الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقبل ودخلوا مكة محلقين ومقصرين، وأعقبه الله بفتح مكة قبل مرور سنتين على ذلك الصّلح، وقد مر سبب نقضه وكيفيته في قصة الحديبية في الآية 10 من سورة الممتحنة المارة، وقصة خيبر وقصة الفتح مرتا آنفا، وإلى هنا تنتهي الآيات النازلة في الطّريق، وإنما كانت متوالية وموضحة للحادثة، ولم تكن بالاشارة والتعريض كغيرها لازالة ما في قلوب المؤمنين من الغيظ الذي لحقهم بسبب تلك الشروط التي أدرجت في صك المعاهدة، لأنهم رأوها منقصة لقدرهم وضارة بهم لعدم علمهم بعاقبتها، إذ وقع الخسار
والخيبة والذل لأعدائهم فيها مما لم يتصوروه ولهذا قال بعض المفسرين إن هذه السّورة نزلت كلها في الطّريق تسامحا لنزول هذه الآيات.
مطلب فيما امتاز به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ودينه ووصف أصحابه والتوقي من ذكرهم بسوء:
قال تعالى: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ» دين الإسلام دين ابراهيم عليه السلام «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» بحيث لا يبقى على وجه الأرض غيره، وسيكون هذا بعد نزول عيسى عليه السلام فعلا إن شاء الله، أما بالقوة فقد ظهرت تعاليمه وعمت وجه الأرض ودان به أهلها من حيث لا يعرفونه، وهذه شهادة من الله تعالى لهذا الدّين الحنيف «وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» (28) على ذلك فلا قيمة لإنكار المنكرين وتكذيب المكذبين مع هذه الشّهادة القيمة. ثم صرح باسم هذا الرّسول الذي أظهره دينه على الأديان، فقال عز قوله «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» كما صرح باسمه الشّريف في الآية 144 من آل عمران والآية 2 من سورته المارات أي أن هذا الرّسول العظيم صلى الله عليه وسلم «وَالَّذِينَ مَعَهُ» من أصحابه الكرام والمؤمنين الصّادقين «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» أوداء رؤفاء بعضهم على بعض بمثابة الوالد على الولد، لا يثنيهم عن مقاتلة الكفار أحد لشدة إيمانهم بالله ومتانة عزمهم وقوة شكيمتهم واتفاق كلمتهم، وبمقابلة هذه الأوصاف الرّقيقة يقابلون أعداءهم بتلك الأوصاف الغليظة، ومع هذا فإنك «تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً» لمرضات ربهم «يَبْتَغُونَ» بتواددهم بعضهم وعبادتهم
لربهم جل وعلا «فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً» لا سمعة ولا رياء ولا غرضا ولا عوضا «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ» نورا ساطعا يوم القيامة «مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» غرّة في جباههم وتجميلا في أيديهم وأرجلهم، يسطع نورا أيضا من آثار الوضوء فإنهم يحشرون غرا محجّلين كما جاء في الحديث الصّحيح، لأعضائهم بريق ولمعان يعرفون بهما بين النّاس «ذلِكَ» المثل الموصوف به محمد وأتباعه في هذا القرآن هو «مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ» أيضا، وقد تم الكلام هنا فينبغي أن يوقف عليه ثم يبتدأ القارئ مستأنفا بقوله تعالى «وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ» فراخه وما تفرع عنه في جوانبه أي شواطئه «فَآزَرَهُ» عضده وقواه ومكنّه «فَاسْتَغْلَظَ» ذلك الزرع وقوي وتمكن «فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ» أصوله وقصبه وجذوعه وصار «يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ» بادي الرّأي لحسن نباته وكثرة فروعه وقوة جذوره، وهذا مثل ضربه الله تعالى إلى سيدنا محمد وأصحابه في الإنجيل بان قوما يخرجون بعد فينبتون نبات الزرع أي يكونون قليلين ثم يكثرون، فالزرع محمد والفروع أصحابه والمؤمنون به، وإنما جعلهم الله كذلك «لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ» ويوقع في قلوبهم الرّعب منهم بسبب اتحادهم ومحبتهم بعضهم لبعض، وتعاونهم على عدوهم، وبذلك «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً» لذنوبهم وسترا لعيوبهم في الدّنيا «وَأَجْراً عَظِيماً» (29) في الآخرة، وهذا مما يزيد غيظ الكافرين فضلا عن أنه تعالى وعدهم النصر في الدّنيا والعزة في العقبى. وفي هذه الآية ردّ لقول الرّوافض بأنهم كفروا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فحاشا ثم حاشا، وهل يعد الله هذه المغفرة والأجر إلّا لأوليائه الّذين ثبتوا على ما عاهدوا الله عليه وماتوا على ما واثقوا رسوله به، راجع الآية 10 من سورة الحشر المارة تقف على ما يتعلق في هذا البحث. أما ارتداد من لم يتمكن الإيمان في قلوبهم ولم تتشربه جوارحهم عند وفاته صلى الله عليه وسلم ولا يكون دليلا لقولهم، كيف وقد أخبر رسول الله عنهم فيما أخرجه الترمذي عن عبد الرحمن بن عرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر في الجنّة وعمر في الجنّة وعثمان بن عفان في الجنّة وعلي بن أبي طالب في الجنّة وطلحة في الجنّة والزبير في الجنّة وعبد الرّحمن
ابن عوف في الجنّة وسعد بن أبي وقاص في الجنّة وسعد بن زيد في الجنّة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنّة. وأخرج عن سعيد بن زيد مثله وقال هذا أصح من الأوّل وعن أنس بن مالك قال قال صلى الله عليه وسلم أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر وأشدهم حياء عثمان وأقضاهم علي وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرأهم أبيّ بن كعب، ولكل قوم أمين وأمين هذه الأمة عبيدة بن الجراح، وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر أشبه عيسى في ورعه، قال عمر فتعرف له ذلك يا رسول الله؟ قال نعم- أخرجه الترمذي في موضعين- وروى البخاري عن أنس أن رسول الله صلّى الله
عليه وسلم صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال أثبت أحد (قال أنس أراه ضربه برجله) فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان وهذا من الإخبار بالغيب ومن جملة معجزاته صلى الله عليه وسلم لأن عمر وعثمان ماتا شهيدين وقضية قنلهما معروفة ومشهودة رضي الله عنهما وأرضاهما راجع الآية عشرة من سورة الحشر تجد ما يتعلق بهذا- وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه فبعد هذا أيها النّاس أيليق بمسلم أن يذكر أصحاب محمد بسوء، وهل يجوز أن يقال فلان منهم أخطأ وفلان أصاب ولو فعل كذا لكان كذا وقد جفت الصّحف ورفعت الأقلام بما وقع منهم، وهم أعلم النّاس وأحسنهم وأرضاهم لله بعد رسوله، فعلى العاقل أن يكف لسانه وسمعه عن ذكرهم إلّا بخير، ويعتقد أن ما وقع منهم مجرد اجتهاد تحروا فيه الحق، وإن ساحتهم براءة مطهرة من كلّ ما هو خلاف الأولى بحسب اجتهادهم رضي الله عنهم وأرضاهم وحشرنا في زمرتهم، والله يتولى المغالين بعد له وينصر المؤمنين بفضله، ويمكنهم من أعدائهم بقوته، ويعلي كلمتهم برحمته آمين.
هذا والله أعلم. وأستغفر الله. ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدّين، ومن تبعهم بإحسان آمين.