المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مطلب في نزول المائدة وما قاله عيسى عليه السلام لطالبيها وما أجاب به ربه عند سؤاله عما عزى إليه قومه: - بيان المعاني - جـ ٦

[ملا حويش]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء السادس]

- ‌تفسير سورة الزلزلة عدد 7- 93- 98

- ‌تفسير سورة الحديد عدد 8- 94- 57

- ‌تفسير سورة محمد عليه السلام عدد 9- 95 و 47 وتسمى سورة القتال

- ‌مطلب الآية المكية وصفة الجنّة وعلامات السّاعة وحال أهل الجنّة وأهل النّار:

- ‌مطلب عصمة النّساء وصلة الرّحم وتدبر القرآن ومثالب المنافقين والكافرين والبخل وما نفرع عنه:

- ‌تفسير سورة الرّعد عدد 10- 96 و 13

- ‌مطلب في قوله تعالى بغير عمد. وفي قارات الأرض الخمس ومعجزات القرآن والمعقبات:

- ‌مطلب ينتفع الميت بعمل غيره وبصلة الوفاء والصّدقات ويجوز قضاء حجه وصومه من قبل أوليائه وفي ذكر الله تعالى وصلة الرّحم:

- ‌مطلب في أحوال أهل الكتاب، والمحو والإثبات ونقص الأرض وحكم الله تعالى:

- ‌تفسير سورة الرّحمن عدد 11- 97 و 55

- ‌مطلب أن الآيات نقم على أناس، نعم على آخرين ومزية الخوف من الله تعالى:

- ‌تفسير سورة الإنسان عدد 12- 98 و 76

- ‌مطلب في الحين والنّذر والكرم وأنواعه وثوابه وأول من سنه:

- ‌تفسير سورة الطّلاق عدد 13- 99- 65

- ‌مطلب الحكم الشّرعي في الإشهاد على أن الطّلاق والرّجعة بعد بيان أحوال المطلقات والآية الوحيدة الدّالة على أن الأرضين سبع كالسماوات:

- ‌تفسير سورة البينة عدد 14- 100 و 98

- ‌مطلب المراد بالإخلاص وأهل الكتابين والمشركين وغزوة بن النّضير وسبب إسكان اليهود في الحجاز:

- ‌تفسير سورة الحشر عدد 15- 101- 59

- ‌مطلب أمر الرّسول أمر الله وبيان قسمة الفيء والغنيمة وذم البخل والشّح وعمل أبي طلحة رضي الله عنه وحب الأصحاب حب الرّسول:

- ‌مطلب قصة برصيصا الرّاهب وكفره وجريج الرّاهب وبراءته، وتسبب العلماء لإهانة أنفسهم:

- ‌تفسير سورة النّور عدد 16 و 102 و 24

- ‌مطلب في كفر من يقذف السّيدة عائشة بعد بيان هذه الأحكام العشرة المبينة بالآيات في أول السّورة إلى هنا وقصة الإفك:

- ‌مطلب آداب الدّخول على الدّور وطوق الباب والدّخول بلا أذى والوقوف أمام باب الدّار وحومة النّظر إلى من فيها:

- ‌مطلب فيمن يجوز نظره ومن لا وستر الوجه وغيره وما هي الزينة التي لا يجوز النّظر إليها والنّكاح:

- ‌مطلب ارجاء زواج الفقير لفناه. وجواز الكاتبة ندبا. وفي معنى (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) . ومعنى قوله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) :

- ‌مطلب في الزيتون ونوره تقالى ومعنى ضرب المثل وما ينقل عن كعب الأحبار:

- ‌مطلب تأليف المطو والبرد وكيفية حصول البرق والرّعد وكون مخلوقات الله كلها من مادة الماء:

- ‌مطلب في معجزات الرّسول، الإخبار بما يأتي، وعوائد الجاهلية الباقي أثرها وجواز الأكل عند الأقارب والأصدقاء، ووجوب ملازمة الرّسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌تفسير سورة الحج عدد 17- 103- 52

- ‌مطلب إظهار قواعد البيت، وعمارته، والحج إليه، وفوائد الحج، والدّبائح وما يتعلق فيها المادية والمعنوية:

- ‌مطلب في قصة قوم صالح عليه السلام وأسباب إهلاك بعض الأمم وتسمية بعض البلاد بما وقع فيها والآيات المكيات:

- ‌مطلب تعجيب الله رسوله وخلقه في بعض أفعاله وضرب الأمثال وكون شريعة محمد ناسخة لكل الشّرائع وعجز الأوثان وسجود التلاوة

- ‌تفسير سورة المجادلة عدد 19 و 105- 58

- ‌مطلب آداب المجالسة وفضل العلم والعلماء وما يتعلق بذلك:

- ‌تفسير سورة الحجرات عدد 20- 106 و 29

- ‌مطلب في الصّلح ومراعاة العدل بين الطّرفين من قبل المصلحين والسّخرية والظّن والتجسس والغيبة والشّعوب وتفرعاتها:

- ‌تفسير سورة التحريم عدد 21- 107 و 66

- ‌مطلب استئناس عمر رضي الله عنه مع حضرة الرّسول وما قاله ابو رواحة إلى زوجته حتى تخلص مما اتهمته به:

- ‌مطلب في المثل الذي ضربه الله تعالى لنساء الأنبياء وقصة آسية زوجة فرعون ومريم ابنة عمران:

- ‌تفسير سورة التغابن عدد 22- 108- 64

- ‌تفسير سورة الجمعة عدد 42 و 110 و 62

- ‌مطلب أول جمعة أقيمت في الإسلام وفضلها والعمل بها وسبب تسميتها:

- ‌تفسير سورة الفتح عدد 25- 111 و 63

- ‌مطلب قصة الفتح وأعني بالفتح فتح مكة لا غير وبيان الّذين هدر دمهم رسول الله وما وقع فيه وسببه:

- ‌مطلب فيما امتاز به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ودينه ووصف أصحابه والتوقي من ذكرهم بسوء:

- ‌تفسير سورة المائدة عدد 26 و 112 و 5

- ‌مطلب في النّسخ والحرمات وأسباب تحريمها والأنصاب والأزلام وغيرها والآية المستثناة:

- ‌مطلب في أحكام الصّيد وما يؤكل منه وما لا، وما هو المعلم من غيره والصّيد بالبندقية والعصا وغيرهما

- ‌مطلب في أحكام التيمم وكيفيته وجواز الوضوء الواحد لخمس صلوات وإن كلمة إنا لا تفيد العموم وفروض الوضوء وكيفيته:

- ‌مطلب تذكير رسول الله ببعض النّعم التي أنعم الله بها عليه بخلاصه من الحوادث والتآمر، وقصة موسى عليه السلام مع الجبارين:

- ‌مطلب في مدة الفترة وما بين عيسى ومحمد من الزمن وعوج بن عنق وتيه بني إسرائيل والحكمة منه:

- ‌مطلب موت هارون وموسى عليهما السلام وقصة ولدي آدم عليه السلام:

- ‌مطلب في حد المفسدين في الأرض ومن تقبل توبتهم ومن لا تقبل وحكاية داود باشا حاكم العراق:

- ‌مطلب في الرّابطة عند السّادة النّقشبندية وفي حد السّارق ومعجزات الرّسول والقصص وما يتعلق به:

- ‌مطلب في الّذين ارتدوا عن الإسلام في زمن الرّسول وبعد واخبار الرّسول بذلك عن طريق الاعجاز ومن دخل في الإسلام:

- ‌مطلب في مثالب اليهود والتفرقة في الدّين وما ينشا عنها وأن تبليغ الرّسول مقصور على القرآن وأمره بترك حراسته:

- ‌مطلب أشد النّاس عداوة وأقربهم مودة للمسلمين وان التشديد في الدّين غير مشروع ولا ممدوح وكفارة اليمين:

- ‌مطلب تحريم الخمر بتاتا وأسباب هذا التحريم وذم الخمر والميسر وشبههما والحكم الشّرعي فيه وضرره في الوجود:

- ‌مطلب في الخبيث والطّيب والنّهي عن سؤال الله بما لم يكلف به عباده وما حرمته الجاهلية قبل الإسلام:

- ‌مطلب لا يستفاد من هذه الآية ترك الأمر بالمعروف وكيفية استماع الشّهود على وصية الميت وسبب نزول هذه الآية:

- ‌مطلب في نزول المائدة وما قاله عيسى عليه السلام لطالبيها وما أجاب به ربه عند سؤاله عما عزى إليه قومه:

- ‌تفسير سورة التوبة- براءة عدد 27- 113 و 8

- ‌مطلب إنذار الله إلى النّاس بانتهاء معاهدات الحرب وعدم صحة عزل أبي بكر من إمارة الحج وتهديد الكفار إذا لم يؤمنوا بعد هذا الانذار:

- ‌مطلب تفضيل الإيمان على كلّ عمل مبرور كعمارة المساجد والإطعام وفك الأسرى وغيرها:

- ‌مطلب في الرّخص والعزائم وواقعة حنين

- ‌مطلب أسباب ضرب الجزية على أهل الكتاب وما هي، ومعاملتهم بالحسنى وبيان مثالبهم التي يفعلونها ويأمرون بها:

- ‌مطلب في ذم مانعي الزكاة وعقابهم، ومعنى الكنز، وسبب نفي أبي ذر، والأشهر الحرم، واختلاف السّنين، وعدد أيامها:

- ‌مطلب فى المجاهدين وما ذكره الله من هجرة رسوله والحث على الجهاد وغزوة تبوك وما وقع فيها:

- ‌مطلب مثالب المنافقين ومصارف الصّدقات وسبب وجوبها وتحريم السّؤال:

- ‌مطلب في الأصناف الثمانية ومن يجوز إعطاؤه من الزكاة ومن لا يحوز وبعض مثالب المنافقين أيضا:

- ‌مطلب ظهور المنافقين وفضحهم وعدم قبول أعذارهم

- ‌مطلب في فضايح المنافقين وإسلام بعضهم وما قيل في الأيام وتقلباتها والصّحبة وفقدها

- ‌مطلب قصة ثعلبة وما نتج عنها وحكم وأمثال في البخل والطّمع والجبن وغيرها:

- ‌مطلب موت ابن أبي سلول وكون العلة لا تدور مع المعلول، وأسباب التكرار في الآيات وعدم زيادة (ما) ولا غيرها في القرآن:

- ‌مطلب في المستثنين من الجهاد، والفرق بين العرب والأعراب وأول من آمن وخبرهم، وتقسيم المنافقين، وعذاب القبر:

- ‌مطلب سبب اتخاذ مسجد الضّرار ومسجد قباء وفضله، والترغيب في الجهاد وتعهد الله للمجاهدين بالجنة، وعدم جواز الاستغفار للكافرين:

- ‌مطلب في إيمان أبي طالب وسبب استغفار ابراهيم لأبيه وكذب ما نقل عن ابن المقفع وقصة المخلفين الثلاثة وتوبتهم:

- ‌مطلب في مدح الصّدق وفوائده وذم الكذب ونتائجه وما يتعلق بذلك والرّابطة عند السّادة الصّوفية:

- ‌مطلب في فضل الجهاد والنّفقة فيه وفضل طلب العلم واستثناء أهله من الجهاد، والحكمة في قتال الأقرب بالأقرب وكون الايمان يزيد وينقص وبحث في ما:

- ‌(تفسير سورة النّصر عدد 28- 114 و 110)

- ‌(الخاتمة نسأل الله حسنها لديه)

الفصل: ‌مطلب في نزول المائدة وما قاله عيسى عليه السلام لطالبيها وما أجاب به ربه عند سؤاله عما عزى إليه قومه:

‌مطلب في نزول المائدة وما قاله عيسى عليه السلام لطالبيها وما أجاب به ربه عند سؤاله عما عزى إليه قومه:

وعند ذلك «قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً» نتخذه من عوائد برك وإحسانك وجودك وكرمك خاصّا «لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا» ممن يأتي بعدنا عاما «وَآيَةً مِنْكَ» لنا دالة على كمال عظمتك وبالغ قدرتك وتصديقا لنبيك «وَارْزُقْنا» هذه المائدة وألهمنا الشكر عليها «وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (114) لأنك ترزق بغير حساب وتعطي بغير مسألة، فاستجاب الله تعالى له حالا بدلالة عدم وجود العطف على دعائه، بما يدل على عدم التراخي، إذ «قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ» قالوا نزلت يوم الأحد، واتخذه النّصارى عيدا بدل السّبت من ذلك اليوم «فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ» إنزال هذه المائدة ومشاهدتها والأكل منها «مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» (115) قبلكم ولا بعدكم لأنه آية حسيّة ملموسة لا يمكن أن يقال إنها سحر أو غيره، ولأنها وقعت عن اقتراح، وقد جرت عادة الله بتعذيب المقترحين إذا لم يؤمنوا تعذيب استئصال، قالوا فجحدها جماعة من بني إسرائيل وكفروا بها فمسخوا خنازير، خزيا لهم وهوانا، وهو عذابهم الدّنيوي والعذاب الأخروي مخبوء لهم، وهو أشد وأفظع خزيا ومهانة، فكانت وبالا على المنكرين، وفاز من صدق بصحبة نبيه، ونجا مما حل بهم. ولا وجه لقول من قال إن المائدة لم تنزل، لأن الله تعالى قال (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) أي إن أردتم لأن قول الله هذا من قبيل الوعد وهو لا يخلف الميعاد، والذي ينكر هذه ينكر نتق الجبل على بني إسرائيل أيضا، لأنه كان معلقا على قبولهم الأخذ بالتوراة أخرج الترمذي عن عمار بن ياسر قال: قال صلى الله عليه وسلم أنزلت المائدة من السّماء خبزا ولحما، وأمروا ألّا يخونوا ولا يدخروا، ولقد خانوا وادخروا ورفعوا للغد، فمسخوا قردة وخنازير. وقال عبد الله بن عمر: إن أشد النّاس عذابا يوم القيامة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون أي لقوله تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) الآية 140 من النّساء المارة، وقوله في آل فرعون

ص: 394

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) الآية 47 من سورة المؤمن ج 2، ولقوله في أصحاب المائدة (عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) الآية المارة، قال ابن عباس نزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها وهي تهوي إليهم منقضة حتى سقطت بين أيديهم، فلما رأوها لا تشبه موائدهم قال شمعون أكبر الحواريين أمن طعام الدّنيا يا روح الله؟ قال لا من طعام الدّنيا ولا من الجنّة، ولكنه شيء اخترعه الله لكم، فكارا مما سألتم واشكروا الله يزدكم، قالوا كن أول من يأكل، قال إنما يأكلها من سألها، فخافوا أن يأكلوا منها، فدعا إليها أهل الفاقة والمرض، فأكل منها ألف وثلاثمائة رجل وهي بحالها ثم طارت وهم ينظرون إليها حتى توارت صعودا، قال الكلبي ومقاتل أنزل الله سمكة وخمسة أرغف فأكلوا منها ما شاء الله، فلما نشروا الخبر ضحك من لم يشهدها وقالوا سحركم، فمن أراد الله به خيرا ثبّته، ومن أراد فتنته رجع إلى كفره، فمسخوا، قالوا وليس فيهم صبي ولا امرأة، وبعد ثلاثة أيّام هلكوا، وكذلك كلّ ممسوخ، قالوا والسّبب في تسميتهم حواريين إنهم كانوا قصارين أي صباغين، وان مريم عليها السلام كانت وضعت عيسى عند رئيسهم ليتعلم منه، وكان عرض له سفر فقال يا عيسى إنك قد تعلمت هذه الصّنعة وهذه ثياب قد علمت عليها بخيط من جنس الذي تصبغ به، وهذه أواني الصّبغ ودتان مختلفة بحسبها فأريد أن تصبغ كلا منها في دنه بمقتضى اللّون المطلوب، وان تفرغ منها قبل قدومي، وتركه وذهب، فقام عيسى فطبخ دنا واحدا بلون واحد ووضع الثياب كلها فيه، وقال كوني بأمر الله على ما أريد منك من الألوان مثل ما قال المعلم فقدم معلمه وقال له ماذا عملت بالثياب؟ قال فرغت منها وهي هذه كلها في جب واحد، قال أفسدتها وسببت لي خصومة أهلها، قال عيسى لا، ثم أخرجها فإذا هي كما أراد: الأصفر أصفر، والأحمر أحمر، والأخضر أخضر، والأسود أسود، فتعجب المعلم من ذلك وعلم أن هذا من الله، فآمن به هو وأصحابه وأظهروا معجزته للناس. وقيل سموا حواريين لصفاء قلوبهم. واذكر يا محمد لقومك أيضا «وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي

ص: 395

وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ»

فبادره

عيسى بكلمة التبري «قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ» قولا «ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ» أن أقوله وكيف يكون ذلك مني وأنا عبد محتاج لا أستحق العبودية، ولا حاجة لتقديم المعذرة في مثل هذا اليوم العظيم، لأن المقام مقام تواضع وخشوع إلى جلالك وإني «إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ» كما قيل عني «فَقَدْ عَلِمْتَهُ» يا رب وهذا جواب على غاية من الأدب ونهاية من الاحترام وبعيد في المسكنة، إذ فوض الأمر المسئول عنه إلى ربه لعلمه أنه عالم به في الأزل وعالم بما قاله وعمله منذ خلقه إلى يوم سؤاله فما بعد ذلك، ولهذا قال «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ» لأنك تعلم حقيقة أمري ولا أعلم حقيقة أمرك، وهذا من الفصاحة بمكان لأنه وقع على طريقة المشاكلة والمطابقة، ثم أكد قوله هذا بقوله «إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» (116) مما كان وسيكون من مبدأ الكون إلى نهايته وما بعد ذلك إلى الآخرة وما يكون فيها. وبعد أن مهّد جوابه هذا إلى ربه واستأنس من جبروته بما وفق إليه من الجواب قال يا رب وعزتك «ما قُلْتُ لَهُمْ» شيئا من نفسي «إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ» من الوحي الذي شرفتني به وهو «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ» لا تشركوا به غيره «وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ» مقيما أراقبهم على أعمالهم وأقوالهم وأنصحهم وأرشدهم لتوحيدك والإصلاح بين النّاس «فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي» بانقضاء أجلي في الدّنيا أولا ورفعي إلى السماء إذ نجيتني من كيد اليهود «كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ» من بعدي كما كنت رقيبا علي وعليهم وعلى الخلق أجمع من قبل «وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (117) في الدّنيا والآخرة لا يغيب عنك عمل عامل من خلقك ولا شيء من أمرهم الآن وفيما مضى ويأتي، ثم لما أطلعه على ما وقع منهم من المخالفات لتعاليمه أحجم عن الدّفاع عنهم وقال متضرعا يا رب قد وقع منهم ذلك وأنت أولى بهم من «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ» على ما صدر منهم وهم مستحقون العذاب «فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ» وقد جحدوا آياتك وكذبوا رسلك وافتروا عليك وعلي وأنت الحكم المقسط بمن يكفر بعد ظهور دلائل الإيمان له ووجود الحجة عليه بعد ظهور

ص: 396

المحجة، وهم الآن معترفون بما وقع منهم إذ لا يقدرون على دفع ما تنزله فيهم من العذاب ولا رفع ما وجب عليهم من العقاب كما كانوا عاجزين قبل بل هم الآن أعجز «وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ» كفرهم وتطاولهم وبهتهم ومخالفتهم فبفضل جودك ولطف رحمتك وعطفك على عبادك، وأنت الذي لا تسأل عما تفعل ولك تعذيب الطائع وتنعيم العاصي وما هذا عليك بعزيز «فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ» الذي لا عزيز غيرك الغالب الذي لا يفلت أحد مما تريده به «الْحَكِيمُ» (118) بأفعاله بعباده.

واعلم أن هذا القول من الله تعالى إلى عيسى يوم القيامة بدليل قوله (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ) الآية الآنفة وبدليل سياق الآية نفسها لأنها بلفظ الاستفهام الإنكاري تقريعا لمن ادعى ذلك في عيسى وألصق به ما هو براء منه وتوبيخا لهم على رءوس الأشهاد، ووجه السّؤال تثبيت الحجة على قومه وتكذيبا لادعائهم بإلهيته وإن من قال بإلهيته قال بإلهية أمه على سبيل التبعية لأنها ولدته وقال بأن الله ثالث ثلاثة أيضا، ولا يقال بعدم لياقة طلب المغفرة من عيسى عليه السلام لقوم كافرين، لأن قوله ذلك ليس على طريق المغفرة ولو كان لقال (إنك أنت الغفور الرّحيم) لأن هاتين الصّفتين لائقتان بهما ولكنه قال ذلك على طريق تسليم الأمر لله وتفويضه لمراده، ولهذا قال (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إذ يجوز في الحكمة عدم تعذيب الكافر، ومما يرد قول القائل إن هذا السّؤال وقع من عيسى عليه السلام عند رفعه إلى السّماء قوله تعالى «قالَ اللَّهُ هذا» اليوم الذي وقع فيه هذا القول، لأن الإشارة تكون لأقرب مذكور، ولم يأت ذكر لرفعه هنا البتة، فمن جوّز إعادة الضّمير إليه أي أعاد اسم الإشارة إلى يوم الرّفع نصب كلمة «يَوْمُ» وأراد أن هذا القول من الله إلى عيسى يوم رفعه وليس بشيء لمنافاته السّياق والسّباق ولإجماع القرّاء على رفع كلمة يوم، أي يوم القيامة يوم سؤال الخلق عما كان منهم، بدليل قوله جل قوله «يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ» الواقع منهم في الدّنيا فإنه ينفعهم في هذا اليوم يوم الآخرة إذ لا يكون النّفع الحقيقي إلّا فيه، لأنه هو يوم الجزاء. أما احتجاج القائل بأن هذا كان عند الرّفع مستدلا بقوله تعالى «إِذْ» بصدر الآية لأنها للماضي ولم يعلم أنها تأتي بمعنى (إذا) فتكون للمستقبل،

ص: 397

قال تعالى (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) الآية 51 من سورة سبأ في ج 2، وهذا الفزع الذي لا فوت منه إنما يقع يوم القيامة، قال الرّاجز:

ثم جزاك الله عني إذ جزى

جنّات عدن في السّموات العلى

أي إذا جزى، ولا يكون هذا الجزاء إلّا يوم القيامة، ومما يرد هذا القول ويؤيد ما مشينا عليه قوله تعالى «لَهُمْ» أي الصّادقين في ذلك اليوم «جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» ولا يكون هذا الخلود في تلك الجنّات إلّا في الآخرة «رضي الله عنهم» أي أهل الجنّات بطاعتهم له في الدّنيا «وَرَضُوا عَنْهُ» بما من عليهم وأعطاهم من عظيم ثواب وجزيل كرامة في الآخرة «ذلِكَ» الأجر الجزيل والخير الكثير هو «الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (119) الذي ما فوقه فوز ونجاح كبير ما فوقه نجاح «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ» من مخلوقات يتصرف فيهم كيف يشاء ويريد كما يتصرف فيهما مثل ما يريد ويختار، وهو المستحق للعبادة وحده، وأن عيسى وأمه ومن في الأرض والسّموات وما بينهما جميعا عبيد خاضعون لعظمته، منقادون لقهره، «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (120) لأن جميع المكونات النّامية والجامدة تحت قدرته، وله أن يدخل من يشاء في رحمته ويوصل من يشاء إلى ملكوته، ويقطع من يشاء عن ملكه. ويمنع من يشاء من عطفه، وأن عيسى وغيره من جملة عباده الداخلين تحت قدرته إذ لا شيء في الكون علويه وسفليه إلّا وهو في قبضته سبحانه هو الواحد القهار، قال قتادة، متكلمان لا يخطئان يوم القيامة عيسى عليه السلام لأنه يقوم فيقول ما قصّ الله عنه في هذه الآيات فكان صادقا في الدّنيا والآخرة فينفعه الله بصدقه، وأما المتكلم الآخر فهو إبليس عليه اللّعنة فإنه يقوم فيقول ما ذكر الله عنه في الآية 33 من سورة إبراهيم عليه السلام المارة في ج 2 التي أولها (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) إلخ فقد صدق عدو الله بما قال، ولكن لم ينفعه صدقه. روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النّبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله عز وجل في إبراهيم عليه السلام ما ذكر الله عنه في قوله (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ» الآية 36 من سورته في

ص: 398