الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المدينة كانوا في بداية أمرهم لا يفارقون سلاحهم وأمروا بقتال الكفرة وهم لا يزالون على خوفهم، فقال رجل منهم أما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع السّلاح عن عاتقنا، فأنزل الله هذه الآية.
مطلب في معجزات الرّسول، الإخبار بما يأتي، وعوائد الجاهلية الباقي أثرها وجواز الأكل عند الأقارب والأصدقاء، ووجوب ملازمة الرّسول صلى الله عليه وسلم:
روى البخاري عن عدي بن حاتم قال بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع النّسل فقال يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت لم أرها ولقد أنبئت عنها، قال فإن طالت بك الأيام فلترى التطعينة ترحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلّا الله (قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعّار طيء الذي قد سعّروا البلاد) ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى، قلت كسرى بن هرمز؟ قال كسرى بن هرمز؟ ولئن طالت بك حياة لترين الرّجل يخرج ملء كفّه من ذهب أو فضة فيطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليلتين الله أحدكم يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فليقولنّ ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول بلى يا رب، فيقول ألم أعطك ما لا وأفضل عليك؟ فيقول بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلّا جهنم، وينظر عن شماله فلا يرى إلّا جهنم. قال عدي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اتقوا النّار ولو يشق تمرة، فمن لم يجد تمرة فبكلمة طيبة. (قال عدي فرأيت الظّعينة ترحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلّا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى ابن هرمز) ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم يخرج الرّجل ملء كفه من ذهب أو فضة إلخ. وفي هذا الحديث والآية دليل على صحة خلافة الخلفاء لأن الفتوحات كانت في أيامهم، ودلالة على أن هذه الآية متقدمة في النّزول على سورتها، وإنها من أوائل ما نزل بالمدينة. وقال بعض المفسرين إن هذه الآية مكية. وهي من جملة المغيبات التي أخبر الله بها رسوله كما أشرنا إليه في سورة القمر ج 1، والسّبب المذكور أعلاه في نزولها ينطبق عليها تماما، عدا كون القول الواقع بالمدينة إذ قد يوشك أنه بمكة والله أعلم. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»
(56)
أيها النّاس وفرقة كذبت ظاهرا وباطنا وهم الكافرون الّذين قال الله فيهم «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ» وانا لا تقدر عليهم «فِي الْأَرْضِ» بلى قادرون عليهم، وهم في قبضتنا لا يستطيعون أن يفتلوا منا، وسنذلهم بالدنيا بالجلاء والأسر والقتل والسّبي وضرب الجزية «وَمَأْواهُمُ النَّارُ» في الآخرة «وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (57) هي لأهلها. ولما انتهى من بيان الفرق الثلاث وحال كلّ واحدة ومصيرها طفق يأمرنا جل أمره بما إن تمسكنا به من الآداب الدّاخلية فيما يخص العائلة نفسها هذبت نفوسنا وحسنت أخلاقنا وكفينا سوء آداب خدمنا وتعلقاتنا، بقوله عز قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» بالله ورسوله وكتابه إذا خلوتم بأزواجكم في الأوقات الثلاثة الآتية فنبهوا خدمكم وأولادكم إذا أرادوا الدّخول عليكم «لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» من العبيد والخدم ذكورا كانوا أو إناثا «وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ» من أولادكم وبنانكم الّذين لم يحتلموا بعد ممن هم دون سن التمييز في اليوم واللّيلة «ثَلاثَ مَرَّاتٍ» بأوقات معينة أولها «مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ» لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النّوم ووقت العود إلى الأهل «وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ» وهذا الوقت الثاني زمن القيلولة في الصّيف إذ تضعون ثيابكم التي لبستموها للقاء النّاس أو لأعمالكم إذ قد تبدو عورتكم أثناءها وقد تخللون باهلكم «وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ» وهو الوقت الثالث لأنه زمن النّوم والتجرد له ومداعبة الأهل، فهذه «ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ» لأنكم تحتاجون فيها إلى ما ذكر، وكلّ منها عوره للمذكورين لأنه فضلا عن رؤية ما لا تحبون رؤيته منهم قد يتكلمون فيه بعضهم لبعض ولغيرهم وما عدا هذه الأوقات الثلاثة «لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ» أي الخدم والعبيد والأولاد «جُناحٌ بَعْدَهُنَّ» إذا دخلوا عليكم بغير استئذان لأنهم «طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ» قد يدخلون ويخرجون بصورة دائمة لخدمتكم والتمتع برؤيتكم ولما تقتضيه خدمة البيت، ولهذا يطوف «بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ» لحاجة المخالطة «كَذلِكَ» مثل هذا البيان الشّافعي المعلم للآداب العالية والأخلاق الفاضلة
والعادات السّامية «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» التي أنتم بحاجة شديدة لمعرفتها والتحلي بها «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (58) فيما يأمر وينهي بما ينفعكم ويضركم ويعلمكم محاسن الأخلاق ومعالي الآداب مع النّاس ومع أنفسكم. قالوا دخل على أسماء بنت مرشد غلامها في وقت
كرهت فيه دخوله، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالة نكرهها، وكان صلى الله عليه وسلم وجه مدلجا غلاما أنصاريا إلى عمر بن الخطاب وقت الظّهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته عند ذلك، وأخبر حضرة الرّسول فنزلت هذه الآية. فما روي عن ابن عباس أنه قال لم أر أحدا يعمل في هذه الآية في الخبر الذي رواه عن عكرمة وأخرجه أبو داود، وإلى قوله أن السّتور أغنت عن الاستئذان لا يفهم منه على فرض صحته ان هذه الآية منسوخة، وكذلك ما حكي عن سعيد بن المسيب بأنها منسوخة لا وجه له، وما هو وجه النّسخ يا ترى وبأي آية نسخت ولماذا نسخت؟
لا أدري روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قالت سألت الشّعبي عن هذه الآية أمنسوخة هي؟ قال لا والله، قلت إن النّاس لا يعملون بها قال الله المستعان.
وقال سعيد بن جبير في هذه الآية ان أناسا يقولون نسخت والله ما نسخت ولكنها ممّا تهاون به النّاس. ومن تهاونهم الآن عدم مبالاتهم بدخول الحمال والسّائل والعامل والقروي فضلا عن الخادم ولا حول ولا قوة إلّا بالله. قال تعالى مؤيدا ما تقدم في الآية السّابقة «وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا» في جميع الأوقات لأنهم خرجوا من سن الطّفولة والتمييز وصار حكمهم حكم الكبار «كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» الأحرار الكبار، لأنهم صاروا مثلهم «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ» ليهذّبكم وينقيكم من كلّ ما ينتقد به «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بخلقه وبما يصلحهم ويحسن أمورهم «حَكِيمٌ» (59) فيما شرعه لهم وبعد أن ذكر الله تعالى ما يتعلق بالآداب ذكر أحكاما تتعلق بالأحكام المارة، فقال جل قوله «وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ» اللاتي قعدن عن الحيض والحبل بكرهن وعجزهن وقطع أملهن من الزواج، وهن «اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً» بعد ما وصلن إليه من الحال «فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ»
الظاهرة كالملاءة والجلباب الذي فوق الخمار أمام الرّجال، إذ لا مطمع فيهنّ على شرط أن يكنّ «غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ» ما حيث يجب عليهن ستر النّحر والسّاق والمقعد وما فيها من الحلي، راجع قوله تعالى (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) في الآية 35 المارة «وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ» عن وضع تلك الثياب فيغطين أنواع الزينة ومواضعها كافة بأن يسترنها كلها فهو «خَيْرٌ لَهُنَّ» لئلا يرمين بسوء أو يغتبن بسبب ذلك لأن الشّيخ والعجوز إذا تزينا بما هو من شأن الشّاب والشّابة تلوكهما ألسنة النّاس كما قيل:
عجوز ترجّى أن تكون صبية
…
وقد لحب الجنبان واحدودب الظّهر
تدس إلى العطار ميرة أهلها
…
وهل يصلح العطار ما أفسد الدّهر
وما غرني فيها إلّا خضاب كفوفها
…
وكحل بعينيها وأثوابها العطر
نبيت بها قبل المحاق بليلة
…
فكان محافا كله ذلك الشّهر
«وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لما يجري بينهن وبين الرّجال من القول «عَلِيمٌ» 60 بما يقصدونه ويتوونه، وفي هذا نوع ترهيب، لأن من القواعد من فيها بقية جمال ولا تخلو من شهوة الرّجال، كما أنه يوجد من الرّجال، لذلك فالأجدر بها أن تستتر كالعادة، وأن لا تخالط الرّجال ولا تجالسهم، ويوجد فى هذه الأحوال بقية عند البدو وأعراب الأرياف وبعض الأمكنة في المدن، إذ أن مثل هؤلاء القواعد يجلسن مع الرّجال ويتعاطين القهوة ويتسامرن معهم ويتولين الضّيافة بأنفسهن، وإن أزواجهن وأوليائهن لا يرون بأسا بذلك، وهذه من بقايا عوائد الجاهلية الأولى.
هذا ولما كان من النّاس من يتحرج الأكل عند بعضهم بعد نزول آية (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ)(189) من البقرة المارة إذ توسعوا في معناها إلى هذا الحد، وكان المجاهدون إذا خرجوا للغزو يضعون مفاتيح بيوتهم عند العجزى والعرج والعمى والمرضى وعند أقاربهم ويأمرونهم بالأكل من بيوتهم وهم يمتنعون أيضا، وقيل كان العميان والعرج والمرضى يتزهون عن مؤاكلة الأصحاء لأنهم يرونهم يتقذّرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم، وقد يقول الأعمى ربما أكل الأعرج أكثر مني، والمريض ربما جلس مكان اثنين، والأعرج والأقطع كذلك من أنهم يضيّقون بالجلوس على
غيرهم، وكان أمثال هؤلاء يأتون إلى الرّجل فلا يجد ما يكفيهم فيأخذهم لبيت أخيه أو بيت من سمى الله في الآية الآتية فيتأثمون من ذلك، فأنزل الله جل شأنه ثانيا «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ» أيها الأصحاء حرج «أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ» بيوت أزواجكم وأولادكم، لأن بيوت الأزواج والأولاد بيوت الزوج والأب، إذ الزوجان نفس واحدة، فبيت الزوج بيت المرأة وبالعكس وبيت الولد بيت الوالد وبالعكس، لقوله صلى الله عليه وسلم أنت ومالك لأبيك. فيكون بيت الولد بيت الوالد، ولهذا لم يذكرهما الله «أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ» من وكلائكم والقيمين على مصارفكم وأموالكم وماشيتكم وضياعكم وعبيدكم وخدمكم وإماءكم، لأن العبد وما ملكت يداه لسيده «أَوْ صَدِيقِكُمْ» الذي يصدقكم وتصدقونه في المودة، لأن الأكل عند الصّديق والهدية له ومنه تزيد في المحبة، وتقوي عرى المودة، وتعظم الثقة، وقد كان السّلف الصالح يدخلون دور أصدقائهم فيأخذون منها ما يشاءون، وإذا جاءهم ضيف ولم يجدوا ما يقدمونه، دخلوا دور أصدقائهم وأخذوا منها ما يقرون به ضيفهم دون استئذان بالأخذ لا بالدخول لأن ذلك واجب عليهم، وهم أولى بأن يتحاشوا عنه ويتقيدوا بشروطه المارة في الآية 39، وإذا كانوا غائبين وأخبرهم عبيدهم وأهلهم بما فعل صديقهم من هذا يسرّون به، وقد يعتقون عبيدهم لعدم معارضتهم فيما أخذه أصدقاؤهم من بيوتهم. أما الآن فقد غلب الشّح على النّاس، فلا يفعل شيء من هذا إلّا بإذن، وقد لا يحصل إلّا باستدانة أو قرض وقد لا يحصل أبدا. وقال ثالثا «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً» مع المرضى والعرج والعميان وغيرهم «أَوْ أَشْتاتاً» متفرقين إذا لم تسمح لكم أنفسكم بمؤاكلتهم، كان بنو ليث لا يأكلون وحدهم حتى يجدوا أضيافا، وربما قعد أحدهم ينتظر أضيافا والأكل أمامه حتى الصّباح ومن الصّباح حتى الرّواح ينتظرون أيضا حضور من يأكل معهم
وربما كانت معهم الإبل الجفل لا يشربون ألبانها حتى يأتي من يشاربهم، فإذا أمسى أحدهم ولم يجد أحدا اضطر فأكل وحده، وكان قوم من الأنصار كذلك، وكان الغنى لا يأكل عند الفقير تعففا [وهذا من سجايا العرب الّذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم ولا يزال النّاس يقولون إجلالا وإنما هم شم الأنوف وعندهم عوائد كريمة لا توجد عند غيرهم، ليت الأمة الآن منصفة ببعضها، أما ما كان منهم من نهب وسلب وقتل وحرمان النّساء والأولاد الصّغار من الإرث ووأد البنات وغير ذلك فمن عدم وجود المرشد وعدم وجود كتاب يرجعون إليه] فنزلت هذه الفقرة من تلك الآية. ثم ذكر جل ذكره ما يتعلق بالآداب أيضا فقال «فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ» أي ليسلم بعضكم على بعض إذا دخلتم تلك البيوت لتأكلوا فيها أو بسلم صاحب البيت على أهله الّذين هم فيه لأنهم أحق بالسلام من غيرهم وإذا لم يكن فيها أحد فليقل السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين «تَحِيَّةً» منصوب بيسلموا لأنها بمعنى السّلام مصدر من غير جنس الفعل على حد قعدت جلوسا وقمت وقوفا «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» بيانا كافيا شافيا واضحا «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (61) فوائدها وتعلمون ما ترمي إليه من المعاني النّافعة الموجبة للألفة وغيرها فتزداد بينكم المحبة وقوة الإيمان بالله ورسوله، فتنمو المودة بينكم، ويأمن بعضكم بعضا على مساله وعرضه ونفسه ويربو اليقين بما أنتم عليه من الدّين القويم. قال
تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» وتخلقوا بما يتلقونه عنهما وتأدبوا بما يأمرونهما وتمسكوا بأخلاقهما «وَإِذا كانُوا مَعَهُ» أي الرّسول حال المذاكرة «عَلى أَمْرٍ جامِعٍ» يجمع له أهل الحل والعقد للمشاورة في أمور المسلمين والمداولة بمصالحهم وفيما يتعلق بأمر الحرب والغزو والصّلح أو مطلق تدبير فيما يخص دينهم ودنياهم «لَمْ يَذْهَبُوا» عنه ويتركوه وحده أبدا، وإذا طرأت لهم معذرة ماسة لا يذهبون «حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ» لأن ذلك مما يهم المسلمين أجمع وما يتعلق بالعامة يرجح على الخاصة، فضلا عن أن المؤمن لا تطيب نفسه بمفارقة صاحبه لا سيما عند الحاجة، فلربما عنده رأي صائب يأخذ به المجتمع كله، فيعود نفعه للمسلمين
كافة. واعلم يا محمد «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ» للذهاب لشأن ألمّ بهم ولم يستبدوا فيتركوك ويذهبوا من تلقاء أنفسهم «أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» أما الّذين ينصرفون لحالهم دون أخذ رأيك ويتركونك في مداولات هكذا تستلزم أخذ رأي الجماعة فلم يكن إيمانهم صحيحا ولا مقبولا «فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ» يا سيد الرّسل «لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ» ممن يستغنى عن حضوره ورأيه. أما الّذين ترى لزوما لأخذ رأيه فلك ألا تأذن له، لأن ما أنت فيه أهم مما يذهب إليه «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ» إن رأيت لهم عذرا مقبولا في الاستئذان على جرأتهم لطلب الأذن في وقت عليهم ألا يطلبوه إذ ينبغي لهم بل يجب عليهم ألا يتخلوا عنك في مثل هذه الحالات، لأن الأهم يقدم المهم «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لخطأهم ذلك الواقع قبل نزول هذه الآية «رَحِيمٌ 62» بهم ولذلك يرشدهم لطرق التوبة عما سلف منهم، ولا يعجل عقوبتهم. وهذه الآية تنبه على أن الأجدر بهم البقاء مع حضرة الرّسول وعدم الاستئذان ولو كان لهم عذر، لأن فوات وقت الاجتماع به صلى الله عليه وسلم لا يتلافى وأشغالهم يمكن تلافيها، بل الاستغناء عنها، وإن ترك ملازمة الرّسول وقت اللّزوم مخالف للآداب الواجب اتباعها معه اللازم مراعاتها أمامه. قال تعالى فيما يؤدب به عباده تجاه رسوله صلى الله عليه وسلم خامسا «لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً» لأنه فوقكم في كلّ شيء، فلا يقابل بجميعكم، وهو عند الله ليس كأحدكم، فإذا دعاكم إلى شيء، أو أمركم به فواجب عليكم امتثاله ولا يجوز لكم الإعراض عنه أبدا، ولا يليق بمن أجاب الدّعوة أن ينصرف دون استئذان، فكل ذلك حرام قطعا، فاحذروه أيها النّاس، ولا تتساءلوا في شيء من ذلك، لأنه يؤدي إلى اغبراره منكم، فيدعو عليكم وهو مجاب الدّعوة، تدل هذه الآية الكريمة على وجوب توقيره عليه الصلاة والسلام وتعظيمة وإجلاله، لأن الله تعالى وقره وعظمه وأجله، ومن تفخيمه عند ربه الذي أوجبه على خلقه ألّا يسموه باسمه، فلا يقولوا يا محمد يا أحمد بل يا رسول الله، يا حبيب الله، في حالتي القرب والبعد، لأن الله تعالى خاطبه بيا أيها النّبيّ يا أيها الرّسول، لذلك لا يليق بالأمة أن يسموه إلّا بما
يريد الله، ومن احترامه ألّا يرفعوا صوتهم بندائه، وإذا علم المنادي أن حضرة الرسول سمعه ولم يرد عليه فلينظر ولا يكرر النّداء فلعله شغل عنه بفكر أو بمخاطبة غيره أو كان في حالة تستدعي عدم الرّد كنزول الوحي أو حالة الوعظ وشبهها وسيأتي لهذا البحث صلة في سورة الحجرات الآتية إن شاء الله. وتشير أيضا إلى احترام المعلمين والمدرسين والأساتذة وسائر أهل الفضل، لأنهم يعلمون النّاس الخير وهذه الآيات من 58 إلى هنا والآية 29 إلى 35 المارات في آداب القرآن التي يريد الله تعالى أن يتأدب عباده بها صونا لأخلاقهم من المفاسد المذمومة. ثم ذم الله المنافقين المخالفين لهذه الآداب بقوله «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ» واحدا بعد واحد فيتسللون «مِنْكُمْ لِواذاً» فيلوذ الواحد بالآخر ويستتر به لئلا يحس بانسحابه من المجتمع، وذلك أنهم قاتلهم الله كان يثقل عليهم المقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويملّون من استماع خطبه ومواعظه القيمة ومحاضراته النّافعة، لأن وغر النّفاق أوقر قلوبهم، ودين الحسد أصدا صدورهم، وضيّقها عن سماع الحق وقبوله وعن نصحه وإرشاده، فصارت قلوبهم ضيّقه حرجة مظلمة لا تستطيع الاكتساب من نوره الفائض على القلوب الطّاهرة، وأين للخفاش من مصاحبة النّور راجع الآية 12 من سورة المؤمن في ج 2 وما ترشدك إليه مما يتعلق في هذا البحث. ثم هددهم الله تعالى وأوعدهم بقوله
«فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ» فيعرضون عنه ويصدون غيرهم من «أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ» بلاء ومحنة في الدّنيا لا يتخلّصون منه «أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 63» في الآخرة يلازمهم فيها لا يطيقونه. ثم نبّه عباده عما لا بد لهم من التفكر فيه فقال «أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وأنتم أيها النّاس من جملة ما فيها فاحذروا مخالفة خالقهما الذي لا يعجزه شيء. واعلموا أن مخالفته موجبة لإيقاع الفتنة بينكم بالدنيا والعذاب بالآخرة وأنه جل علمه «قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» من الإيمان الخالص والمشوب بالنفاق ويعلم منكم الطّيب والخبيث علما حقيقيا وهو من بعض معلوماته.
قد المفيدة للتقليل أحيانا كما هنا «وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ» يعلمه الله بل يعلم اللحظة التي تفارقون بها هذه الدّنيا وتمتثلون بها أمام عظمته في الموقف العظيم،