الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن أتتك عن مسألة وكلت إليها، وإن أتتك من غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك.
مطلب تحريم الخمر بتاتا وأسباب هذا التحريم وذم الخمر والميسر وشبههما والحكم الشّرعي فيه وضرره في الوجود:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ» راجع الآية 3 المارة من هذه السّورة عن معناها ومعنى «وَالْأَزْلامُ» أيضا وكيفية استعمالها فكل هذه الأربعة «رِجْسٌ» خبث نجس مستقذر «مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» الذي يزبنه للناس يغويهم بها ويدعوهم إليها «فَاجْتَنِبُوهُ» تباعدوا عن هذه الأشياء كلها ولا تقربوها، وأفرد الضّمير بسبب عوده إلى الرّجس المشتمل عليها كلها «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (90) في أموركم وتفوزون بأعمالكم وتنجحون بأقوالكم وتتحفظون من كلّ ما يضركم
«إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ» بتزيينه لكم هذه القبائح الأربعة الخبيثة «أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي» شرب «الْخَمْرِ وَ» لعب «الْمَيْسِرِ» القمار «وَيَصُدَّكُمْ» بسببها «عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ» الذي ينبغي لكم المداومة عليه قياما وقعودا وعلى جنوبكم «وَعَنِ الصَّلاةِ» المكتوبة عليكم يريد صدكم عنها فيشغلكم بذلك «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» (91) عن ذلك كله أيها النّاس وتاركو هذه الأرجاس المضرة في دينكم ودنياكم وعاقبة أمركم؟
وهذا أبلغ من قوله (انْتَهُوا) لأن الله تعالى يقول قد بينت لكم ما فيها من المضار والصّوارف والموانع والزواجر بعد أن ذممتها لكم قبلا، أفلا تنتهون عنها بعد ذلك كأنكم لم توعظوا بعد! ثم أعقب ذلك الزجر بقوله جل قوله «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ» فيما يأمرانكم به وينهيانكم عنه «وَاحْذَرُوا» كل الحذر من مخالفتهما، لأنهما لم يأمراكم إلّا بما فيه نفعكم، ولم ينهياكم إلّا عما يضركم، فضلا عن وجوب الطّاعة لهما عليكم مطلقا «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ» بعد هذا البلاغ وهذا الانذار ولم تنتهوا عن شرب الخمر ولعب الميسر «فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» (92) وعليكم منا العقاب الأليم إذا أصررتم على تعاطيهما. ففي هذه الآية من التهديد والوعيد والزجر الشّديد والتخويف العظيم ما لا يخفى. واعلموا
أيها النّاس لما أنزل الله الآية السّالفة (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) إلخ وكانت مما يستطاب عندهم قبل الإسلام وعند من لم ينكف عنها بعد نزول الآيات الثلاث المتقدم ذكرها والتي سنشير إليها بعد، ولم ينكفوا عن الميسر أيضا لشدة توغلهم فيهما وإن بعض صغار العقول لم ينتبهوا إلى مغزاها الذي أشرنا إليه في الآية 219 من سورة البقرة، بين الله تعالى في هذه الآية الأخيرة الرّابعة الحاسمة لما في هذا الباب أنهما ليستا من الطّيبات بل من الخبائث الموبقات، ولذلك قال تعالى (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) لأن السّكر يفحش كلام الرّجل فيفضي إلى النّزاع ويولد العداوة والبغضاء، وكذلك المقامر قد يؤدي قماره إلى أن يلعب على أثاث بيته وملكه بل وداره التي يسكن فيها، حتى يتوصل إلى أن يلعب على بنته وزوجته بعد فراغ ذات يده، ونفاد ملكه، بل قد يفضي إلى الانتحار فينتج عنه العداوة والبغضاء والخزي والعار أيضا، فأراد الله تعالى أن يحفظ عباده من هاتين الشّائنتين فحرمهما عليهم كما أراد صون الألوهية عن الإشراك بها، وأراد صرف عباده إلى التوكل عليه في أمورهم كلها، فحرم عليهم الأنصاب والأزلام المتقدم ماهيتها في الآية السّابقة من هذه السّورة. وكان عمر رضي الله عنه يقول اللهم بين لنا في الخمر والميسر بيانا شافيا، كما جاء في الحديث الذي رواه ميسرة عنه، وأخرجه الترمذي من طريقين، وقال رواية ميسرة هذه أصح، وأخرجه أبو داود والنّسائي بأبسط منه وإنما قال ما قال رضي الله عنه وأرضاه لما يرى ما يتولد عنهما من القبائح، وكرر مقالته هذه بعد نزول الآيات الثلاث الأولى 67 من سورة النّحل المارة في ج 2 والثانية من سورة البقرة الآية 219 والثالثة 43 من سورة النّساء المارتين وكانت أحكام الله تعالى جارية على التدريج في تشريعه لعباده، راجع بحثه في المقدمة ج 1 في التدريج بالأحكام فأنزل الله هذه الآية الرّابعة القاطعة بالتحريم فلما سمعها عمر رضي الله عنه قال:
انتهينا انتهينا. وروى مصعب بن سعد عن أبيه قال صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا وشربنا، وذلك قبل التحريم زاد حتى انتشينا، فتفاخرت الأنصار وقريش فقالت الأنصار نحن أفضل منكم فقال سعد بن أبي وقاص المهاجرون خير منكم
فأخذ رجل لحي جمل فضرب به أنف سعد فغرزه أي نخسه، فجرحه، فأتى سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فنزلت. وقال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت هذه الآية في قبيلتين شربوا وثملوا وعبثوا ببعضهم، ولا منافاة بين هذه الرّوايات لجواز صدورها كلها، وجواز تعدد الأسباب للنزول. وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال قال صلى الله عليه وسلم من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرّابعة لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب لم يتب الله عليه وسقاه من نهر الخبال. قالوا يا أبا عبد الرّحمن وما نهر الخبال؟ قال صديد أهل النّار. وأخرجه النسائي وعنه قال قال صلى الله عليه وسلم لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبايعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه- أخرجه أبو داود- وقد جاء من حديث عائشة رضي الله عنها أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال كلّ شراب أسكر فهو حرام- أخرجاه في الصّحيحين- وزاد الترمذي وأبو داود: ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام (والفرق إناء يسع ستة عشر رطلا برطل المدينة وهو عبارة عن مئة وثمانية وعشرين درهما) فلم يبق مع هذا قول مقبول بشرب ما لم يسكر كثيره فقليله لا بأس به، لأنه لو شرب هذا القدر لبنا لأسكره. وقيل إن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وجماعة من الأنصار قالوا أفتنا يا رسول الله في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للمال والعقل فنزلت آية البقرة. وقد بينا الآيات النّازلة في الخمر على الترتيب آنفا وإن الإسلام عند نزول آية النّحل شربوها حلالا في مكة إذ ليس فيها ما يدل على التحريم إلّا ما يفهم من عدم وصفها بالحسن وخلاف الحسن مكروه، والمكروه يتساهل فيه النّاس. وجاء في فقه الشّافعي رحمه الله: وفاعل المكروه لم يعذب.
ثم لما أنزلت آية البقرة في المدينة تركها أناس كثير نفوسهم طاهرة عرفوا منها مغزى وصف الإثم بالكبر، فانتهوا من تلقاء أنفسهم، وتسامح الغير فلم يقتفوا لما يتقفى ولم ينتبهوا لما انتبه له أولئك الكرام، فداوموا على شربها، ثم لما نزلت آية النّساء حين أولم عبد الرّحمن بن عوف لجماعة من أصحابه وسقاهم، فقاموا إلى
الصلاة فقرأ أحدهم (أعبد ما تعبدون) حرّم الله السّكر في الصّلاة فقط، فصاروا بشربونها بعد العشاء والفجر لبعد المدة بين الصّلاتين بحيث يزول أثر السّكر، ثم لما أولم عتبة بن مالك لجماعة من المسلمين منهم سعد بن أبي وقاص وسوى لهم رأس بعير وبعد ان أكلوا وشربوا ووقع بينهم ما وقع كما مر آنفا أنزل الله هذه الآية التي نحن بصددها، فكانت الحاسمة لتعاطي شرب الخمر واللّعب بالقمار، وكان نزولها بعد وقعة الأحزاب. وعلى صحة هذا فتكون هذه الآية متقدمة في النّزول على سورتها كبعض الآيات المار ذكرها ويروى أن حمزة بن عبد المطلب شرب ورأى أنصاريا بيده ناضح ويتمثل في هذين البيتين من نظم كعب بن مالك:
بلغنا مع الأبواء نصرا وهجرة
…
فلم ير حيّ مثلنا في المعاشر
فأحياؤنا من خير أحياء من مضى
…
وأمواتنا من خير أهل المقابر
فقال له حمزة أولئك المهاجرون، فقال الأنصاري بل نحن (وذلك أن الأنصار أول من آمن منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم اثنان وسبعون رجلا وامرأتان، وهم الّذين بنوا الإسلام بالمدينة وصاروا مأوى للمهاجرين من أهل مكة، وساووهم بمالهم ومسكنهم وتخلوا لهم عن بعض نسائهم كما ألمعنا إليه في الآية 103 من آل عمران المارة لهذا قال ما قال) فتنازعا فجرّد حمزة سيفه، فهرب الأنصاري، فضرب ناضحه (القرب التي تنضح الماء فيترشح منها مقطعه) فشكاه الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر مقالته المنوه بها آنفا، فنزلت هذه الآية، وقد يستبعد صحة هذه الرّواية، لأن حمزة رضي الله عنه قتل في حادثه أحد قبل نزول هذه الآية، وعند فرض صحتها تنطبق على آية البقرة لا على هذه، لأن سورة البقرة من أول القرآن نزولا في المدينة، وسورة المائدة هذه من آخر نزوله، إذ لم ينزل بعدها إلّا التوبة والنّصر، وقد أشرنا في المقدمة إلى حكمة ترتيب هذا التحريم من الله تعالى جلت قدرته، ليعلم النّاس أن أوائل هذه الأمة قد الفوا شربها وكثرة انتفاعهم يبيعها وشرائها فلم يمنعهم من تعاطيها دفعة واحدة لعظم الثقل على النّفوس إذ ذاك، وأن التدريج في الأحكام هو أحد أسس التشريع الإسلامي الثلاث ألمعنا إليها في المقدمة أيضا، ولهذا ذكرنا أن النّسخ الذي تغالى به بعض علماء النّاسخ والمنسوخ ومشى
عليه بعض المفسرين في هذه الآيات وشبهها هو عبارة عن التقييد والتخصيص ونفي الملزوم في المعنى كما هو في الآية الثالثة ليس إلا، تدبر. روى البخاري ومسلم عن أنس قال ما كان لنا خمر غير فضيحتكم، وإني لقائم أسقي أبا طلحة وأبا أيوب وفلانا وفلانا، إذ جاء رجل فقال حرمت الخمرة، فقالوا أهرق هذه القلال يا أنس فما سألوا عنها، ولا راجعوها، ولا تأخروا عن تركها وإهراق أوانيها لحظة واحدة بعد خبر هذا الرّجل، فانظروا رحمكم الله إلى هذا الإيمان الكامل وهذه الطّاعة والانقياد لأمر الله كيف هي، فهل من مزدجر، فهل من متعظ.
وقيل في ذمها:
خذوا كأسها عني فما أنا شارب
…
ولا أنا عن ديني ودنياي راغب
لقد حرم الله المدام وانني
…
إلى الله مما تستحلّون تائب
أأشرب سما ناقعا في زجاجة
…
تحوم حوالي شاربيها المصائب
لئن شبهوا كاساتها بكواكب
…
فقد أنذرتنا في النّحوس الكواكب
وان عصروها من خدود كواعب
…
فكم من رزايا جرهن الكواكب
وقال يزيد بن محمد المهلبي في ذمها:
لعمرك ما يخفى على الكأس شرها
…
وإن كان فيها لذة ورضاء
مرارا تريك الغي رشدا وتارة
…
تخيل أن المحسنين أساءوا
وان الصّديق الماحض النّصح مبغض
…
وان مديح المادحين هجاء
وجرّبت اخوان النّبيذ فقاما
…
يدوم لاخوان النّبيذ إخاء
وكيف يدوم والجامع بينهما معصية الله، والاخوة لا تكون دائمة ونافعة إلا إذا كانت على تقوى الله. راجع الآية 67 من سورة الزخرف في ج 2. والحاصل أن ما حرم من الشّراب هو أول الخراب ومفتاح الشّر لكل باب، يمحق الأموال ويهرم الرّجال، ويذهب الجمال، ويهدم المروءة، ويوهن القوة، ويمحي الشّهامة فيضع الشّريف، ويهين الظّريف، ويذلّ العزيز، ويفلس التجار، ويهتك الأستار، ويورث العار والشّنار، فالسعيد من اجتنبه، والشّقي من ألفه، والهالك من اعتاده وتوغل فيه. الحكم الشّرعي أجمعت الأمة على التقيد بأمر الله القاضي
بتحريمها وحدّ شاربها وتفسيقه، وإكفار مستحلها، ووجوب قتله حدا. قال ابن وهبان في منظومته:
وفي عصرنا فاختير حد وأوقعوا
…
طلاقا لمن من مسكر الحب يسكر
وعن كلهم يروى وأفتى محمد
…
بتحريم ما قد قلّ وهو المحرر
وروي عن جابر أن رجلا قدم من جيشان- وجيشان من اليمن- فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر، فقال صلى الله عليه وسلم أو مسكر هو؟ قال نعم، قال صلى الله عليه وسلم كلّ مسكر حرام وإن على الله عهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال. قالوا وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال عرق أهل النّار أو عصارة أهل النّار. وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كلّ مسكر خمر، وكلّ مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدّنيا ومات وهو يدمنها لم يتب منها لم يشربها في الآخرة، والأحاديث في هذا الباب كثيرة. والحكمة في تحريم الخمر والميسر ما بيناه آنفا لأنهما من الآفات التي تسبب أضرارا مادية ومعنوية، فتوجد الخصومات والأحقاد بين النّاس، وتفقد العدالة والثقة في المعاملات، وينشأ منها شقاء العامة. ولقاعدة الشّرعية إذا تعارض دفع الضّرر وجلب النّفع قدم دفع الضّرر على جلب النّفع. والخمرة المحرمة التي يكفر مستحلها هي المنصوص عليها في القرآن الحاصلة من عصير العنب فقط على رأي أبي حنيفة رحمه الله. وإن كلّ مسكر من غيره لا يسمى خمرا ولا يكفر مستحله إلّا أنه حرام إذا أسكر، مستدلا بقوله صلى الله عليه وسلم كلّ شراب أسكر فهو حرام، ولأن علّة التحريم هو ما جاء في الآية المفسرة هذه (إنما يريد الشّيطان إلخ، وذهب مالك والشّافعي وأحمد إلى أن كلّ مسكر من عصير العنب أو غيره كله حرام لقوله صلى الله عليه وسلم ما أسكر كثيره فقليله حرام، ولما قدمنا من الأحاديث الأخر، وشمّلوا الميسر في كلّ الألعاب من نرد وغيره لقوله صلى الله عليه وسلم من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله. والمراهنة من القمار أيضا لما روي عن قتادة عن حلاس أن رجلا قال لآخر إذا أكلت كذا وكذا بيضة فلك كذا وكذا فارتفعا إلى علي كرم الله وجهه فقال هذا قمار، أما الرّهان في السّباق بين الخيل والإبل
وغيرها فجائز إذا كان الذي يستحق الجائزة السّابق فقط لقوله صلى الله عليه وسلم لا سبق إلّا في خفّ حافر ونعل، ورخصوا المسابقة في الرّمي أيضا، أما ما جاء في ضررها المادي فقد أجمعت الأطباء على أن مدمن الخمر يكون كثير النّسل وأولاده عقيمين أو لا تعيش لهم ذرية وما ضرّ تناوله طبا حرم تعاطيه شرعا، ولهذا حرمته أميريكا وتركيا برهة من الزمن ثم رجعتا إليه لما يدرّ عليهم من حطام الدّنيا، وأهل الدنيا لا يتركونها من أجل الله، قاتلهم الله وإنها ستتركهم يوما ما حتما، وإذ ذاك يندمون ولات حين مندم. والمراد بالخمر هو ما يستخلص من عصير العنب وغيره نيئا قاذفا بالزبد وهي التي يسمونها الآن (انبيت) وهو ما لم تمسه النّار أصلا فهذا هو الذي قليله وكثيره حرام ويكفر مستحله. أما المطبوخ من عصير العنب والرّطب والتمر والزبيب وغيرها كالعرق من جميع المسكرات الحديثة فهي حرام أيضا على القطع، إلا أنه لا يكفر مستحلها بل يفسق ويجري عليه الحد الشرعي، وإنها إنما تفارق الخمرة المنصوص عليها في القرآن من تكفير مستحلها فقط وتشاركها في بقية الأحكام، ويحرم بيعها بسائر أنواعها وجميع أجناسها، كما يحرم تعاطيها لأنها من الأشياء النّجسة التي يحرم تناولها كالخنزير. راجع الآية الثالثة المارة من هذه السّورة. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال بلغ عمر بن الخطاب أن فلانا باع خمرا فقال قاتل الله فلانا ألم يعلم أن رسول الله قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشّحوم فحملوها فباعوها. ورويا عن عائشة قالت خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حرمت التجارة في الخمر. وروي عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنهما قال على المنبر منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة العنب والتمر والعسل والحنطة والشّعير والخمر ما خامر العقل كرر ثلاثا، ووردت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن
عهدا ننتهي إليه. يحدد الكلالة وأبواب من أبواب الرّبا أخرجه البخاري ومسلم راجع الآية 16 من سورة النّساء المارة والآية 235 من سورة البقرة أيضا واعلم أن الخمر يختلف تأثيرها باختلاف كمية الغول الذي فيها، وهذه الكلمة استعملها الأجانب بلفظ (آلكول) ثم عربها العرب بلفظ (الكحول) ولم يرجعوا إلى
أصلها المذكور في القرآن العظيم وهو (الغول) وإذ كان حرف الغين لا يوجد باللغة الأجنبية، فقد قلبوها كافا، ونحن بدل من أن نقلب هذه الكاف غنيا ونعيدها لأصلها قلبناها حاء فصارت الكحول، وحتى الآن ينطقون بها. وإنما سماه الله تعالى (غولا) في قوله جل قوله (لا فِيها غَوْلٌ) الآية 47 من الصّافات ج 2 لأنه يذهب العقل، أي ليس فيها ما يذهب العقل ويغتاله كخمرة الدّنيا، راجع تفسير الآية 68 من الصّافات أيضا تجد الفرق بين خمر الدّنيا وخمرة الآخرة التي يقول فيها ابن الفارض:
وفي سكرة منها ولو عمر ساعة
…
ترى الدّهر عبدا طائعا ولك الحكم
وقال:
على نفسه فليبك من ضاع عمره
…
وليس له فيها نصيب ولا سهم
واعلم أنه كلما ازدادت كمية الغول فيها ازداد ضررها وعظم شرها، وقد يتعرض شارب الخمر أحيانا إلى القيء والصّداع المؤلم ويصحبه التهاب معدوي حادّ وما قيل أن قليل الخمر يزيد في قوة التفكير لا صحة له، بل تقلل الذكاء وتضعف القوة المفكرة لأنه ينافض الواقع، وذلك أن من يهاب الإقدام على أمر أو لا تواتيه شجاعته على عمل في حالة الصّحو يقدم عليه في حالة السّكر، وهذا الإقدام في الظاهر يكون لعدم إدراكه عاقبة الأمر، فهو يفعله عن قلة عقل لا عن عقل، ومقدرته حالة السّكر دون مقدرته حالة الصّحو وقوته كذلك، ألا ترى السّكران تلعب به الجهال وبمجرد دفعة بسيطة يقع على الأرض بخلاف ما لو كان صاحيا، وذلك لأنه ينقص من قوة الاحتمال الجسماني كما ينقص من قوة الإدراك العقلي، ومما هو مشاهد ان متناول الخمرة يكون قليل النّشاط حاملا لأن قوة الجسم على مقاومة التغيرات الجوية ومقدرته على ضبط درجة حرارته تضعف من تأثير الخمر، فكثيرا ما أودت ضربة الشّمس بحياة كثير من مدمني الخمر. هذا، ومن جملة أضرار الخمر الالتهاب المزمن في الحنجرة والمعدة وقد يصاب الكبد بنوع من هذا الالتهاب المزمن ويسمونه (سروزس الكحول) وهو مرض يكثر عند مدمني الخمر، وكثيرا ما يؤدي إلى الموت إذا انحبست الدّودة اليابية في الكبد، لأن
شدة حرافته تهري هذه الأعضاء مع الرّئة أيضا فيحصل له الموت آنيا كالمسلول المنتهي. وقد ثبت طبا أن أعمار مدمني الخمر وقدرتهم على مقاومة الأمراض أقل بكثير من غيرهم، وقد جرب هذا في طائفة من الأرانب واتضح أن مقاومة الطائفة التي ألفها شراب الخمر مع الماء لهذا المرض اقل بكثير من مقاومة طائفة الأرانب التي لم يعطوها ذلك وأقل أعمارا منها وثبت أيضا أن نسل مدمني الخمر أضعف من غيرهم، وإن القلب يتأثر من كثرة الغول، وإن إدمان الشّرب يصلّب الشرايين بحالة قد تقضي إلى الموت. وثبت أيضا أن مدمن الخمر معرض لمرض عصبيّ يسبب الموت بأول صدمة ويسمّونه (ولربم ترنز) وقد يؤدي هذا المرض إلى الرّعشة والهذيان وقلة النّوم، بل يفضي لعدمه، وإذا لم يسارع إلى التداوي فإنه يجره إلى الموت المقدر له على ذلك، وقد يعتريه هذا المرض لعدم حصوله على ما يكفيه من الشّرب الذي اعتاده، أجارنا الله، لأنه كلما زاد من الشّراب تخرقت تلك الأعضاء الكريمة، فيحتاج إلى ملئها ومتى ما نقّص فرغت تلك الحروق، فيحتاج إلى أن يشرب أكثر من معتاده لملئها، إذ قد يفضي فراغها إلى وقف الدّم فتبطل حركته فيحصل الموت وهلة. وما قيل أن الخمر تدفىء الجسم حتّى يكاد شاربها يتصبب عرقا من الحرارة فهو قيل عار عن الصّحة، لأن المشاهدات الطّيبة والعادية أثبتت خلاف هذا، وعدم فائدة الجسم بالتدفئة، لأن هذه المسألة عرضت على بساط البحث في المؤتمر الدّولي التاسع عشر في بلجيكا، وظهر أن تأثير الخمر الظاهر في تدفئة الجسم عقيب تناولها إنما هو شعور كاذب، إذ يعقبه انخفاض في درجة حرارة الجسم حتى عن حالته الطّبيعية، وقد أثبت هذه الحقيقة بصورة جلية المشاهدات الحسية في جزيرة (ايسلندا) التي هي من أشد البلاد بردا، وقد كثر بين أهليها الوفيات لدرجة عظيمة وتبين أن السّبب في ذلك استغناؤهم عن مكافحة البرد بشرب الخمر الذي سبّب صعود الدّم بتأثير الغول من داخل الجسم إلى سطح الجلد فأبادته برودة الجو تدريجا وانتهت الحياة بانتهاء الحرارة من الجسم. وهذا كمن يستعمل المقويات للجماع فإن ما يراه من القوة الحسية منحوتة من دمه بسبب تلك المقويات لا منها، وهؤلاء كثيرا ما يفلجون أو يموتون فجأة. ومما يؤيد هذا
ما حدث لأصحاب الرّحالة العالمي الدّكتور (سكوت) حينما وصل بهم إلى القطب الجنوبي وكان نهاهم عن الشّرب لما شاهد من تأثيره المميت في تلك الأجواء الباردة، وان منهم حينما اشتد عليه البرد لجأ إلى الشّراب خلافا لتعاليمه التي ذكرهم بها فما كان منهم إلّا أن لقوا حتمهم، والّذين تقيدوا بتعاليمه فلم يشربوا نجوا من الموت.
وجاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن ديلم الحميري قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله إنا بأرض باردة نعالج فيها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح، وفي رواية من الذرة، ونتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال هل يسكر؟ قلت نعم، قال فاجتنبوه، قلت إن النّاس غير تاركيه، قال إن لم يتركوه فقاتلوهم. وهذه معجزة خالدة في هذا. ومن جملة معجزاته قوله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها. وذلك لما أطلعه الله على ما ذكر من تأثيرها فيما سبق في هذا وغيره مما سيظهر بعد، وإنما لم يذكر حضرة الرّسول لهذا السّائل ضررها المادي لعدم إدراكهم إيّاه في زمنه، ولأنه يريد ألا يسألوا عن العلل لما أمر الله به ونهى عنه، ويريد أن يمتثلوا ما يأمرهم به من نفسه كأمر الله تعبدا وانقيادا وإذعانا لأمره أيضا دون فتح باب للسؤال عن العلّة والسّبب، لأنه لا ينطق عن هوى، بل بما يلهمه ربه، ولهذا قال تعالى (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية 7 من سورة الحشر المارة، فكان أمره أمر الله ونهيه نهيه، وان كثيرا من أفعال الله لا تعلل، وهو لا يسأل عما يفعل، وهذا ما أردنا ذكره في الخمر، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وسيرى ندم الآخرة على عدم الامتثال أشد من ندم الدّنيا. وأما الميسر فقد قدمنا ما يتعلق به من المضار في الآية 22 من سورة البقرة بصورة واضحة فراجعها، وهو مشتق من اليسر، لأنه أخذ المال بسهولة، وكان النّاس في الجاهلية يقامرون على أموالهم وأهليهم، فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله، ولذلك نهى الله عنه وأكد رسوله نهيه، ألا فليعلم العاقل أن الله تعالى لم ينهنا عن شيء إلّا بقصد نفعنا لكونه مضرا لنا في ديننا ودنيانا وعاقبة أمرنا، ولم يأمرنا بشيء إلّا لنفعنا في الأحوال الثلاثة أيضا، وقد أباح الله لنا الطّيّبات واللهو في غير ما حرم، وليس
بعد الحلال إلّا الحرام، ولا بعد الحق إلّا الضّلال فنحمده ونشكره، وهو القائل جل قوله «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا» أكلوا وشربوا مما حرم عليهم أو لعبوا بالقمار وشربوا الخمر وأكلوا من الكسب الحرام أو فعلوا كلّ محرم قبل نزول تحريمه، فكله عفو لهم لأنهم لم يخالفوا فيه إذ لم يحرم عليهم أولا «إِذا مَا اتَّقَوْا» هذه المحرمات واجتنبوها بعد تحريمها، وما هنا صلة لتقوية الكلام وتحسينه أي إذا اتقوا وسنأتي على بحثها في الآية 136 من سورة التوبة الآتية إن شاء الله، فإذا امتنعوا عنها «وَآمَنُوا» بالله ورسوله إيمانا خالصا وأذعنوا لما نهوا عنه أولا وآخرا «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» بعد إيمانهم واجتنابهم المنهيات «ثُمَّ اتَّقَوْا» جميع ما حرم عليهم في مستقبل زمنهم «وَأَحْسَنُوا» عملهم فيما بينهم وبين ربهم وخلقه أجمع فقد أحسنوا لأنفسهم وغيرهم «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (93) من خلقه وهنيئا لمن أحبه الله. وقد ذكرنا في سورة البقرة عند قوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) الآية 23 المارة وفي الآية 38 من سورة يونس ج 1 وفي مواضع أخرى أنه لا يوجد في القرآن حرف زايد أصلا، وأن كل حرف فيه يؤدي معنى خاص، كما أن ما هنا أي في قوله تعالى (إِذا مَا اتَّقَوْا) ليست بزائدة كما يقول البعض لأنها تؤدي معنى أنهم غير واثقين بالتقوى لعدم الاعتماد على النّفس، وهذا شأن المؤمن، فقد جاء في البخاري أن بعض السّلف الصّالح عرف عددا من الاصحاب يخشون النّفاق على أنفسهم لشدة تقواهم وقلة وثوقهم بأنفسهم، فتأمل رحمك الله فائدة الإتيان بما في هذه الآية ومثلها في أمكنة أخرى، وضرر القول بزيادتها لفوات هذا من المعنى المراد فيها، عصمك الله، وسنزيدك توضيحا عن مثلها في آية التوبة الآتية إن شاء الله، أما إذا لم يتقوا وفعلوا هذه المحرمات والعياذ بالله بعد تحريمها عليهم ومعرفتهم بالتحريم وعلمهم به فهم في خطر عظيم إذا لم يتداركهم الله برحمته بإلهامهم التوبة النّصوح عنها، ويدخل في هذه الآية من يدخل بالإسلام بعدها فإن الله تعالى يعفو عما وقع منه قبله ويصير حكمه حكم المؤمنين. واعلم أن كلمة (طعم) تطلق على الأكل والشّرب
والنّوم، وعلى هذا قوله:
فإن شئت حرمت النّساء سواكم
…
وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
النقاخ الماء والبرد النّوم ومثلها كلمة طبخ تطلق على المأكول والملبوس وعليه قوله:
قالوا اقترح شيئا تجد لك طبخة
…
قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
أخرج الترمذي عن البراء بن عازب قال مات ناس من الأصحاب وهم يشربون الخمر، فلما نزل تحريمها قال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف بأصحابنا الّذين ماتوا وهم يشربونها؟ فنزلت هذه الآية. وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال لما أنزلت هذه الآية ليس على الّذين إلخ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لي أنت منهم يعني قبل لرسول الله ان ابن مسعود منهم، والقائل والله أعلم جبريل عليه السلام، وليس هذا بكثير على صاحب رسول الله وحواريه. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ» يختبركم ويمتحنكم به حال إحرامكم بالحج أو العمرة، وذلك أن الله تعالى ابتلاهم بالصيد فصارت الوحوش تغشي رحالهم، فهموا بأخذها لأنها كانت منهم، كما قال تعالى «تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ» لقربه منكم كالأفراخ والبيوض وما لا يقدر أن يفرّ أو يهرب «وَرِماحُكُمْ» تنال كبار الصّيد كحمر الوحش والغزلان والطّيور لأن الله تعالى جعله عليهم بكثرة وأوقع عليه السّكينة، وهذا كابتلاء بني إسرائيل بالحيتان إذ جعلها في يوم السّبت تعوم على وجه الماء وشاطئه ليختبرهم أيضا، فلما أجرموا عليها وأخذوها هلكوا راجع الآية 162 من الأعراف في ج 1 وذلك بسبب احتيالهم على صيدها «لِيَعْلَمَ اللَّهُ» أي ليعلم عباده لأنه عالم من قبل بما يقع منهم قبل إظهاره لهم «مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ» ممن لم يخفه أي من ينفذ أمره من حيث لم يره، فلم يصطد حالة الإحرام ممن يخالف أمره فيصيد، ولهذا قال تعالى «فَمَنِ اعْتَدى» أي صاد حالة الإحرام، وقال تعالى اعتدى بدل صاد لما فيه من التعدي على حدود الله إن صاد «بَعْدَ ذلِكَ» الاختبار والنّهي «فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ» (94) في الآخرة لأن التعرض للصيد والاعتداء عليه خروج عن طاعة الله تعالى وانخلاع عن خشيته ومكابرة وعدم مبالاة في أمره ونهيه وإن لم يراع أحكام الله في هذه المسائل الهينة لا يهابه في الأمور العظيمة، ولهذا
شدد العقوبة على مرتكبها كما شددها على بني إسرائيل، وإذ مسخهم قردة وخنازير ولكن الله لطف في هذه الأمة المحمدية ورفع عنها المسخ الظّاهري حرمة لنبيها صلى الله عليه وسلم. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ» أيها المحرمون مناوئا أمر الله «مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ» في الدّنيا أن يتقرب إلى الله تعالى «مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» أي مثل الذي صاده في الخلقة والجثة، وإذا لم يكن له مثل فمثل قيمته. واعلم أن مثل النعامة الجمل، ومثل حمار الوحش البقرة، ومثل الضّبع الكبش، ومثل الظّبي الشاة والأرنب السّخل والضّب السّخلة واليربوع الجفيرة وهي التي بلغت أربعة أشهر من ولد الشّاة والجفر الذكر، ومثل الحمامة وكلّ ما عب وهدر من الطّيور كالفاخقة والقمري وذوات الأطواق شاة، وما سواها من الطّير ففيه القيامة بالمكان الذي أصيب فيه، وهذا الحكم عام. وما قيل أن سببه أبو اليسر كأن شد على حمار وحش وهو محرم فقتله على فرض صحته لا يخصصه فيه ولا يقيده به، فهو حكم مطلق عام إلى يوم القيامة، وعليه فلا يحل الصّيد ولا التقيد ولا التعرض له مادام الرّجل محرما وفي الحرم ولو غير محرم، والمرأة كذلك. روى البخاري ومسلم عن أبن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خمس من الدّواب ليس على المحرم في قتلهن جناح الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور.
ورويا عن عائشة مثله. ويستفاد منه أن لا شيء في قتل السّباع من البهائم الضّارية قياسا على الكلب العقور كالذئب والنّمر والفهد وغيرها، ولا الحشرات المضرة كالحيّة والرّتيلة وغيرها. وظاهر القرآن أن الصّيد خطأ لا جزاء فيه، وبه قال سعيد ابن جبير، وعامة الفقهاء والمفسرين على خلافه على أن الحق والله أعلم معه إذ لا قياس في الكفارات، ولأن الله تعالى خصه بالتعمد صراحة، والمخطئ غير المتعمد فكيف يوجبه عباده، وقد جاء في الحديث الصّحيح عنه صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه، فلماذا نوجبه نحن؟ قال تعالى «يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ» إذا اختلفتم في مثله عينا أو قيمة، فحكموا أيها المسلمون العادلين منكم بذلك وافعلوا ما يحكمان به وسوقوه «هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ» وأصلا إلى الحرم
داخلا فيه ويذبح هناك ويتصدق به إن شاء. قالوا تفيد الآية أن المثل القيمة لا العين، لأن التقويم مما يحتاج إلى النّظر والاجتهاد دون الأشياء المشاهدة، ولأن المثل المطلق في الكتاب والسّنة والإجماع مقيد بالصورة والمعنى أو بالمعنى لا بالصورة أو بالصورة لا بالمعنى، ولأن القيمة أريدت فيما لا مثل له اجماعا فلم يبق غيرها إجماعا مرادا، ولا عموم للمشترك، إلا أن قوله تعالى من النّعم يوجب المثل لا القيمة، وهو ظاهر القرآن، ولا موجب للانصراف عنه. أما إذا أتلف شيئا لا مثل له من النّعم فيصار إلى القيمة حتما. قال تعالى «أَوْ كَفَّارَةٌ» على الصّائد عند عدم القدرة على أداء المثل أو القيمة وهي «طَعامُ مَساكِينَ» بقدر الكفاية لكل مسكين نصف صاع «أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً» بما يقابل الإطعام لعدم قدرته عليه فإنه يصوم عن كلّ نصف صاع يوما واحدا، وهذا الجزاء الذي رتبه الله تعالى على المخالف في الدّنيا «لِيَذُوقَ وَبالَ» عقابه وجزاء «أَمْرِهِ» جرمه الذي اقترفه في عدم امتثاله أمر الله هذا إذا وقع بعد التحريم، أما ما كان قبله فقد «عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ» منكم من الاقدام على الصّيد في الحرم مطلقا سواء كان محرما أو غير محرم لأن الله تعالى لا يعاقب على ما لم يأمر به عند مخالفته كما أنه لم يعاقب على فعل الصّيد خارج الحرم أو المحرم حال الإحرام «وَمَنْ عادَ» بعد أن صاد وكفّر عن فعله فصاد في الحرم أو حال الإحرام «فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ» في الآخرة انتقاما عظيما «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» بالغ القوة والعظمة «ذُو انْتِقامٍ» (95) شديد فظيع ممن عصاه إذا لم يعف عنه. وتفيد هذه الآية أن لا كفارة في العود على المخالفة يعني أن من صاد وكفّر عن ائمة ثم صاد ثانيا حال الممنوعية لا تكفيه الكفارة ولا تطهره، لأن عوده بعد النّهي جريمة اقترفها باختياره تطاولا على الله تعالى، لأن عوده يعد جرأة عليه تعالى وعدم مبالاة بالكفارة التي أوجبها عليه، والله تعالى يغتاظ من عدم مراعاة حرماته. هذا، والحكم الشّرعي كذلك، والكفارة هنا على التخيير أيضا، فإن شاء ذبح من النّعم مثل الصّيد وتصدق به على مساكين الحرم، وإن شاء قوم المثل دراهم وأنفقها، أو قوم الدراهم طعاما، وتصدق به، وإن شاء صام عن كلّ نصف صاع يوما واحدا. قال
تعالى «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ» حلوه ومالحه «وَطَعامُهُ» أكله حل لكم أيضا سواء كنتم محرمين أو في الحرم ولكم أن تتمتعوا به «مَتاعاً لَكُمْ» أيها المقيمون تنتفعون به حال إقامتكم «وَلِلسَّيَّارَةِ» المسافرين يتزودون منه أيضا حال سفرهم كما فعل موسى عليه السلام حيث تمتع بالحوت الذي قصه الله علينا في الآية 61 فما بعدها من سورة الكهف في ج 2 «وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً» على أن لا تصيدوه في الحرم ولا في غيره ما دمتم محرمين وقد كرر الله تعالى تحريم الصّيد ثلاث مرات: أول السّورة في الآية الرّابعة، وهنا مرتين تأكيدا للتقيد بتحريمه، وعدم التعدّي على ما حده الله تعالى، وحذر عليه أولا بالنهي عن إحلال شعائر الله، وعدد ثانيا بالانتقام ممن يخالفه فيه خاصة، وأوعد عليه في هذه الآية الثالثة بقوله «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» (96) في الآخرة لا إلى غيره، وهناك تلقون جزاءكم على ما قدمتم وسبب التكرار هو قطع لطمع النّفوس من الإقدام على الصّيد بصورة ماقة لأن للنفس فيه حظا أكثر من قيمته، والنّاس لهوى نفوسهم أطوع، ولهذا فإن
حضرة الرسول لم يأكل من صيد غير المحرم وهو محرم تورعا وتنبيها لأمته ليتحاشوه ولا يقدموا عليه. أخرج في الصّحيحين عن الصّعب بن جثامة اللّيثى أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه من الكراهة قال إنا لم نرده عليك إلّا انا حرم. وأخرج في الصّحيحين عن أبي قتادة في صيد غير المحرم وأكله المحرم أنه صلى الله عليه وسلم قال هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها (أي حمارة الوحش المصيدة) قالوا لا، قال كلوا ما بقي من لحمها. فحمل الحديث الأوّل على وجود الأمر أو الإعانة للصائد غير المحرم من قبل المحرم، أو أنه صيد لأجل المحرم، وهو من باب الورع لأنه يجوز أن يأكل منه بلا سؤال أو علم. قال تعالى «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ» لمصالحهم في أمر دينهم ودنياهم لأنه به يقوم الحج وتتم المناسك، وبه يجتمع إسلام الكرة الأرضية فيتعارفون فيه، ويتذاكرون فيما يصلح شأنهم ويلمّ شعثهم ويوحد كلمتهم ويقف كلّ منهم على ضروريات الآخر ومحصولاته من تجارة وبيع وشراء
وضرع وزرع وصناعات ومصارفها ويجلبون معهم من بلادهم مما يصنعون للبيع والاطلاع ويتداولون بشأنه فيما بينهم لأن كلّ غريب طريف وقد يتباهى النّاس باقتناء الأشياء الغريبة والنّادرة، ولهذا ترى في الحرم الشّريف جميع مصنوعات ومنسوجات البلاد، ويوجد فيه مالا يوجد في غيره من الأثاث والرّياش تصديقا لقوله تعالى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) الآية 57 من سورة القصص في ج 1 وعادة جلب الأموال والأشياء إلى الحرم عادة قديمة قبل الإسلام يؤتى بها من كل حدب وصوب وتكدس فيه حتى إذا لم تصرف كلها تركوا الباقي فيه دون حراسة لا يخافون عليه سرقة ولا نهبا، ولهذا ولكون قاتل الأبن إذا رآه الأب فيه لا يكلمه لقب بالبلد الأمين، وهو محرم بالجاهلية والإسلام، ولا يستطيع أحد أن يشاحن أحدا فيه على مال أو سرقة أو سلب أو سبي. قال تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) الآية 198 من البقرة المارة هذا فيما يتعلق في أمر دنياهم ويتذاكرون أيضا في أمر آخرتهم، لأنه في إقامة مناسك الحج علو الدّرجات عند الله تعالى، وتكفير الخطايا والسّيئات، وزيادة الكرامة في الجنّات «وَالشَّهْرَ الْحَرامَ» جعله أيضا لما فيه من الأمن العام على من عرف ومن لم يعرف وفي الشّهر للجنس فيشمل الأشهر الأربعة لأنها من هذه الحيثية سواء «وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ» جعلها الله أيضا قياما للناس، لأن من يسوق الهدي إلى الحرم لا يتعرض له أحد، ولأن فيه وسعة على الفقراء، راجع الآية الثانية المارة وبحث الحج في الآية 193 من البقرة 26 من سورة الحج المارتين «ذلِكَ» جعل الله هذه الأشياء قواما للناس في أمورهم الدّينية والدّنيوية والأخروية «لِتَعْلَمُوا» أيها النّاس «أَنَّ اللَّهَ» تعالى عالم في الأزل بمصالحكم وحوائجكم في هذه الشّعائر، وهو جل شأنه «يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» كليّاتهما وجزئيّاتهما، ظاهرهما وباطنهما، خفيهما وجليهما «أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (97) من كلّ ما كان ويكون قبل كونه ومكان كونه وزمنه ورقت إعدامه وإعادته «اعْلَمُوا» أيها النّاس «أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» لمن انتهك حرماته «وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (98) لمن تاب وأناب ومات على