المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مطلب ظهور المنافقين وفضحهم وعدم قبول أعذارهم - بيان المعاني - جـ ٦

[ملا حويش]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء السادس]

- ‌تفسير سورة الزلزلة عدد 7- 93- 98

- ‌تفسير سورة الحديد عدد 8- 94- 57

- ‌تفسير سورة محمد عليه السلام عدد 9- 95 و 47 وتسمى سورة القتال

- ‌مطلب الآية المكية وصفة الجنّة وعلامات السّاعة وحال أهل الجنّة وأهل النّار:

- ‌مطلب عصمة النّساء وصلة الرّحم وتدبر القرآن ومثالب المنافقين والكافرين والبخل وما نفرع عنه:

- ‌تفسير سورة الرّعد عدد 10- 96 و 13

- ‌مطلب في قوله تعالى بغير عمد. وفي قارات الأرض الخمس ومعجزات القرآن والمعقبات:

- ‌مطلب ينتفع الميت بعمل غيره وبصلة الوفاء والصّدقات ويجوز قضاء حجه وصومه من قبل أوليائه وفي ذكر الله تعالى وصلة الرّحم:

- ‌مطلب في أحوال أهل الكتاب، والمحو والإثبات ونقص الأرض وحكم الله تعالى:

- ‌تفسير سورة الرّحمن عدد 11- 97 و 55

- ‌مطلب أن الآيات نقم على أناس، نعم على آخرين ومزية الخوف من الله تعالى:

- ‌تفسير سورة الإنسان عدد 12- 98 و 76

- ‌مطلب في الحين والنّذر والكرم وأنواعه وثوابه وأول من سنه:

- ‌تفسير سورة الطّلاق عدد 13- 99- 65

- ‌مطلب الحكم الشّرعي في الإشهاد على أن الطّلاق والرّجعة بعد بيان أحوال المطلقات والآية الوحيدة الدّالة على أن الأرضين سبع كالسماوات:

- ‌تفسير سورة البينة عدد 14- 100 و 98

- ‌مطلب المراد بالإخلاص وأهل الكتابين والمشركين وغزوة بن النّضير وسبب إسكان اليهود في الحجاز:

- ‌تفسير سورة الحشر عدد 15- 101- 59

- ‌مطلب أمر الرّسول أمر الله وبيان قسمة الفيء والغنيمة وذم البخل والشّح وعمل أبي طلحة رضي الله عنه وحب الأصحاب حب الرّسول:

- ‌مطلب قصة برصيصا الرّاهب وكفره وجريج الرّاهب وبراءته، وتسبب العلماء لإهانة أنفسهم:

- ‌تفسير سورة النّور عدد 16 و 102 و 24

- ‌مطلب في كفر من يقذف السّيدة عائشة بعد بيان هذه الأحكام العشرة المبينة بالآيات في أول السّورة إلى هنا وقصة الإفك:

- ‌مطلب آداب الدّخول على الدّور وطوق الباب والدّخول بلا أذى والوقوف أمام باب الدّار وحومة النّظر إلى من فيها:

- ‌مطلب فيمن يجوز نظره ومن لا وستر الوجه وغيره وما هي الزينة التي لا يجوز النّظر إليها والنّكاح:

- ‌مطلب ارجاء زواج الفقير لفناه. وجواز الكاتبة ندبا. وفي معنى (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) . ومعنى قوله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) :

- ‌مطلب في الزيتون ونوره تقالى ومعنى ضرب المثل وما ينقل عن كعب الأحبار:

- ‌مطلب تأليف المطو والبرد وكيفية حصول البرق والرّعد وكون مخلوقات الله كلها من مادة الماء:

- ‌مطلب في معجزات الرّسول، الإخبار بما يأتي، وعوائد الجاهلية الباقي أثرها وجواز الأكل عند الأقارب والأصدقاء، ووجوب ملازمة الرّسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌تفسير سورة الحج عدد 17- 103- 52

- ‌مطلب إظهار قواعد البيت، وعمارته، والحج إليه، وفوائد الحج، والدّبائح وما يتعلق فيها المادية والمعنوية:

- ‌مطلب في قصة قوم صالح عليه السلام وأسباب إهلاك بعض الأمم وتسمية بعض البلاد بما وقع فيها والآيات المكيات:

- ‌مطلب تعجيب الله رسوله وخلقه في بعض أفعاله وضرب الأمثال وكون شريعة محمد ناسخة لكل الشّرائع وعجز الأوثان وسجود التلاوة

- ‌تفسير سورة المجادلة عدد 19 و 105- 58

- ‌مطلب آداب المجالسة وفضل العلم والعلماء وما يتعلق بذلك:

- ‌تفسير سورة الحجرات عدد 20- 106 و 29

- ‌مطلب في الصّلح ومراعاة العدل بين الطّرفين من قبل المصلحين والسّخرية والظّن والتجسس والغيبة والشّعوب وتفرعاتها:

- ‌تفسير سورة التحريم عدد 21- 107 و 66

- ‌مطلب استئناس عمر رضي الله عنه مع حضرة الرّسول وما قاله ابو رواحة إلى زوجته حتى تخلص مما اتهمته به:

- ‌مطلب في المثل الذي ضربه الله تعالى لنساء الأنبياء وقصة آسية زوجة فرعون ومريم ابنة عمران:

- ‌تفسير سورة التغابن عدد 22- 108- 64

- ‌تفسير سورة الجمعة عدد 42 و 110 و 62

- ‌مطلب أول جمعة أقيمت في الإسلام وفضلها والعمل بها وسبب تسميتها:

- ‌تفسير سورة الفتح عدد 25- 111 و 63

- ‌مطلب قصة الفتح وأعني بالفتح فتح مكة لا غير وبيان الّذين هدر دمهم رسول الله وما وقع فيه وسببه:

- ‌مطلب فيما امتاز به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ودينه ووصف أصحابه والتوقي من ذكرهم بسوء:

- ‌تفسير سورة المائدة عدد 26 و 112 و 5

- ‌مطلب في النّسخ والحرمات وأسباب تحريمها والأنصاب والأزلام وغيرها والآية المستثناة:

- ‌مطلب في أحكام الصّيد وما يؤكل منه وما لا، وما هو المعلم من غيره والصّيد بالبندقية والعصا وغيرهما

- ‌مطلب في أحكام التيمم وكيفيته وجواز الوضوء الواحد لخمس صلوات وإن كلمة إنا لا تفيد العموم وفروض الوضوء وكيفيته:

- ‌مطلب تذكير رسول الله ببعض النّعم التي أنعم الله بها عليه بخلاصه من الحوادث والتآمر، وقصة موسى عليه السلام مع الجبارين:

- ‌مطلب في مدة الفترة وما بين عيسى ومحمد من الزمن وعوج بن عنق وتيه بني إسرائيل والحكمة منه:

- ‌مطلب موت هارون وموسى عليهما السلام وقصة ولدي آدم عليه السلام:

- ‌مطلب في حد المفسدين في الأرض ومن تقبل توبتهم ومن لا تقبل وحكاية داود باشا حاكم العراق:

- ‌مطلب في الرّابطة عند السّادة النّقشبندية وفي حد السّارق ومعجزات الرّسول والقصص وما يتعلق به:

- ‌مطلب في الّذين ارتدوا عن الإسلام في زمن الرّسول وبعد واخبار الرّسول بذلك عن طريق الاعجاز ومن دخل في الإسلام:

- ‌مطلب في مثالب اليهود والتفرقة في الدّين وما ينشا عنها وأن تبليغ الرّسول مقصور على القرآن وأمره بترك حراسته:

- ‌مطلب أشد النّاس عداوة وأقربهم مودة للمسلمين وان التشديد في الدّين غير مشروع ولا ممدوح وكفارة اليمين:

- ‌مطلب تحريم الخمر بتاتا وأسباب هذا التحريم وذم الخمر والميسر وشبههما والحكم الشّرعي فيه وضرره في الوجود:

- ‌مطلب في الخبيث والطّيب والنّهي عن سؤال الله بما لم يكلف به عباده وما حرمته الجاهلية قبل الإسلام:

- ‌مطلب لا يستفاد من هذه الآية ترك الأمر بالمعروف وكيفية استماع الشّهود على وصية الميت وسبب نزول هذه الآية:

- ‌مطلب في نزول المائدة وما قاله عيسى عليه السلام لطالبيها وما أجاب به ربه عند سؤاله عما عزى إليه قومه:

- ‌تفسير سورة التوبة- براءة عدد 27- 113 و 8

- ‌مطلب إنذار الله إلى النّاس بانتهاء معاهدات الحرب وعدم صحة عزل أبي بكر من إمارة الحج وتهديد الكفار إذا لم يؤمنوا بعد هذا الانذار:

- ‌مطلب تفضيل الإيمان على كلّ عمل مبرور كعمارة المساجد والإطعام وفك الأسرى وغيرها:

- ‌مطلب في الرّخص والعزائم وواقعة حنين

- ‌مطلب أسباب ضرب الجزية على أهل الكتاب وما هي، ومعاملتهم بالحسنى وبيان مثالبهم التي يفعلونها ويأمرون بها:

- ‌مطلب في ذم مانعي الزكاة وعقابهم، ومعنى الكنز، وسبب نفي أبي ذر، والأشهر الحرم، واختلاف السّنين، وعدد أيامها:

- ‌مطلب فى المجاهدين وما ذكره الله من هجرة رسوله والحث على الجهاد وغزوة تبوك وما وقع فيها:

- ‌مطلب مثالب المنافقين ومصارف الصّدقات وسبب وجوبها وتحريم السّؤال:

- ‌مطلب في الأصناف الثمانية ومن يجوز إعطاؤه من الزكاة ومن لا يحوز وبعض مثالب المنافقين أيضا:

- ‌مطلب ظهور المنافقين وفضحهم وعدم قبول أعذارهم

- ‌مطلب في فضايح المنافقين وإسلام بعضهم وما قيل في الأيام وتقلباتها والصّحبة وفقدها

- ‌مطلب قصة ثعلبة وما نتج عنها وحكم وأمثال في البخل والطّمع والجبن وغيرها:

- ‌مطلب موت ابن أبي سلول وكون العلة لا تدور مع المعلول، وأسباب التكرار في الآيات وعدم زيادة (ما) ولا غيرها في القرآن:

- ‌مطلب في المستثنين من الجهاد، والفرق بين العرب والأعراب وأول من آمن وخبرهم، وتقسيم المنافقين، وعذاب القبر:

- ‌مطلب سبب اتخاذ مسجد الضّرار ومسجد قباء وفضله، والترغيب في الجهاد وتعهد الله للمجاهدين بالجنة، وعدم جواز الاستغفار للكافرين:

- ‌مطلب في إيمان أبي طالب وسبب استغفار ابراهيم لأبيه وكذب ما نقل عن ابن المقفع وقصة المخلفين الثلاثة وتوبتهم:

- ‌مطلب في مدح الصّدق وفوائده وذم الكذب ونتائجه وما يتعلق بذلك والرّابطة عند السّادة الصّوفية:

- ‌مطلب في فضل الجهاد والنّفقة فيه وفضل طلب العلم واستثناء أهله من الجهاد، والحكمة في قتال الأقرب بالأقرب وكون الايمان يزيد وينقص وبحث في ما:

- ‌(تفسير سورة النّصر عدد 28- 114 و 110)

- ‌(الخاتمة نسأل الله حسنها لديه)

الفصل: ‌مطلب ظهور المنافقين وفضحهم وعدم قبول أعذارهم

والفضيحة التي ما بعدها فضيحة، والعار الذي ما وراءه عار. واعلم أن لفظ ألم تعلم وألم يعلم وما تصرف منهما خطاب لمن علم شيئا أو نسيه أو أنكره كما ذكره العلماء البيانيّون أي أنسيتم أو أنكرتم ذلك. قال تعالى «يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ» من النّفاق وما تحركه أنفسهم به في الاستخفاف بحضرة الرّسول «قُلِ» يا سيد الرّسل «اسْتَهْزِؤُا» واسخروا ما شئتم بحق حضرة الرّسول «إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ» (64) ومظهره للناس ليفضحكم به ويظهر لهم كذبكم وحلفكم الخاطئ. واعلم أنما خاطبهم الله بهذا على لسان رسوله، لأن ما وقع منهم مجرد استهزاء وسخرية، ولهذا ختم الله هذه الآية بما يدل على التهديد العظيم والوعيد الوخيم الدّالين على التعذيب البالغ. قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ» عما يقولونه فيك فيما بينهم «لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ» الخوض الدّخول في المائع كالماء والطّين، ثم استعمل لكل دخول فيه تلويث مادة أو معنى ولم يكفهم الخوض الذي قد يؤتى لغير ظاهره حتى وضحوا المراد منه باللعب، فيا سيد الرّسل «قُلْ» لهؤلاء الجاحدين بما لا يليق «أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ» (65) استفهام إنكاري لما لا ينبغي ذكره، وذلك أن حضرة الرّسول حين كان في غزوته المذكورة آنفا قال رهط من المنافقين أيرجو هذا الرّجل أن يفتح له قصور الشّام وحصونها هيهات هيهات، فأطلعه الله تعالى عليه، فقال احبسوا على هذا الرّكب فأتوا بهم، فقال إنكم قلتم كذا وكذا، ولما لم يروا بدا من الاعتراف إذ أخبرهم حضرة الرّسول بلفظ ما قالوا بعد أن قالوا يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب، أي نتحدث في الرّكب ونلهو فيما بيننا، وقال المنافق وديعة بن ثابت أخو أمية ابن زيد لعوف بن مالك ما لقى أمنا أر عينا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللّقاء.

‌مطلب ظهور المنافقين وفضحهم وعدم قبول أعذارهم

وروى ابن عمر أن رجلا من المنافقين قال في غزوة تبوك ما رأيت مثل هؤلاء القوم أرعب قلوبا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللّقاء. قاتله الله يريد حضرة

ص: 453

الرسول وأصحابه المؤمنين، فذهب عوف ليخبر حضرة الرّسول بقولهما، فوجد القرآن قد سبقه، ونزلت هذه الآيات. قال عوف فتعلق المنافق بعقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكبه من القوم حيث صاروا يرجمونه لقبح ما سمعوا منه وهو يقول يا رسول الله إنا كنا نخوض ونلعب. وقال ابن كيسان. كمن رجال منافقون في العقبة عند رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ليفتكوا به فأخبره جبريل عليه السلام بمكانهم وما أضمروه له فقال لحذيفة اذهب إلى هؤلاء واضرب وجوه رواحلهم، ففعل حتى نحاهم عن الطّريق وقال هلا عرفتهم قال لا يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم انهم فلان وفلان حتى عدهم اثني عشر رجلا، فقال حذيفة هلا بعثت من يقتلهم يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل بقتلهم بل يكفيناهم الله، فلما أتى بهم طفقوا يعتذرون. قال تعالى قل يا سيد الرسل لهم «لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ» بأفعالكم هذه واستهزائكم وأقوالكم القبيحة هذه، وطعنكم لحضرة الرّسول وأصحابه المؤمنين المبرأين عما وصمتموهم به، المنزهين عما ألصقتموه بساحتهم الطّاهرة، مما أوجب كفركم «بَعْدَ إِيمانِكُمْ» الذي كنتم تحتجون به ظاهرا وقد ظهر أمركم للخاص والعام فلا محل لقبول أعذاركم الواهية حيث أكذبها الله، ولما رأوا أنه قد سقط في أيديهم وعلموا أنه قد فضح أمرهم شرعوا يطلبون العفو عما سلف منهم، فقال تعالى «إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ» تابت عما بدر منها وأقلعت عن نفاقها وأحسنت إيمانها «نُعَذِّبْ طائِفَةً» أصرت على ذلك فلم تتب ولم تقلع عما هي عليه «بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ» (66) بإقامتهم على النّفاق ومباشرتهم له. واعلم أن لفظ الطّائفة عند العرب كلفظ النّاس يطلق على الواحد والجماعة، راجع الآية 174 من آل عمران المارة، قال محمد ابن اسحق إن الذي عفا عنه اسمه مخاشن بن حمير الأشجعي لأنه تاب فرر نزول هذه الآية، وقال اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ أعنى بها تقشعر منها الجلود وتجبّ منها القلوب، اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت فأجيب يوم اليمامة ولم يعرف مصرعه واسمه عبد الرّحمن، أي سمي بذلك، رحمه الملك الدّيان. قال تعالى «الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ» قيل كان الرّجال المنافقون

ص: 454

ثلاثمائة والنّساء المنافقات مئة وسبعين، وكلهم تشابهت قلوبهم بالنفاق والبعد عن الإيمان كأنهم نفس واحدة، كما يشير إلى قوله تعالى «بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ» بعضهم وأنفسهم «بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ» أنفسهم وبعضهم «عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ» عن الإنفاق في سبيل الله وعلى الفقراء وعلى أقاربهم أيضا بخلا بما أعطاهم الله، فكأنهم «نَسُوا اللَّهَ» الذي من عليهم حال الضّيق فلم يذكروه عند الرّخاء «فَنَسِيَهُمْ» من رحمته عند الشّدة، لأنهم لما تركوا أمر الله تعالى جاؤوا بمنزلة النّاسين له، لأن مطلق النّسيان لا يعد عيبا، إذ لا يخلو منه أحد، فجازاهم الله تعالى بأن صيّرهم بمنزلة الشّيء المتروك، فحرمهم من ثوابه وهذا هو نص النّسيان بالنسبة لله تعالى. أما معناه الذي هو عليه بالنسبة فمحال بحقه تعالى القائل «إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (67) الخارجون عن طاعة الله ورسوله «وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ» في الإيلام والانتقام، ولهم زيادة على هذا أنه تعالى غضب عليهم «وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» (68) لا يحول عنهم ولا يتحولون عنه، فهو ملازمهم أبدا. واعلم أن فعل وعد إذا أريد به الشّر كما هنا كان مصدره وعيدا، وإذا صرف إلى الخير يكون مصدره وعدا، واستعماله غالبا يكون في الخير، وأوعد في الشّر، ثم التفت من الغيبة إلى الخطاب، والالتفات من أنواع البديع المستحسنة، وقد اقتبسه علماء هذا الفن من كلام الله ورسوله وسموه بهذه الاسم، كما سموا علم المعاني وغيره من العلوم التي أحدثت تسميتها بعد عهد الرّسول، لأنها لم تكن معروفة ولا مبدية. فقال فعلتم أيها المنافقون أفعالا قبيحة كثيره «كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» أي الكفار إذ كانوا يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويبخلون بمالهم عن طرق الخير مثل فعلكم هذا وأنهم «كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ» حظوظهم

وأنصبائهم من الدّنيا وشهوتها، وآثروها على الآخرة ورضوا بها، ولم ينظروا إلى العاقبة. وسمي النّصيب خلاقا لأنه مما يخلقه الله للانسان ويقدره له مثل القسم «فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ» أيها المنافقون الفجرة والكافرون

ص: 455

الفسقة «كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ» في الباطل والكذب على الله ورسوله وعلى النّاس أجمع «كَالَّذِي خاضُوا» من الاستهزاء والسّخرية بهم وبأتباعهم وتعديتم عليهم بأنواع المنكرات، والذي هنا واقع صفة لموصوف محذوف مصدر دل عليه الفعل المذكور قبله، أي كالخوض الذي خاضوه «أُولئِكَ» الّذين هذه صفتهم من أولئك الفجار «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» (69) في الدّارين. واعلم أن تأويل لفظ الذي على ما مشينا عليه أحسن وأولى من قول من قال بإسقاط الذي أي أصله الّذين، وعليه فيكون المعنى وخضتم كالّذين خاضوا، لأن التشبيه هنا للخوض لا للحائض، تدبر. وأليق وأرضى من قول من قدر لفظ فوج أي كالفوج الذي خاضوا، إذ لا ذكر له تأمل. واعلم أن ما وقع في هذه الآية من تكرار بعض الألفاظ قد وقع تأكيدا للقول وتبكيتا بالمخاطبين به، وتقبيحا لأعمالهم وأعمال من شبهوا بهم، وتقريعا بأفعالهما. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتتبعنّ سنن الّذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لا تبعتموهم. قلنا يا رسول الله اليهود والنّصارى؟ قال فمن دونهم. أي الكفار والمجوس كما مر في الخبر آنفا أو ممن غيرهم، ثم التفت من الخطاب إلى الغيبة تفننا في القول ليعلم عباده ذلك فقال جل شأنه «أَلَمْ يَأْتِهِمْ» أي هؤلاء المنافقين «نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» من الأمم الماضية «قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ» قوم هود «وَثَمُودَ» قوم صالح «وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ» قوم شعيب «وَالْمُؤْتَفِكاتِ» قوم لوط عليهم السلام حين «أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» وكذبوا بها فأهلكناهم بالغرق والرّيح العقيم والرّجفة والصّيحة والبعوضة والظّلمة والقلب والرّحم، وإنما خص الله تعالى هذه الأقوام دون غيرهم الكثيرين لأن آثارهم باقية في بلادهم الشّام والعراق واليمن، ولأنهم يمرون عليها ذهابا وإيابا عند أسفارهم للميرة والتجارة وغيرها، ويعرفون أخبارهم المتناقلة عن أسلافهم، وكيفية إيقاع العذاب بهم واستئصالهم من وجه الأرض على حين غفلة وبسرعة لم يقدروها. قال تعالى «وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ» بما أوقعه فيهم من العقوبات

ص: 456

القاسية «وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (70) فاستحقوها جزاء وفاقا، فاحذروا أيها السّامعون أن يصيبكم ما أصابهم إن فعلتم فعلهم أو أصررتم عليه، ولم تتوبوا في زمن تقبل فيه التوبة، راجع الآيتين 27 و 28 من سورة النّساء المارة

قال تعالى بمقابل الآية السّالفة «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» والفرق بين هذه الجملة والجملة المصدرة به الآية السّالفة هو أن اتفاق المؤمنين كان على تقوى من الله ورضوان بتوفيق الله وهدايته، لا بمقتضى هوى النفس والطّبيعة الخبيثة كالمنافقين والكافرين المشار إليهم فيها، الّذين كانت موافقتهم بعضهم لبعض بتقليد رؤسائهم، فلهذا قال بحقهم بعضهم من بعض، وبحق المؤمنين أولياء بعض «يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» فيما بينهم أنفسهم وبين غيرهم راجع الآية 113 الآتية «وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ» الّذين هذا شأنهم «سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (71) في تدبير أمور عباده، لا بشوب تدبيره نقص ولا خلل، ومن عزته أنه لا يمتنع عليه من أراده، فلا يغالب ولا يتابل «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» وهذه بمقابل الآية السّابقة عد (67)«جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ» زيادة على مساكنهم في جناتهم، لأن عدن دار الأصفياء عند الله تعالى، وهؤلاء بلا تشبيه كالمترفين من أهل الدّنيا عندهم تصور في بلادهم وقصور في مصايفهم.

واعلم أن مرجع العطف في هذه الآية إلى تعدد الوعود لكل واحد أو للجميع على سبيل التوزيع، أو إلى تغاير وصفه، أولا بأنه من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها، فتميل إليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم، وصفه بأنه محفوف بطيب عار عن شوائب الكسورات التي لا تخلو عنها أماكن الدّنيا، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار رب العالمين لا يقربهم فيها فناء ولا تغير، ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك وأعظم وهو الزيادة الأخرى المبينة بقوله عند قوله «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» من ذلك كله ومن كلّ شيء، لأنه غاية المقصود ونهاية المطلوب «ذلِكَ» العطاء الجزيل والعطف الجليل «هُوَ

ص: 457

الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»

(72)

في الآخرة لا فوز أعظم منه، والخير الكثير الذي لا أفضل منه. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنّة يا أهل الجنّة، فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول هل رضيتم، فيقولون وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول ألا (أداة لاستفتاح الكلام وتختص بالمستقبل وتكون للطلب بلين ورفق وضدها هلا الكائنة للعنف والشّدّة وتدخل على الماضي والمستقبل) أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط بعده عليكم أبدا. قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ» وشدّد بالجهاد والإرهاب «عَلَيْهِمْ» في الدّنيا أنت وأصحابك بمعونتنا ونصرنا «وَمَأْواهُمْ» عندنا في الآخرة «جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (73) هي لأهلها قال ابن مسعود دلّت هذه الآية والدّلائل السّمعية على أن جهاد الكفار بالسيف وجهاد المنافقين بالحجة، والآية عامة لم يذكر فيها كيفية الجهاد، فلا بد من دليل واضح يقيدها بما قاله ابن مسعود ويصرفها عن ظاهرها، وإلّا فلا دليل فيها يخصصها بما قاله، وإنما عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل بقية المنافقين لا لأنه علم من هذه الآية أن جهادهم بالحجة، بل لأن من تكلم بالكفر سرا وجحده علنا وقال إني مسلم يحكم بإسلامه في الظّاهر شرعا، والله يتولى السّرائر، وإلّا لفسد الكون، قال تعالى (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) الآية (93) من سورة النّساء المارة، وقال صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد أشققت قلبه؟ راجع تفسيرها، ولولا هذه الآية والحديث لفتك بكثير من المسلمين بحجة أنهم كافرون باطنا، أو أنهم أسلموا ليخلصوا أنفسهم من القتل، ويأبى شرع الله ذلك، ولقائل أن يقول إن من المنافقين ممن علم الله ورسوله بأنهم يموتون على نفاقهم كعبد الله بن سلول وثعلبة الآتي ذكرهما، فلماذا لم يقتلهم رسول الله؟ فالجواب عن هذا أنه لا يقتلهم حرمة للشرع المعمول بظاهره لآخر الزمان ولئلا يتذرع بعض الولاة أو غيرهم بذلك فيقتل من يشاء ويترك من يشاء بتلك الحجة، ولقد أجمعت الأمة على أنه لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه دفعا لما يترتب على ذلك من المفاسد، ومن هذا الباب

ص: 458