الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ودنياه نابذا كلّ ما سواه وراء ظهره لا يقدم على ما نهاه عنه ويحذره كلّ الحذر «فَعَسى أُولئِكَ» العامرون المساجد المؤمنون بالله ورسوله «أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ» (18) لعمارتها لها غيرهم. قال تعالى مبعدا لظنهم على طريق الاستفهام الإنكارى «أَجَعَلْتُمْ» ايها النّاس «سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» بالفضل والثواب وحسن العاقبة سوآء كلا «لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ» في ذلك البتة، لأن هؤلاء يثابون على أعمالهم بإيمانهم، وأولئك محبطة أعمالهم ممحوق ثوابها بكفرهم وظلمهم «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (19) أنفسهم وغيرهم باختيارهم الضّلال على الهدى. قال تعالى «الَّذِينَ» مرفوع بالابتداء «آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» إيمانا خالصا وخبر المبتد المعطوف عليه ما بعده هو «أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ» من الّذين قاموا بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام «وَأُولئِكَ» المؤمنون المهاجرون المجاهدون «هُمُ الْفائِزُونَ» (20) عند الله يوم القيامة بالجنة وعند النّاس بالدنيا بالحمد والثناء والذكر الحسن،
وهؤلاء هم الّذين «يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ» (21) لا ينقطع أبدا عنهم حالة كونهم «خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» (22) لا أعظم منه ولا يحيط به عقل البشر يمنحه الله من يشاء من عباده، لأن الإيمان بالله لا يوازيه عمل وكلّ عمل بلا إيمان لا قيمة له عند الله.
مطلب تفضيل الإيمان على كلّ عمل مبرور كعمارة المساجد والإطعام وفك الأسرى وغيرها:
وسبب نزول هذه الآيات على ما قاله العلماء أن العباس افتخر بالسقاية، وافتخر شيبة بالعمارة، وعلي كرم الله وجهه بالإيمان والإسلام والجهاد، فنزلت هذه الآيات.
روى مسلم عن النّعمان بن بشير قال كنت عند منبر النّبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلّا أن أعمر المسجد الحرام، وقال الآخر الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النّبي وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فأستفتيه عما اختلفتم فيه، فأنزل
الله هذه الآيات. وقد سبق أن ذكرنا غير مرة جواز تعدد أسباب النّزول، أما ما قيل بأن العباس حين أسرّ قال لعلي حين وبخه على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لكم تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا؟ فقال علي وهل لكم محاسن وأنتم على ما أنتم عليه من الكفر والضّلال؟ قال نعم، قال ما هو؟ قال نعمر المسجد ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك الأسير، فنزلت هذه الآيات فيها، فهو قول بعيد عن الصّحة، لأن هذه السّورة لم تنزل إذ ذاك، وقضيه العباس هذه في حادثة بدر وبينهم سنون، ولم يستثن شيئا منها. أما ما قاله ابن الجوزي بأن الآيتين الأخيرتين منهما وهما (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ
…
) نزلتا بمكة فلم يوافقه على هذا إلّا ابن الغرس من جميع العلماء، ويرد قولهما ما قاله في المستدرك عن أبي بن كعب، وما جاء في تفسير أبي الشّيخ عن علي بن زيد عن يوسف المكي عن ابن عباس أنها آخر آية نزلت منها أي سورة التوبة هذه، وأنت خبير بأن ابن الجوزي كان ديدنه نقل الأقوال الضّعيفة والمختلف فيها، وكان يعاكس رأي من تقدمه غالبا: وهذا الذي سبب له الشّهرة بين النّاس (على حدّ خالف تعرف) وقد اقتفى أثره من يحب الشّهرة من العلماء ويدعي التبحر بالعلم وصاروا ينقلون عنه وعن ابن تيمية الأقوال المخالفة لإجماع الأمة بذلك القصد، وأمثال هؤلاء يجب مقتهم لأن وجودهم مفسدة للدين، حتى انهم شأنوا سمعة ابن الجوزي وابن تيمية بحيث من لم يعرف مقامهما بظن أن كلّ أقوالهما مخالفة للاجماع، وليس الأمر كذلك.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السّقاية فقال العباس يا فضل اذهب إلى أمك فأت رسول الله بشراب من عندها، فقال اسقني (أي مما عندك من الشّراب) فقال يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال اسقني (لا بأس من وضع الأيدي بالشراب) فشرب منه، ثم اتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيها، فقال اعملوا فإنكم على عمل صالح، ثم قال لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذا (يعني عاتقه) . وروي مسلم عن أبي بكر ابن عبد الله المزني قال كنت جالسا مع ابن عباس عند الكعبة فأتاني أعرابي فقال ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللّبن وأنتم تسقون النّبيذ أمن حاجة بكم
أم من بخل، فقال ابن عباس الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل، إنما قدم النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة فاستسقى بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة، فقال أحسنتم إذا عملتم كذا، فاصنعوا، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أمر الله المؤمنين بالتبرّي من المشركين قالوا كيف يمكن أن يقاطع الرجل أباه وأخاه وابنه فنقطع أرحامنا ونضيّع أموالنا ونخرّب دورنا فأنزل الله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ» لأموركم وتجعلونهم بطانة لمهماتكم ومكتما لأسراركم «إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ» فإنهم لا يؤتمنون على شيء من ذلك أبدا «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ» بعد هذا النهي «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (23) أنفسهم بمخالفتهم أمر الله والمقام مع أعدائه وموالاتهم دونه، فيا محمد «قُلْ» لهؤلاء الميالين إلى الكفرة «إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها» بسبب مباعدتكم عن أقربائكم وتعلقاتكم من الكفار «وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها» بينهم للتقرب منهم «أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ» وترون أن رعاية هذه المصالح الفانية أولى من طاعة الله ورسوله والمجاهدة في سبيله المؤدية إلى الدّار الباقية والجنات العالية «فَتَرَبَّصُوا» انتظروا وهي كلمة تهديد ووعيد لمن يؤثر بحقه أولئك أو شيء منهم على محبة الله ورسوله فليرقب مغبة ذلك وخاصة عافيته «حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ» القاضي باستئصالكم لخروجكم عن طاعته «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (24) الخارجين عن طاعته وهذا تهديد بالغ ما فوقه تهديد، لأن الله تعالى قال (أحب) والحب لا يكون إلّا عن زيادة شوق في الشّيء، ولهذا جعل عقابهم شديدا. قال يحيى ابن معاذ لأبي يزيد البسطامي هل سكرت مما شربت من حبه؟ فأجابه بقوله:
شربت الحب كأسا بعد كأس
…
فما نفسد الشّراب ولا رويت
هذا أبو يزيد وانظر لقول ابن الفارض:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة
…
سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم