَ» الفهم والاطلاع على أسرار العلوم والعالم والكلام الصّائب المحكم وحقائق الأشياء «وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» قراءة وتلقينا ولفظ الكتاب يطلق على التوراة والإنجيل والزبور والقرآن فقط حقيقة، ومجازا على جميع الكتب والصّحف، ومن المعلوم أن ما قبل التوراة كلها صحف لا كتاب قبلها البتة، لهذا فإن تأويل الكتاب بكتابة القلم أولى «وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ» خلقا تصوره بيدك «كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي» لك في ذلك وتعليمي إيّاك تقوية لدعوتك «فَتَنْفُخُ فِيها» في
الصّورة التي صورتها من الطّين على هيئة الطّير ويجوز إعادة الضّمير إلى الطّير لأنها مؤنثة. قال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) الآية 19 من آل عمران المارة تذكير الضّمير، وهناك يعود إلى الكاف من قوله لكم أو إلى الطّين والمراد الشيء المماثل لهيئة الطّير «فَتَكُونُ» تلك الصورة المنفوخ فيها «طَيْراً بِإِذْنِي» بأمري وكرره تأكيدا لكونه وقع وصار كما أراد بتوفيق الله تعالى وقدرته لا بتخليق عيسى ومعرفته، لأن المخلوق لا يخلق وأن التصوير بغير الرّوح لا يسمى خلقا «وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ» مطموس العينين ولادة، فكأن عليه السلام تعلم ذلك بتعليم الله إياه وأمره أن يشق له موضع عينيه فتكون له عينان يبصر بهما كغيره من الحيوان بلا فرق «وَالْأَبْرَصَ» تبرأ أيضا بمجرد مسحك إياه «بِإِذْنِي» وأمري «وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى» من قبورهم أحياء، كما صح أنه عليه السلام نادى ساما بن نوح عليه السلام من قبره فقام، راجع الآية 50 من آل عمران المارة، مع أنه مرّ على وفاته آلاف السّنين وأحيا العازر، وابن العجوز، وبنت العشار، وغيرهم ممن مات حديثا ودفن، ولا فرق في ذلك، لأن الله تعالى يقول كان ذلك «بِإِذْنِي» وإذا كان بإذنه وأمره فيستوى عنده القديم والحديث، والبالي والباقي، فهو الفاعل الحقيقي لهذه الأشياء، وإنما أجراها على يد رسوله عيسى عليه السلام معجزة له وعدها من جملة نعمه عليه في الدّنيا «وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ» حين أرادوا
قتلك إذا دلهم عليك صاحبك المنافق وجاء بهم عليك ليقتلوك فمنعتهم أن يصلوا إليك ورفعتك إلى السّماء وألقيت شبهك على ذلك المنافق فقتلوه بذلك جزاء وفاقا لجرمه، هذا في الدّنيا وصلبوه إهانة له، وسيكون جزاؤه في الآخرة أشدّ وأفظع، ثم رفعتك إلى السّماء وأقمتك فيها لانتهاء مدتك الأولى في الأرض، راجع الآية 54 من سورة آل عمران المارة، وما كانت عداوة بني إسرائيل معك «إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ» العجيبة والآيات الباهرة الغريبة المثبتة لصدقك فكفروا بها حسدا وعدوانا وتمسكا بتقاليدهم لبقاء الرّياسة لهم «فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ» بتلك الآيات «إِنْ هذا» الذي جئت به ليس بحقيقة وما هو «إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» (110) وذلك أن الله تعالى طبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم فلم يميزوا بين الحقيقة والخيال عنادا وعتوا، تنبه هذه الآية تدل على قبح من يقول بإلهية عيسى، لأنه من جملة عباد الله، وأن ما فعله من المعجزات كان بفعل الله وإقداره عليها، وتدل على أنه كان عبد الله ورسولا له، ليس إله، ولا ابنا للإله، وأن أمه كسائر النساء، وإنما اختصها بما يكرمها ويفضلها على غيرها. وتشير إلى أن ما نسب إلى عيسى جرم عظيم لا يوازيه جرم من كذّب الرّسل فقط، لأن تكذيبهم طعن فيهم، وهذا طعن في الله تعالى لو صمه باتخاذ الولد والزوجة والشّريك تبرأ عن ذلك وتنزه.
واذكر لقومك يا حبيبي قصة أخرى مما يتعلق بعيسى أيضا وهي «وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ» أصحاب عيسى فالهمتهم وقذفت في قلوبهم «أَنْ آمِنُوا بِي» أنا الله ربكم ومالك أمركم «وَبِرَسُولِي» عيسى كما آمن الّذين من قبلكم بأنبيائي «قالُوا آمَنَّا» استجابة لما ألقيته في روعهم، ثم قالوا معلنين تمكين إيمانهم يا ربنا «وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ» (111) لك منقادون إلى عظمتك والحواري الصّفي والخاصّة والوزير والأمين والخليفة، روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: ندب النّبي صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال صلى الله عليه وسلم إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير بن العوام رضي الله عنه أي صفيه وخاصته، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه يقتل، فقال بشر قاتل الزبير بالنار، وقتل رضي الله عنه في حادثة الجمل قبل البصرة ودفن هناك، وقبره يزار بالتعظيم والإجلال حتى الآن، وقد
تشرفت بزيارته رضي الله عنه، وسميت البلدة التي دفن بها باسمه، وهذا أيضا من معجزات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإخباره بالغيب الذي أطلعه الله عليه. واذكر لقومك يا سيد الرّسل «إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ» خوانا عليه طعام إذ لا يسمى الخوان مائدة إلّا وعليه الطّعام، وإلّا فهو خوان أو سفرة أو طبق أو طاولة «قالَ» عيسى عليه السلام «اتَّقُوا اللَّهَ» يا قوم في سؤالكم هذا، لأنه اقتراح على الله، وقد علمتم ما فعل الله بالمقترحين عليه، لأن طلبكم هذا بعد ظهور المعجزات المذكورة، وبعد وجودي أنا من غير أب، وهو أكبر معجزة عبارة عن تعنّت يستوجب غضب الرّب عليكم، فانتهوا عن هذا يا أصحابي وتدبروا العاقبة وخذوا عبرة من الّذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات كيف فعل الله بهم، فأعرضوا عن هذا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (112) بالله وإياكم أن تركنوا إليه، واعلموا أنكم إذا أصررتم على هذا تكونون ممن يشك بقدرة الله القادر على إجابة طلبكم. وإنما خوفهم وحذرهم لأن هذا لم يسأله أحد من الأمم قبلهم، وانه مما تخشى عاقبته، لأن قوم صالح اقترحوا على نبيهم شيئا لم يقترحه أحد قبلهم، فكانت عاقبتهم الدمار، قال بعض المفسرين إن طلبهم هذا جاء على حد قوله تعالى فيما حكاه عن إبراهيم عليه السلام (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) الآية 263 من البقرة المارة، لأنهم كانوا عارفين بالله مقرين بكمال قدرته على أنه لا مانع من إجراء الآية على ظاهرها كما يؤيده قوله تعالى «قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها» حيث لحقنا الجوع والحال ليس بهم من جوع ولكن يريدون معرفة حق اليقين بعد أن علموا من نبيهم علم اليقين، ومما يدل على عدم وجود الجوع أمرهم بالصيام كما سيأتي «وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا» بقدرة الله فنزداد يقينا «وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا» عيانا ومشاهدة كما علمناه غيبا واستدلالا «وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ» (113) لمن وراءنا من بني إسرائيل ولله بكمال القدرة ولك بالقرب من ربك أكثر ممن تقدمك من الرّسل ولأنفسنا بالتصديق البالغ، فلما رأى إصرارهم وإجماع كلمتهم على ذلك أمرهم عليه السلام بصيام ثلاثين يوما وقال لهم إذا أفطرتم بعدها فلا تسألوا الله شيئا إلّا أعطاكم إياه، ففعلوا.