الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خيرا كثيرا «وَرَسُولُهُ» يراه باطلاع الله إياه عليه ويستغفر لكم وهو مجاب الدعوة عند ربه «وَالْمُؤْمِنُونَ» يرونه أيضا لما يقذفه الله في قلوبهم من محبة الصالحين فكأنهم يرون أعمالهم الحسنة إذ يتمثل الحسن فيهم ويدعون لكم «وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» فيها على السّواء عنده لا فرق بين السر والجهر «فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (105) في الدّنيا على اختلاف أنواعه وأصنافه ويجازيكم على الخير بأحسن منه وعلى الشّر مثله. ثم أشار إلى القسم الثالث فقال عزّ قوله «وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ» وجماعة من المسلمين المتخلفين الّذين وسموا بالنفاق بسبب تخلفهم مؤخر أمرهم في القبول وعدمه لحكم الله فيهم بعد وهؤلاء «إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ» بعدله وقضائه «وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ» بفضله ورضائه «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما وقع منهم عالم بأسباب تخلفهم ونيتهم فيه «حَكِيمٌ» (106) فيما يقضه عليهم وهم الثلاثة الآتي ذكرهم بعد.
مطلب سبب اتخاذ مسجد الضّرار ومسجد قباء وفضله، والترغيب في الجهاد وتعهد الله للمجاهدين بالجنة، وعدم جواز الاستغفار للكافرين:
قال تعالى حكاية عن بعض أعمال المنافقين السّابقة فاضحا سرائرهم في أفعالهم كما فضحها بأقوالهم ونياتهم، فقال «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً» بأصحاب رسول الله أهل مسجد قباء «وَكُفْراً» بالله ورسوله «وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ» الّذين يصلون فيه بأمر من حضرة الرّسول «وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ» اتخاذهم ذلك المسجد والمراد بهذا هو أبو عامر الرّاهب وقد أعده له، هؤلاء المنافقون مناوأة للمسلمين الّذين أعدوا مسجدهم لهم ولرسولهم «وَلَيَحْلِفُنَّ» لك يا سيد الرّسل الّذين بنوه وهم وديعة بن ثابت وخزام بن خالد الذي أخرج المسجد المذكور من داره، وثعلبة بن حاطب المار ذكره، وحارثة بن عمر وولداه مجمع وزيد، وشعيب بن قشير، وعبادة بن حنين، وأبو حنيفة بن الأذعر، ونفيل بن الحارث، ونجاد بن عثمان ومخرح القائلين بحلفهم لك لتصدقهم ما «إِنْ أَرَدْنَ» ببنائه «إِلَّا الْحُسْنى» أي إلّا الإرادة الحسنة
والفعلة الطّيبة والخصلة المرضية، كذكر الله والصّلاة فيه عند ضيق الوقت غير الممكن فيه الوصول إلى مسجد رسول الله رفقا بالعجزة وذوي العاهة وتوسعة عليهم لقربه من بيوتهم، وخاصة للصلاة فيه ليالي الشّتاء وحالة المطر، وكانوا بعد أن أكملوه كلفوا حضرة الرّسول أن يصلي به ويدعو لهم بالبركة، فقال لهم صلى الله عليه وسلم أنا على جناح سفر، وإن قدمنا من تبوك أتيناكم فصلينا به إن شاء الله. فأعلم الله تعالى رسوله بالقصد من بقائه وقصه عليه في هذه الآية، وختمها بالشهادة على كذبهم، فقال جل قوله «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (107) فيما ذكروه لك وحانثون في حلفهم، وإن القصد من بنانه إضرار المؤمنين وتفريق كلمتهم وكفر بالله ورسوله وانتظار حضور الرّاهب المذكور الذي حينما قدم على المدينة، قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما هذا الدّين الذي جئت به؟ فقال صلى الله عليه وسلم جئت بالحنيفية السّمحة دين ابراهيم عليه السلام، فقال الرّاهب أبو عامر أنا عليها، فقال له صلى الله عليه وسلم لست عليها، قال أبو عامر بلى ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها، فقال صلى الله عليه وسلم ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية، قال أبو عامر أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا غريبا، فقال صلى الله عليه وسلم آمين، فسماه النّاس أبا عامر الفاسق، لخروجه على حضرة الرّسول صلى الله عليه وسلم ومقابلته له بكلام خارج عن نطاق الأدب والأخلاق وعار عن الصّحة. هذا ولما كان يوم أحد قال أبو عامر الفاسق للنبي صلى الله عليه وسلم لا أجد قوما يقاتلونك إلّا قاتلنك معهم، فلم يزل كذلك إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن يئس أبو عامر الفاسق وهرب إلى الشّام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا ما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدا، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الرّوم فآتي بجد، فأخرج محمدا وأصحابه، فصدقوا كلامه لخبث نيتهم وقح طريتهم وهم الاثنا عشر رجلا المار ذكرهم في الآية 65، فبنوه لذلك القصد وتلك الغاية، ففضحهم الله تعالى وقال صلى الله عليه وسلم إلى مالك بن الدّغشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشي: اهدموا هذا المسجد الظّالم أهله، فهدموه عليهم وأحرقوه واتخذ لرمي القاذورات والكناسة، ومات الخبيث بالشام طريدا وحيدا غريبا. وروي أن بني عمرو بن عوف الّذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب في خلافته،
فسألوه أن يأذن لمجمع بن حارثة أن يؤمهم في مسجدهم، فقال لا ونعمة عين، أليس هو إمام مسجد الضّرار، قال مجمع يا أمير المؤمنين لا تعجل علي فو الله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما ائتمروا عليه، ولو علمت ما صليت معهم فيه وكنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا لا يقرأون، ولذلك صليت بهم ولا أحسب أنهم على سوء نية، ولا أحسب إلّا أنهم يتقربون إلى الله، ولم أعلم ما في أنفسهم، فعذره عمر وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء الآتي ذكره. قال تعالى «لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً» لأنه لم يؤسس على تقوى من الله «لَمَسْجِدٌ» عظيم عند الله جليل عند رسوله، واللام فيه للابتداء، وفيه معنى القسم، والمراد به مسجد قباء لأنه «أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ» بني، واعلم أن لفظ من عام في الزمان والمكان، فلا
محل للقول الذي نقله النّسفي رحمه الله بأن القياس أن يقال منذ لأنه لابتداء الغاية في الزمان ومن لابتداء الغاية في المكان، لأن الله أعلم بما ينزل من الألفاظ الموافقة للمعاني المقصودة، وإني لأعجب كلّ العجب من جرأة بعض المفسرين على مثل أقوال هكذا، مع علمهم بأن مصدر العلوم العربية التي يتبححون بها ويدعون معرفتها كلها مستقاة من القرآن العظيم، وإن ما كان منها مخالفا له لا قيمة لها ولا عبرة، فالذي جعل من بمعنى ما وما بمعنى من ألا يجعل منذ بمعنى غاية المكان، ألا يجعل من لابتداء الغاية في الزمان كيف يقال هذا من هذا الرّجل وهي قد أنزلت على منبع الفصاحة ومصدر البلاغة، ومع هذا يتطاولون ويقولون القياس كذا وكذا، أيعترضون على الله الذي هو أعلم بما ينزل، فلا حول ولا قوة إلّا بالله، راجع الآية 67 من سورة يونس ج 2، والآية 5 من سورة الحج المارة وابتهر بجرأة المفسرين لهما واستغفر الله والزم الأدب، فهو «أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ» مصليا من مسجد الضّرار الذي أسس على الكفر استعدادا لحضور ذلك الرّاهب الكافر، لأن هذا المسجد المبارك «فِيهِ رِجالٌ» كرام على ربهم «يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا» طهارة كاملة من النجاسة الحسية والمعنويّة، والكلية الظّاهرة والباطنة، ويأخذون فيها بالعزيمة دون الرخصة «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» (108) لما نزلت هذه الآية مشى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى وقف على باب مسجد قباء، فقال يا معشر الأنصار إن الله عز وجل أثنى عليكم فما الذي تصنعون؟ فقالوا يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار ثم نتبعها بالماء فتلا عليهم الآية وهي عامة في الطّهارة ولا يفهم من هذا نزول الآية منفردة عن سورتها كغيرها من الآيات التي ذكرنا أسباب نزولها، بل نزلت هذه وغيرها مع سورتها دفعة واحدة كما ذكرنا، وتلاوة هذه الآيات وغيرها بمفردها لا يعني نزولها وحدها تأمل. أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر قال كان النّبي صلى الله عليه وسلم يزور قباء راكبا وماشيا يصلى فيه ركعتين. وأخرج البخاري عن سهل ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كلّ سبت راكبا وماشيا، وكان ابن عمر يفعله. وأخرج النّسائي عن سهل بن حنيفة قال: قال صلى الله عليه وسلم من خرج حتي يأتي هذا المسجد مسجد قباء فيصلي فيه كان له كعدل عمرة. وأخرج الترمذي عن أسد بن ظهير أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: الصلاة في مسجد قباء كعمرة.
وما قيل أن المراد في المسجد المذكور في هذه الآية مسجد الرّسول ينافيه سياق الآية ومغزى الحادثة والتاريخ أن مسجد الرّسول أفضل المساجد كلها بعد المسجد الحرام. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة. ورويا عن أبي هريرة مثله بزيادة ومنبري على حوض. وأخرج النّسائي عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنّة (أي ثوابت) . وجاء في الحديث الصّحيح أن الصلاة فيه تعدل خمسمائة صلاة في غيره. ثم ضرب الله مثلا لهذين المسجدين مسجد الضرار ومسجد قباء المسمى مسجد القرى بقوله جل قوله «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ» منه تعالى «خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ» متداع للسقوط كما سيأتي بيانه بعد «فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ» سقط مع بنائه فيها لأنه ظلم نفسه بذلك «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (109) أنفسهم المسوين بين مسجد التّقوى ومسجد الضّرار، أي من أسس بنيانه على شفير واد أكل الماء ما تحته فصار هائرا أو واهيا متداعيا للسقوط مثله كالرمل الذي ينهار لرخاوته وعدم تماسكه. وهذا الاستفهام المصدر فيه جاء
على سبيل سؤال التقرير، وجعل جوابه مسكوتا عنه لوضوحه، أي ليس هذا كمن أسس بنيانه على قواعد محكمة وقصد به تقوى الله ورضوانه، فلا شك أنه خير وأحكم ممن يؤسس بنيانه على ما ذكر، ولم يقصد به إلّا مناوأة الله ورسوله والمؤمنين طلبا لمرضاة الفاسق المذكور، ومن كان هذا شأنه فإن عاقبته النار لا محالة، وعاقبة الآخر محبة الله ورسوله، والحصول على رضوانهما ودخول الجنّة. قال تعالى مشددا في حزنهم وكآيتهم على ما فعلوا وقعدوا «لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ» كالحزازة تحوك في صدورهم لعظم جرمهم. والإثم حزاز القلوب لكثرة تردده فيها وسيبقي كذلك، «إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ» كمدا فيموتوا على غيظهم وغدرهم وحدهم وحسرتهم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بنيتهم في بنائه، ولذلك فضحهم على لسان رسوله وأصحابه بسبب بغضهم لهم «حَكِيمٌ» (110) بحكمه عليهم فيما ذكر جزاء جرأتهم على الله ورسوله.
قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» في هذه الدّنيا «أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» في الآخرة بدلا منها، ثم بين هذه المبايعة بقوله «يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» بأموالهم وأنفسهم «فَيَقْتُلُونَ» أعداءه وأعداءهم «وَيُقْتَلُونَ» في طاعته وطاعة رسوله ابتغاء مرضاته. قال كعب بن زهير:
لا يفرحون إذا نالت رماحهم
…
قوما وليسوا مجازيع إذا نيلوا
لا يقع الطّعن إلّا في نحورهم
…
وما لهم من حياض الموت تهليل
وكان قائلهم يقول ما قاله الشّريف الرّضي:
ونحن النّازلون بكل ثغر
…
نريق على جوانبه الدّماء
ونحن اللابسون لكل مجد
…
إذا شئنا ادّراءا وارتداء
ولو كان العداء يسوغ منا
…
لسنا النّاس كلهم العداء
وقال حافظ ابراهيم المصري في هذا المعنى:
شمّر وكافح في الحياة فهذه
…
دنياك دار تناحر وكفاح
وانهل مع النّهال من عذب الحيا
…
فإذا رقا فامتح مسح المتّاح
وإذا ألحّ عليك خطب لا تهن
…
واضرب على الإلحاح بالإلحاح
وخض الحياة وإن تلاطم موجها
…
خوض البحار رياضة السّبّاح
هكذا كانوا، وخلف من بعدهم خلف يريدون الأمور بالتمنّي، وقد ردّ عليهم أمير الشّعراء أحمد شوقي المصري بقوله:
وما نيل المطالب بالتمنّي
…
ولكن تؤخذ الدّنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال
…
إذا الإقدام كان لهم ركابا
فيا رب وفق أمتك للحزم واجمع كلمتهم على العزم لاسترداد عزتهم ويا رسول الله إنا نتوسل بك إلى ربك أن يتبعوا طريقك ويلازموا خطتك وأنت المجاب الدّعوة الذي كلّمت أقلام البلغاء ونطق الفصحاء بمدحك ومنهم شوقي القائل في قصيدته النبوية التي عارض فيها الهمزية:
فرسمت بعدك للعباد حكومة
…
لا سوقة فيها ولا أمراء
الله فوق الخلق فيها وحده
…
والنّاس تحت لوائها أكفاء
والدّين يسر والخلافة بيعة
…
والأمر شورى والحقوق قضاء
وأمثال هؤلاء قد وعدهم الله الجنّة «وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا» منجرا نافذا مثبتا في في اللّوح المحفوظ بعلم الله الأولي ليس محسنا، ولهذا فإنا أثبتناه «فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ» وهذه الآية تدل دلالة صريحة على أن الجهاد مأمور به في جميع الشّرائع، وأن الله تعالى قد عاهد المجاهدين على ما ذكره فيها كما عاهد المؤمنين في هذا القرآن عليه «وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ» أخبروني أيها الناس والجواب عن هذا الاستفهام (لا أحدا البتة) فإذا عرفتم هذا العهد الموثوق أيها المجاهدون الصّادقون «فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ» ربكم الذي أعطاكم هذا الوعد وهو لا يخلف الميعاد، وتكفل لكم بهذا القول، ومن أصدق من الله قيلا، وحدث به رسولكم عنه ومن أصدق من الله حديثا.
«وَذلِكَ» الحصول على ما وعد الله به المجاهدين «هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (111) وهذا جاء مجرى التلطف من الله في الدّعاء إلى طاعته والترغيب إلى جهاد عدوه، لأنا مملوكون لله تعالى، والمشتري لا يشتري ما يملك، ولم يقل جل قوله إن الله
اشترى من المؤمنين قلوبهم مع أنها الأصل ومحل الإيمان، لأنها ليست بأيدي عباده، فالقلب بيت الرّحمن وهو بين إصبعيه يقلبه كيف يشاء، ولأن الإنسان لا يصحّ له أن يبيع ما لا يملك كما لا يصحّ له أن يبيع طيرا بالهواء أو حوتا في الماء، قال تعالى «التَّائِبُونَ» من الكفر والنّفاق والبغي والعصيان «الْعابِدُونَ» الله تعالى بإخلاص جهد المستطاع بالسر والإعلان «الْحامِدُونَ» ربهم على السّرّاء والضّراء الرّاضون بما أنعم عليهم المنان «السَّائِحُونَ» في الأرض المتفكرون بما أبدعه الله من الخلق وإلى طلب العلم والتهذيب النّفسي وإلى الجهاد في في سبيل الملك الحنان «الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ» في إقامة الصّلوات في أوقاتها المحافظون على أركانها المراعون شروطها، وعبر بالركوع والسّجود عن الصّلاة لأنهما معظمها واختصاصهما بها لله تعالى بخلاف القيام والقعود والقراءة «الْآمِرُونَ» أنفسهم وغيرهم «بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ» راجع بيانها في الآية (111) من سورة البقرة المارة، وأدخلت الواو هنا لأن العرب تعتبر السّبعة عددا تاما فنعطف عليه ما بعده، راجع الآية 43 من سورة الكهف في ج 2 فيما يتعلق بهذا والقرآن نزل بلغتهم «وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ» فلم يتجاوزوا شيئا منها ولم يتعدوا ما حده لهم، فهؤلاء المتصفون في هذه الصّفات العالية هم المؤمنون «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» (112) أمثال هؤلاء بأن لهم الجنّة عند ربهم كالغزاة المار ذكرهم إذا لم يقصدوا بتركهم الغزو مطلق الرّاحة أو كلا عنه أو مخالفة لآمرهم أو رغبة عنه. قال تعالى «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ» الّذين ماتوا على شركهم، أما الأحياء من الكفرة فيصح الدّعاء لهم بالهداية، ويجب إرشادهم للايمان «وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى» لهم فلا يجوز الاستغفار لهم، ولا ينبغي فعله «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (113) بتحقق موتهم على الكفر بحسب الظّاهر، وعليه فلا يصح ولا يستقيم الدّعاء لهم شرعا، اما قبله فلا بأس بل هو مطلوب لقوله صلى الله عليه وسلم لأن يهد الله بك رجلا خير لك من حمر النّعم وجعل بعض المفسرين نزول هذه الآية في أبي طالب حين قال له صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك،