الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مطلب في نزول المائدة وما قاله عيسى عليه السلام لطالبيها وما أجاب به ربه عند سؤاله عما عزى إليه قومه:
وعند ذلك «قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً» نتخذه من عوائد برك وإحسانك وجودك وكرمك خاصّا «لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا» ممن يأتي بعدنا عاما «وَآيَةً مِنْكَ» لنا دالة على كمال عظمتك وبالغ قدرتك وتصديقا لنبيك «وَارْزُقْنا» هذه المائدة وألهمنا الشكر عليها «وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (114) لأنك ترزق بغير حساب وتعطي بغير مسألة، فاستجاب الله تعالى له حالا بدلالة عدم وجود العطف على دعائه، بما يدل على عدم التراخي، إذ «قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ» قالوا نزلت يوم الأحد، واتخذه النّصارى عيدا بدل السّبت من ذلك اليوم «فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ» إنزال هذه المائدة ومشاهدتها والأكل منها «مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» (115) قبلكم ولا بعدكم لأنه آية حسيّة ملموسة لا يمكن أن يقال إنها سحر أو غيره، ولأنها وقعت عن اقتراح، وقد جرت عادة الله بتعذيب المقترحين إذا لم يؤمنوا تعذيب استئصال، قالوا فجحدها جماعة من بني إسرائيل وكفروا بها فمسخوا خنازير، خزيا لهم وهوانا، وهو عذابهم الدّنيوي والعذاب الأخروي مخبوء لهم، وهو أشد وأفظع خزيا ومهانة، فكانت وبالا على المنكرين، وفاز من صدق بصحبة نبيه، ونجا مما حل بهم. ولا وجه لقول من قال إن المائدة لم تنزل، لأن الله تعالى قال (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) أي إن أردتم لأن قول الله هذا من قبيل الوعد وهو لا يخلف الميعاد، والذي ينكر هذه ينكر نتق الجبل على بني إسرائيل أيضا، لأنه كان معلقا على قبولهم الأخذ بالتوراة أخرج الترمذي عن عمار بن ياسر قال: قال صلى الله عليه وسلم أنزلت المائدة من السّماء خبزا ولحما، وأمروا ألّا يخونوا ولا يدخروا، ولقد خانوا وادخروا ورفعوا للغد، فمسخوا قردة وخنازير. وقال عبد الله بن عمر: إن أشد النّاس عذابا يوم القيامة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون أي لقوله تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) الآية 140 من النّساء المارة، وقوله في آل فرعون
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) الآية 47 من سورة المؤمن ج 2، ولقوله في أصحاب المائدة (عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) الآية المارة، قال ابن عباس نزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها وهي تهوي إليهم منقضة حتى سقطت بين أيديهم، فلما رأوها لا تشبه موائدهم قال شمعون أكبر الحواريين أمن طعام الدّنيا يا روح الله؟ قال لا من طعام الدّنيا ولا من الجنّة، ولكنه شيء اخترعه الله لكم، فكارا مما سألتم واشكروا الله يزدكم، قالوا كن أول من يأكل، قال إنما يأكلها من سألها، فخافوا أن يأكلوا منها، فدعا إليها أهل الفاقة والمرض، فأكل منها ألف وثلاثمائة رجل وهي بحالها ثم طارت وهم ينظرون إليها حتى توارت صعودا، قال الكلبي ومقاتل أنزل الله سمكة وخمسة أرغف فأكلوا منها ما شاء الله، فلما نشروا الخبر ضحك من لم يشهدها وقالوا سحركم، فمن أراد الله به خيرا ثبّته، ومن أراد فتنته رجع إلى كفره، فمسخوا، قالوا وليس فيهم صبي ولا امرأة، وبعد ثلاثة أيّام هلكوا، وكذلك كلّ ممسوخ، قالوا والسّبب في تسميتهم حواريين إنهم كانوا قصارين أي صباغين، وان مريم عليها السلام كانت وضعت عيسى عند رئيسهم ليتعلم منه، وكان عرض له سفر فقال يا عيسى إنك قد تعلمت هذه الصّنعة وهذه ثياب قد علمت عليها بخيط من جنس الذي تصبغ به، وهذه أواني الصّبغ ودتان مختلفة بحسبها فأريد أن تصبغ كلا منها في دنه بمقتضى اللّون المطلوب، وان تفرغ منها قبل قدومي، وتركه وذهب، فقام عيسى فطبخ دنا واحدا بلون واحد ووضع الثياب كلها فيه، وقال كوني بأمر الله على ما أريد منك من الألوان مثل ما قال المعلم فقدم معلمه وقال له ماذا عملت بالثياب؟ قال فرغت منها وهي هذه كلها في جب واحد، قال أفسدتها وسببت لي خصومة أهلها، قال عيسى لا، ثم أخرجها فإذا هي كما أراد: الأصفر أصفر، والأحمر أحمر، والأخضر أخضر، والأسود أسود، فتعجب المعلم من ذلك وعلم أن هذا من الله، فآمن به هو وأصحابه وأظهروا معجزته للناس. وقيل سموا حواريين لصفاء قلوبهم. واذكر يا محمد لقومك أيضا «وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي
وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ»
فبادره
عيسى بكلمة التبري «قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ» قولا «ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ» أن أقوله وكيف يكون ذلك مني وأنا عبد محتاج لا أستحق العبودية، ولا حاجة لتقديم المعذرة في مثل هذا اليوم العظيم، لأن المقام مقام تواضع وخشوع إلى جلالك وإني «إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ» كما قيل عني «فَقَدْ عَلِمْتَهُ» يا رب وهذا جواب على غاية من الأدب ونهاية من الاحترام وبعيد في المسكنة، إذ فوض الأمر المسئول عنه إلى ربه لعلمه أنه عالم به في الأزل وعالم بما قاله وعمله منذ خلقه إلى يوم سؤاله فما بعد ذلك، ولهذا قال «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ» لأنك تعلم حقيقة أمري ولا أعلم حقيقة أمرك، وهذا من الفصاحة بمكان لأنه وقع على طريقة المشاكلة والمطابقة، ثم أكد قوله هذا بقوله «إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» (116) مما كان وسيكون من مبدأ الكون إلى نهايته وما بعد ذلك إلى الآخرة وما يكون فيها. وبعد أن مهّد جوابه هذا إلى ربه واستأنس من جبروته بما وفق إليه من الجواب قال يا رب وعزتك «ما قُلْتُ لَهُمْ» شيئا من نفسي «إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ» من الوحي الذي شرفتني به وهو «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ» لا تشركوا به غيره «وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ» مقيما أراقبهم على أعمالهم وأقوالهم وأنصحهم وأرشدهم لتوحيدك والإصلاح بين النّاس «فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي» بانقضاء أجلي في الدّنيا أولا ورفعي إلى السماء إذ نجيتني من كيد اليهود «كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ» من بعدي كما كنت رقيبا علي وعليهم وعلى الخلق أجمع من قبل «وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (117) في الدّنيا والآخرة لا يغيب عنك عمل عامل من خلقك ولا شيء من أمرهم الآن وفيما مضى ويأتي، ثم لما أطلعه على ما وقع منهم من المخالفات لتعاليمه أحجم عن الدّفاع عنهم وقال متضرعا يا رب قد وقع منهم ذلك وأنت أولى بهم من «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ» على ما صدر منهم وهم مستحقون العذاب «فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ» وقد جحدوا آياتك وكذبوا رسلك وافتروا عليك وعلي وأنت الحكم المقسط بمن يكفر بعد ظهور دلائل الإيمان له ووجود الحجة عليه بعد ظهور
المحجة، وهم الآن معترفون بما وقع منهم إذ لا يقدرون على دفع ما تنزله فيهم من العذاب ولا رفع ما وجب عليهم من العقاب كما كانوا عاجزين قبل بل هم الآن أعجز «وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ» كفرهم وتطاولهم وبهتهم ومخالفتهم فبفضل جودك ولطف رحمتك وعطفك على عبادك، وأنت الذي لا تسأل عما تفعل ولك تعذيب الطائع وتنعيم العاصي وما هذا عليك بعزيز «فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ» الذي لا عزيز غيرك الغالب الذي لا يفلت أحد مما تريده به «الْحَكِيمُ» (118) بأفعاله بعباده.
واعلم أن هذا القول من الله تعالى إلى عيسى يوم القيامة بدليل قوله (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ) الآية الآنفة وبدليل سياق الآية نفسها لأنها بلفظ الاستفهام الإنكاري تقريعا لمن ادعى ذلك في عيسى وألصق به ما هو براء منه وتوبيخا لهم على رءوس الأشهاد، ووجه السّؤال تثبيت الحجة على قومه وتكذيبا لادعائهم بإلهيته وإن من قال بإلهيته قال بإلهية أمه على سبيل التبعية لأنها ولدته وقال بأن الله ثالث ثلاثة أيضا، ولا يقال بعدم لياقة طلب المغفرة من عيسى عليه السلام لقوم كافرين، لأن قوله ذلك ليس على طريق المغفرة ولو كان لقال (إنك أنت الغفور الرّحيم) لأن هاتين الصّفتين لائقتان بهما ولكنه قال ذلك على طريق تسليم الأمر لله وتفويضه لمراده، ولهذا قال (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إذ يجوز في الحكمة عدم تعذيب الكافر، ومما يرد قول القائل إن هذا السّؤال وقع من عيسى عليه السلام عند رفعه إلى السّماء قوله تعالى «قالَ اللَّهُ هذا» اليوم الذي وقع فيه هذا القول، لأن الإشارة تكون لأقرب مذكور، ولم يأت ذكر لرفعه هنا البتة، فمن جوّز إعادة الضّمير إليه أي أعاد اسم الإشارة إلى يوم الرّفع نصب كلمة «يَوْمُ» وأراد أن هذا القول من الله إلى عيسى يوم رفعه وليس بشيء لمنافاته السّياق والسّباق ولإجماع القرّاء على رفع كلمة يوم، أي يوم القيامة يوم سؤال الخلق عما كان منهم، بدليل قوله جل قوله «يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ» الواقع منهم في الدّنيا فإنه ينفعهم في هذا اليوم يوم الآخرة إذ لا يكون النّفع الحقيقي إلّا فيه، لأنه هو يوم الجزاء. أما احتجاج القائل بأن هذا كان عند الرّفع مستدلا بقوله تعالى «إِذْ» بصدر الآية لأنها للماضي ولم يعلم أنها تأتي بمعنى (إذا) فتكون للمستقبل،
قال تعالى (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) الآية 51 من سورة سبأ في ج 2، وهذا الفزع الذي لا فوت منه إنما يقع يوم القيامة، قال الرّاجز:
ثم جزاك الله عني إذ جزى
…
جنّات عدن في السّموات العلى
أي إذا جزى، ولا يكون هذا الجزاء إلّا يوم القيامة، ومما يرد هذا القول ويؤيد ما مشينا عليه قوله تعالى «لَهُمْ» أي الصّادقين في ذلك اليوم «جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» ولا يكون هذا الخلود في تلك الجنّات إلّا في الآخرة «رضي الله عنهم» أي أهل الجنّات بطاعتهم له في الدّنيا «وَرَضُوا عَنْهُ» بما من عليهم وأعطاهم من عظيم ثواب وجزيل كرامة في الآخرة «ذلِكَ» الأجر الجزيل والخير الكثير هو «الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (119) الذي ما فوقه فوز ونجاح كبير ما فوقه نجاح «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ» من مخلوقات يتصرف فيهم كيف يشاء ويريد كما يتصرف فيهما مثل ما يريد ويختار، وهو المستحق للعبادة وحده، وأن عيسى وأمه ومن في الأرض والسّموات وما بينهما جميعا عبيد خاضعون لعظمته، منقادون لقهره، «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (120) لأن جميع المكونات النّامية والجامدة تحت قدرته، وله أن يدخل من يشاء في رحمته ويوصل من يشاء إلى ملكوته، ويقطع من يشاء عن ملكه. ويمنع من يشاء من عطفه، وأن عيسى وغيره من جملة عباده الداخلين تحت قدرته إذ لا شيء في الكون علويه وسفليه إلّا وهو في قبضته سبحانه هو الواحد القهار، قال قتادة، متكلمان لا يخطئان يوم القيامة عيسى عليه السلام لأنه يقوم فيقول ما قصّ الله عنه في هذه الآيات فكان صادقا في الدّنيا والآخرة فينفعه الله بصدقه، وأما المتكلم الآخر فهو إبليس عليه اللّعنة فإنه يقوم فيقول ما ذكر الله عنه في الآية 33 من سورة إبراهيم عليه السلام المارة في ج 2 التي أولها (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) إلخ فقد صدق عدو الله بما قال، ولكن لم ينفعه صدقه. روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النّبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله عز وجل في إبراهيم عليه السلام ما ذكر الله عنه في قوله (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ» الآية 36 من سورته في