الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العذاب والنّكال وأهلكهم إهلاك استئصال، وإذ ذاك يقول القائل متعجبا من عظيم صنعي بهم ومبتهرا من كبير تعذيبي لهم ومتحيّرا من كيفية أخذه «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» (44) عليهم، إذ أبدلت نعمهم نقما، وراحتهم محنة وحياتهم موتا، وعمارتهم خرابا، وجنايتهم خربا. وفي هذه الآية تخويف عظيم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم السّابقين واللاحقين بأنهم إذا لم يخلصوا لربهم يكون مصيرهم مصير أولئك قال تعالى «فَكَأَيِّنْ» راجع الآية 60 من سورة العنكبوت وما ترشد إليه في معناها وتركيبها «مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ» أي زمن تلبسها بالظلم حال ظلم أهلها «فَهِيَ خاوِيَةٌ» في هذه الآية حذف كلمتين أخالية من السّكان ساقطة «عَلى عُرُوشِها» أي سقوفها «وَ» كم من «بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ» متروكة هلاك مستعمليها من أهل البوادي. والقرى عطف على قر «وَ» كم من «قَصْرٍ مَشِيدٍ» (45) أخليناه بتدمير أهله من المدن والحواض والعواصم معطوفة أيضا على قرية. تفيد هذه الآية أن أهل البوادي والمدن؟
أصروا على كفرهم وتكذيب رسلهم أهلكهم الله إهلاك استئصال ودمرته ومساكنهم وما يأوون إليه في البوادي.
مطلب في قصة قوم صالح عليه السلام وأسباب إهلاك بعض الأمم وتسمية بعض البلاد بما وقع فيها والآيات المكيات:
قالوا إن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح عليه السلام لما نجوا من العذاب جاء إلى بئر من أرض اليمن في سفح جبل عليه قصور. ولما حضروا فيها مات صا؟
عليه السلام فسميت تلك البلدة (حضرموت) وكذلك لما قلبت المؤتفكة ومن أهلها مئة نسمة سميت (سلمية) وكذلك لما حل نوح عليه السلام ومن معه أرض الجزيرة قرب الجودي وكانوا ثمانين نسمة بنوا قرية هناك فسميت قرية الثمانين ولما هاجر من العرب مئة نسمة إلى أراضي ماردين أنزلوهم بمحل سموه (محلمية وأطلق عليهم هذا الاسم حتى الآن، أما بعلبك فسميت باسم الصّنم (بعل) وصاحبه (بك) ثم انهم بعد موت صالح بنوا بلدة هناك سموها حاضوراء فاقاموا؟
وغنوا وكثروا، ثم بغوا وعبدوا الأصنام، فأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان
فقتلوه، فأهلكهم وعطل بئرهم وقصورهم ولم يبق منهم أحدا كما ذكر الله القائل «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ» هؤلاء الّذين لا يؤمنون بك يا محمد فينظروا إلى آثار الأمم المهلكة قبلهم بسبب تكذيبهم أنبيائهم «فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها» كيفية إهلاكهم وسببه «أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها» ما كان منهم وما وقع من أفعالهم وما كانوا يعاملون به أنبياءهم من الجفاء والإهانة فيتذكرون ويتعظون ويعتبرون، ولكن لو فعلوا ذلك لم ينفعهم لأنهم لم يوفقوا للخير لسابق شقائهم «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ» عن الرّؤية لتلك الآثار ولو عميت فإن عماها لا يضر في الدّين ولا يمنع التفكر والتذكر «وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» (46) فهي التي عماها يضرّ في ذلك ويمنع من الاعتبار ولهذا فلا تنفعهم الذكرى. تشير هذه الآية الجليلة إلى أن هؤلاء عمي القلوب ويقال عمه القلوب بالهاء لا ينتفعون بشيء من الآيات لأن ما تراكم عليها من صدأ الكفر وظلمته حال دون النّظر إليها والتفكر بها من الأبصار التي في الرّأس لأنها لا تفيد بلا بصيرة قال تعالى «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ» يا سيد الرّسل «بِالْعَذابِ» الذي تعدهم به وتهددهم بعظمه فقل لهم إنه لآت لا محالة، لأنه مما وعد الله «وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ» لأنه مقدر عنده إلى يوم وأيّام الله طويلة ليست كأيامكم «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» (47) وأيّام العذاب من هذا القبيل ترى طويلة لشدة ما يقاسيه العذاب، فلا تستعجلوا بطلبه وكيف تريدون أن ينزل بكم وأنتم تعلمون أن أيّام الشّدة في الدّنيا طويلة على ما تعلمون من قصرها وانتهائها، فكيف بأيام الآخرة التي لا غاية لها معلومة، فانتظروا ولا تغتروا بالإمهال «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ» فأدررت عليها الرّزق والولد والجاه لتستدرج لما هي عليه من الشّر لأنها خلقت شريرة لا ينفعها النصح، فاغترت وتمادت بالعصيان، حتى ظنت الإهمال لطول الإمهال، وإنها لم تؤخذ «ثُمَّ أَخَذْتُها» على غرّة «وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ» (48) لا إلى غيري مهما طال أمدهم وأمهلهم، ترمي هذه الآية إلى تحذير الأمة من التمادي في المعاصي، وعدم الاغترار بما يملي لهم. وهم ما هم على ما هم عليه، وإنها إذا لم ترجع إلى الحق
يكون مصيرهم مصير من قبلهم. ألا فليقلع الظّالم عن ظلمه ويتيقن أنه مهما طال أجر وإمهاله فإنه لا يمهل ويؤخذ على غفلة فيخسر الدّنيا والآخرة، لأنّ عمله في الدّنيا لم يقصد به وجه الله، ولم يطلب به مرضاته، ولم يتصرف بما من الله عليه بما يرضيه. فيا أكمل الرّسل «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» (50) ما أرسلت به إليكم ومبلغ لا مسيطر ولا جبار ولا مكره «فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» منكم في هذه الدّنيا «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» لذنوب السابقة «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» (50) في الجنّة بالآخرة جزاء أعمالهم الطّيبة
«وَالَّذِينَ سَعَوْا» أفسدوا «فِي آياتِنا» المنزلة على رسولنا «مُعاجِزِينَ» مثبطين النّاس عن الإيمان بها، ما نعيهم عن سماعها، مشاقين لها، معاندين لقدرتنا، ظانين لا نطيق صدهم في الدّنيا وتعذيبهم في الآخرة «أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (51) فليفعلوا ما يشاؤون في هذه الدّار الفانية، ومرجعهم إلينا في الآخرة الباقية، وهي أول الآيات المكيات في هذه السّورة، قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى» قرأوا عليه قوله:
تمنى كتاب الله أو ليلة
…
تمنى داود الزبور على رسل
وقال تعالى (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ) أي قراءة راجع الآية 78 من سورة البقرة المارة فلا ينظرون المعنى وإنما سميت القراءة أمنية لأن القارئ إذا انتهى إلى آية رحمة تمني حصولها له، وإذ انتهى إلى آية عذاب:
عفوه منها. والتمني نهاية التقدير، ومنه المنية وهي الموت باليوم المقدر والأمنية الصورة الحاصلة بالنفس من التمني، وتكون بمعنى حديث النّفس أي خطر وتمنى بقلبه وهو المراد هنا والله أعلم. ومما يؤيد هذا المعنى قوله جل قوله «أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» أي مخيلته النّفسية مما يخطر بباله «فَيَنْسَخُ اللَّهُ» يمحو ويزيل ويعدم وينسى «ما يُلْقِي الشَّيْطانُ» من تلك التمنيّات الحاصلة في الصّورة النفسية بأن يبطلها ويذهبها حتى لا يبقى لها أثرا في تلك التصوّرات «يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ» يثبتها ويحفظها من الإلقاءات الشّيطانية والتسويلات النّفسية، فلا يلتحق
بها ما ليس منها لسابق عهده تعالى بحفظ القرآن من غيره، راجع الآية 9 من سورة الحجر المارة في ج 2 وما ترشدك إليه من المواقع «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما أوحاه لرسوله يحميه من خلط الشّيطان «حَكِيمٌ» 52 في تمكين آياته وصوتها من غيرها وفي امتحان عباده بها. واعلم أن ذلك الإلقاء والنّسخ والإلهام ما هو إلا «لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً» محنة وبلاء واختبارا وامتحانا «لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك وريبة فتأخذهم أهواءهم غير مأخذ لخبثها «وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ» عطف على الّذين في قلوبهم مرض يريد بهم المشركين الجافية قلوبهم عن قبول الحق ليزدادوا شبهة ومرية فيه وشكا وريبا فيمن أنزل عليه وكفرا وجحودا بمن أنزله «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ» من هؤلاء الكفرة «لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» (53) عن الحق «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» بالله ورسوله وما أنزل عليه «أَنَّهُ الْحَقُّ» الصريح والصّدق البالغ منزل عليك يا سيد الرّسل «مِنْ رَبِّكَ» الذي رباك وشرفك في هذه الرّسالة وهذا القرآن العظيم، ذلك الإله الذي أحكم آياته وصانها عن غيرها وهذه الجملة معطوفة على جملة ليجعل، ثم فرّغ عنها قوله «فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ» تطمئن وتسكن وتخضع وتخشع «لَهُ قُلُوبُهُمْ» فيذعنوا له ويعلموا أنه الحق فيهتدوا به «وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (54) عدل سوي لا يميلون إلى غيره ولا ينحرفون عنه ولا يشكون فيه «وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ» . وشك فيمن جاءهم به وريب من إنزاله ومنزله «حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ» التي يموتون بها «بَغْتَةً» لا تمهلهم طرفة عين ليتمكنوا من الرّجوع عن كفرهم وشكهم «أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ» (55) لا ليلة بعده ولا له مثل وهو يوم القيامة. ولا وجه لمن قال أن في جعل اليوم يوم القيامة تكرارا لأن المراد بالساعة هو يوم القيامة، ولأن السّاعة وقت يوم كلّ أحد، ولأن اليوم الذي ذكر فيه العذاب، ولأن السّاعة من مقدمات القيامة واليوم يومها، ويؤيد هذا قوله تعالى بعد (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) هذا والله أعلم.
مطلب قصة الغرانيق وإثبات وضعها وما جاء فيها بالكتاب والسّنة والإجماع والقياس والعقل:
وقد نزلت هذه الآيات الأربع بمكة بعد سورة والنّجم كما أوضحناه بآخرها في ج 1 وسبب نزولها هو تسلية الرّسول صلى الله عليه وسلم عما أشاعه قومه من ذكر أصنامهم وتذكير له بأن السّعي لإبطال آيات الأنبياء أمر معهود من قبل لوقوعه مع الأنبياء السالفين، وانه سيء مردود وهباء لا بقاء له ولا أثر، واعلام بأن الأنبياء هو ومن قبله عليهم الصّلاة والسّلام إذا قرأوا شيئا من آيات الله ألقى الشّيطان بحسب طبعه وجبلّته الشّبه والتخيلات فيما يقرؤونه على اتباعه الخبثاء النّفوس مثله ليجادلوا به بالباطل، ويردوا ما جاء به الرّسل قال تعالى (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) الآية 121 من سورة الأنعام وقال (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) الآية 141 منها أيضا ج 2 وقال تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) الآية 32 من الفرقان ج 1 ومن ذلك قولهم عند سماعهم قول الله تعالى بتحريم الميتة انظروا كيف يحرم ذبيحة الله لأنه هو أماتها، فكأنه ذبحها ويحل ذبيحة لنفسه وغيره. وعند سماعهم قوله جل قوله (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الآية 99 من الأنبياء المارة في ج 2 يلقون في قلوب أوليائهم أن عيسى وعزيرا والملائكة عبدوا من دون الله، وان محمدا يعدّهم من حصب جهنم، راجع تفسير هذه الآية واخساء ابن الزبعري فيها. وعلى هذا يحرز أنه صلى الله عليه وسلم عند ما قرأ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الآية 19 من سورة النّجم المذكورة آنفا وكان صلى الله عليه وسلم يرتل القراءة ويفصل بين الوقفات بسكنة قصيرة فترصد الرّصاد الملعون تلك الفواصل، قدسّ الكلمات المشهورة المبينة هناك بين سكتاته محاكيا صوته عليه السلام وألقاها في أذن أوليائه الكافرين فطبعت في قلوبهم الميّالة لها، فظنوها من قراءته صلى الله عليه وسلم فراقت لهم، ولذلك لما سجد صلى الله عليه وسلم سجدوا كلهم معه تبعا لأصحابه عند قراءة آية السّجدة من السّورة المذكورة، ولم يقدح هذا السّجود بالمسلمين لأنهم لم يسمعوا ما سمعه الكفار، وإنما سمعوا السّجدة فسجدوا كعادتهم
وكانوا عارفين ما يتلى عليهم لأنهم يصغون لكلامه بكليتهم ليحفظوه عنه، وهم يعرفون كراهية الأصنام من حال الرّسول وذمّه لها وتحقيرها وأهلها، فلا تخطر ببالهم، وهذا أحسن ما قيل في هذا الباب وأصدقه وأحقه. وما قيل إنه صلى الله عليه وسلم نطق بتلك الكلمات سهوا أو خطأ أو نسيانا أو أنه تمنى أن ينزل عليه مدح آلهتهم فممتنع قطعا وحاشاه من ذلك، وساحته براء مما هنالك، ولا يوجد دليل أو أمّارة يميل إليها الفطن أو برهان أو إشارة ينحاز إليهما الفكر، لأنه عليه الصلاة والسلام معصوم ومنزه عن أن يقول أو يخطر بباله أو يتصور بخياله شيئا من ذلك ولا يتقول بهذا القول ويزعم وقوعه منه إلّا منافق زنديق كافر، ولا ينقل هذه الترهات إلّا من لا نصيب له من الهداية، ولا يصغي إلى هذه الخزعبلات إلّا أهل الشكوك الّذين في قلوبهم مرض، إذ لم يرد نقل أو خبر أو سند صحيح أو ضعيف أو غريب بذلك ليطمئن أو يركن إليها أو رواية يمكن أن يستند لها أصلا، ويدلك على اختلافها اختلاف الرّوايات. ومباينة الأقوال ومناقضة الأخبار وضعف ناقليها واضطراب رواتها وانقطاع أسنادها وتضارب عباراتها وتلفيق ألفاظها بصورة لا تقبل التأويل ولا التأليف أبدا، وهذا كاف لردّها وإنكارها. هذا وما قاله بعض العلماء بأن هذه الآيات الأربع نزلت بين مكة والمدينة بعيد عن الثبوت إذ لا مناسبة بينهما وبين ما وقع في الطّريق أثناء الهجرة، وكذلك لا يصح القول بأنها نزلت يوم بدر لأنه لا يجوز أن يقول الله تعالى (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) الآية المارة، لأنه من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر كما أن ما جاء في تفسير بعض المفسرين بأن هذه السّورة مكية عدا الآيات الخمس 12 و 13 و 40 و 41 و 78 والآيات من 20 الى 25 غير سديد لأن الحج لم يفرض بمكة والحوادث المشيرة إليها بعض الآيات منها لم تقع في مكة، ومن المعلوم أن كل ما نزل بعد الهجرة يسمى مدنيا، كما أن كلّ ما نزل قبلها يسمى مكيا. واعلم أن السّبب الدّاعي لعدّها مكية بدؤها
بيا أيها النّاس، وتكرار هذه اللّفظة بها أربع مرات، وإن هذه من مميزات المكي على المدني على أننا أشرنا في المقدمة بان المكي لا يوجد فيه يا أيها الّذين آمنوا البتة، والمدني لا يخلو من لفظ يا أيها النّاس،
واشارة بعض الآيات الى أحوال أهل مكة، وإلّا في الحقيقة هي مدنية عدا الآيات الأربع التي نحن بصددها، وأنهن على القول نزلن بعد سورة النّجم كما أشرنا إليه آنفا في هذه السّورة وفي سورة النّجم أيضا، كما هو الواقع والله أعلم.
قال تعالى «الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ» في ذلك اليوم العقيم الذي لا ليل بعده ولا يوم من أيّام الدّنيا «لِلَّهِ» وحده، وهو قبل ذلك اليوم كله لله أيضا، إلا أن ملوك الدّنيا تدعيه مجازا في الدّنيا، أما في الآخرة فلا يدعيه أحد سواه، إذ يكونون الدّنيا تدعيه مجازا في الدّنيا، أما في الآخرة فلا يدعيه أحد سواه، إذ يكونون مملوكين فيه لله هم وما ملكوا كما كانوا في الدّنيا في الحقيقة هكذا مملوكين لله الذي «يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ» في ذلك اليوم العظيم. ثم بين نتيجة هذا الحكم بقوله عز قوله «فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (57) هذا وقد أشبعنا هذا البحث في سورة النّجم، وأثبتنا أن القول بغير ما ذكرناه باطل موضوع فراجعه تعلم ان القرآن والسّنة والإجماع والقياس والعقل يأبونه، أما القرآن فلقوله تعالى (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) الآيتين 44 و 45 من سورة الحاقه في ج 2 وقوله تعالى (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) الآية 5 من سورة يونس ج 2 أيضا وقوله تعالى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) الآيتين 4 و 5 من سورة النّجم في ج 1 فلو قرأ صلى الله عليه وسلم تلك الكلمات لظهر الكذب في الحال، وهذا لا يقوله مسلم وقوله تعالى (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) الآية 174 وقوله (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا) الآية 75 من سورة الاسراء وكلمة كاد عند البعض بمعنى قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل، وكلمة لولا تفيد انتفاء الشّيء لانتفاء غيره فدل على أن ذلك الرّكون لم يحصل أيضا، وقوله تعالى (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) الآية 32 من سورة الفرقان في ج 1 وقوله (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) الآية السّابعة من سورة الأعلى ج 2، فكيف بعد هذا يتصور منه النّسيان في تبليغ الوحي، وقد نفاه الله عنه وأخبر بنثبيت فؤاده بما يوحيه إليه. وأما السّنّة
فمنها ما روي عن محمد بن اسحق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال هذا وضع من الزنادقة وصنف فيه كتابا وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النّقل وأن رواتها مطعون فيهم. وقد روى البخاري في صحيحه أن النّبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة والنّجم وسجد فيها وسجد المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق، وهذا الحديث مروي من طرق كثيرة والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق، وهذا الحديث مروي من طرق كثيرة وليس فيها حديث الغرانيق البتة. وأما العقل فمن المعلوم ضرورة أنه صلى الله عليه وسلم كان أعظم سعيه في تبكيت الأصنام والأوثان وأن نسبة ما ذكر إليه صلى الله عليه وسلم يوجب تعظيمها ومن جوز عليه تعظيمها فقد كفر، لأنه بعث لرفعها من على وجه الأرض وقتل من يعبدها إذ لو جوز ذلك عليه صلى الله عليه وسلم لارتفع الأمن عن شريعته، ويجوز أن يكون مثل ذلك في جميع الأحكام والشّرائع وهو باطل لا يجوز في شيء منها وحينئذ يبطل حكم قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) الآية 70 من سورة المائدة الآتية إذ لا فرق عقلا بين نقصان الوحي والزيادة فيه، وإن الإجماع فقد أجمع على هذا الأولون والآخرون والقياس يأبى عدمه. فبهذا وبما ذكرناه في الصّفحتين المارتين وما أثبتناه في سورة والنّجم يثبت وضع هذه القصة التي ذكرها بعض المفسرين بناء على خبر الواحد الذي لا يعارض هذه الدّلائل النّقلية والعقلية المتواترة هذا والله أسأل ونبيه أتوسل أن ينقي قلوب هذه الأمة المحمدية من كلّ ما يضرها في الدين والدّنيا والآخرة، ويثبت عقيدتها في دينها القويم انه على كلّ شيء قدير وبالإجابة جدير. لما قال بعض أصحاب رسول الله قد علمنا ما اعطى الله الشّهداء ونحن نجاهد معك، فإذا لم نقتل ومتنا حتف أنفسنا فمالنا عند الله غير سعادة الدنيا أنزل الله قوله «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً» في
الآخرة «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (58) لأن رزق النّاس بعضهم بعضا ورزق السّلطان أعوانه وجنوده له نهاية، ورزق الله عباده دائم لا من فيه. ورزق هؤلاء بعضهم بعضا على طريق المجاز لأن الرّازق الحقيقي هو الله الذي سخر بعضهم لبعض. ثم أقسم جل قسمه
«لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ» ويسرون منه، إذ لم يروا مثله ولا ينالهم فيه مكروه ولا يحتاجون لاحد يتوسط لهم به، ولا كلفة بتناوله «وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ» بنيات هؤلاء المجاهدين المهاجرين الذي سيعطيهم هذا الجزاء الجزيل «حَلِيمٌ» 59 بإمهال من قاتلهم عنادا على ما هم عليه من الحق «ذلِكَ» الأمر الذي قصصناه عليك يا سد الرّسل هو الحق الذي لا مرية فيه «وَمَنْ عاقَبَ» غيره «بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ» بأن أوقع على من ظلمه بمثل ما وقع منه «ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ» بعد ذلك الاقتصاص الذي لا جناح عليه بفعله بمقتضى قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) الآية 195 من البقرة المارة وقوله جل قوله (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) الآية 43 من سورة الشّورى ج 2 «لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ» لأنه مظلوم حق على الله نصرته «إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ» عما فعل بمن اعتدى عليه على طريق المقابلة، لأن ذلك حقه قد رخص الله له استيفاءه منه «غَفُورٌ» 60 لأمثاله المؤمنين لأخذه بالرخصة التي منحه الله إياها، وعدم أخذه بالعزيمة، وجنوحه للأخذ بالرخصة فعل لا مؤاخذة عليه ولا عتاب.
«ذلِكَ» نصر الله للبغي عليه «بِأَنَّ اللَّهَ» الذي «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» قادر على نصرته مهما كان ضعيفا وخصمه قويا. والإيلاج إدخال الشّيء بالآخر مع اضمحلال المدخول فيه، لأن الليل إذا دخل على النّهار صار ضياءه ظلاما وكذلك النّهار إذا دخل على اللّيل صيّر ظلامه ضياء، بحيث لا يبقى للمدخول عليه أثر، ويحصل من هذا الإيلاج الزيادة والنّقص فيهما، وهذا لا يقدر عليه إلّا الله «وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» بكل ما يقع في كونه «بَصِيرٌ» (61) بجميع المبصرات ومن جملتها قول المعاقب وفعله «ذلِكَ» الإيلاج البديع بذلك أيها المفكر المعتبر المتعظ «بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» المستحق للعبادة وحده لا شريك له الواجب الوجود الممتنع النّظير «وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» من الأوثان «هُوَ الْباطِلُ» المفترى من اختلاق قليلي العقول «وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» (62) في سلطانه وبرهانه ونظير هذه الآية الآية 30 من سورة لقمان ج 2.