الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
له وإلزاما للحجة عليه، وهؤلاء حكى الله عنهم أولا بأنهم لم يزالوا على كفرهم حتى تأتيهم البينة الموجودة في كتبهم، ثم أخبر الله جل شأنه عن الواقع بقوله (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) فيكون المعنى أن الذي وقع منهم قبل بعثة الرّسول مخالف لما ادعوه بعد مجيئه، فلا مناقضة بين الآية الأولى القائلة لم يكن الّذين كفروا من الفريقين منفكين عما هم عليه من الكفر حتى يأتيهم الرّسول وحتى في الآية لانتهاء الغاية، فتقضي أنهم انفكوا عن كفرهم عند إتيانه وهو خلاف الواقع (ولا في الآية الثانية) لأنها تفيد أنه لم يحصل التفرق إلّا بعد مجيئه على ما أوضحناه لك آنفا فلا مناقضة من حيث الظّاهر ولا من حيث المعنى البتة. قال الواحدي هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا. وهذا الذي جرينا عليه أحسن الأقوال في هاتين الآيتين، ولا يستقيم النظم الكريم على خلافه، ولا يصح معناه إلّا به، والله أعلم، وهو ولي التوفيق قال تعالى «وَما أُمِرُوا» هؤلاء الكفار قبل بعثة الرّسول محمد عليه السلام وبعدها «إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ» وحده «مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» متبرئين من الشرك والرّياء قلبا وقالبا لسانا ونية.
مطلب المراد بالإخلاص وأهل الكتابين والمشركين وغزوة بن النّضير وسبب إسكان اليهود في الحجاز:
والمراد بالإخلاص هنا هو أن يأتي المكلف بالشيء الحسن لحسنه، والواجب لوجوبه، وينتهي عن القبيح لقبحه والسّيء لسوئه، ويفعل كما أمر الله رغبة فيه، وينتهي عن كلّ ما نهاه كراهية فيه وطاعة لله تعالى. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم. لأن الإسلام اللّساني لا قيمة له، والمعوّل على ما في القلب عند الله القائل (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) الآية 38 من سورة ق ج 1 والقائل أيضا (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) الآية 22 من سورة الرّعد المارة.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح طويل: التقوى هاهنا- كررها ثلاثا- مشيرا إلى صدره الشّريف أي ليست التقوى بشقشقة اللّسان، ولا بالأعمال الظّاهرة، بل
بالإخلاص راجع الآية 28 من سورة البقرة تجد بحثا وافيا في التقوى قد لا تجده في غيرها. ثم وصف الله تعالى المخلصين بكونهم «حُنَفاءَ» حالة كونهم في عبادتهم مائلين عن كلّ الأديان الباطلة إلى الدّين الحق دين الإسلام، مؤمنين بجميع الرسل والكتب السّماوية «وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ» المفروضتين عليهم «وَذلِكَ» أي عبادة الله والإخلاص فيها ودعمها بإقام الصّلاة وإيتاء الزكاة هو «دِينُ الْقَيِّمَةِ» (5) الملة المستقيمة العادلة القاسطة كما يريده ربّ هذا الدّين السّوي «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ» المشار إليهما أول هذه السورة الّذين انفكوا عن هذا الدّين القويم دين محمد صلى الله عليه وسلم واختلفوا فيه وتفرقوا بعد ما جاءهم به وتلى عليهم كتاب الله الذي أنزله عليه في هذه الدّنيا ولم يتبعوه يكونون في الآخرة «فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ» (6) وانما قدم كفرة أهل الكتاب لأن جنايتهم في الكفر أعظم من المشركين الكافرين في الأصل، إذ لا يعلمون شيئا عن محمد ورسالته، لأن رسولهم إسماعيل تقادم عهده فلم يبلغهم عنه شيء من أمر الدّين، ولم يترك لهم كتابا يعملون به، ولم يرسل لهم رسولا بعده، أما أهل الكتابين فيعلمون ذلك بإخبار رسلهم المتتابعة وبيان كتبهم، حتى أنهم كانوا يستفتحون به قبل بعثته صلى الله عليه وسلم كما أشرنا إليه في الآية 89 من سورة البقرة المارة، وكانوا يقرون نبوته، فلما جاءهم كذبوه وجحدوه وأنكروا ما كانوا يذكرون عنه ويذكّرون به، وبدل أن يؤمنوا به فقد ازدادوا كفرا وصدوا غيرهم عن الإيمان به، عتوا وعنادا ترجيحا لحطام الدّنيا على نعيم الآخرة. هذا والمشركون وإن كان جرم اشراكهم أعظم كفرا من كفر أهل الكتاب، لأن الشّرك أعظم أنواع الكفر، إلا أنهم لم يعرفوا ما يعرفهم أهل الكتابين من أمر الرّسول محمد، لأنهم جهلة لما ذكرنا آنفا، وعدم وجود شيء من آثار النّبوة عندهم وكونهم أميين لم يتعلموا، وهذا فقد أذل الله هذين الفريقين وأخزاهم في الدّنيا والآخرة «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ»
(7)
عند الله في الدّنيا والآخرة، ويكون «جَزاؤُهُمْ» في الدنيا الذكر الجميل والسّمعة الحسنة، وفي الآخرة «عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي