المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تفسير سورة التغابن عدد 22- 108- 64 - بيان المعاني - جـ ٦

[ملا حويش]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء السادس]

- ‌تفسير سورة الزلزلة عدد 7- 93- 98

- ‌تفسير سورة الحديد عدد 8- 94- 57

- ‌تفسير سورة محمد عليه السلام عدد 9- 95 و 47 وتسمى سورة القتال

- ‌مطلب الآية المكية وصفة الجنّة وعلامات السّاعة وحال أهل الجنّة وأهل النّار:

- ‌مطلب عصمة النّساء وصلة الرّحم وتدبر القرآن ومثالب المنافقين والكافرين والبخل وما نفرع عنه:

- ‌تفسير سورة الرّعد عدد 10- 96 و 13

- ‌مطلب في قوله تعالى بغير عمد. وفي قارات الأرض الخمس ومعجزات القرآن والمعقبات:

- ‌مطلب ينتفع الميت بعمل غيره وبصلة الوفاء والصّدقات ويجوز قضاء حجه وصومه من قبل أوليائه وفي ذكر الله تعالى وصلة الرّحم:

- ‌مطلب في أحوال أهل الكتاب، والمحو والإثبات ونقص الأرض وحكم الله تعالى:

- ‌تفسير سورة الرّحمن عدد 11- 97 و 55

- ‌مطلب أن الآيات نقم على أناس، نعم على آخرين ومزية الخوف من الله تعالى:

- ‌تفسير سورة الإنسان عدد 12- 98 و 76

- ‌مطلب في الحين والنّذر والكرم وأنواعه وثوابه وأول من سنه:

- ‌تفسير سورة الطّلاق عدد 13- 99- 65

- ‌مطلب الحكم الشّرعي في الإشهاد على أن الطّلاق والرّجعة بعد بيان أحوال المطلقات والآية الوحيدة الدّالة على أن الأرضين سبع كالسماوات:

- ‌تفسير سورة البينة عدد 14- 100 و 98

- ‌مطلب المراد بالإخلاص وأهل الكتابين والمشركين وغزوة بن النّضير وسبب إسكان اليهود في الحجاز:

- ‌تفسير سورة الحشر عدد 15- 101- 59

- ‌مطلب أمر الرّسول أمر الله وبيان قسمة الفيء والغنيمة وذم البخل والشّح وعمل أبي طلحة رضي الله عنه وحب الأصحاب حب الرّسول:

- ‌مطلب قصة برصيصا الرّاهب وكفره وجريج الرّاهب وبراءته، وتسبب العلماء لإهانة أنفسهم:

- ‌تفسير سورة النّور عدد 16 و 102 و 24

- ‌مطلب في كفر من يقذف السّيدة عائشة بعد بيان هذه الأحكام العشرة المبينة بالآيات في أول السّورة إلى هنا وقصة الإفك:

- ‌مطلب آداب الدّخول على الدّور وطوق الباب والدّخول بلا أذى والوقوف أمام باب الدّار وحومة النّظر إلى من فيها:

- ‌مطلب فيمن يجوز نظره ومن لا وستر الوجه وغيره وما هي الزينة التي لا يجوز النّظر إليها والنّكاح:

- ‌مطلب ارجاء زواج الفقير لفناه. وجواز الكاتبة ندبا. وفي معنى (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) . ومعنى قوله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) :

- ‌مطلب في الزيتون ونوره تقالى ومعنى ضرب المثل وما ينقل عن كعب الأحبار:

- ‌مطلب تأليف المطو والبرد وكيفية حصول البرق والرّعد وكون مخلوقات الله كلها من مادة الماء:

- ‌مطلب في معجزات الرّسول، الإخبار بما يأتي، وعوائد الجاهلية الباقي أثرها وجواز الأكل عند الأقارب والأصدقاء، ووجوب ملازمة الرّسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌تفسير سورة الحج عدد 17- 103- 52

- ‌مطلب إظهار قواعد البيت، وعمارته، والحج إليه، وفوائد الحج، والدّبائح وما يتعلق فيها المادية والمعنوية:

- ‌مطلب في قصة قوم صالح عليه السلام وأسباب إهلاك بعض الأمم وتسمية بعض البلاد بما وقع فيها والآيات المكيات:

- ‌مطلب تعجيب الله رسوله وخلقه في بعض أفعاله وضرب الأمثال وكون شريعة محمد ناسخة لكل الشّرائع وعجز الأوثان وسجود التلاوة

- ‌تفسير سورة المجادلة عدد 19 و 105- 58

- ‌مطلب آداب المجالسة وفضل العلم والعلماء وما يتعلق بذلك:

- ‌تفسير سورة الحجرات عدد 20- 106 و 29

- ‌مطلب في الصّلح ومراعاة العدل بين الطّرفين من قبل المصلحين والسّخرية والظّن والتجسس والغيبة والشّعوب وتفرعاتها:

- ‌تفسير سورة التحريم عدد 21- 107 و 66

- ‌مطلب استئناس عمر رضي الله عنه مع حضرة الرّسول وما قاله ابو رواحة إلى زوجته حتى تخلص مما اتهمته به:

- ‌مطلب في المثل الذي ضربه الله تعالى لنساء الأنبياء وقصة آسية زوجة فرعون ومريم ابنة عمران:

- ‌تفسير سورة التغابن عدد 22- 108- 64

- ‌تفسير سورة الجمعة عدد 42 و 110 و 62

- ‌مطلب أول جمعة أقيمت في الإسلام وفضلها والعمل بها وسبب تسميتها:

- ‌تفسير سورة الفتح عدد 25- 111 و 63

- ‌مطلب قصة الفتح وأعني بالفتح فتح مكة لا غير وبيان الّذين هدر دمهم رسول الله وما وقع فيه وسببه:

- ‌مطلب فيما امتاز به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ودينه ووصف أصحابه والتوقي من ذكرهم بسوء:

- ‌تفسير سورة المائدة عدد 26 و 112 و 5

- ‌مطلب في النّسخ والحرمات وأسباب تحريمها والأنصاب والأزلام وغيرها والآية المستثناة:

- ‌مطلب في أحكام الصّيد وما يؤكل منه وما لا، وما هو المعلم من غيره والصّيد بالبندقية والعصا وغيرهما

- ‌مطلب في أحكام التيمم وكيفيته وجواز الوضوء الواحد لخمس صلوات وإن كلمة إنا لا تفيد العموم وفروض الوضوء وكيفيته:

- ‌مطلب تذكير رسول الله ببعض النّعم التي أنعم الله بها عليه بخلاصه من الحوادث والتآمر، وقصة موسى عليه السلام مع الجبارين:

- ‌مطلب في مدة الفترة وما بين عيسى ومحمد من الزمن وعوج بن عنق وتيه بني إسرائيل والحكمة منه:

- ‌مطلب موت هارون وموسى عليهما السلام وقصة ولدي آدم عليه السلام:

- ‌مطلب في حد المفسدين في الأرض ومن تقبل توبتهم ومن لا تقبل وحكاية داود باشا حاكم العراق:

- ‌مطلب في الرّابطة عند السّادة النّقشبندية وفي حد السّارق ومعجزات الرّسول والقصص وما يتعلق به:

- ‌مطلب في الّذين ارتدوا عن الإسلام في زمن الرّسول وبعد واخبار الرّسول بذلك عن طريق الاعجاز ومن دخل في الإسلام:

- ‌مطلب في مثالب اليهود والتفرقة في الدّين وما ينشا عنها وأن تبليغ الرّسول مقصور على القرآن وأمره بترك حراسته:

- ‌مطلب أشد النّاس عداوة وأقربهم مودة للمسلمين وان التشديد في الدّين غير مشروع ولا ممدوح وكفارة اليمين:

- ‌مطلب تحريم الخمر بتاتا وأسباب هذا التحريم وذم الخمر والميسر وشبههما والحكم الشّرعي فيه وضرره في الوجود:

- ‌مطلب في الخبيث والطّيب والنّهي عن سؤال الله بما لم يكلف به عباده وما حرمته الجاهلية قبل الإسلام:

- ‌مطلب لا يستفاد من هذه الآية ترك الأمر بالمعروف وكيفية استماع الشّهود على وصية الميت وسبب نزول هذه الآية:

- ‌مطلب في نزول المائدة وما قاله عيسى عليه السلام لطالبيها وما أجاب به ربه عند سؤاله عما عزى إليه قومه:

- ‌تفسير سورة التوبة- براءة عدد 27- 113 و 8

- ‌مطلب إنذار الله إلى النّاس بانتهاء معاهدات الحرب وعدم صحة عزل أبي بكر من إمارة الحج وتهديد الكفار إذا لم يؤمنوا بعد هذا الانذار:

- ‌مطلب تفضيل الإيمان على كلّ عمل مبرور كعمارة المساجد والإطعام وفك الأسرى وغيرها:

- ‌مطلب في الرّخص والعزائم وواقعة حنين

- ‌مطلب أسباب ضرب الجزية على أهل الكتاب وما هي، ومعاملتهم بالحسنى وبيان مثالبهم التي يفعلونها ويأمرون بها:

- ‌مطلب في ذم مانعي الزكاة وعقابهم، ومعنى الكنز، وسبب نفي أبي ذر، والأشهر الحرم، واختلاف السّنين، وعدد أيامها:

- ‌مطلب فى المجاهدين وما ذكره الله من هجرة رسوله والحث على الجهاد وغزوة تبوك وما وقع فيها:

- ‌مطلب مثالب المنافقين ومصارف الصّدقات وسبب وجوبها وتحريم السّؤال:

- ‌مطلب في الأصناف الثمانية ومن يجوز إعطاؤه من الزكاة ومن لا يحوز وبعض مثالب المنافقين أيضا:

- ‌مطلب ظهور المنافقين وفضحهم وعدم قبول أعذارهم

- ‌مطلب في فضايح المنافقين وإسلام بعضهم وما قيل في الأيام وتقلباتها والصّحبة وفقدها

- ‌مطلب قصة ثعلبة وما نتج عنها وحكم وأمثال في البخل والطّمع والجبن وغيرها:

- ‌مطلب موت ابن أبي سلول وكون العلة لا تدور مع المعلول، وأسباب التكرار في الآيات وعدم زيادة (ما) ولا غيرها في القرآن:

- ‌مطلب في المستثنين من الجهاد، والفرق بين العرب والأعراب وأول من آمن وخبرهم، وتقسيم المنافقين، وعذاب القبر:

- ‌مطلب سبب اتخاذ مسجد الضّرار ومسجد قباء وفضله، والترغيب في الجهاد وتعهد الله للمجاهدين بالجنة، وعدم جواز الاستغفار للكافرين:

- ‌مطلب في إيمان أبي طالب وسبب استغفار ابراهيم لأبيه وكذب ما نقل عن ابن المقفع وقصة المخلفين الثلاثة وتوبتهم:

- ‌مطلب في مدح الصّدق وفوائده وذم الكذب ونتائجه وما يتعلق بذلك والرّابطة عند السّادة الصّوفية:

- ‌مطلب في فضل الجهاد والنّفقة فيه وفضل طلب العلم واستثناء أهله من الجهاد، والحكمة في قتال الأقرب بالأقرب وكون الايمان يزيد وينقص وبحث في ما:

- ‌(تفسير سورة النّصر عدد 28- 114 و 110)

- ‌(الخاتمة نسأل الله حسنها لديه)

الفصل: ‌تفسير سورة التغابن عدد 22- 108- 64

‌تفسير سورة التغابن عدد 22- 108- 64

نزلت بالمدينة بعد سورة التحريم. وهي ثماني عشرة آية، ومئتان وأربعون كلمة، والف وسبعون حرفا. ومبدأها كمبدأ الآية الأولى من سورة الجمعة فقط، وختمت بما ختمت به سورة الحشر والجاثية، ولا يوجد مثلها في عدد الآي.

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى: «يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ» الدنيوي والملكوت الأخروي يتصرف فيهما كيف يشاء ويحكم بمن فيهما كما يريد «وَلَهُ الْحَمْدُ» من كافة خلقه على نعمائه راجع بحث الحمد في المقدمة وبحث التسبيح أول سورة الحديد المارة «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (1) لا يعجزه شيء ولا يفلت منه أحد ولا يفوته فائت لا مانع ولا مدافع له ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ» أيها الناس من نفس واحدة «فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» في هذه الدّنيا كما أنتم في الأزل عند الله وسيعيدكم في الآخرة كذلك «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (2) قبل أن تعملوه لا يعزب عنه شيء من أعمالكم الموافقة لما هو في علمه ومدونة في لوحه. روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم. راجع ما يتعلق في هذا البحث في الآية 58 من سورة هود في ج 2 وما ترشدك إليه من المواضع. قال تعالى «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» لا عبثا ولا لهوا ولا لعبا وباطلا «وَصَوَّرَكُمْ» أيها النّاس في أرحام أمهاتكم، وجعل فيكم روحا منه لارادة غيركم، وجمّلكم «فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» في هذه الدّنيا لأنها على صورته، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله خلق آدم على صورته. وفي رواية على صورة الرّحمن. وهذه نافية لقول من قال إن الضّمير في صورته يعود على آدم لا على الله جل جلاله، وهو بعيد جدا عن المعنى، وقد أراد هذا القائل التحاشي عن وصفه تعالى بسمات خلقه، مع أنه لا مانع من القول أن الله تعالى له وجه ويد لا كأوجه خلقه

ص: 242

وأيديهم، وهو ما مشى عليه الماتريدية أجمع، أما الأشعرية فلا يقولون بهذا، ويقولون ما جاء في القرآن من هذه السّمات بالقدرة والكمال والرّحمة وشبهها «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» (3) في الآخرة لا إلى غيره راجع الآية 7 من آل عمران المارة في بحث الأرحام وما يتعلق بها «يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» من حركة أو سكون «وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ» أيها النّاس في صدوركم وتحدثون به أنفسكم ويلوح في خاطركم «وَما تُعْلِنُونَ» من أقوالكم وأفعالكم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (4) في مكامنها ودخائلها وما تحوكه من نية أو خطرة أو هاجس قال تعالى «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» من الأمم السالفة كيف فعلنا بهم لما كذبوا رسلنا وأصروا على جحودنا أهلكناهم «فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ» جزاء ما وقع منهم في الدّنيا، فدمرناهم تدميرا فظيعا «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (5) في الآخرة لا تطيقه القوى البشرية، ولا الجبال الرّاسيات، فاتعظوا أيها النّاس بما جرى بهم، واعتبروا بسوء عاقبتهم، وارجعوا لربكم كيلا يصيبكم ما أصابهم «ذلِكَ» الذي حل بهم من العذاب الدّنيوي، والذي سيجازون عليه في الآخرة «بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا» ساخرين بهم ومستهزئين «أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا» استفهام انكاري أي كيف يهدي البشر مثله؟ وهذا من سخافة عقولهم لأنهم ينكرون هداية البشر لمثله ولم ينكروا على أنفسهم إضلال البشر لمثله وعبادة الأوثان وطلب الخير في الدّنيا والشّفاعة في الآخرة منها «فَكَفَرُوا» بالله ورسله بما جاءوهم من عند الله ولم يأخذوا بما جاءوهم لهدايتهم «وَتَوَلَّوْا» عن الانقياد لطاعتهم والإيمان بربهم، وأصروا على الكفر والطغيان «وَاسْتَغْنَى اللَّهُ» عنهم وعن إيمانهم «وَاللَّهُ غَنِيٌّ» عن جميع خلقه برهم وفاجرهم «حَمِيدٌ 6» لمن آمن به وصدق رسله ثم ذكر نوعا آخر من سفههم الذي كانوا عليه، فقال «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا» بعد موتهم في الدّنيا فأنكروه ولم يصدقوا الرّسل بإخبارهم بالبعث يوم القيامة تبعا لعقيدتهم الجاهلية، إذ كان آباؤهم ينكرون ذلك ويجحدون الحساب والعقاب والثواب «قُلْ» لهؤلاء الحمقى يا سيد الرّسل «بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ» من قبوركم

ص: 243

يوم القيامة يوم يقوم النّاس لرب العالمين مخلوقين خلقا ثانيا من أجزائهم لمتفتتة، ويعودون كما كانوا عليه في الدّنيا «ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ» في ذلك اليوم «بِما عَمِلْتُمْ» في دنياكم وتعلمون جهلكم بالخلق الأوّل أدى لجهلكم بالخلق الثاني «وَذلِكَ» البعث بعد الموت والإنباء بما كان منكم وعليكم في الدّنيا «عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» 7 سهل

هين لا كلفة فيه، وكما أن خلقكم أول مرة بمجرد قول كن فكذلك تكون إعادتكم، وهي كلمة جزئية لا صعوبة فيها لو أنها تصدر من الخلق فكيف إذا صدرت من الخالق بلا صوت ولا حرف «فَآمِنُوا بِاللَّهِ» الذي خلقكم أيها النّاس ثم أماتكم بأنه يحييكم ثانيا «وَرَسُولِهِ» الذي أرسله لهدايتكم آمنوا أيضا «وَالنُّورِ» أي الكتاب «الَّذِي أَنْزَلْنا» عليه كما أنزلنا على من قبله من الأنبياء آمنوا أيضا، إذ لا يكفي الإيمان بالله دون الإيمان برسوله وكتابه، كما لا يكفي الإيمان بالكتاب والرّسول دون الإيمان بمنزل الكتب ومرسل الرّسل «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (8) لا يغرب عنه مثقال ذرة في السّموات ولا في الأرض، واحذروا أيها النّاس «يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ» هو يوم القيامة إذ يجمع فيه الأولون والآخرون من أهل السّماء والأرض.

مطلب يوم التغابن في الآخرة وفتنة الأموال والأولاد في الدّنيا والأمر بالتقوى حسب الاستطاعة وذم البخل وفضل الصّدقة:

ذلك اليوم المسمى يوم الجمع هو «يَوْمُ التَّغابُنِ» الذي يظهر بالأعمال والأقوال الذي ما بعده تغابن، بخلاف تغابن الدّنيا الذي يكون بالتجارة وشبهها فإنه فان لا قيمة له، لأن هذا يضع الله تعالى به سعداء الدّنيا فقط منازل الأشقياء في الآخرة والأشقياء بالدنيا بسبب الفقر والفاقة والصّبر على الأذى فيها من أجل إيمانهم بالله ورسله الّذين ماتوا على ذلك مكان السّعداء في الآخرة، وإذ ذاك يظهر غبن الكافر بتركه الإيمان الموصل للسعادة الأخروية، فيتأسف ويندم ولات حين مندم، ويرد العود إلى الدّنيا ليعمل الخير وهيهات، وكذلك يظهر غبن المؤمن المقصر في الأعمال الصّالحة لأنه يرى من كان دونه في الدّنيا أعلى منه رتبة في الآخرة وأحسن مكانا ومكانة عند الله وأعلى درجة في الجنّة، فيندم أيضا على تقصيره

ص: 244

ويعضّ يديه على تفريطه، قال عليه الصلاة والسلام ما من أحد إلّا ندم يوم القيامة إن كان محسنا ندم أن لا ازداد، وإن كان كافرا ندم، أن لا أقلع عن كفره.

«وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً» في دنياه مع إيمانه فإنه تعالى «يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ» في الآخرة «وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» لا يتحولون عنها «ذلِكَ» التكفير والإدخال هو «الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (9) الذي لا أعظم منه لما فيه من بلوغ الغاية التي كان يتوخاها في حياته ومنتهى الأمل الذي كان يؤمله بعد وفاته «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا» الدالة على ذلك اليوم الذي يتغابن به النّاس «أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها» أبدا لا يخرجون منها، وقد حذف من الجملة الثانية اكتفاء بوجودها في الأولى، وقدم مثله في الآية 35 من سورة الرّعد فراجعها «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (10) النار لأهلها، وهذه الجملة بمقابلة الجملة الأخيرة في الآية قبلها وهي (الفوز العظيم) وهذا تغابن لا أعظم منه، لأن أناسا ينعمون في الجنّة وآخرين يعذبون في النّار، ويرى بعضهم بعضا ويتعارفون فيها كما كانوا في الدّنيا، فهل يوجد أعظم من هذا التغابن كلا.

واعلموا أيها النّاس إنه «ما أَصابَ» أحد «مِنْ مُصِيبَةٍ» سقم أو ضر أو فقر أو عناء أو عصيان أو كفر أو كلّ شر «إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» وقضائه وقدره وإرادته، وكذلك الصّحة والعافية والغنى والطّاعة والإيمان والهناءة وكلّ خير هو بقدره وقضائه وإرادته ورضاه، وكل ذلك مدون في لوحه قبل خلق الخلق، راجع الآية 22 من سورة الحديد المارة «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ» ويعتقد أن المصائب بقضائه وقدره، وأن من يصبر على ما أصابه ويسلم أمره إليه ويعلم أن لا محيد له عما كتبه عليه «يَهْدِ قَلْبَهُ» فيوفقه للإيقان المحض بما يقذف فيه من النّور والمعرفة، ويجعله راضيا بكل ما يصيبه فيكون من الّذين رضى الله عنهم ورضوا عنه المعلومين عنده في أزله «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (11) من كلّ ما يصيب عباده قبل أن يصيبهم، لأنه مقدره عليهم في غيبه ويعلم الصّابر والجازع والرّاضي والغضبان، راجع الآية 10 من سورة الليل، والآية 121 من سورة طه في ج 1، والآية 78 من سورة النّساء المارة

ص: 245

فيما يتعلق في هذا البحث، وفيهما ما يرشدك لمراجعة غيرهما من المواضع. قال تعالى «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ» كرر الفعل تأكيدا وإعلاما بأن طاعة أحدهما لا تغني عن طاعة الآخر وعدم قبول إحداهما بغير الأخرى «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ» أيها النّاس عن هذه الطّاعة، فالوبال على أنفسكم في الدّنيا والآخرة «فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» (12) فقط وقد بلغ ونصح وأرشد وأنذر وأعذر وقام بكل ما كلف به، وليس عليه أن يقسركم على الأخذ بقوله والاقتداء بفعله، بل بل يترككم وشأنكم، فاعملوا أيها النّاس الخير وتيقنوا أن ربكم «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» لا رب غيره ولا معبود سواه، هو المحيي المميت الضّار النّافع، فآمنوا به وأطيعوه «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (13) في جميع أمورهم وهو يهديهم إلى سواء السّبيل الموصل إلى جنته، ومن يتوكل على الله فهو حسبه «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ» لفظ من هنا للتبعيض، لأن منهم أولياء لهم أودّاء بارّين بهم مقسطين لهم يأمنونهم كأنفسهم وإن منهم «عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ» من أن يوقعوا فيكم أذى، وأنتم غافلون عنهم محسنون الظّن بهم، وذلك بسبب ما بأيديكم من حطام الدّنيا وهذه الآية عامة مستمرة شاملة ما قبلها وبعدها إلى يوم القيامة. وسبب نزولها أن رجالا منعهم أزواجهم وأولادهم من الغزو في سبيل الله خوفا من أن يقتلوا ويتركوهم وان رجالا أسلموا ومنعهم أزواجهم وأولادهم من الالتحاق برسول الله، فحذرهم الله من طاعتهم، ولما جاءوا أخبروا عند نزول هذه الآية بأن إخوانهم الّذين هاجروا قبلهم تفقهوا في الدّين، فهموا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم، فأنزل الله هذه الآية وأردفها بقوله «وَإِنْ تَعْفُوا» عنهم «وَتَصْفَحُوا» عما وقع منهم «وَتَغْفِرُوا» زلتهم هذه «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لكم ولهم ولكل من ينيب إليه ويستغفره «رَحِيمٌ» (14) بعباده يحب العفو عنهم. تحذر هذه الآية من الرّكون إلى الأزواج والأولاد، فعلى العاقل يكون شديد الحذر من غير الصّالحين من ان هذين الصّنفين، فإن كثيرا من الزوجات والأولاد قتلوا أزواجهم وآبائهم بقصد التزوج بغيره والاستيلاء على ماله ولا سيما في هذا الزمن ولا حول ولا قوة إلا

ص: 246

باللهِ نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»

عظيمة وبلاء جسيم، يختبركم الله بهم، فهم سبب وقوعكم في تناول الحرام والاعتداء على الغير، فإياكم والافتتان بالمال والولد من أن يسوقاكم إلى ما يغضب الله وينسيكم أنفسكم فتهلكوا. وإياكم إياكم أن تستغنوا بالمال، فإن الله يفقركم، أو تعتمدوا على أولادكم إلّا بما يرضي الله، فإذا فعلتم ما أمرتم به بشأن المال والولد وانتهيتم مما نهيتم عنه فيهما وفي الأزواج سلمتم من فتنتهم وأمنتم من شرهم ونفعوكم في الدّنيا والآخرةَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ»

(15)

لمن يفوض أمره إليه ولا يعتمد إلّا عليه ولا يغتر بمال أو ولد أو جاه أو قوة، راجع الآية 29 من سورة الأنفال المارة المصدرة به بلفظ اعلموا تنبيها إلى أن ما فيها لازم الأخذ واجب التقيد فيه «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» غاية جهدكم ونهاية وسعكم، وهذه الآية كالتفسير لقوله تعالى (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ) الآية 103 من آل عمران المارة لا ناسخة لها كما قاله بعض المفسرين، لأن

حق التقوى تفريغ ما في الوسع من طاقة العبد لا أكثر ولا أقل كما بيناه في الآية الملح إليها «وَاسْمَعُوا» ما يتلى عليكم من كتاب الله وسنة رسوله سماع قبول واعملوا بهما طاقتكم «وَأَطِيعُوا» الله ورسوله فيما يأمرانكم به وينهاكم عنه، برغبة وطيب نفس «وَأَنْفِقُوا» مما رزقكم الله على عياله وأرحامكم لأن المال الذي أعطاكم إياه من فضله وجوده فنحكموه لتجودوا به على أنفسكم وغيركم ممن أوجب عليكم رزقهم منه وعلى الفقراء والمساكين فإذا فعلتم هذا كان «خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ» عند ربكم وأعظم أجرا، ولا تميلوا إلى الشّح فيما منّ به عليكم فيكون عاقبته شرا لأنفسكم «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (26) الفائزون عند الله في الآخرة المنتفعون بما خولهم به من النعم الواجدون ثوابها وجزائها في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون. واعلموا أيها الناس انكم «إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» بأن تتصدقوا من حلالكم طلبا لمرضاة الله وابتغاء وجهه وتقربا إليه على فقرائه «يُضاعِفْهُ لَكُمْ» من عشرة إلى ما شاء الله، لا تحديد على الكريم الجواد الذي يعطي بغير حساب، لأنه جل شأنه لا يخشى من النّفاد ويعطي بلا عوض ولا لغرض «وَيَغْفِرْ لَكُمْ» ذنوبكم

ص: 247

وما تقدم من شحكم «وَاللَّهُ شَكُورٌ» لفعل عباده المتصدقين «حَلِيمٌ» 17 بعدم تعجيل سلب نعمه من البخلاء علمهم يرجعوا ويتوبوا فيتصدقوا مما منحهم الله على عياله والله سبحانه «عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» يعلم ما في النّيات والضّمائر كما يعلم الأقوال والأفعال الظّاهرة لا يختلف علمه فيهما «الْعَزِيزُ» الغالب على عباده القادر على سلب النّعم من لم يشكرها «الْحَكِيمُ» (18) بإبقائها على الشّاكرين وزيادتها لهم، وما هو مقدر على السّلب والإبقاء من حكم لا يعلمها غيره، وقد يعلمها البشر عند ظهورها. وختمت هذه السّورة بهذا الاسم الكريم لما انطوت عليه من حكم جليله. هذا والله أعلم. وأستغفر الله. ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدّين، ومن تبعهم بإحسان آمين.

تفسير سورة الصّف عدد 23 و 109- 61 نزلت بالمدينة بعد سورة التغابن وهي أربع عشرة آية ومثنان وإحدى وعشرون كلمة، وتسعمئة حرف، لا ناسخ ولا منسوخ فيها، وبينا السّور المبدوءة بما بدئت به أول سورة الحديد المارة، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به ولا مثلها في عدد الآي.

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» من شيء «وَهُوَ الْعَزِيزُ» المنيع الجانب القاهر كلّ شيء على تسبيحه وتنزيهه طوعا أو كرها قالا أو حالا، راجع الآية 45 من سورة الإسراء ج 1 وأول سورة الحديد المارة «الْحَكِيمُ» (1) بأفعاله وأوامره ونواهيه فلا يخلق إلّا عن حكمه، ولا يأمر إلّا بحكمة، ولا يفعل إلّا لحكمة، قال عبد الله بن سلام قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا، فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناها، وكانت نزلت آية الجهاد العاشرة من سورة التحريم المارة، وتباطأ بعضهم عنه، وكان يتمنى نزول الأمر بالجهاد، فأنزل الله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ» (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ

ص: 248

اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ»

(3)

وكان من عادة العرب الّذين هم عرب يفعلون ولا يقولون فيقضون حوائج المحتاجين ودين المدينين ونصرة المظلومين ولا يدرى بهم، ثم قلت المروءة عند بعضهم فصاروا يفعلون ويقولون، ثم تدانوا وتخاسسوا فصاروا لا يقولون ولا يفعلون، ثم تدنت نفوسهم ورذلت فصاروا يقولون ولا يفعلون، فذمهم الله تعالى في هذه الآية وأنبهم بأن القول بلا فعل مما يوقع العبد في غضب الله ويبعده عنه، ومن هذا القبيل من يعد بشيء وبقوله ولا يفعله، ومن يتعهد ولا يوفي، ويحلف ويخلف، ويواثق وينكث. ثم بين جل جلاله العمل الذي يحب الله فاعله عند لزومه أكثر من غيره، فقال «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ» إعلاء لكلمته وابتغاء مرضاته «صَفًّا» تجاه أعدائه لا يزولون ولا يروغون عن أماكنهم إلّا للتقدم ليكيدوا عدوهم، فتراهم في تضامنهم وتلاحقهم ومتانتهم في صفوف الحرب «كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ» (4) بعضه ببعض لا ترى فيهم فرجة تمكن العدو من الدّخول فيها بينهم، أو يجعل بسببها خللا في صفوفهم، وكان التراص في ذلك الزمن مطلوبا لأن من الفرسان من يقحم بفرسه فيمزّق الصّف المخلل والذي فيه فرجة فيفتك فيه بما أوتي من عزم وحزم فيفرقه ويقع الرّعب في قلوب الآخرين فينصرون، والتراص باب من أبواب الحرب في زمن الأصحاب فمن بعدهم، أما الآن وقد أحدثت الصّواعق والقاذفات والدّبابات فقد يكون في مكان دون مكان بحسب قوة العدو وآلاته وعدده، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أن الله يحب من يثبت في الجهاد ويلزم مكانه كثبوت البنيان، وهو يشير إلى التحذير من الهزيمة، لأنه من الكبائر المهلكة ولهذا يجازى عليها بالإعدام ولعذاب الآخرة أشد وأمر، راجع الآية 94 من سورة البقرة والآية 176 من آل عمران والآية 15 فما بعدها من سورة الأنفال المارات. قال تعالى «وَ» أذكر لقومك يا سيد الرّسل «إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي» بتعنتكم وتطاولكم على الله إذ تقولون أرنا الله جهرة ولن نصبر على طعام واحد وتتهمونني بأني آذر، وتحرضون الباغية عليّ، وتنسبون لي قتل هارون أخي وعضيدي على إرشادكم كما مر في الآيتين 56 و 62 من الأحزاب المارتين، وتنكرون رسالتي

ص: 249

«وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ» خاصة وطاعتي عليكم واجبة تعظيما لمن أرسلني وإن الأنبياء مبرّءون من العيوب ومعصومون بعصمة الله وهم بشر مثلكم لا قدرة لهم على إجابة ما تقترحونه عليهم إلّا بإذن الله «فَلَمَّا زاغُوا» عن الحق وأسروا على عنادهم «أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» عن الهداية وخذلهم وحرمهم من نور الإيمان وأضلهم عن اتباعه وأعماهم عن سبيله فخرجوا عن السّبيل إلى السّبل فضلوا وأضلوا وخسروا، راجع الآية 152 من الأنعام في ج 2 «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (5) الخارجين عن طاعته. تنبه هذه الآية إلى أن أذى الرّسل يؤدي إلى الكفر ونزع نور الإيمان بحيث لا يبقى فيه قابلية للهداية «وَ» أذكر لقومك يا أكمل الرّسل أيضا «إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ» بدلالة الوصف الموجود لي في توراتكم وإخبار الأنبياء قبلى إني آتيكم رسولا من قبل الله وقد بعثت لكم «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ» بالإنجيل الذي أنزله الله علي وخفف به بعض ما في التوراة من التشديد راجع الآية 50 من آل عمران المارة تقف على هذا التخفيف «وَ» كما بشرت بي الأنبياء أممها، فقد جئت «مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» قال ابو موسى في حديث طويل سمعت النّجاشي يقول

أشهد أن محمدا رسول الله، وأنه الذي بشّر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك وما تحملت من أمر النّاس لأتيته حتى أحمل نعليه- أخرجه ابو داود- راجع تفسير الآية 199 من آل عمران المارة تعرف النّجاشي وعقيدته وصلاة الرّسول عليه.

وقال عبد الله بن سلام: مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى بن مريم، فقال ابو داود والمدني قد بقي في البيت موضع قبر- أخرجه الترمذي- أي بقي في الحجرة المدفون بها حضرة الرّسول وصاحبيه موضع ليدفن فيه عيسى بن مريم راجع الآية 62 من سورة الزخرف ج 2 وفي اسم احمد إشارة إلى أن الأنبياء كلهم حامدون لله ومحمد وأحمدهم له، وإن الأنبياء كلهم محمودون، ومحمد أكثرهم حمدا روى البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم قال قال صلى الله عليه وسلم لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا احمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر النّاس

ص: 250

على قدمي يوم القيامة، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي «فَلَمَّا جاءَهُمْ» الرسول المبشر به من قبل موسى وعيسى بالبينات «قالُوا» أي المرسل إليهم «هذا» الذي جاء به محمد من الآيات «سِحْرٌ مُبِينٌ» (7) ظاهر لا يخفى على أحد، فقد كذبوا وافتروا على الرّسول من اتهامهم له بالسحر، وعلى المرسل من كونه غير نبي، والافتراء على الرّسل افتراء على المرسل، ولهذا يقول جل قوله «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ» فيقول هذا سحر يدل التصديق والإجابة إليه وهذا كذب يدل الاعتراف به، فمثل هذا لا أظلم منه البتة «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (7) أنفسهم بالإنكار والجحود عقوبة لهم «يُرِيدُونَ» هؤلاء الظّلمة بافترائهم هذا «لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ» بأقوالهم المجردة عن الصّدق «وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ» بإظهاره على غيره وعلو كلمة الإسلام على سائر الأديان «وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» (8) رغما عنهم شاءوا أم أبو «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» فلا يبقى على وجه الأرض دين إلّا وقد نسخ به وغلب أهله من قبل الإسلام لقوة دليله وعظيم برهانه وجليل سلطانه «وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (9) ذلك، فإنه ظاهر عليهم. ونظير هاتين الآيتين الآيتان 23 و 24 من سورة التوبة الآتية. وهذا سيكون ان شاء الله، ويتم بنزول عيسى عليه السلام إذ يحكم النّاس ويدينهم بدين محمد صلى الله عليه وسلم فلا يبقى إذ ذاك دين على وجه الأرض يعبد الله فيه إلّا دين الإسلام، لأن الأديان السّائرة تضمحل وبنضم بعض أهلها لدين الإسلام، وكان هذا زمن الرّسول ومن بعده وإلى الآن، ثم تجتمع الكلمة على الإسلام فقط إن شاء الله فلا يبقى إلّا مؤمن وكافر. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» (10) كما ينجي التاجر الرّابح من الفقر ويغنيه غنى ما بعده غنى،

وكأنهم قالوا ما هي هذه التجارة؟ فأنزل الله قوله «تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ» الإيمان والجهاد هما أحب الأعمال إلى الله تعالى التي تسألون عنها، وأكثر ثوابا من جميع الأعمال

ص: 251

فهي التجارة الرّابحة «خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (11) ما ينتج عنها لأن نتيجه الإيمان دخول الجنان ورضى الرّحمن، ونتيجة الجهاد علو الشّأن ورفعة المجد، وهذا أفضل من ربح المال مع بقاء النّفس ذليلة حقيرة بسبب تسلط عدوها عليها، لأن النّفس الأبية التي تحب الموت في سبيل عزها لتوهب لها الحياة الطّيبة التي هي أحسن من كلّ شيء، والفعلان بمعنى الأمر أي آمنوا وجاهدوا وجوابهما فعل يغفر الآتي، أي إذا فعلتم هذا فإنه تعالى «يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» الدنيوية ويعزّكم في دنياكم لاختياركم طريق العز «وَيُدْخِلْكُمْ» في الآخرة «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (12) لأن فيه خير الدّنيا والآخرة فلا أعظم فوزا منه لأنه مما يعمل العاقل له في دنياه ليناله في عقباه «وَ» تجارة «أُخْرى تُحِبُّونَها» وهي في الدّنيا فقط «نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ» على أعدائكم «وَفَتْحٌ قَرِيبٌ» (13) لبلاد أعدائكم واستيلائكم عليها واغتنام ما لدى أهلها، وقد كان هذا والحمد لله في صدر الإسلام وبعده، ولكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصّلاة واتبعوا الشّهوات فحرموا تلك الفتوحات والغنائم وملاذ النّصر والظّفر، لإضاعتهم أمر دينهم وتفرق كلمتهم وتكالبهم على الدّنيا وخوفهم من الموت، وعسى أن يردهم الله لاقتفاء آثار أوائلهم فينالوا ما نالوه ويذوقوا طعم العز والظّفر. ونظير هذه الآيات الآية 25 من سورة الأنفال المارة فما بعدها، وقد رتب فيها الحياة على الجهاد، زرع الله في قلوبنا حبه لإعلاء كلمته، وجعلنا من المحبين لدعوته المقصودين بفضله، وما ذلك على الله بعزيز «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» بالنصر والفتوح يا سيد الرّسل في هذه الدّنيا والفوز والسّعادة في العقبي ماداموا مؤمنين حقا، وإنما سمى الجهاد تجارة لما فيه من الرّبح العظيم والعزّ في الدّنيا ورضى الله والجنّة في الآخرة، وهذه تبشر المؤمنين حال نزولها بقرب فتح مكة إنجازا لوعد الله به لهم، وقد كان ذلك، وفيها بشارة عامة لكل مؤمن يتصف بما ذكره الله في هذه الآية بالنصر والفوز على أعدائه في كلّ مكان وزمان. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ» لنبيكم وأجيبوا دعوته ولبوا كلامه وابذلوا شيئكم له «كَما قالَ

ص: 252