الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الرّوم في ج 2 وعند ما يفعل الله ذلك بكم أيها الثقلان «فَلا تَنْتَصِرانِ» (35) منه إذ لا يقدر على دفعه عنكم إلّا الذي أرسله عليكم «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ» (37) حمراء مذابة كدر، رديء الزّيت قال تعالى (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) الآية 9 من سورة المعارج في ج 2 والمهل هو النّحاس المذاب «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ 38 فَيَوْمَئِذٍ» حين يضيق عليكم في ذلك اليوم العظيم، فلا تقدرون على الهرب، ويرسل عليكم لهب النّار ودخلنها وتنهار السّماء «لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ» (39) لأن في هذا الموطن تخرس الألسن وتنطق الجوارح بما فعلت وتنشر الصّحف بما كان من الخلائق، وقد علم الله كلّ ذلك وأعلمه لخلقه ويشتد اهول لما يرى النّاس من قبائح أعمالهم وما يرون من أهوال العذاب الكائن للمجرمين، وهذا لاينافي قوله تعالى (لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) الآية 92 من سورة الحجر في ج 2 لأن أحوال القيامة مختلفة، فمرة يسأل فيها النّاس عن أعمالهم، وأخرى يتخاصمون بينهم، وتارة يمنعون من الكلام، وأخرى يسكتون، وطورا تسأل أعضاؤهم وتارة تنطق بنفسها، فهو يوم شديد يشيب منه الوليد وترتعد لهوله الفرائض
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ» زرقة عيونهم واسوداد وجوههم، حمانا الله من ذلك «فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي» منهم تارة «وَالْأَقْدامِ» (41) أخرى ويزجون في النّار «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (42) ثم يقال لهم من قبل ملائكة العذاب «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ» (43) أمثالكم تبكيتا وتقريعا لهم «يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ» (44) ماء بالغ أقصى حرارته لأنهم إذا استغاثوا من عذاب النار أغيثوا بالحميم وبالعكس «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (45) .
مطلب أن الآيات نقم على أناس، نعم على آخرين ومزية الخوف من الله تعالى:
واعلم أن هذه الآيات من قوله تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) إلى هنا كما أنها نقم على العصاة هي مواعظ أيضا وزواجر يخوف الله بها عباده كي يتباعدوا عن الأسباب المؤدية إليها، فإذا اتعظوا كانت عليهم نعما، ولذلك ختمت بالآية المكررة
الواقعة موقع الاستفهام عن نعمه تعالى على عباده. وبعد أن ذكر جل ذكره ما أوعد به الكافرين أعقبه ببيان ما وعد به المؤمنين فقال «وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ» (46) واحدة لقاء عمله في الدّنيا من طاعة وصدقة وبرّ وتركه المعاصي خوفا من الله وعمله الطّاعات طمعا بفضل الله، وأخرى تفضلا منه تعالى إيفاء بوعده المبين بقوله جل قوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) الآية 27 من سورة يونس في ج 2، لأنه لا يخافه حق خوفه إلّا العارف العالم. قال تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) الآية 28 من سورة فاطر، والآية 57 من سورة الإسراء في ج 1 الدّالتين على أن الأقرب من الله أشد خوفا منه من غيره أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من خاف أدلج (الإدلاج بالتخفيف السّير أول اللّيل وبالتشديد آخره) ومن أدلج بلغ المنزل، ألا ان سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنّة. وروى البغوي بسنده عن أبي ذر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) أي موقفه يوم الحساب بين يدي ربه، فمن حسب حسابه واتقى ربه في الدّنيا يكون له في الآخرة جنتان، فقلت وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال وإن زنى وإن سرق، ثم قال (لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت الثانية وإن زنى وإن سرق؟ فقال وإن زنى وإن سرق، ثم قال (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت الثالثة وإن زنى وإن سرق يا لرسول الله؟ قال وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبى ذر. «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ» (48) أغصان مستطيلة كثيرة، والفنّ الغصن من الشّجرة المستقيمة طولا قال:
ومن كلّ أفنان اللّذاذة والصّبا
…
لهوت به والعيش أخضر ناضر
وفي كلّ غصن من أغصان تلك الجنان فنون من الفواكه، مما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ومن هنا أخذ تطعيم الأشجار المتقاربة في الثمر الذي عرفه خبراء الزراعة حديثا وطبقوه؟ فأمكن لهم أن يطعموا شجرة واحدة بأنواع مما يشابهها فتأكل من الشّجرة الواحدة أصنافا من الفاكهة «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ» (50) على أرضهما بلا أخدود الأولى التسنيم المذكورة
في الآية 27 من المطففين المارة في ج 2، والثانية السّلسبيل المبين في الآية 19 من سورة الإنسان الآتية
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ» (52) رطب ويابس كما يوجد الآن في البرتقال فإنه قد يجتمع فيه ثمر السّنة الماضية والحالية وفي الآخرة كلّ أشجارها كذلك فترى فيها العتيق والجديد بآن واحد، فلا يضر الثمر قدمه ولا يغير لونه وطعمه بخلاف ما في الدّنيا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ» فيهما «عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ» ديباج ثخين من الحرير وقد أخبرنا الله عن البطائن التي تلى الإنسان بأنها من ذلك النّوع فما بالك بالظهائر التي تبرز للعيان، اللهم أرناها ومتعنا والمؤمنين فيها برضاك المؤدي إليها برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
«وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ» (54) قريبا من يد المتناول القاعد والقائم والمضطجع سواسية في تناوله، لأن الأثمار التي فيها القديم والحديث هي التي تدنو من طالبها حتى تصير أمامه «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ» على أزواجهن لا ينظرن غيرهم وجمع الضّمير مع أنه يعود إلى الجنتين، لأن كلا منهما فيها قصور ومجالس متعددة أو أنه من قبيل إطلاق الجمع على ما فوق الواحد كما مرّ في الآية 78 من سورة الأنبياء في ج 2 وفيما ترشدك إليه «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ» يمسسهن وينلهن أو يقربهن «إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ» (56) قال الفرزدق:
خرجن إلي لم يطمئن قبل
…
وهن أصح من بيض النّعام
تشير هذه الآية إلى أن الجن كالإنس في مقاربة النّساء وأن لهم نساء من جنسهم، وهو كذلك، لأنهم يتوالدون في الدّنيا. وقيل إن منهم من يتزوج بإنسي، كما أن من الإنس من يتزوج بجنية، ولهذا قالوا إن بلقيس أمها من الجن، راجع الآية 45 من سورة النّمل في ج 1 «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ» (58) صفاء وبياضا وحمرة، أخرج الترمذي عن ابن مسعود أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المرأة من نساء أهل الجنّة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة يرى مخها، وذلك أنك إذا أدخلت سلكا في الياقوت رأيته من ورائه وكذلك سوق النّساء من أهل الجنّة، وروى البخاري
ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أول زمرة تلج الجنّة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، ثم الّذين يلونهم على أشد كوكب في السّماء إضاءة، لا يبصقون ولا يمخطون ولا يتغوطون، آنيتهم من الذهب والفضة وأمشاطهم الذهب، ومجامرهم الألوة (أي مباخرهم وبخورهم فيها العود ولكن ليس كعود الدّنيا) رشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللّحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشية، وزاد البخاري ولا يسقمون. قال سعيد بن جبير هذا من جملة ما قال تعالى (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) الآية 17 من سورة السّجدة في ج 2 «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ 59 هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» (60) روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هل جزاء الإحسان إلّا الإحسان الآية، ثم قال هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنّة؟ وذلك لأن من أتى بالحسن يقابل بمثله وأحسن عند أهل الدّنيا للمنصفين فكيف عند رب العالمين
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (61) وقال بعض المفسرين أن الجنتين المتقدمتين واحدة للإنس وواحدة للجن، ولكن ما جرينا عليه أولى لما تقدم في الآية 27 من سورة الأعراف ج 1 بأن الجن يكونون بفناء الجنّة. ثم ذكر الله تعالى جنتين أخريين بقوله «وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ» (62) أي أمامها وقبلها أفضل منهما، لأن الجنتين الأوليين لأصحاب اليمين وهاتين للمقربين اللهم أهلنا لأيهما شئت «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (63) روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم أن ينظروا إلى ربهم إلّا رداء الكبرياء على وجهه في عدن. ثم بدأ يصفهما كما وصف أولاهما آنفا فقال «مُدْهامَّتانِ» (64) لشدة خضرتهما صارا يقربان إلى السّواد «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ» (66) فوارتان تدفعان الماء إلى العلو مثل المضخات الموجودة الآن، ولكن هذه بآلة وتعب وتكاليف ومعرضة
للخراب ولمسافة معلومه وتلك بقدرة القادر أبدية طبيعية مسافتها كما يشتهي طالبها والنّاظر إليها إن أراد أن ترتفع مدى النّظر ارتفعت وإن أراد أن تنحط انحطت حسبما يستحسنه الرّائي ويتمناه المتمني ولا تحتاج إلى شيء «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ» (68) ومن أنواعهما ألوان، وإنما خصهما لأن التمر فاكهة وغداء والرّمان فاكهة ودواء وفائدة عطفهما على الفاكهة مع دخولهما فيها لما ذكرنا ولفصلها على جميع الفواكه كما يشير إليه تنوين التنكير فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ» بالأخلاق والآداب حِسانٌ» (70) بالوجوه وتناسب الأعضاء ويظهرن لأزواجهن حسبما يرغبون
وهذا من بعض نعم ربك عليك أيها الإنسان «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (71) وهؤلاء الموصوفات «حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ» (72) المنسوجة من الذهب والفضة الموشاة باللؤلؤ والدّرر والزبرجد والمرجان وغيرها، لا يخرجن منها لكرامتهن وشرفهن يبقين في خدورهن، وهذه الخيام ليست كخيام الدّنيا لأنها واسعة مدى النظر، وفيها الجنان والمياه ومحال التنزه غير السّكن. روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن للمؤمن في الجنّة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السّماء، وفي رواية عرضها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم، فلا يرى بعضهم بعضا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (73) وهؤلاء الحسان أيضا كالأول من حيث «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ» (74) أي قبل زواجهن أي أنهن أبكار ولا يعدهن أيضا لأنهم لا يتركونهن ولا يطلقونهن وحذف من الثاني بدلالة الأوّل كما يحذف من الأوّل بدلالة الثاني، راجع الآية 35 من سورة الرّعد المارة «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ» وسائد «خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ» (76) أي زرابي وطنافس جميلة جدا وكلّ نفيس جميل تسمية العرب عبقري نسبة إلى عبقر، قيل هي أرض تسكنها الجن، فصارت مثلا لكل منسوب إلى شيء رفيع فاخر عجيب، وذلك أن العرب تعتقد في الجن كلّ صنعة غريبة، وينسبون كلّ شيء عجيب إليهم لاعتقادهم بأنهم يأتون بكل عجيب لما بلغهم عن أعمالهم لسيدنا سليمان