الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيه أن يكون أفضل من المستغيث به لما صحّ أنه صلى الله عليه وسلم لما استأذن عمر في العمرة قال له لا تنسنا من دعائك، وأمره أن يطلب من أويس القرني أن يستغفر له، وأمر أمته بطلب الوسيلة له وأن يصلوا عليه، وقد استسقى الأصحاب بالعباس رضي الله عنهم، وإذا كان المستغاث به ميتا فلا يجوز لأنه بدعة، إذ لم ينقل عن السلف الصّالح أنهم استغاثوا أو طلبوا شيئا من الأموات. أما التوسل بجاههم لما يعتقد فيهم من التقرب إلى الله وعند الله ومن الله فلا بأس به، وكذلك زيارة قبورهم كما ذكره صاحب المدخل رحمه الله في الجزء الأوّل في باب زيارة القبور، وجواز شد الرّحال إليها، أما ما قاله صلى الله عليه وسلم لا تشد الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد مسجده والمسجد الأقصى والمسجد الحرام فلما فيها من التفاوت بالأجر، أما بقية المساجد فلا تفاوت فيها، لهذا لا يشملها ولا يدخل فيه زيارة قبور الأنبياء والصّالحين، إذ فيهم تفاوت لأن منهم من هو أقرب إلى الله من غيره فيجوز شد الرّحال لزيارتهم والتبرك بهم أمواتا كما يجوز أحياء لأن مجالستهم بركة وقد تنزل الرّحمة عليهم فيستفيد منها من كان عندهم، وقد حبّذ هذا العارفون كلهم ولم يمنعه منهم أحد وهم أدرى من غيرهم، فمنهم يؤخذ وبهم يقتدى وعنهم يتحدث، وحديث شد الرّحال خاص بالمساجد الثلاثة ولا يصلح أن يكون حجة للمنع من زيارته المحلات الأخر التي يتبرك بها، تدبر «وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ» أعداءه لإعلاء كلمته «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (35) في دنياكم في العز والوقار وفي آخرتكم في الفوز والنّجاة من النّار.
مطلب في الرّابطة عند السّادة النّقشبندية وفي حد السّارق ومعجزات الرّسول والقصص وما يتعلق به:
واعلم أن من هذه الآية الكريمة ومن قوله صلى الله عليه وسلم إن أرواح المؤمنين لتلتقي على مسيرة يوم وما رأى أحد صاحبه، ومن قول الفقهاء ينبغي لمن يقول في التحيات أثناه الصّلاة السّلام عليك أيها النّبي ورحمته وبركاته أن يتصور النّبي أمامه كأنه يخاطبه في التحية، ومن أمر الشارع باستقبال القبلة وتقبيل الحجر الأسود أخذ السادة الصّوفية الرّابطة وأجمعوا عليها وأمروا بها، وقد أشرنا إلى هذا في الآية
58 من سورة الإسراء في ج 1، ومن أراد تفصيل هذا البحث فليراجع كتاب الهداية والعرفان للصاحب، وكتاب البهجة السّنية للخاني، ووضعت الرّابطة للاستعانة بالشيخ الكامل الذي إذا رئي ذكر الله لدفع الخطرات الشّيطانية عن القلب وطلب الواردات الإلهية إليه، لأنه بيت الرّب القائل جل قوله ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن. فهات هذا المؤمن المخلص الذي صار قلبه محلا الرّحمن وتوسل به إليه، أما لا فلا، فحسنوا رحمكم الله نياتكم وطهروا بيت الرّحمن من كلّ ما لا يليق به، وظنوا بالناس خيرا ليحصل لكم الأمان فتدخلوا الجنان والله من وراء القصد. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» وماتوا على كفرهم «لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» من المال والملك والولد «وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ الله يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ» ذلك الفداء على فرض ان لكل كافر ملك الدّنيا هذه ودنيا أخرى معها، ثم قدمها ليفدي بها نفسه من عذاب الله في ذلك اليوم لم يقبل منه «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (36) لا سبيل للنجاة منه وتراهم «يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ» لشدة ما يقاسون من عذابها «وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها» لعدم استطاعتهم الخروج لأن عليها ملائكة غلاظ شداد لا رحمة في قلوبهم يمنعونهم من الخروج راجع الآية 6 من سورة التحريم المارة لتقف على وصف هؤلاء الملائكة «وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» دائم ثابت لا ينقص ولا يتحول عنهم، قال تعالى «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا» ما لا يحل لهما أخذه من مال الغير، وهذا القطع يكون جزاء «نَكالًا» عقوبة عظيمة «مِنَ اللَّهِ» الذي نهى عن السّرقة ليرتدع النّاس عن فعلها «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» قوي في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره «حَكِيمٌ» في ترتيب هذا الحد على السارق ليقطع دابر السّرقة، هذا وقد ذكر الله تعالى من أول هذه السّورة إلى هنا ثمانية عشر حكما لم ينزلها في غيرها كما أشرنا آنفا وهي المنخنقة 2 والموقوذة 3 والمتردية 4 والنّطيحة 5 وما أكل السّبع 6 وما ذبح على النّصب 7 والاستقسام بالأزلام 8 والجوارح المعلمة 9 وطعام أهل الكتاب 10 والمحصنات منهم 11 وبيان
الطهارة والتطهير 12 والوضوء عند إرادة الصّلاة 13 وجزاء قطاع الطّريق إذا قتلوا 14 وعقابهم إذا قتلوا وسلبوا 15 وجزاؤهم إذا سرقوا فقط 16 وعقابهم إذا لم يسرقوا ولم يقتلوا 17 وجزاؤهم إذا تابوا 18 وقبول توبتهم قبل القبض عليهم مع ما يلزمهم في هذه الأحوال كلها. ثم بين سبعة أحكام أخر كذلك لم تذكر في غيرها وهي 1 حكم السّارق والسّارقة 2 حكم قتل الصّيد 3 البحيرة 4 السّائمة 5 الوصيلة 6 الحام 7 حكم الوصية والإشهاد عليها قبل الموت بما يدل على عظيم هذه السّورة والقرآن كله عظيم، إلا أنه ما من عموم إلّا وخصص لا سيما الآيات التي فيها أحكام فهي أهم من غيرها وقد جعل في القرآن الحسن والأحسن، راجع الآية 55 من الزمر والآية الثانية من سورة يوسف في ج 2، روى البخاري ومسلم عن عائشة أن قريشا أهمها شأن المخزومية التي سرقت فقالوا، من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا ومن يجترىء عليه إلّا أسامة بن زيد حب رسول الله؟ فكلمه أسامة، فقال صلى الله عليه وسلم أتشفع في حدّ من حدود الله ثم قام فاختطب، ثم قال إنما أهلك الّذين من قبلكم إنهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها. ورويا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعن الله السّارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده. والحكم الشّرعي إذا سرق السّارق ما يساوي ربع دينار تقطع يده وان البيضة الواردة في الحديث يراد بها بيضة الدّرع، والمراد بالجمل ما يساوي ربع دينار ويشترط أن يكون السارق بالغا عاقلا
عالما بالتحريم، فلو كان حديث عهد بالإسلام لا يعلم حرمة السّرقة لا يقطع، وكذلك الصّبي والمجنون، ويشترط أن يكون المسروق في محل محرز كدور السّكن والخيم، أما إذا كان من البادية والبساتين والدّور غير المأهولة وغير السورة المنقطعة من السّكان والزروع والكروم فلا قطع فيها، وكذلك لا قطع على من يسرق مال أبيه وأمه والعبد من سيده والشّريك من شريكه لوجود الإباحة في البعض معنى وهي ما يدرأ بها الحد، وإذا سرق بعد أن قطعت يده تقطع رجله من مفصل القدم على الخلاف، وهكذا إذا سرق ثالثا، وإذا سرق رابعا لا تقطع يده الأخرى بل يحبس، لأن في قطعها
تعطيلا له عن الأكل والعمل بصورة بانه مما يؤدي إلى هلاكه ولم يجعل الله الهلاك في هذا الحد، فلو أن المسلمين ساروا على ما حده الله لا نقطع دابر الفساد كله، لأن النّاس إذا رأوا عار قطع اليد الملازم للسارق يرتدعون عن السّرقة، أما الحبس الذي عليه أحكام هذا الزمن بنوعيها الجناية والجنحة فلم تكن رادعة لقطع دابر السّرقات مهما شدد فيها لصعوبة أسباب ثبوتها، فلذلك ما زالت السّرقات تتكاثر، وما زال السّراق يتبرمون، ولهذا شدد الشّارع فأوجب قطع اليد عند الثبوت، لأن هذا يزيد في الزجر ويقطع دابر السّرقة وتتأثر النّاس في عارها ويتحاشون أن يلصق بهم. قال تعالى «فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ» لنفسه بالسرقة وظلم غيره بأخذ ماله «وَأَصْلَحَ» نفسه بعدها بالعمل الصّالح «فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ» ويقبل توبته «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لعباده الرّاجعين إليه «رَحِيمٌ 39» بهم يريد لهم الخير، وليعلم أن هذه التوبة لا تسقط عنه الحد، لأنه جزاء لما فعل، أخرج أبو داود وابن ماجه والنّسائي عن أبي أمية المخزومي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بلصّ قد اعترف اعترافا لم يوجد معه متاع فقال له إخالك سرقت، فقال بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا كلّ ذلك يعترف، فأمر به فقطع، ثم جيء به فقال له صلى الله عليه وسلم أستغفر الله وتب اليه، فقال الرّجل أستغفر الله وأتوب اليه، فقال صلى الله عليه وسلم اللهم تب عليه. وهذا إذا كان مؤمنا، أما إذا كان كافرا وأسلم فقد سقط عنه الحد ويبقى المال فقط، وإذا حاول السّرقة فلم يسرق لأمر ما فلا حدّ عليه، لأن الله فرض الحد على الفاعل القاصد، وهكذا القتل إذا قصده ولم يقتله أو قتل خطأ أو مناولا فلا شيء عليه، راجع الآية 92 من سورة النّساء، قال تعالى «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (40) قدم تعالى في هذه الآية التعذيب على المغفرة لأنه بمقابلة قطع السّرقة على التوبة، وهذه الآية تبطل زعم القدرية والمعتزلة القائلين بوجوب الرّحمة للمطيع والعذاب للعاصي لأنها تدل على أن التعذيب والرّحمة مفوضان للمشيئة، والوجوب ينافي ذلك، وبما أن الكل في ملكه والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء فلا
معنى للوجوب، وقد أكد ذلك بختم الآية بجملة (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي يعذب ويغفر بسبب وبلا سبب
قال تعالى «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ» فإنا نكفيك شرهم فلا تبال بهم ولا تهتم بشأنهم لأنهم «مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ» أي منافقون «وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا» أي طائفة منهم وهؤلاء لا يعبأ بهم لأنهم «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ» افتراء من أنفسهم وذلك أنهم كانوا يجلسون عند حضرة الرسول فيقولون قال كذا وكذا ولم يقله فهم «سَمَّاعُونَ» عيون وجواسيس «لِقَوْمٍ آخَرِينَ» منهم «لَمْ يَأْتُوكَ» لينقلوا كلامك لهم على صحته بل «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ» التي وضعها الله من فرض فرائضه وتحليل حلاله وتحريم حرامه. اعلم أنه لا يوجد في القرآن آية مصدرة بيا أيها الرّسول غير هذه الآية 70 الآتية، أما الآيات المصدرة بيا أيها النّبي فهي اثنتا عشرة، ثلاث بالأنفال 65 و 66 و 71 وخمسة بالأحزاب 1 و 28 و 45 و 50 و 59 وواحدة بالتوبة 74، وواحدة في الممتحنة، وواحدة في الطّلاق، في التحريم 12. واعلم أن الفرق بين قوله تعالى عن مواضعه في الآية المارة وبين قوله من بعد مواضعه في هذه الآية أنهم في هذه الآية يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النّصوص الصّحيحة وليس فيها بيان أنهم يحرفون تلك اللّفظة من الكتاب، وفي الآية السّابقة يجمعون بين الأمرين التأويلات الفاسدة وتحريف اللّفظ من الكتاب، وفي الآية السّابقة يجمعون بين الأمرين التأويلات الفاسدة وتحريف اللّفظ، ففي قوله تعالى (عَنْ مَواضِعِهِ) إشارة إلى التأويل الباطل وفي قوله (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) رمز الى إخراجه من الكتاب بالكلية، أما آية البقرة 46 التي عبارتها (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) فهي في تبديل كلام الله الذي أسمعهم إياه في المناجاة حينما ذهبوا مع موسى عليه السلام، تدبر. ثم بين تعالى وجه هذا التحريف بقوله جل قوله «يَقُولُونَ» لقومهم «إِنْ أُوتِيتُمْ هذا» المحرف المزال عن مواضعه «فَخُذُوهُ» واعملوا به لأنه حق بزعمهم «وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ» عينا وأتاكم محمد بما يخالفه «فَاحْذَرُوا» أن تأخذوه وتعملوا به، لأنه من عنده لا من عند الله قاتلهم الله، وهذا من بعض ما يفتنون به بعضهم بقصد صدهم عن الدّين الحق الذي جاءهم به محمد صلّى الله عليه وسلم
«وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ» وإضلاله عن الهدى «فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» تقدر به على إخلاصه لسلوك الحق، لأن كلا ميسر لما خلق له في الأزل لا تبديل لخلق الله، رفعت الأقلام وجفّت الصّحف، راجع الآية 29 من سورة الأعراف ج 1، وفي هذه الآية دلالة على قطع رجائه صلى الله عليه وسلم من إيمانهم به وعدم الالتفات إليهم والمبالاة بهم، والاهتمام بشأنهم «أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» من اهوان الكفر لسابق علمه في اختياره له وأمثال هؤلاء «لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» وهوان على ما هم عليه من النّفاق والتجسس والتحريف لكلام الله وكلام رسوله «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» (41) جزاء عملهم هذا. ثم كرر ما هم عليه من الصّفات الذميمة تأكيدا لسوء حالهم فقال «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ» وكلّ ما لا يحل كسبه سحت، وجاء في الحديث بمعنى الرّشوة، لأنهم كانوا يحللون ويحرمون بها، وتقرأ بضمتين كالعنق وبالفتح على المصدرية «فَإِنْ جاؤُكَ» يا سيد الرّسل لتقضي بينهم فيما يختلفون فيه بعضهم مع بعض «فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ» ولا يمنعك ما تراه منهم أن تحكم بينهم «أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ» إن شئت ألا تحكم، وهذا أمر تخييري «وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ» فلم تقض بينهم بسبب صدودهم عنك وعدم إيمانهم بك ونصب العداء لك فإنهم لا يقدرون عليك بشيء ما فاتركهم «فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً» لأن الله عاصمك منهم كما هو عاصمك من غيرهم «وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ» العدل الذي شرعناه لك «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (42) بأحكامهم الّذين لا تأخذهم في الحق لومة لا ثم، فلا يجوزون، ولا يميلون لقوي أو غني، ولا يميزون بين الخطير والحقير، ولا يحيفون لعداوة أو كراهية ما. وخلاصة هذه القصة أن رجلا وامرأة من أشراف اليهود بخيبر زنيا وكانا محصنين، وفي شرعهم يجري عليهم الحد وهو الرّجم، بمقتضى حكم التوراة، فكره اليهود رجم المرأة لشرفها، فقالوا إن هذا الرّجل بيثرب يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم يقضي بين النّاس وليس في كناية الرّجم فاذهبوا اليه واسألوه عما يجب عليها، فبعثوا رهطا وقالوا لهم اسألوه عن الزانيين المحصنين ما حدهما، فإن أمركم بالحد فاقبلوا، وإن أمركم
بالرجم فلا، فذهبوا اليه فسألوه فقال عليهما
الرّجم، فأبوا قبول حكمه، ونفوا وجوده في التوراة فنزل جبريل فقال يا محمد اجعل بينك وبينهم ابن حوريا حكما منهم، وذكر له وصفه، فقال صلى الله عليه وسلم هل تعرفون فيكم شابا أمره أعور يسكن فدك يقال له ابن حوريا! قالوا نعم، قال فأي رجل هو فيكم، قالوا علم يهودي بقي على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى في التوراة، قال فأتوني به، فأتوا به، قال أترضونه حكما بيننا؟ قالوا نعم، فقال صلى الله عليه وسلم ناشدتك الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى وأخرجكم من مصر وفلق لكم البحر فأنجاكم وأغرق آل فرعون وبالذي ظللكم بالغمام وأنزل عليكم المن والسّلوى وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه هل تجدون في كتابكم الرّجم على المحصن؟ فقال اللهم نعم والذي ذكرتني به لولا أني خشيت أن ينزل علينا العذاب إن كذبت أو غيرت ما اعترفت لك، ولكن كيف هي في كتابكم قال إذا شهد أربعة رهط عدول أنه أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليها الرّجم، فقال والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله في التوراة، فقال ما كان أول ما ترخصتم به؟ قال زنى ابن عم الملك فلم نرجمه، ثم زنى بعده رجل فقال قومه لا ولله حتى يرجم ابن عم الملك، فلم يمكنوا أحدا من رجمه، فاجتمعنا ووضعنا الجلد والتحميم، (تسويد الوجه) مكان الرّجم، راجع الآية 9 من سورة النّور المارة تجد حديث البخاري ومسلم بهذا الشّأن، وهذا من معجزات حضرة الرّسول ومن الأخبار بالغيب، لأنه ذكر لهم ابن حوريا باسمه ووصفه ومكانه وهو لم يره ولم يسمع به قط، قالوا ثم أمر رسول الله برجمها، وقال اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأنزل الله هذه الآيات في حكام اليهود، وروى مسلم عن البراء بن عازب، قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال هكذا تجدون حدّ الزنى في كتابكم؟ قالوا نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال له ناشدتك الله هكذا تجدون حسد الزنى في كتابكم؟ قال لا وكرر ما قاله ابن حوريا. الحكم الشرعي إذا كان المتحاكمون معاهدين كما في هذه الآية فالحاكم مخيّر بين أن يقضي بينهم وبين ألّا يقضي، لأن المعاهدين غير ملزمين بأحكام المسلمين أما
غيرهم فيجب على الحاكم أن يحكم بينهم سواء كانوا كافرين أو ذميين أو مسلمين أو مخالفين ويجب أن يكون الحكم بمقتضى ما أنزل الله. قال تعالى «وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ» الرجم للزاني المحصن كغيره من الأحكام الأخر المتعلقة بأمر دينهم ودنياهم وآخرتهم «ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ» عن حكمك الموافق لما في كتبهم ويعرضون «مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» التحكيم الذي لجأوا اليه ورضوا به، وهذا تعجيب من حالهم لأنهم يعلمون يقينا أن الزاني المحصن يرجم بنص التوراة ثم يطلبون من حضرة الرّسول أن يحكم لهم بخلاف ما شرعه الله له ولأمته الموافق لما في التوراة، ولذلك كان يحكم في الرّجم وهو لا ينطق ولا يتأول ولا يفعل شيئا عن هوى، ولكن لا عجب لأنهم لا يصدقون بكتابك ولا يؤمنون بك وانهم يحكمون على ما يلائم المصلحة بحسب الأشخاص «وَما أُولئِكَ» الّذين هذه حالتهم «بِالْمُؤْمِنِينَ» 43 بكتابهم ولا نبيهم، فلو آمنوا بها لآمنوا بكتابك، لأن الحكم بالكتابين واحد، فلا معنى إذا لقولهم إنهم آمنوا بالتوراة وبموسى، لأن من مقتضى الإيمان بهما الإيمان بك وبكتابك. قال تعالى «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ» لمن اتبعها وآمن بها فتكشف له الشّبهات وتوضح له المشكلات، وكان «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا» لحكم الله فيها كموسى وهرون ومن بعدهما إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم «لِلَّذِينَ هادُوا» أي اليهود، وسموا بذلك لقولهم «إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» الآية 156 من الأعراف في ج 1 وفي قوله تعالى (أَسْلَمُوا) إشارة إلى أن الأنبياء لم يكونوا يهودا ولا نصارى بل كانوا مسلمين على ملة ابراهيم عليه السلام، راجع الآية 67 من آل عمران المارة «وَالرَّبَّانِيُّونَ» الزهّاد التحصين في العبادة، راجع الآية 80 من آل عمران أيضا يحكمون بها «وَالْأَحْبارُ» أيضا جمع حبر بفتح الحاء وكسرها العلماء والعارفون «بِمَا اسْتُحْفِظُوا» أوئتمنوا واستودعوا «مِنْ كِتابِ اللَّهِ» وقد أخذ عليهم العهد أن يحفظوا كتابه ويعلّموه النّاس ويقضوا فيه بينهم «وَكانُوا» أولئك الأنبياء
والرّبانيّون والأحبار «عَلَيْهِ شُهَداءَ» بأن كتاب الله حق وصدق أنزله على موسى «فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ» لتعملوا
بأحكام اليهود وتكتموا ما في كتاب الله من أجلهم ولأجل نفعكم منهم «وَاخْشَوْنِي» أنا الله القادر على عقابكم إن خالفتم «وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا» من الرشاء الذي تأخذونه وحب بقاء الرّئاسة والجاه، فتستبدلوا بآياتي غيرها، أو تحرفوا بعضها، أو تغيّروا معناها بهتا منكم وافتراء علي، واحكموا بما أنزلت عليكم في التوراة «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» جحودا وكفرانا «فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» (44) بموسى والتوراة وبعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن. قال تعالى «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» تقتل إذا قتلت غيرها عمدا، وبهذه الآية استدل بعض العلماء على أن الرّجل يقتل بالمرأة وعدها ناسخة لقوله تعالى (الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) الآية 179 من البقرة المارة، مع أن هذه الآية حكاية حال عما في التوراة وخبر من الأخبار فيها، والأخبار لا تكون ناسخة للأحكام، وعلى هذه لا يقتل الرّجل بالمرأة، ولا الحرّ بالعبد، والآية في هذا محكمة غير منسوخة البتة، ودعوى من ادعاه لا قيمة له للسببين المذكورين أعلاه، ولكن العمل الآن في المحاكم على هذه الآية 45 من هذه السّورة، والحق أن يكون العمل على آية البقرة 179 لأن هذه الآية 45 عبارة عن اخبارنا بما كتبه الله على بني إسرائيل ليس إلا، وليس كلّ ما فرضه عليهم نكلف به لأن شريعتنا جاءت ناسخة لما قبلها في كلّ ما يخالفها، فما وافق شرعنا عملنا به، وما خالفه فلا، تأمل. «الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ» تفقا «وَالْأَنْفَ» يجدع «بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ» تقطع «بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ» تقلع «بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ» فيما يمكن أن يقتص من الجارح كاليد والرّجل والذكر والأنثيين، أما فيما لا يمكن فيه كالرّض والجرح في البطن والكسر الملتئم وبقية الجراحات مما لا يمكن إجراء القصاص فيها ففيها حكومة عدل، إذ قد يخاف التلف في اجراء القصاص، فيخرج عن كونه قصاصا كما أمر الله، ويسمى ما دون الدّية هكذا جروح ارشا، وهذا التعميم يعد تخصيصا لأن الجروح تعم الكل «فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ» أي القصاص فعفى عن أخيه «فَهُوَ» التصدق المراد به العفو «كَفَّارَةٌ لَهُ» عن ذنوبه التي كان اقترفها قال عليه الصلاة والسلام من تصدق
بدم فما دونه كان كفارة له من يوم ولدته أمه. وأخرج الترمذي عن أبي الدّرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من رجل يصاب بشيء من جسده فيتصدّق به إلا رفعه الله درجة وحط عنه به خطيئة. وأخرج أبو داود والنّسائي عن أنس قال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع اليه بشيء فيه قصاص إلّا أمر فيه بالعفو «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (45) أنفسهم وأتباعهم وقدمنا ما يتعلق بالقصاص في الآية 179 من البقرة فراجعها وقدمنا أنواع القتل والدّيات في الآيتين 92 و 93 من سورة النّساء المارة فراجعها. قال تعالى «وَقَفَّيْنا» عقبنا واتبعنا «عَلى آثارِهِمْ» أي النّبيّين «بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ» وكلّ ما هو أمام الرّجل هو بين يديه «وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ» معدلا لبعض أحكامها، يوافق عصره ويصلح لأمته «فِيهِ هُدىً» للناس وتخفيف على أمته وتيسييرا لما هو عسير وتسهيل ما هو شاق «وَنُورٌ» يستضيء به من آمن وصدق بعيسى في زمانه حتى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ» ولا تكرار هنا لأن ضمير مصدقا في الآية الأولى يعود إلى عيسى، وفي هذه يعود إلى الإنجيل «وَهُدىً» يهتدي به من اتبع أحكامه إلى طريق الصّواب، ولأن فيه بشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم يهتدي بها ممن وفقه الله للسداد «وَمَوْعِظَةً» لما فيه من الأمثال والزواجر والعبر «لِلْمُتَّقِينَ» (46) لأنهم هم الّذين ينتفعون فيه «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ» على أنفسهم وغيرهم على السّواء «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (47) الخارجون عن الطّاعة المتجاوزون حدود الله. أخرج مسلم عن البراء بن عازب قال أنزل الله تبارك وتعالى ومن لم يحكم ومن لم يحكم ومن لم يحكم إلخ الآيات في الكفار كلها. وقال العلماء إن الآيات المذكورات نزلت في الكفار وفيمن غير حكم الله من اليهود ومن ترك الحكم بكتاب الله ردا لكتاب
الله، ومن يدل حكم الله وحكم بغيره عمدا مختارا فيخرج المخطئ والسّاهي والمكره، ويفسق غير الجاحد، وهذا هو الموافق لعموم الآيات، فكان في الحديث الأوّل اقتصار، وجاء التخصيص فيما أخرج أبو داود
عن ابن عباس أنها أي تلك الآيات في قريظة والنّضير خاصة. قال تعالى «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ» يا سيد الرّسل «الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ» آل فيه للجنس فيشمل التوراة والإنجيل وغيرها «وَمُهَيْمِناً» شاهدا «عَلَيْهِ» أي الكتاب المذكور الدّاخل في معناه جميع الكتب الإلهية المنطوي على معانيها كافة ومما يدل على أن مهيمنا بمعنى شاهد ما قاله حسان:
إن الكتاب مهيمن لنبيّنا
…
والحق يعرفه ذو الألباب
ويأتي بمعنى آمين أيضا وله معان أخر ذكرناها آخر سورة الحشر المارة «فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ» يا سيد الرّسل أي بين أهل الكتاب إذا تخاصموا عندك عفوا من أنفسهم دون تكلف وطلب منك كما تحكم بين قومك «بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» عليك فيه «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» أي اليهود برجم الضّعيف وجلد القوي والشّريف إذا زنيا كما يدون بل أجر على كلّ أحد من المحصنين الرّجم مهما كان، وإياك أن تنحرف «عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ» في هذا الكتاب كما فعل اليهود، وهذا الخطاب وإن كان موجها لحضرة الرّسول إلّا أنه مراد به غيره من الأمة كما سبق تنفيده في سورة الزمر الآية 65 ج 2 وغيرها هو ممائل لهذا، لأن إيقاع أهواء اليهود وغيرهم محال عليه صلى الله عليه وسلم ولكنه خاطبه به على طريق الإلهاب ليتعظ الغير به «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ» أيها اليهود والنّصارى والإسلام «شِرْعَةً» ترجعون إليها في أموركم الدّينية فيما بينكم وبين ربكم والدّنيوية فيما بينكم وبين غيركم من جميع النّاس على الإطلاق «وَمِنْهاجاً» طريقا واضحا نسلكونه في أحكامكم وأموركم يؤدي بكم للفوز والنّجاح في الدّنيا والآخرة، فقد جعل الله تعالى التوراة والإنجيل والقرآن شرائع لخلقه أحل لهم ما شاء، وحرم عليهم ما شاء، وأمرهم بالعمل بها ليعلم من يطيعه منهم ممن يعصيه ويظهر ذلك للناس لأنه جل جلاله عالم من قبل، بما يقع منهم من طاعة وعصيان وكفر وإيمان ويعلم أن الدّين كله واحد وأصوله واحدة، وهي التوحيد لله وتصديق الرّسل والاعتراف بالمعاد، وإن جميع الأديان السّماوية من لدن آدم إلى آخر الدّوران ترجع إلى هذه الأصول، وإن طرق الرّسل واحدة وإرشادهم لهذه الأصول واحدة ودعوتهم واحدة لا تباين ولا
تخالف فيها، لأن المرسل واحد، قال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً
…
) وقال تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) وأمر بعدم التفرق راجع الآيات 90 من الأنعام و 13 و 52 من الشّورى والمؤمنين في ج 2 و 156 من الأعراف ج 1 و 162 من النّساء المارة وما تشير إليها من المواقع، وإن ما جاء على زعم من لا خلاق له من التباين هو في فروع الدّين لا في أصوله وأن الله تعالى له أن يتعبد عباده بما شاء لما شاء في كلّ وقت «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» على شريعة واحدة ودين واحد، ونظير هذه الآية الآية 119 في سورة هود في ج 2 أي متفقين لا مختلفين «وَلكِنْ» لم يشأ ذلك، وإنما جعلكم باختلاف وتفرق في أمر الدّين «لِيَبْلُوَكُمْ» يختبركم وليمتحنكم «فِي ما آتاكُمْ» من الشّرائع وتعبدكم بها بمقتضى حكمته فيها من الاختلاف في معالم الدّين وفروعه المتباينة تخفيفا ونثقيلا ليبين للناس المنقاد لأمره كيف كان من المعرض عنه وفق ما هو ثابت في أزله تعالى «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ» يا أمة محمد بالأعمال الصّالحة المقربة إلى الله قبل انقضاء آجالكم لتنتهوا «إِلَى اللَّهِ» هو «مَرْجِعُكُمْ» ومصير جميع الخلق اليه «جَمِيعاً» إسلامكم ويهودكم ونصاراكم وكفاركم على اختلاف مللكم ونحلكم ويوم ترجعون إليه «فَيُنَبِّئُكُمْ» على رءوس الأشهاد في الموقف العظيم «بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (48) من الشّرائع وغيرها فيظهر إذ ذاك المحق من المبطل والموافق من المخالف والصّادق من الكاذب ظهورا مبينا لا شبهة فيه. قال تعالى «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» عليك في هذا القرآن «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» بسائق شهواتهم النّفسية الرّديئة ذات المقاصد الدّنية «وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ» بما يرجونه منك من اجراء ما لا يرضي الله مما يخالف أحكامه التي أنزلها إليك فيميلوك «عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ» فيحملوك على ترك العمل به أو بشىء منه مجاراة لأهوائهم الباطلة وهذا الخطاب لحضرة الرّسول على سبيل التوبة ويراد منه الزجر والرّدع للغير من أن يراجعوا حضرته بما يراه من الحق أو يطلبوا منه مراعاة بعضهم في الأحكام حسب مطامعهم العاطلة وآرائهم الباطلة، لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم من الافتتان بالكلية،
راجع الآية 74 من سورة الإسراء في ج 1 «فَإِنْ تَوَلَّوْا» واعرضوا عنك ولم يرضوا بحكمك الذي أنزله الله عليك وأمرك بالعمل به لنفسك وغيرك «فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ» وهو إرادتهم الحكم بغير ما أنزل الله فيعاقبهم عليها في الدّنيا كما عاقبهم على بعضها
قبل بالقتل والأسر والسّبي والجلاء «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ» (49) خارجون عن طاعتنا متجاوزون حدودنا. هذا ولم يختم الله تعالى هذه الآية الخاصة بأمة محمد بما ختم به الآية في أمة موسى والآيتين في أمة عيسى لأمر أراده الله فله الحمد والشّكر. ولا تكرار في هذه الآية أيضا، لأن الأولى عدد 44 المارة كانت في مسألة الزنى، وهذه في قضايا القصاص والجروح إذ راجع رؤساؤهم حضرة الرّسول وقالوا يا محمد قد عرفت بأنا سادات قومنا وأشرافهم وإنا إن اتبعناك اتبعك كلّ اليهود وان بيننا وبين النّاس خصومات نريد أن نتحاكم إليك فيها، فإذا قضيت لنا عليهم آمنا بك وصدقناك، لأن قتلانا أفضل من قتلاهم، ولسنا سواء بالجروحات أيضا لأنها كانت بيننا على التضعيف، وذلك أنه كان بنو النّضير إذا قتلوا رجلا من قريظة أعطوهم ديته سبعين وسقا من التمر، وإن قتل بنو قريظة رجلا من النّضير أعطوهم مئة وأربعين، وكذلك الجراحات، فقال صلى الله عليه وسلم إن القرض بالنضيري وفاء، لا فضل لأحدكم على الآخر فنهضوا وقالوا لا نرضى بحكمك، فنزلت هذه الآية قطعا لأطماعهم من أن يراجعوه في مثلها على سبيل المنع ليعلموا أن ما أوصى الله إليه من الحدود واجبة التطبيق على الشّريف والوضيع، وإنه لا يزيغ عنه قيد شعرة، وإنه يقيمه على كلّ أحد على السّواء على حدّ كلكم من آدم وآدم من التراب. وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها، راجع الآية 38 المارة.
قال تعالى ردّا عليهم وتقريعا بهم وتوبيخا لهم «أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ» منك يا سيد الرّسل وهو ظلم وجور وحيف ويعرضون عن حكم الله المسوي بين الكبير والصّغير القاضي بالإنصاف والانتصاف «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (50) أن لهم ربا عدلا، ودينا قيما، وحكما حقا، كلا لا أحسن ولا أقوم ولا أصدق ولا أقسط من حكم الله، كيف وهو الآمر
بالقسط، فأعرض يا سيد الرّسل عن أمثال هؤلاء ولا تقبل مطالبهم الواهية، ولا تصغ لأقوالهم المزيقة، وأنت لست بحاجة إلى إسلامهم وولايتهم، فأنا كافيك عنهم وعن كلّ من لا يوقن بك، ولا يستسلم لحكمك.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ» لكم من دون الله فإنهم لا يصدقونكم في ولايتهم ولا يميلون إلى نصرتكم «بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» لأن طريقتكم غير طريقتهم، والبون بينكم شاسع، فلا تتولوهم أبدا راجع الآيتين 28 و 118 من آل عمران والآية 57 الآتية «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ» بعد هذا المنع «فَإِنَّهُ مِنْهُمْ» وليس منكم لرضائه بدينهم ومعاملتهم وأحكامهم المجحفة، فيظلم نفسه مثلهم، ويضل عن طريق الصّواب وسبل الهوى «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (51) أنفسهم وغيرهم. كان المنافقون لضعف قلوبهم وقلة يقينهم وشدة تجنيهم يقولون فيما بينهم إذا اشتد الأمر على المؤمنين ودال عليهم الكفار نلحق باليهود، فنأخذ أمانا منهم ويقول بعضهم إنا نلحق بالنصارى ونأخذ أمانا منهم كما وقع من أمثالهم في حادثة أحد المارة في الآية 122 من آل عمران وكما سيأتي في الآية 24 من سورة التوبة الآتية، فأنزل الله هذه الآية، ثم بين حال هؤلاء المنافقين بقوله «فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» يريد المنافقين لخلو قلوبهم من الإيمان «يُسارِعُونَ فِيهِمْ» أي في مودة اليهود والنّصارى وموالاتهم عند بدر أيّ ضائقة عليهم «يَقُولُونَ» أولئك المنافقون وأشباههم «نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ» من دوائر الدّهر وحوادثه، فيصيب الكافرون المؤمنين ويستولوا عليهم، ولا يتم الأمر لمحمد فنغلب على أمرنا، قال تعالى مخسئا لهم ومكبر رأيهم الفاسد وردا لما ينصرونه من الغلبة إذ وقعت عليهم الذلة والمسكنة وصاروا كاليهود الّذين جبلوا على الجبن والبغضاء بينهم زيادة على الذلة والمسكنة راجع الآية 62 من البقرة المارة تقف على مثالبهم التي من جملتها ما مر في الآية 65 من الأعراف ج 1، وسيأتي بعد كثير منها في هذه السّورة والتي بعدها أكثر «فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ» المطلق للبلاد والنّصر العام على الكافرين أجمع، وإظهار دين الله في البرّ والبحر وإعلائه على سائر الأديان ونصرة المؤمنين على الخلق، هذه
على القول بأن هذه الآية نزلت مع سورتها في محلها هذا وهو الأولى. وقال بعض المفسرين أن المراد بالفتح هنا فتح مكة لأن هذه التفوهات وقعت من المنافقين قرب فتح مكة إذ كان حضرة الرّسول يعرض به لأنه كلما رجع من غزوة يعرض بالأخرى ليكون المؤمنون على أهبة الغزو دائما، وعلى هذا القول تكون هذه الآية متقدمة في النّزول على سورتها، وهي صالحة للقول بقيد نزولها في فتح مكة، والقول الأوّل على التعميم فيصدق مفعولها على سائر الفتوحات، وقد ذكرنا أن سبب النّزول قد يتقدم ويتأخر ويقارن الحادثة «أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ» بقتل هؤلاء المنافقين المرجفين وسبيهم وإجلائهم وكافة اليهود وقطع أملهم من الأراضي الحجازية «فَيُصْبِحُوا» هؤلاء المذمومون «عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ» من طلب موالاة الكفرة «نادِمِينَ» (52) ولا شك أن لفظ عسى من الله للتحقيق والكريم إذا أطمع في خير فعله، وقد كان والحمد لله وندم من ندم على ما أسرّ وأعلن من تلك التفوهات «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا» بعضهم لبعض أو لليهود على القول الآخر بعد إنجاز ما وعد الله من الفتح «أَهؤُلاءِ» المنافقون «الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ» كناية عن المبالغة في الحلف ليصدق المحلوف له أي إيمانا مكررة موثقة «إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ» أيها المؤمنون على الكافرين أو أيها اليهود على المؤمنين وأنصاركم عليهم، كيف أظهروا الميل إلى موالاة اليهود وهم قد عظموا الإيمان أنهم معكم. وقال بعض المفسرين إنهم أجهدوا إيمانهم أن يكونوا مع اليهود كما حكى الله عنهم بقوله (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) الآية 21 من سورة الحشر المارة، وعليه يكون المعنى أنهم لمعكم أيها اليهود بالموالاة، وإنهم يرجون أن تكون لكم الدّولة، ولم يفعلوا أيضا ما تعهدوا به إليهم، لذلك «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» في شأن الموالاة على كلا القولين، وبغتوا بما صنعوا من المساعي عند مشاهدتهم خيبة رجائهم وانعكاس ما تصوروه وترقبوه «فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ» (53) الدنيا، إذ لم يوفوا المؤمنين ما تعهدوا به لهم من النّصرة، ولم تكن لليهود الّذين عاهدوهم على القتال دولة يلجأون إليها معهم. والآية صالحة للمعنيين المذكورين، والأوّل أولى لظاهر الخطاب في حقكم، والله أعلم. وخسروا الآخرة أيضا لأنهم