الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكل وجهه، الحكم الشّرعي، إذا تعارض ما هو من مصالح الدّين مع ما هو من مصالح الدّنيا وجب على المسلم ترجيح مصالح الدّين في مثل هذه الأشياء المذكورة في الآية المارة.
مطلب في الرّخص والعزائم وواقعة حنين
وان الرّخص الواردة في اختيار بعض الأمور كالنطق بكلمة الكفر عند الإكراه وشراب الخمر مخافة القتل وغير ذلك من الرّخص التي نقلت دعائمها عن ابن عباس رضي الله عنهما فلا تنافيها هذه الآية، لأن ما جاء فيها انما نؤاخذ به إذا كان عن حب واختيار لا عن بغض وإكراه، وإنما قلنا دعائم الرّخص أي أساساتها وقوائمها عن ابن عباس لأنه كان رضي الله عنه يتوسع في الأمور اجتهادا منه ويفتي بها كما كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يتشدد فيها، ولهذا صار من قبيل ضرب المثل (رخص ابن عباس)(وعزائم ابن عمر) راجع تاريخ القضاء في الإسلام للمعري تجد ما يتعلق بهذا وهو أوسع من رسالة القضاء في الإسلام للكنوي، والآية 24 من سورة النّساء المارة تقف على ما قيل في ابن عباس من أجل توسعه في الرّخص، ثم شرع جل شرعه يعدد نعمه على المؤمنين بقصد لقاء النّفرة للمشركين، وبيان ان معونتهم لهم لا قيمة لها، وانهم إذا اتكلوا على الله يغنهم عنهم، فقال جل قوله «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ» ومحلات متعددة، فقد جاء في الصحيحين في حديث زيد بن أرقم أن مجموع غزواته صلى الله عليه وسلم تسع وعشرون قاتل في ثمان منها، وسراياه ما بين الإحدى والخمسين إلى الاحدى والسّتين، وان ما ذكرناه في أوائل السّورة عبارة عما ذكر منها في القرآن العظيم فقط «وَيَوْمَ حُنَيْنٍ» واد بين الطّائف ومكة معروف «إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ» فاستغنيتم بها وطشتم كأنكم تغلبون بسبب الكثرة «فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً» بل خذلتم وأظهرنا لكم انكم لا تغلبون إلّا باعتمادكم على الله لا على عدد أو عدد «وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ» فرأيتموها لم تسعكم مع ما هي عليه من السّعة العظيمة حتى انكم لم تجدوا موضعا تقرون إليه بحيث صرتم ترونهم ملأوا السّهل والجبل لما ألقى في قلوبكم من الرّعب منهم، «ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ»
عنهم منهزمين منهم «ثُمَّ» بعد ما عرفتم أن النّصر لا يكون إلّا من عند الله وباعتماد عليه وصدق التوكل وكمال الثقة به تعالى، ووقر هذا في قلوبكم إذ «أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ» طمأنينته بإزالة الخوف من أفئدتكم وتقليل الأعداء بأعينكم وتكثيركم بأعينهم، وقد عمم هذه السّكينة المتضمنة ما ذكر «عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ» الكائنين معه في هذه الحادثة «وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها» من ملائكته الكرام وقد جمعهم مع أنهم نورانيون ليكثر بهم سوادكم في أعين أعدائكم وخلق فيهم قدرة النّظر إليهم دونكم لإلقاء الرّعب في قلوبهم، ولولا ذلك لما رأوهم لأن أبصارهم لا طاقة لها على رؤيتهم ولو بصورة البشر، وإنما حجبكم عن رؤيتهم وحال دون نظركم إليهم مع قدرته على ذلك كما فعل بأعدائكم لئلا تتكلوا عليهم وليكون اتكالكم على الله وحده «وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بأيديكم قتلا وأسرا وسبيا «وَذلِكَ» العذاب المبرح هو «جَزاءُ الْكافِرِينَ» في الدّنيا ولعذاب الآخرة المخبوء لهم أشد وأعظم «ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ» ممن يؤمن منهم «وَاللَّهُ غَفُورٌ» للتائبين ما سلف منهم «رَحِيمٌ»
بعباده يقبل توبتهم رؤوف بأوليائه ينصرهم بعد الانهزام، وقد عد الله تعالى عليهم الانهزام ذنبا كما أن الاعتماد على النّفس ذنب آخر يجب التوبة عنه، وخلاصة هذه القصة هو ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عليه مكة في شهر رمضان السّنة الثامنة من الهجرة كما قد أوضحناه أول سورة الفتح المارة، خرج بعد ايام إلى حنين لقتال هوازن وثقيف وكانوا أربعة آلاف، وكان على هوازن مالك بن عوف النّقري، وعلى ثقيف كنانه بن عبديا ليل، في اثني عشر ألفا من المهاجرين والأنصار ولفيف من الطلقاء فلما التقى الجمعان قال سلمة بن سلامة بن رقيش الأنصاري لن نغلب اليوم من قلة، فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه لأنه يعلم ان الكثرة بغير معرفة الله تعالى لا نجدي نفعا، ولهذا الكلام وكلهم الله إلى كثرتهم لأنه تعالى لم يرض قوله ولأن أحدا من القوم لم يرد عليه قوله، اعتبروا كلهم راضين بمقالته، ولذلك استاء حضرة الرّسول لما بلغته مقالته تلك وسكوت القوم عليه، فوكلهم الله لأنفسهم فخذلوا كما سيأتي تفصيله بعد وما قيل إن القائل لهذه الكلمة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم زور، وبهت وافتراء
وعدوان
، وحاشاه فى ذلك، لأنه متوكل على ربه في جميع أحواله وأقواله، عالم بأن الكثرة لا تغني من الله شيئا، متيقن أن النّصر والمعونة من الله وحده لا بكثرة ولا بقلة، وكذلك أخطأ من ألصق هذه التهمة بأبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه إذ يبعد صدورها من مثله ولا يتصور وقوعها منه وهو على ما عرف عليه من اليقين الكامل والتوكل الخالص، ويكفي هذا القول وهو أن ما قاله ابن الجوزي المار ذكره آنفا، وهو إن صح عنه في بعض مخالفاته التي نقلها عنه أتباعه ممن لا يوثق بكلامهم، روى البخاري ومسلم عن أبي إسحق قال جاء رجل إلى البراء فقال أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال أشهد على نبي الله ما ولى، ولكن انطلق أخفّاء من النّاس حسرا (أي ليس عليهم سلاح، ويقال عزلا فيمن لا سلاح لهم، وحسرا لمن كان لديهم بعض السّلاح ولا دروع لهم، والأخفّاء (الموسوعون الّذين ليس لهم ما يعوقهم) إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد، فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث رئيس الطّلقاء يقود بغلة، فنزل ودعا بما دعا موسى عليه السلام يوم انفلاق البحر، وهو اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلّا بك.
واستقر وهو يقول:
أن النّبي لا كذب
…
أنا ابن عبد المطلب
اللهم أنزل نصرك، زاد أبو خيثمة ثم صفهم. وروى مسلم عن العباس بن عبد المطلب قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه، ورسول الله على بغلة بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، قال ابن عباس وأنا آخذ بلجام بغلته أكفّها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم أي عباس ناد أصحاب السّمرة، فقال عباس وكان رجلا صيّتا فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السّمرة، أي الشّجرة وإذا كانت هي المراد فتكون والله أعلم هي
الشجرة التي بايعه الأصحاب تحتها يوم الحديبية، وفي رواية قال يا أصحاب سورة البقرة هذا رسول الله، فتراجع القوم، قال فو الله لكان عطفهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا لبيك لبيك، قال فاقتتلوا والكفار وكانت الدعوة في الأنصار يقولون يا معشر الأنصار، قال ثم قصرت الدّعوة على بني الحارث بن الخزرج، فقالوا يا بني الحارث بن الخزرج، فنظر رسول الله وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال صلى الله عليه وسلم هذا حين حمي الوطيس أي اشتد الحرب وهذه كلمة لم تسمع قبل نهي من مقتضياته وإنشائه صلى الله عليه وسلم، والوطيس التنور، قال ثم أخذ صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال انهزموا ورب الكعبة أو ورب محمد، قال فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، قال فو الله ما هو إلّا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلا لا يقطع شيئا وأمرهم مدبرا.
وروى مسلم عن سلمة بن الأكوع قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا، قال فلما غشوا رسول الله نزل عن بغلته ثم قبض قبضة من تراب الأرض ثم استقبل به وجوههم وقال: شاهت الوجوه، فما خلق الله منهم إنسانا إلّا ملاعينه ترابا بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله بذلك، وقسم رسول الله غنائمهم بين المسلمين. وروي أن رجلا من المشركين قال لما التقينا وأصحاب محمد لم يقضوا لنا حلبة شاة، فسقناهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء أي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا شاهت الوجوه فانهزمنا، وهؤلاء الجنود الّذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية وقد سبق أن ذكرنا أن الملائكة لم تحارب مع رسول الله إلّا يوم بدر، وفي غيره تكون مددا لتكثير سواد المسلمين وهو الصّحيح كما أشرنا إليه في الآية 12 من سورة الأنفال المارة، وقول هذا المشرك يؤيد عدم قتالهم، إذ اقتصر فيه على القول الذي سمعه منهم، فلو كان هناك قتال لذكره في هذه الرّواية، لأنه يقول راويها تلقانا رجال يقولون كذا وكذا، ولم يقل حاربونا أو رمونا أو غير ذلك. وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن أناسا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق رسول الله يعطي رجالا من قريش المئات
من الإبل، فقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا، وإن سيوفنا لتقطر من دمائهم. قال أنس فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قولهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله فقال حديث بلغني عنكم، فقال له فقهاء الأنصار أما ذو رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال صلى الله عليه وسلم إني لأعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم، أفلا ترضون أن تذهب النّاس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم برسول الله؟ فو الله ما تنقلون به خير مما ينقلون به، قالوا بلى يا رسول الله قد رضينا، قال فإنكم ستجدون بعدي أثرة (حالة غير مرضية تتأثرون فيها بحيث يؤثّر وغرها في قلوبكم، وتطلق هذه الكلمة على المكرمة المتوارثة وليست مرادا هنا) شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض، قالوا سنصبر. ورويا عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال لما أفاء الله على رسوله يوم حنين قسم في النّاس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا فكأنهم وجدوا إذا لم يصبهم ما أصاب النّاس، فخطبهم فقال يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله آمنّ، قال فما منعكم ألا تجيبوا رسول الله كلما قال شيئا، قالوا الله ورسوله أمّن. قال لو شئتم لنلتم جئتنا كذا وكذا (أي وحيدا فآريناك ونصرناك وقمنا بمؤنة أصحابك وساويناهم بأنفسنا وقسمنا عليهم أموالنا وأزواجنا، ولكنهم من أدبهم مع حضرة الرسول لا يقولون ذلك ولا يتصورون أن يجابهوا حضرة الرّسول به) ترضون أن تذهب النّاس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي إلى رجالكم، لولا الهجرة لكنت امرأة من الأنصار، ولو سلك الأنصار واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، الأنصار شعار والنّاس دثار (الشعار اللّباس الذي يلي شعر الجسد، والدّثار ما يلبس فوقه) يريد أنهم الأصل وغيرهم الفرع. هذا وقد ذكر البغوي أن الزهري قال بلغني أن شيبة بن عثمان قال استدبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين أريد قتله بطلحة بن عثمان وابنه عثمان حيث قتلا يوم أحد، فأطلع الله رسوله على
ما في نفسي فالتفت صلى الله عليه وسلم إليّ وضربني في صدري وقال أعيذك بالله يا شيبة فأرعدت فرائصي، فنظرت إليه فإذا هو أحب إلي من سمعي وبصري، فقلت أشهد أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله، قد أطلعك الله على ما في نفسي، وأسلم وحسن إسلامه. وروى مسلم عن رافع بن خديج قال أعطى رسول الله أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن قصي والأقرع بن حابس كلّ إنسان مئة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك
، فقال عباس:
أتجعل نهبن ونهب البعيد
…
بين عيينة والأقرع
فما كان حصن ولا حابس
…
يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرئ منهما
…
ومن يخفض اليوم لا يرفع
قال فأتم له رسول الله مئة. وروى البخاري عن المسور بن مروان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد عليهم مالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله إن معي من ترون، وأحبّ الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطّائفتين، إما المال وإما السّبي، وقد كنت استأنيت بكم، وفي رواية كان صلى الله عليه وسلم انتظرهم بضعة عشرة ليلة حين قتل من الطّائف، فلما تبين لهم أنه غير رادّ عليهم إلّا إحدى الطّائفتين، قالوا إذا نختار سبينا، فقام صلى الله عليه وسلم في النّاس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال أما بعد، فإن إخوانكم هؤلاء جاءونا تائبين، وإني قد رأيت أن أردّ إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك لهم فليفعل، فقال النّاس قد طيبنا ذلك لهم يا رسول الله، فقال لهم في ذلك إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم، فرجع النّاس ليكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا. فهذا الذي بلغنا من سيرة هوازن قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا» التاسع من الهجرة الذي نزلت فيه هذه السّورة وحج فيه أبو بكر بالناس نائبا عن رسول الله ولم يحج به رسول الله لئلا يرى مشركا أو عريا بالطواف بالبيت قبل الإنذار الذي قدمه إليهم مع ابن عمه علي كرم الله وجهه الذي هو بالنسبة له بمنزلة هرون من
موسى، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم والمراد هنا أنهم نجسوا العقيدة لا أنهم أنفسهم نجسة كما ذهب إليه بعض الإمامية راجع الآية (5) من سورة المائدة المارة «وَإِنْ خِفْتُمْ» أيها المؤمنون إن انقطاع المشركين عن الحضور إلى البيت الحرام بسبب لكم «عَيْلَةً» فقرا وفاقة بانقطاع تجارتهم والبيع والشّراء معهم «فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» بأن يكثر لكم الدّرّ والنّبات، ويزيد في تجارة المسلمين ويكثر وفودهم على البيت بما يكفيكم عنهم «إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ» كثير الألطاف على عباده «عَلِيمٌ» بما ينشأ عن مجيئهم وعدمه وما يصلح به شأنكم من غيرهم «حَكِيمٌ» (28) بتحقيق آمالكم وكفايتكم من طرق لم تكن ببالكم، وانّما شرط المشيئة على نفسه الكريمة جلت وعظمت تعليما لعباده ليكونوا دائمي التضرع والابتهال إليه في طلب الخير ودفع الشّر، ويقطعوا آمالهم من الخلق ويخلصوا التوكل عليه والإنابة في كلّ أمورهم. الحكم الشّرعي: لا يجوز لكافر أن يدخل حرم مكة المشرفة ذميا كان أو مستأمنا، ويجب على الإمام إذا أتاه رسول كافر من دار الكفر أن يخرج هو إليه لا أن يدخله الحرم، ولهذا فإن جميع سفراء الدّول قد خصص لإقامتهم محلات في جدة خلافا للدول الأخرى فإنهم يسكنون في العاصمة نفسها، وبما أن عاصمة الحجاز مكة المكرمة وقد حرمها الله على الكفرة جعلت إقامتهم في جدة أما بقية الأراضي الحجازية مما بين اليمامة ونجد واليمن والمدينة المنورة وما بين جبلي طي وطريق العراق فيجوز لهم دخولها بالإذن على أن لا يقيموا بها أكثر من ثلاثة أيّام. ويدخل الحرم في المسجد الحرام لأن دخولهم فيه قريب من نفس المسجد، يؤيد هذا قوله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» وهو إنما أسري به من بيت أم هانيء، وهو من الحرم فأطلق عليه لفظ المسجد لأن مكة حكمه، وأما بقية البلاد الإسلامية السّائرة فللكافر الإقامة فيها بعهد وأمان وزمة ولا يدخلون المساجد إلّا بإذن من أمير مسلم، روى مسلم عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأخرجن اليهود والنّصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلّا مسلما. زاد في رواية لغير مسلم، وأوصى فقال:
أخرجوا من المشركين من جزيرة العرب قال تعالى «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ