الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مطلب في مثالب اليهود والتفرقة في الدّين وما ينشا عنها وأن تبليغ الرّسول مقصور على القرآن وأمره بترك حراسته:
«وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ» يا حبيبي «يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» من الكذب والظّلم والتهور والحيف وسائر أنواع الإثم واصناف العداء «وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ» الرشوة في الأحكام وكلّ ما لا يحلّ تناوله يسارعون إليه والله انهم «لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (62) من الجنايات والرّذائل «لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ» أي هلا نهوهم عن ذلك وهو واجب عليهم منعهم عن تناوله وتعاطيه ولكنهم لم يفعلوا أيضا والله انهم «لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ» (63) بسبب سكوتهم عن الحق وكتمهم إياه وإقرارهم البطل وعدم نهيهم عما نهى الله عنه بكتابهم. قال ابن عباس ما في القرآن آية أشد توبيخا لعلماء اليهود من هذه الآية قال الضّحاك لا آية أخوف عندي منها يريد أن العالم إذا لم ينته دينه النّاس عن المعاصي يكون مثل هؤلاء يضلون أنفسهم وغيرهم. قال تعالى «وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ» عن الإنفاق على عباده أي أنه يبخل عليهم «غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ» لأعناقهم وهذه كلمة دعاء عليهم أي غلت أيديهم بالدنيا بالبخل ولذلك تراهم أبخل النّاس وفي الآخرة بالأغلال الحديدية والطّرد من رحمة الله الدّال عليه قوله «وَلُعِنُوا بِما قالُوا» على الله الجواد الكريم الواسع العطاء، وهذا قريب من قولهم (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) في الآية 181 من آل عمران المارة قاتلهم الله وأخزاهم. قال ابن عباس ان الله تعالى بسط على اليهود حتى صاروا أكثر النّاس أموالا فلمّا لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ضيّق عليهم إذ ذاك (ولما أصروا على ما هم عليه بسط الله عليهم الدّنيا فتراهم أكثر النّاس أموالا حتى الآن) فقال فنخاص الخبيث لما سمع كلام ابن عباس أرى يد الله مغلولة أي ينسب إليه البخل بسبب ذلك، تعالى الله علوا كبيرا عنه وتنزه، ولم ينكر عليه أحد من اليهود بل رضوا بمقالته القبيحة هذه، فكأنهم قالوها كلهم، فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم، أي قل لهم يا سيد الرّسل ليس الأمر كما تتهمون الحضرة الإلهية «بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ» كرما منه لأحبابه ورأفة وجودا على جميع خلقه بما فيهم أعداؤه ينزل لكل منهم
رزقه بنسبته وبمقتضى ما تراه حكمته «يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ» على من يشاء ولا يصح هنا قول من قال إن معنى مغلولة مكفوفة عن العذاب إلّا بقدر تحلة القسم لمنافاته سياق الآية ولعدم ذكر ما يتعلق بالعذاب المشار إليه في قوله تعالى (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) الآية 80 من سورة البقرة المارة أي بقدر مدة عبادتهم العجل، وهذا القول شبيه بقولهم هذا وكلاهما لا أصل له «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ» من اليهود ومن اقتفى أثرهم أو والاهم وسار على طريقتهم «ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» وهو القرآن الذي كذبوا به «طُغْياناً وَكُفْراً» لإقامتهم على البغي وتماديهم في الغي، لأنهم كلما أنزلت آية كفروا بها فيزدادون كفرا على كفرهم، وقد اغريناهم بعضهم على بعض «وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» بسبب اختلافهم بأمر الدّين، لأنهم فرق كالنصارى، منهم قدرية، ومنهم جبرية، ومنهم مشبهة، وكذلك مع الأسف افترق المسلمون بعد عصر الخلفاء الرّاشدين فرقا كثيرة اسماعيلية ونصيرية ودرزية وشيعة ورافضة ومغفلة ويزيدية وغيرهم خلافا لما أمرهم الله راجع الآية 32 من سورة الرّوم في ج 2 وما ترشدانك إليه فنسأل الله أن يجمع شملهم ويوحد كلمتهم على الحق، وهذا التفرق مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم افترقت الأمم إلى اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النّار إلّا ما انا عليه وأصحابي. وقد أشرنا إلى هذا في الآية 19 من سورة الحج المارة فراجعها. ثم وصف الله تعالى أولئك اليهود بقوله عز قوله «كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ» أي انهم كلما حاربوا غلبوا، وهكذا الى الأبد إن شاء الله لم تقم لهم قائمة، كيف وقد اخبر الله عنهم بقوله «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ» الآية 62 من البقرة المارة وهي مكررة، فتراهم كلما فسدوا بعث الله عليهم من يهلكهم، فقد فسدوا قبلا فبعث الله عليهم بختنصر البابلي، ثم رجعوا الى الله، حتى إذا كثروا ونعمرا أفسدوا ثانيا، فبعث الله عليهم طيطوس الرّومي، ثم رجعوا الى الله حتى أنستهم نعمته ذكره أفسدوا أيضا، فسلّط الله عليهم المجوس أي الفرس، ثم أفسدوا وطغوا وبغوا وتعدوا واعتدوا فسلط الله عليهم
المؤمنين، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم هتلر الألماني فشتتهم
وأوقع بهم البلاء، ولم يزالوا إنشاء الله تحت الرّق والعسف الى يوم القيمة كيف وقد قال تعالى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) الآية 167 من سورة الأعراف ج 1 فراجعها. وإن هذا الزعيم الألماني بعد أن اطلع على سوء نيتهم وعدم رعايتهم المعروف لبلاده مع أنهم ساكنون فيها أباد كثيرا منهم ونفى وأجلى وسلب وقتل وشرد وشدد عليهم، حتى إنهم صاروا يهاجرون مع الأسف إلى بلاد العرب إذ لا يحملهم أحد غيرهم لصفاء قلوبهم وتمسكهم بدينهم الموصي بمراعاة أهل الكتاب واحترامهم وصايا الله ورسوله بهم القائل، لهم مالنا وعليهم ما علينا. ولكنهم الآن ليسوا بأهل كتاب ولا يستحقون هذه المعاملة الحسنة لأنهم يتربصون بالمؤمنين الدّوائر، وقد ساعدهم الإنكليز والأمير كان ففتحوا لهم طريق فلسطين وأباحوا لهم شراء الأملاك فيها فصاروا يشترون من الفقراء أراضيهم وكرومهم وحتى مساكنهم بأضعاف قيمتها حتى يطمعون الآخرين والأغنياء أيضا، لا بارك الله فيمن يملكهم أو يساعدهم أن يمدهم، لأنهم جرثومة فساد لا يطأون أرضا إلّا أفسدوها، وقد أغروا شبان فلسطين حتى استردوا ما أخذوه من ثمن أملاكهم بواسطة عواهرهم وملاهيهم التي فتحوها لهم وخز عبلاتهم التي من طرق الفجور، وسيلقون عليهم الويل والثبور بذلك، ولا حول ولا قوة إلّا بالله القائل «وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً» بالمكر والخديعة والغدر والغش والإغراء والحيل، وهذا ديدنهم إلى الآن وإلى الآن وإلى أن يهلكهم الله «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» (64) كافة من كلّ الأمم ومن لا يحبه الله يبغضه، ومن يبغضه الله يا ويله. قال تعالى «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ» يهودهم ونصاراهم لعموم اللّفظ «آمَنُوا» بمحمد وكتابه «وَاتَّقَوْا» الله وتركوا ما هم عليه وتمسكوا بدين محمد النّاسخ لدينهم وغيره من الأديان «لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» التي عملوها قبل، لأن الإسلام يجبّ ما قبله ويمحو كلّ ذنب ويمحق وزره «وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ» (65) جزاء إيمانهم. واعلم أن هذه الآية والتي بعدها على حد قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) الآية 96 من الأعراف ج 1 فراجعها «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» وعملوا بما فيهما ونفذوا أحكامهما «وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ»
على أشعيا وأرميا وداود وغيرهم «لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ» من ثمار الأشجار المظللة عليهم كالنخل والعنب والزيتون والرّمان وغيرهما «وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» من الزروع والحبوب والخضر وغيرها وذلك بإنزال الغيث وجعل البركة فيه توسعة لأرزاقهم، لأن من مقتضى الإيمان بتلك الكتب ومن أنزلت عليهم الإيمان بالقرآن، ومن أنزل عليه لأنها تأمر بذلك. واعلموا أيها النّاس أن أهل الكتابين ليسوا سواء «مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ» غير مغالية ولا معاندة ولا مخاصمة قد تذعن للحق وتسلم «وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ» على العكس فقد «ساءَ ما يَعْمَلُونَ» (66) من كتم الحق وإظهار الباطل والعناد والغلو والتكذيب والافتراء والبهتان قبلا وحالا ومستقبلا، إذ لا يرجى منهم الخير. تفيد هذه الآية أن طاعة الله ورسوله والعمل بما جاء عنهما سبب لسعة الرّزق بدلالة آية الأعراف الآنفة الذكر في هذه الآية المفسرة وآية نوح عليه السلام (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) الآية 11 فما بعدها وقوله تعالى (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) الآية 15 من سورة الجن في ج 2، هذا ولا يقال هنا إن كثيرا من المطيعين فقراء، لأنا لا نعلم حقيقة طاعتهم ولا صحة فقرهم فكم من فقير بلباس غني وغني بلباس فقير، وقد اتضح لنا أن كثيرا من هذين الصنفين على غير ظاهرهما، وإذا كان يوجد شيء من ذلك، فاعلم أن الله تعالى يعطي كلّا بحسبه ومقتضى حكمته، فكم من غني أفسده غناه، وفقير أكفره فقره، ولو اطلعتم على الغيب أيها النّاس لاخترتم الواقع لأنكم لا تعلمون ما هو مقدر عليكم من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلّا الله، فرب غني يتمنى أن يكون أفقر النّاس، ولا يكون بما هو عليه من المصائب، وكم من فقير لا يصلحه إلّا الفقر فاحمدوا الله واسألوه العافية واشكروه على ما هداكم اليه وأقامكم فيه
ومنّ به عليكم تنجحوا وتفوزوا، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: إذا أصبحت معافى في بدنك آمنا في سربك عندك قوت يومك فعلى الدّنيا العفا. قال تعالى «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ»
واجهر به ولا ترعو من أحد، فاصدع بما آتيتك ولا تترك شيئا من الوحي أبدا «وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ» ما أمرت به كله
وأبلغته لأمتك إذا «فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» حق تبليغها، لأن من كتم شيئا فكأنما كتم الكلّ، فداوم على التبليغ ولا تخش أحدا مهما كانت قوته ومكانته «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» ويحفظك ويمنعك من أن يصل إليك أذاهم.
والمراد بالناس هنا الكفرة لأنهم هم الّذين كانوا يريدون قتله ليتخلصوا منه، وهو إنما جاء لخيرهم رحمة لهم ونعمة عليهم وهم كثيرو الأذى عليه في القول والفعل وهو يقول اللهم اهدهم فإنهم لا يعلمون وذلك بسائق شدة عداوتهم له ولذلك لم يهتدوا إلى ما جاءهم به من الحق «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» (67) لإنزال أي أذى فيك ويعمي أبصارهم من أن ينالوك بسوء كان صلى الله عليه وسلم إذا دعا اليهود إلى الإسلام يستهزئون به ويقولون تريد أن نتخذك حنانا كما اتخذت النّصارى عيسى.
يريدون إلها، راجع الآية 13 من سورة مريم ج 1 فيسكت عن دعوتهم، وإذا أمر المنافقين بالجهاد وكرهوه أمسك عن أمرهم، وإذا سأله اليهود عن بعض الأحكام أحجم عن اجابتهم لعلمه أن سؤالهم عبارة عن تعنت ومكابرة فيضيق ذرعه من ذلك ويحجم عن إبلاغهم بعض الآيات لعدم ميلهم إليها، فشجعه الله في هذه الآية وأمره بلزوم تبليغهم ما يتلقاه من الوحي كله سمعوا له أو أعرضوا عنه وأن لا يبالي بما يراه من الصّدود والسخرية، وأعلمه بأنه هو الكفيل لحضرته من أذاهم وفقا لما هو مدون في لوحه المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير يقال إن حضرة الرّسول لما أوذي من قبل الكفار وشجّ وكسرت رباعيته في حادثة أحد نزلت عليه هذه الآية تشجيعا له مما أصابه، لأن هذه الآية بعد تلك الحادثة بسنتين، وسورة المائدة هذه من آخر القرآن نزولا، ولم تكن هذه الآية مسنثناة منها، إذ لم يقل بذلك أحد يعتد بقوله، ولا يوجد نقل صحيح فيه، ولا خبر واحد عدل أيضا، فهو قول واه وإن الإمام فخر الدّين الرّازي ذكر في تفسيرها عشرة آخرها أنها نزلت في فضل علي كرم الله وجهه، وعند نزولها أخد صلى الله عليه وسلم بيده وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فلقبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة. وهذا قول ابن عباس والبراء ومحمد بن علي رضي الله عنهم. تدل هذه
الآية على أن حضرة الرّسول لم يكتم شيئا من الوحي، خلافا للأمامية القائلين بذلك من أنه كتم بعضه تقية، وحاشاه من ذلك، لأن الإمساك المار ذكره كان عن جماعة مخصوصين مكابرين آنفين لا عن غيرهم، ومع هذا قد أمره ربه بإبلاغهم وحيه. روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت من حدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أوحي إليه فقد كذب، ثم قرأت هذه الآية- أخرجاه في الصّحيحين- وفي رواية قالت لو كتم شيئا لكتم قوله تعالى (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) الآية 37 من سورة الأحزاب المارة في قصة زيد رضي الله عنه.
أما ما خصّ به من علم الغيب مما ليس بقرآن وقد تلقاه عن ربه بواسطة الأمين جبريل مما لا يسعه عقول النّاس إذ ذاك، فهذا مما لم يؤمر بتبليغه إذ لم يكن من القرآن، لأن وجوب التبليغ عليه مقصور على القرآن فقط لأنه له ولأمته، أما غيره مما أوحى إليه فمنه ما هو واجب إبلاغه للناس لتعلقه بهم، ومنه ما هو خاص به فقط، ومنه ما هو مخيّر بين تبليغه وكتمه. قال تعالى (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى)
الآية 10 من سورة النّجم أي شيئا عظيما أوحاه إليه وأسرّه بأشياء جليلة لا تظهر لنا في الدّنيا بل حينما يعطي الشّفاعة الكبرى بالآخرة، وإنما لم يظهرها لنا لأنا قد لا نعيها ولا ندرك ما ترمي إليه، ولا نقدر أن نتصورها، وقد أشار سيد العارفين الامام زين الدّين الحديث الذي رواه البخاري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال حفظت من رسول الله دعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني الحلقوم، وقال:
إني لأكتم من علمي جواهره
…
كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن
…
إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا
فرب جوهر علم لو أبوح به
…
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي
…
يرون أقبح ما يأتونه حسنا
وقدمنا في سورة الإسراء ج 1 ما يتعلق في هذا البحث فراجعه. واعلم أن حضرة الرّسول لو أعلم أهل زمانه معنى قوله تعالى (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) من هذه الطّائرات والسّيارات والكهرباء والرّاديو والهاتف والصّواعق والذرة وغيرها لما
وسعته عقولهم، ولأدى ذلك إلى عدم إيمان بعضهم، ولو سمعوا منه ما هو أقرب من ذلك للعقل لو صموه بالسحر والكهانة ولم يصدقوه، اللهم عدا خواص الأصحاب كأبي بكر رضي الله عنه إذ صدقه بالإسراء وما رآه فيه، والمعراج وما وقع له فيه وهو أعظم من هذا، ولذلك سمي الصّدّيق، وقد ارتد بعض النّاس حينما قص عليهم ما كشف له في الإسراء والمعراج، مع أنه أظهر لهم الدّلائل عليه، فكيف لو أباح لهم بما هو من هذا القبيل؟ قالت عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يحرس فلما نزلت هذه الآية استغنى عن الحراسة. وروى البخاري ومسلم عن عائشة قالت سخر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة المدينة ليلة، فقال ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسنى اللّيلة، قالت فبينما نحن كذلك سمعت خشخشة السّلاح، فقال من هذا؟
قال سعد بن أبي وقاص، فقال له صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟ فقال وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه، فدعا له صلى الله عليه وسلم ثم نام. ويدل هذا الحديث على صلاح المؤمى إليه وكونه من أهل المعرفة والكشف وهو كذلك، وهو من عرفت حادثته مع أمه في إسلامه، وقد بشره الرّسول بالجنة، إذا فلا ينكر على بعض السّادة الصّوفية العارفين ما يخبرون به من هذا القبيل أسوة بذلك والله تعالى واسع الفضل يمن بما يشاء على من يشاء من عباده، وهو الجواد الكريم. أخرج في الصّحيحين عن جابر رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرّقاع فإذا أتينا شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من المشركين (وقال البخاري هو غورث بن الحارث) وسيف رسول الله معلق بالشجرة، فاخترطه، فقال تخافني؟ فقال لا، فقال من يمنعك؟ قال الله، فتهدده أصحابه وعصمه الله كما عصمه من الحوادث التي ذكرناها في الآية 11 المارة، كيف وقد قال تعالى (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرّسل لهؤلاء المكابرين من اليهود والنّصارى «يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ» يعتد به من الدّين ولستم على شيء مما تدعونه مما جاءكم به موسى وعيسى عليهما السلام لأنكم غيرتم وبدلتم، وإنما أنا بريء مما أحدثتموه بعدهما في أمر دينكم «حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» كما أنزلا، وتعملوا بما فيهما حقيقة، وترجعوا عن كل
ما حرّفتموه وغيّرتموه منهما «وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» من الكتب الأخرى فتقيمونها أيضا على ما كانت عليه. واعلموا أن إقامتها لا تكون إلّا بإعادتها على ما كانت عليه عند نزولها ومراعاتها والمحافظة عليها والعمل بما فيها الذي من جملته الايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتابه الذي أنزل إليه من ربه الذي أنزل تلك الكتب على أنبيائكم الأوّل، فإذا لم تؤمنوا بمحمد وتصدقوا كتابه فلستم بمؤمنين بشيء منها، ولهذا قال تعالى «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» وهو القرآن «طُغْياناً وَكُفْراً» زيادة على ماهم عليه لعدم الإيمان به، وإذا كانوا كذلك وأصروا على ماهم عليه فهم كفرة «فَلا تَأْسَ» يا حبيبي ولا تحزن «عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» (67) بك وبكتابك، فإن ضرر كفرهم عليهم وإن عدم إيمانهم بك وجحدهم كتابك وعدم إقامتهم ما في كتبهم كفر، والكافر لا يعبأ به، وقدمنا في سورة فصلت الآية 42 ج 2 أن القرآن نور لأناس، ضلال لآخرين، فراجعها. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم كالمنافقين «وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ» قال في شذور الذهب رفع باعتباره معطوفا على محل ان الّذين آمنوا إلخ، لأنه مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف تقديره كذلك، فكأنه قيل إن الّذين آمنوا بألسنتهم من آمن منهم بقلبه إلخ فلا خوف عليهم إلخ والصّابئون والنّصارى من آمن منهم إلخ فلا خوف إلخ، وقد حذف من الثاني بدلالة الأوّل، ومثل هذه الآية من جهة أشكال الإعراب الآية 162 من سورة النّساء المارة، وهي (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ) إلخ، فإنها نصبت على المدح، تقديره وأمدح المقيمين، وإنما قطعت هذه الصّفة عن بقية الصّفات لبيان فضل الصّلاة على غيرها. وقرأ أبي بن كعب الصّابئين بالياء، وعلى قراءته لا أشكال في الاعراب وهناك أوجه أخرى في إعراب هاتين الكلمتين من الآيتين المذكورتين أعرضنا عنها لأنها دون ما جرينا عليه كما سيأتي، ونظير هذه الآية 62 من البقرة المارة وكذلك آية طه 63 وهي (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) فيها أشكال من حيث الاعراب بيناه فيها، فراجعه. واعلم أن من يعرف العربية يجد لكل وجهة في الاعراب فلا
يغلّط أحدا ولا ينتقد كلاما. «وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ» إيمانا مخلصا «بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» وثبت على إيمانه «وَعَمِلَ صالِحاً» معه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن الإيمان لا يتم إلّا به وماتوا على هذا الإيمان الجامع «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» في هذه الدّنيا «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) » على مافاتهم فيها في الآخرة لما يرون من نعيمها الدّائم لأنه ينسيهم الدّنيا وما فيها. وإنما خص اليوم الآخر في هذه الآية لأن الايمان به بعد الايمان بالله ورسوله
وهو أشرف الإيمان، ومن لم يؤمن به لا يسمى مؤمنا، وإن أهل الملل السّت المبينين في الآية 17 من سورة الحج المارة ليسوا على شيء إذا لم يؤمنوا به مع الإيمان بالله ورسوله وكتبه، لأنه أحد أصول الدين الثلاثة التي لا يقبل الإيمان إلّا بها، وقراءة كلمة الصّابئين بالرفع على الابتداء هي قراءة الجمهور من القراء وجارية على نيّة التأخير، أي والصّابئون كذلك إذا آمنوا، فقدم المبتدأ وحذف الخبر على حد قوله:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله
…
فإني وقيّار بها لغريب
أي فإني لغريب وقيار كذلك، وإنما كان رفع الصّابئين مع أن الحالة تقتضي نصبها لأنهم أشد الفرق ضلالا، وسموا صابئين لأنهم خرجوا عن كلّ الأديان إلى اتباع هواهم وشهواتهم. وحبا بمعنى خرج، وقد ذكرنا أن صاحب شذور الذهب أرى العطف على محل أن الّذين إلخ. وقال غيره لا يصح هذا العطف ولا يجوز ارتفاع الصّابئين بالعطف على محل ان واسمها، وعلى قوله بأن العطف على المحل يصح إذا فرغ من الخبر فيجوز أن تقول أن زيدا منطلق وعمرو بالعطف على محل أو اسمها، ولا يجوز أن تقول أن زيدا وعمرو منطلقان، وقرأ أبي بن كعب وابن كثير بالنصب تخلصا من هذه الإشكالات، وهم إنما قرأوها بالتلقي لا من أنفسهم، ولذلك ينبغي قراءتها على ما هي عليه. ونظير هذه الآية الآية 62 من البقرة المارة وما يقاربها في المعنى الآية 17 من سورة الحج بزيادة المجوس والمشركين قال تعالى «لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ» على العمل بالتوراة وامتثالهم أمر رسولهم «وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا» بعد موسى وهرون لا قامة أحكامها، فنقضوا الميثاق وصاروا لشدة تعنّدهم وكثرة تعنتهم «كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ
بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ»
من الأحكام والأوامر والنّواهي فترى «فَرِيقاً كَذَّبُوا» بعيسى ومحمد ومن تقدمهما من الرّسل «وَ» كتبهم «فَرِيقاً يَقْتُلُونَ 70» الأنبياء كيحيى وزكريا وبعض من تقدمهم من الرّسل بغيا وعدوانا وجرأة على مخالفة أمر الله ورسوله. راجع نظير هذه الآية الآية 87 من البقرة المارة وما يقاربها في المعنى الآية 29 من الأعراف في ج 1. وهذا دأبهم في كتب الله وديدنهم في رسله، إذ يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، راجع الآية 85 من البقرة
«وَحَسِبُوا» علموا وتحققوا، ويدل على أن معنى حسب هنا علم تعقيبا بأن المخففة من الثقيلة لأن فعل الظّن بمعناه لا يدخل على التحقيق تدبر. على أن هنا نافية لا مخففة لأن المخففة يعقبها اللام ولا لام هنا، تدبر. أي إلى هؤلاء الّذين كذبوا الرّسل وقتلوهم تيقنوا «أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ» بلاء وعذاب بذلك عليهم كلا بل يكون بأشد مما يتصوره العقل «فَعَمُوا» عن الحق وقتلوا زكريا ويحيى وبزعمهم عيسى فكذبهم الله وأخزاهم وأعم قلوبهم وأعمى أبصارهم عنه بدلالة ما جاء في الآية 158 المارة من سورة النّساء وكذبوا محمدا بزعمهم أن كلّ رسول يأتيهم بغير شرعهم يجب عليهم تكذيبه وقتله قاتلهم الله «وَصَمُّوا» عن سماع الحق منهم كما صموا عن سماع قول هارون عليه السلام ومن معه حينما نهاهم عن عبادة العجل، راجع الآية 90 من سورة طه في ج 1 «ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» بعد ذلك «ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا» زمن الرّسل من بعد موسى ولم يصغوا لأوامرهم، ثم أبدل من ضمير عموا وصموا على طريق بدل البعض من الكل قوله جل قوله «كَثِيرٌ مِنْهُمْ» أي أن أكثر اليهود كانوا كذلك، وإن القليل منهم رأى وسمع وأذعن وآمن «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) » لا يخفى عليه شيء من أعمالهم وأقوالهم. قال تعالى «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ» تقدمت هذه الجملة بعينها في الآية 15 المارة وكررت بمناسبة تبرأ عيسى من قولهم هذا كما حكى الله عنه بقوله عز قوله «وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ» لا فرق بيني وبينكم في عبوديته وربوبيته فاعبدوه مثلي لأني عبد له، واعترفوا بربوبيته، لأنه ربي وأنتم كذلك ثم حذرهم
عن الإشراك به بما حكى الله عنه «إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ» غيره أو أشركه في عبادته فعبد غيره من إنسان وحيوان وجماد وكوكب وملائكة وجن وانس «فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» إذا مات على شركه ومن يحرم الله عليه الجنّة يغضب عليه «وَمَأْواهُ النَّارُ» في الآخرة بسبب كفره وظلمه لنفسه «وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) » يمنعونهم من عذاب الله ويحولون دون تنفيذه فيهم ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من كفرهم فقال «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ» وهم عند نزول القرآن المرقوسية والنّسطورية من فرق النصارى ويريدون بقولهم هذا أن الله تعالى ومريم وعيسى آلهة ثلاثة والإلهية مشتركة بينهم، وكلّا منهم إله، كما سيأتي تفصيله آخر هذه السّورة عند قوله تعالى (أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) الآية الآتية، فيكون المعنى على قولهم هذا أن الله أحد ثلاثة آلهة أو واحد منها، وفي تفسير آخر أنه جوهر وأحد ثلاثة أقانيم أب وابن وروح قدس، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 17 من سورة النّساء المارة، والأقنوم هو الأصل، فيكون المعنى أن مجموع هذه الثلاثة إله واحد كما تقول إن الشّمس تتناول القرص والشّعاع والحرارة وكلها شمس، ويعنون بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبروح القدس الحياة، وإن الكلمة التي هي قول الله اختلطت بعيسى اختلاط الماء باللبن، وزعموا أن الأب إله والابن إله والرّوح إله والكل واحد، وكلّ من هذين التفسيرين باطل بداهته لأن الثلاثة لا تكون واحدا، والواحد لا يكون ثلاثة «وَما» في الوجود «مِنْ إِلهٍ» البتة يعبد بحق «إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ» وهو الله الفرد الصّمد لا ثاني له ولا شريك ولا ولد ولا صاحبة ولا والد له وهو واحد لا من طريق العدد ولكن من طريق أنه لا شريك له ولا ند ولا ضد ولا وزير ولا معين أبدا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ثم هددهم بقوله عزّ قوله «وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ» من الإشراك بالذات الواحدة المقدسة المبرأة المنزهة عن كلّ شيء «لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) » لا تطيقه قواهم، وإنما قال تعالى منهم لسابق علمه بإيمان بعضهم، قال تعالى فيها لهم بالكف عن خطتهم هذه «أَفَلا
يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ»
من مقالتهم هذه القبيحة وعقيدتهم الخبيثة فيفردون الإله بالعبودية ويؤمنون به وحده ايمانا خالصا حقيقيا ويصدقون رسوله محمد بكل ما جاءهم به من عنده ليغفر الله لهم ما سبق منهم «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (74) بعباده التائبين يريد لهم الخير لتنالهم رحمته
، قال تعالى ردا لمزاعمهم الفاسدة «مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ» ليس بإله ولا بابن للإله كما أن الرّسل كلهم لم يدعوا دعوى الافتراء هذه البتة «وَأُمُّهُ» مريم بنت عمران ليست بإله ولا بأم للإله، وإنما هي «صِدِّيقَةٌ» مخلصة لربها وليست بنبية ولم يرسل الله من النّساء نبيا قط:
ولم تكن نبيا قط أنثى
…
ولا عبد وشخص ذو افتعال
وهي وابنها «كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» كسائر النّاس والذي يحتاج إلى الطّعام لا بد أن يبول ويتغوط ويمرض ويحتاج لغيره، ومن كان هذا شأنه لا يصح أن يكون إلها إذ لا يليق بالإله أن يتصف بما يتصف به خلقه، لأنه نقص، والإله مبرأ من النّقص، ومن كان محتاجا لغيره كان عاجزا والعجز لا يليق بالإله القادر على كلّ شيء فيا محمد «انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ» الدالة على فساد عقولهم وآرائهم وقلة إدراكهم وقصر نظرهم «ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (75) ويصرفون أنفسهم عن استماع هذه الآيات البديعة واعلم أن إعراضهم عنها أبدع وأعجب «قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً» وتدعون عبادة الله المالك لذلك المحي المميت «وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ» لأقوال عباده خفيها وجليها «الْعَلِيمُ» (76) بما في ضمائرهم ونياتهم فهل يكون هذا ممن له عقل «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ» فتجاوزوا الحدود التي حدها لكم «غَيْرَ الْحَقِّ» الذي هو بين الافراط والتفريط راجع الآية 171 من النّساء المارة نظيرة هذه الآية في المعنى لأن مجاوزة الحق مذمومة كالتقصير فيه، وإن المغالاة في الدّين مذمومة كالاهمال فيه والصّد عنه، لأن ذلك من هوى النّفس، ولذلك يقول الله تعالى «وَلا تَتَّبِعُوا» يا أهل الكتابين «أَهْواءَ قَوْمٍ» من قبلكم «قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ» ضلالكم واضلالكم هذين لأن مغالاة النّصارى أوصلتهم إلى أن قالوا إن عيسى ابن الله وإله
أيضا، ومغالاة اليهود حدت بهم إلى أن قالوا عزير بن الله، ووصموا حضرة الإله بالبداء أي النّدم، تعالى عن ذلك كله، فزاغوا عن طريق الحق «وَأَضَلُّوا» أناسا «كَثِيراً» غيرهم بذلك عن أتباعهم ومواليهم «وَضَلُّوا» هم أيضا «عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ» (77) ببغيهم واتباعهم أهواءهم. تشير هذه الآية إلى أن كلّا من اليهود والنّصارى بغوا على الله بتقولاتهم تلك، وتفيد أن المغالاة في الدّين قد تؤدي إلى الكفر، ولهذا نهى الله ورسوله عن المغالاة وأمرا بالقصد، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال إن الدّين يسر ولن يشاء الدّين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والرّوحة وشيء من الدّلجة.
قال تعالى «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ» حيث قال لهم لما اصطادوا الحيتان بالحيلة، اللهم العنهم واجعلهم خنازير وقردة، فكانوا بأمر الله تعالى حالا، وقدمنا ما يتعلق بلعنهم وبعض أعمالهم التي استحقوا عليها اللعن في الآية 64 المارة والآية 164 من الأعراف في ج 1 فراجعهما «وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» لعنوا على لسانه أيضا وهم أصحاب المائدة حين أكلوا منها وادخروا ولم يؤمنوا ويصدقوا، فقال اللهم العنهم واجعلهم خنازير، فكانوا أيضا، كما سيأتي في الآية 115 الآتية إن شاء الله، ولأن داود وعيسى بشرا أمتهما بمحمد صلى الله عليه وسلم ولعنا من يكفر به فكفروا به «ذلِكَ» اللعن الواقع عليهم «بِما عَصَوْا» أنبياءهم «وَكانُوا يَعْتَدُونَ» (78) أي بسبب اعتدائهم عليهم وعلى أتباعهم «كانُوا» هؤلاء الملعونون «لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ» فيما بينهم ولا ينهى بعضهم بعضا عنه «لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» (79) ويقولون. وهؤلاء اليهود «تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ» أيها الرّائي «يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» ويطلعونهم على خبيئة أمرهم، وهؤلاء الخبثاء الّذين هذا شأنهم «لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ» من العمل لآخرتهم «أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» بأعمالهم تلك في الدّنيا «وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ» (80) في الآخرة تشير هذه الآية إلى نوع من أعمال المنافقين بموالاتهم الكافرين، لأنهم مثلهم بل أقبح، لأن أولئك كافرون ظاهرا وباطنا يجتنبهم النّاس، فلا يركنون إليهم، ولا يفشون لهم أسرارهم