الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مطلب تعجيب الله رسوله وخلقه في بعض أفعاله وضرب الأمثال وكون شريعة محمد ناسخة لكل الشّرائع وعجز الأوثان وسجود التلاوة
.
قال تعالى «أَلَمْ تَرَ» أيها الإنسان العاقل «أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً» بالنبات من بعد ما كانت يابسة قاحلة من غير فعل أحد في بذره وحرثه ومناظرته «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ» بإخراجه وجعله رزقا لمخلوقاته «خَبِيرٌ» 63 بالنافع منه للإنسان والحيوان والضّار منه لهما وحاجتهما إليه «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وبما فيهما كيف يشاء وكلهم محتاج إليه «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ» عنهم «الْحَمِيدُ» 64 بإنعامه على عباده ومخلوقاته كلها، المستحق لأنواع الحمد بآلائه المتواترة عليهم، ولا غنى لهم عنه «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ» أيها النّاس (ما فِي الْأَرْضِ) من الدّواب والمعادن وغيرهما «وَالْفُلْكَ» سخرها لكم «تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ» على الماء بالرياح وسخر لكم ما في بطنه من الأسماك والجواهر «وَيُمْسِكُ السَّماءَ» بقدرته البالغة من «أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا» إذا أراد وقوعها فإنها تقع «بِإِذْنِهِ» عند خراب هذا الكون بالوقت المعين له عنده، راجع أول سورة الانفطار المارة في ج 2 «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» (65) بالغ الرّحمة بعباده. وفي هذه الآية ردّ على من يقول إن السّماء متمسكة بنفسها أي بذاتها لأنها كسائر الأجرام بالجسمية فتكون قابلة للميل الهابط كقبول غيرها وليس كما زعم بل هي ممسكة بامساك الله إياها، راجع الآية 42 من سورة فاطر في ج 1 وهي نظير هذه الآية في المعنى، والله أصدق القائلين وهو أعلم بما يقول. وما يقوله الغير في هذا الهيكل العلوي وما فيه من الكواكب ما هو إلا عن ظن وتخمين لا عن حقيقة راهنة. قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ» في أرحام أمهاتكم بعد أن لم تكونوا شيئا «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» عند انقضاء آجالكم في الدّنيا «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» ثانيا يوم القيامة بعد انقضاء أمد وجودكم في البرزخ «إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ» 66 لهذه النّعم كثير الجحود لها وما ينبغي له ذلك قال تعالى «لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً» مذهبا وطريقة وشريعة «هُمْ»
أهل هذا المنسك المخصّص لهم لا بد «ناسِكُوهُ» مقتفون أثره وعاملون به ومقيدون بما فيه دون الأمم الأخرى، لأنه تعالى شرع لعباده شرائع على لسان رسله ليتعبّدوا بها لا ليجادلوا ويخاصموا من أجلها، فالأمم التي قبل موسى منكم صحف إبراهيم ومن قبله، ومن موسى إلى عيسى منسكهم التوراة، ومن عيسى إلى محمد التوراة والإنجيل المعدل لبعض أحكامها، ومن بعثة محمد صلّى الله عليهم أجمعين وسلم إلى يوم القيامة منسكهم القرآن يعملون به دون غيره. قال تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) الآية 52 من المائدة الآتية «فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ» يا سيد الرّسل أهل الكتابين الموجودين في زمنك بأن شريعتهم ما كان عليه آباؤهم لأن كلّ شريعة تنتهي بإنزال ما بعدها من الشّرائع السّماوية على لسان رسل الله، بنقض العمل بها عند ما تحل محلها شريعة إلهية أخرى، فشريعتهم لمن كان قبل بعثتك وقد نسخت بشريعتك التي نسخت كلّ الشّرائع المخالفة لها سواء بالذبائح المعبر عنها بالنسك أو غيرها، وقد جاءت جامعة لأصول وفروع جميع الشّرائع، حاوية لأحسنها. قال تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) الآية 107 من البقرة المارة «وَادْعُ» يا سيد الرّسل جميع النّاس إلى شريعتك هذه، لأنا أرسلناك إليهم كافة، راجع الآية 39 من سورة سبأ ج 2 وما ترشدك إليه من المواقع وأمر النّاس كافة بالإخلاص «إِلى رَبِّكَ» بان يطيعوك ويعملوا بما أنزل عليك وعزتي وجلالي «إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ» (67) وهم على ضلال معوج في نزاعك «وَإِنْ جادَلُوكَ» بعد ما تبين لهم هداك وأصروا على منازعتك في أمر الدّين «فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ» (68) من مخالفتي مع علمكم أني على الحق، وإذا أصروا على جدالهم فأعرض عنهم، وقل «اللَّهُ يَحْكُمُ» بَيْنَكُمْ» وبيننا وبين الخلق أجمع «يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (69) وإذ ذاك يظهر المحق من المبطل. ولا نسخ في هذه الآية لأن الله تعالى لم يأمر نبيه بقسر أهل الكتابين على قبول دينه، بل بالاكتفاء بأخذ الجزية منهم وقد ضربها عليهم ولم تزل تؤخذ منهم إلى يوم القيامة، لأن الأتراك المسلمين لا يزالون يتقاضونها منهم، وهكذا بعض ملوك المسلمين، أما ما يقع
في تنفسات الزمن من إعفاء بعضهم من ذلك وحمايتهم من قبل الغير فلما انقضاء عند ما يعود المسلمون إلى التمسك بدينهم وينبذون التقاليد الأجنبية ويوحدون كلمتهم. قال تعالى «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ» كلية
وجزئية جلية وخفية «إِنَّ ذلِكَ» العلم مثبت «فِي كِتابٍ» عظيم عند الله تعالى هو الوجه المكنون الحاوي على ما كان وسيكون قبل كونه «إِنَّ ذلِكَ» العلم العظيم جميعه «عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (7) سهل كعلم شيء واحد
«وَيَعْبُدُونَ» بعض خلقه مع علمهم بأن شيئا لا يستحق العبادة غيره وأن لا ربّ على الحقيقة سواه «مِنْ دُونِ اللَّهِ» الجليل الذي خلقهم وسواهم وعلمهم «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً» عليهم من حجة أو برهان أو دليل أو أمارة «وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ» أن يعبد بل جهل مركب، لأنهم يزعمون ما يعبدونه من الأوثان يشفع لهم عند الله يوم القيامة وينصرهم في الدّنيا من النّاس «وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» (71) ينصرهم من عذابه إذا حل بهم في الدّنيا والآخرة. وإنما سماهم ظالمين لظلمهم أنفسهم بذلك الاعتقاد فيما تعمله أيديهم من الأصنام. قال تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ» عند سماع تلاوتها أي تظهر على وجوههم علائم الكراهة فتراها عابسة مكفهرّة «يَكادُونَ يَسْطُونَ» يثبون ويبطشون «بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا» أي بمحمد وأصحابه من شدة الغيظ والحنق عليهم، وهذه حكاية حال من أحوال بعض الكفرة المشركين وكفرة أهل الكتابين القائلين بنبوة عزير وعيسى وآلهتهما والملائكة وكونه ثالث ثلاثة «قُلْ» لهم يا سيد الرّسل «أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ» لكم «مِنْ ذلِكُمُ» الخير الذي تكرهونه الآن وتعرضون عن سماعه هو «النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» أمثالكم فهي مصيركم ومصيرهم «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (72) هي لمن يصير إليها «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ» حال مستغربة جديرة بأن تسمى مثلا تشبها ببعض الأمثال السّائرة «فَاسْتَمِعُوا لَهُ» وأصغوا إليه وتدبروه واعقلوه، وهو أن المشركين جعلوا لي شبيها يعبدونه من دوني ويستغيثون به عند شدتهم ويرجون شفاعته بآخرتهم، وأقول لهم «إِنَّ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ «دُونِ اللَّهِ»
ربكم الواحد الفرد الصّمد. من جميع أوثانكم «لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً» ولا أقل منه وأحقر «وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ» كلهم وتعاونوا على خلقه لما استطاعوا البتة. والأنكى من ذلك أنه إذا وقعت على شيئهم لا يقدرون على منعه، ولكن لأنه كلما ذب آب إلّا إذا قتلوه «وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ» على ضعفه وهوانه «شَيْئاً» من الأشياء أو جزءا قليلا منه «لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ» أيضا ولا يقدرون على استخلاصه منه مع عظمهم بالنسبة إليه إذ قد «ضَعُفَ الطَّالِبُ» الذباب السّالب «وَالْمَطْلُوبُ» 73 المسلوب منه وهي أوثانهم لأن منها ما هو جماد وهو أضعف من الذباب بدرجات كثيرة وعابدوها أجهل من كلّ جاهل داخل من كلّ مثال، لأن الذي لا يحمي نفسه من الذباب كيف تطلب منه الحماية، وكيف يعبد، وكيف يرجى منه جلب نفع أو دفع ضر؟ وإن كان حيوانا فهو كذلك أيضا بل أكثر شرا لاحتياجه للأكل والشّرب والحراسة، وإن كان إنسانا فكذلك، لأنه لا يقدر أن يحرس نفسه من أقدار الله ولا يتحرك إلّا بإذن الله وإرادته، وهو متبرئ من عبادتهم، وان الله خالقهم وخالق كلّ شيء، أفلا يعبدونه مع كمال عظمته وبالغ قدرته ويركنون إليه عند حاجتهم في الشّدة والرّخاء، ولهذا فاتركهم يا سيد الرّسل فإنهم جهال «ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» ولا عرفوه حق معرفته ولا مجدوه حق تمجيده وما علموا غاية قبح فعلهم إذ أشركوا به وسموا باسم ما هو أبعد الأشياء عنه، تقدم مثل هذه الجملة في الآية 68 من سورة الزمر والآية 91 من الأنعام ج 2 ولفظ الذباب لم يكرر في القرآن «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ» على خلق الممكنات بأسرها وإفناء الموجودات كلها «عَزِيزٌ» 74 غالب قاهر لجميع الأشياء وهذه الجملة تعليل لما قبلها من نفي معرفتهم له تعالى. قال ابن عباس كانوا يطلبون الأصنام طيبا فيقع الذباب عليها فيسلبها طيبها فلا تقدر على منعه ولا يقدر الكفرة حراسها على استرداد ما سلبه منها فكيف يقدرون على خلقه، ثم ساق حكاية أخرى من أحوال الكفرة من قولهم (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) الآية 22 من سورة الفرقان ج 1 وقولهم (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) الآية 31 من سورة
المؤمنين ج 2 وهي مكررة كثيرا في القرآن، فأخبرهم الله بمعرض الرّد عليهم بأنه يجتبي من هؤلاء وهؤلاء ما يشاء بقوله «اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا» كجبريل وإخوانه «وَمِنَ النَّاسِ» رسلا أيضا كمحمد وإخوانه عليهم الصّلاة والسّلام ومن قبلهم ممن شاء وخصته السّعادة ولهذا لا يعبا بأقوالهم التافهة «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لها وعالم بوقوعها منهم قبل خلقهم «بَصِيرٌ» بمن يختصه للملكية والرّسالة. قال تعالى (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الآية 135 من الأنعام ج 2 وهو
«يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» وجميع ما هو كائن وما سيكون من رسل الفريقين والمرسل إليهم أجمع «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» (73) كلها ويحاسب أهلها عليها قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ» بجميع أنواعه وأصنافه وأجناسه قولا وفعلا ونية «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (77) فتفوزون بأنواع الخير عند الله في الدّنيا والآخرة. واعلم أن الخير كله مجموع في أربعة: النظر والحركة والنّطق والصّمت، فكل نطق لا يكون في عبرة فهو غفلة، وكلّ حركة لا تكون في عبادة فهي فترة، وكلّ نطق لا يكون في ذكر فهو لغو، وكلّ صمت لا يكون في فكر فهو سهو.
هذا وتقدم البحث فيما يتعلق بالسجود في الآية 15 من سورة الرّعد المارة، وفيها ما يرشدك لبحثه في غيرها. واعلم أن السّجدات المتفق عليها في القرآن العظيم أربع عشرة ليس منها هذه، والسّجود فيها واجب وقال بعض الأئمة بسنية السّجود عند تلاوة هذه الآية مستدلا بما أخرجه الترمذي وأبو داود عن عتبة بن عامر قال قلت يا رسول الله أفي الحج سجدتان؟ قال نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما. وأخرج مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب أنه قرأ الحج فسجد فيها سجدتين، وقال ان هذه السّورة، فقلت بسجدتين وناهيك به قدوة، وقد أخذ بهذا الشّافعي رحمه الله وقال أبو حنيفة ومالك والحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وسفيان الثوري إنها سجدة صلاة بدليل اقترانها بالركوع، ولو كانت سجدة تلاوة لما اقترنت به كسائر سجدات القرآن، وقد مرت السّجدة الأولى في الآية 16 منها قال تعالى «وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ» بأن تستفرغوا جهدكم تبذلوا طاقتكم
ووسعكم فيه. ومن الجهاد أن لا يخاف الرّجل في قول الحق لومة لا ثم وتقدم بيان فضله في الآية 191 من سورة البقرة «هُوَ اجْتَباكُمْ» أيها النّاس واختاركم لدينه وخدمته، والاجتباء رتبة عظيمة ومنقبة كريمة خصنا الله بها، فهي سعادة ما فوقها سعادة، قال الأبوصيري:
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا
…
من العناية ركنا غير منهدم
وهذا الاختيار من عناية الله تعالى بهذه الأمة ومن عنايته اختيار محمد صلى الله عليه وسلم رسولا لنا واختيارنا لشريعته، ولهذا قال (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية 110 من آل عمران والحمد لله على أفضاله وعلى هذه المزية الكريمة والمنحة المثلى، وعلى قوله جل قوله «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» لأنها ميزة جليلة لنا أيضا إذ لم يصيق وبشدد علينا فيما عرضه، بل رخص وسهل، ويسر عليكم أيها المؤمنون في صومكم وصلاتكم وحجكم وزكاتكم وتوبتكم وطهارتكم وجعل ملّتكم «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ» سمحة نقية وهذا الخليل جدكم «هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ» (78) لقوله تعالى حكاية عنه وعن ابنه إسماعيل عليهما الصّلاة والسّلام.
(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً) الآية 138 من البقرة وهذه التسمية ثابتة لكم «مِنْ قَبْلُ» في الكتب المتقدمة «وَفِي هذا» القرآن لأنها مذكورة في اللّوح المحفوظ، ولهذا فضلكم على سائر الأمم وجعل دينكم الإسلام وسماكم المسلمين «لِيَكُونَ الرَّسُولُ» محمد صلى الله عليه وسلم «شَهِيداً عَلَيْكُمْ» يوم القيامة بأنه بلغكم رسالته «وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» بأن الرّسل بلغو أممهم رسالات ربهم بناء على أخبار نبيكم لكم في كتابكم واخباره حق أكثر من المشاهدة وأقوى، لأن العين قد تخطئ المبصر فلا تعرفه حقيقة، والرّسول لا يخطى في التبليغ البتة لعصمته من قبل الله تعالى، وهذا من المخصوص، لأن الشّهادة لا تكون إلّا في هذا عن الغيب، وقد تكون على السّماع في أمور مخصصة أيضا كما أشرنا إليها في الآية 143 من سورة البقرة المارة «فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ» في كلّ أموركم وثقوا بما وعدكم به على لسان رسولكم «هُوَ مَوْلاكُمْ» وناصركم وحافظكم لا مولى لكم غيره «فَنِعْمَ الْمَوْلى» هو
لمن يتولى أموره «وَنِعْمَ النَّصِيرُ» (79) لمن يفوض أمره إليه، فإنه ينصره ويسدد أموره ويسبغ عليه رحمة ويمده من فضله ويوفقه لما به صلاحه ونجاحه. ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة المنافقين عدد 18- 104- 63 نزلت بالمدينة بعد سورة الحج. وهي إحدى عشرة آية، وثمانون ومئة كلمة، وتسعمائة وستّ وسبعون حرفا. وتقدم بيان السّور المبدوءة بما بدئت به في سورة الانفطار ج 2 ومثلها في عدد الآي العاديات والقارعة والضّحى والجمعة.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: «إِذا جاءَكَ» يا محمد «الْمُنافِقُونَ قالُوا» لك بلسانهم «نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ» حقا بما علمنا في كتبنا فلا تعبأ يا حبيبي بقولهم هذا، ولا تصغ لشهادتهم، وقل لهم إني رسول الله إن شهدتم وإن لم «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ» فأنت في غنى عن شهادتهم الكاذبة الصّورية «وَاللَّهُ» الذي أرسلك بشيرا ونذيرا لخلقه كافة «يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ» الّذين جاءوا إليك بشهادتهم عفوا «لَكاذِبُونَ» 1 في شهادتهم لأنهم أضمروا عكسها في قلوبهم وان من أخبر بشيء وهو معتقد خلافه فهو كاذب وإن هؤلاء المنافقين الّذين لا تتجاوز شهادتهم حناجرهم «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ» التي يحلفونها لك على صدق شهادتهم المزورة من قولهم لك قبل انهم لمنكم وانهم معكم وقولهم الآن نشهد والشّهادة يمين كلها «جُنَّةً» وقاية يتقون بها السّبي والجلاء والقتل وما يتخيلون إيقاعه بهم من قبلك وأصحابك «فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» أنفسهم ومنعوا غيرهم من أتباعه «إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (2) من الكذب والبهت والنّفاق والإعراض عن دين الله وصد النّاس عنه مع علمهم بأحقيته «ذلِكَ» إقدامهم على هذه الأعمال القبيحة «بِأَنَّهُمْ آمَنُوا» بألسنتهم فقط ولم يظهروا ايمانهم الا عند مشاهدة المؤمنين «ثُمَّ كَفَرُوا»
صرا بحضورهم وعلنا فيما بينهم «فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ» حتى لا يدخلها الإيمان الخالص جزاء إيمانهم المزيف «فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» (3) معنى ما يتلو عليهم الرّسول ولا يتدبرون مغزاه، لأنهم لا يتلقونه عن قبول وإذعان، بل عن ردّ واعتراض وإنكار وكراهية «وَ» هؤلاء الفجار «إِذا رَأَيْتَهُمْ» أيها الرّائي «تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ» طولا وامتلاء وحسنا وهيئة وقامة «وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ» لما هم عليه من الفصاحة والمعرفة بمواقع الكلام، ولكنهم في الحقيقة ليسوا بشيء «كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ» أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام، لأن الذي ترى منهم من البلاغة وحسن النّطق كله فيما يتعلق بأمور الدّنيا أما ما يتعلق بالدين وأمور الآخرة فهم عنه بمعزل قال تعالى (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا)، لأنهم متغلغلون فيها منهمكون في زخارفها (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) لاهون عنها طارحوها وراءهم. راجع هذه الآية 8 من سورة الرّوم ج 2 في بحث الغافلين عن الآخرة المنصرفين إلى الدّنيا فتراهم يا سيد الرّسل من حيث الدّين أشباه رجال كما يتخيل من سماة بعض المتعممين الّذين يقال فيهم:
يحسبه الجاهل ما لم يعلما
…
شيخا على كرسيه معهما
وبعض الملتحين في القول فيهم:
ألا ليت اللّحى كانت حشيشا
…
فنعلفها دواب المسلمينا
ومما يدلك على هذا أن الرّعب قد ملأ قلوبهم وصاروا بحيث «يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ» وانهم المرادون بها ويظنون منها إيقاع الشّر فيهم وتوقع الضّر بهم سواء كانت من ناشد ضالته أو ممن ندت له دآبة أو مناد في المعكر، حتى أنهم من شدة خوفهم يلقون الخوف في غيرهم لسوء ما يراهم عليه من الاضطراب، وهؤلاء الجبناء «هُمُ الْعَدُوُّ» اللدود لك ولأصحابك «فَاحْذَرْهُمْ» يا سيد الرسل ولا تأمنهم على شيء ولا تغتر بأيمانهم الكاذبة وإيمانهم الصّوري «قاتَلَهُمُ» اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (4) جملة تعجبية من أنواع افترائهم وانصرافهم عن الحق وإصرارهم على النّفاق «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ» ربه عما سلف منكم وأخلصوا إيمانكم له «لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ» أمالوها إعراضا
عن سماع هذا القول «وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ» عما دعوا إليه أنفة منه «وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» (5) عن الإجابة إلى استغفارك مع أنك تدعوهم لخيرهم، ولهذا فاتركهم يا حبيبي «سَواءٌ عَلَيْهِمْ» الأمر «أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» لأنهم خرجوا عن الطّاعة «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (6) الخارجين على رسولهم ودينهم. راجع الآية 81 من سورة التوبة لآتية الدّالة على قطع أملهم والآيات قبلها وبعدها التي فضح الله بها أحوال المنافقين كلها، فلم يبق لهم خصلة مكتومة من أفعالهم القبيحة تجاه الرّسول وأصحابه إلا أوضحها، وهؤلاء «هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ» لبعضهم ولمن هو على شاكلتهم «لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ» من النّاس «حَتَّى يَنْفَضُّوا» عنه وقد خاب ظنهم فإن الله مغنيه عن نفقتهم وكيف يحتاج لهم: ولله خزائن السّموات والأرض، وبيده مفاتح الرّزق وهو مولاه يكفيه عن كلّ خلقه على رغم أنوفهم، وكيف يحتاج إليهم وقد كلفه الله أن يجعل له جبال مكة ذهبا تلك الجبال التي شاهدناها التي سيكون لها شأن عظيم عند ترقي العلم الدّنيوي ويستخرج منها معادن إن لم تكن ذهبا تأتي بالذهب «وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ» (7) أن الأرزاق بيد الله يؤتيها من يشاء من عباده ويمنعها عمن يشاء «يَقُولُونَ» أيضا هؤلاء المنافقون «لَئِنْ رَجَعْنا» من غزوة بني المصطلق بطن من خزاعة بن جذيمة وهو المصطلق وتسمى غزوة المريسيع اسم لماء من مياههم وغزوة محارب وغزوة الأعاجيب لعظم ما وقع فيها كما سنقصها بعد «إِلَى الْمَدِينَةِ» وانتهينا من غزوتنا هذه «لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا» أي من المدينة يربدون أنفسهم قاتلهم الله «الْأَذَلَّ» يريدون حضرة الرّسول وأصحابه أذلهم الله، وقد خسئوا وخابوا «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» لا لهم «وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ» (8) ذلك لخبث عقيدتهم وسوء نيتهم.
مطلب غزوة بني المصطلق وما وقع فيها وما فاه به عبد الله بن سلول على حضرة الرّسول وأصحابه وما رده عليه ابنه:
وخلاصة هذه القصة هو أنه كان ضرار أخو جويرية أم المؤمنين بنت الحارث
بن أبي ضرار سيد بني المصطلق جمع جموعه لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما بلغه ذلك خرج اليه بأصحابه رضي الله عنهم سنة ستّ من الهجرة لليلتين خلتا من شهر رمضان فلقيهم على المريسيع من ناحية قديد الى السّاحل، فتزاحم النّاس واقتتلوا فهزمهم الله وأمكن رسوله منهم واستاق أبناءهم ونساءهم وأموالهم غنيمة. ومن وقائع هذه الغزوة التي وعدنا بذكرها آنفا ما رواه البخاري ومسلم عن جابر قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بات معه أناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان منهم رجل لعاب فكسع أنصاريا، فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا، وقال الأنصاري يا للأنصار، وقال المهاجري يا للمهاجرين، فخرج رسول الله فقال ما بال دعوى الجاهلية، ثم قال ما شأنهم؟ فأخبر بكسعة المهاجر للأنصاري، فقال دعوها فإنها خبيثة. وقال عبد الله بن أبي بن سلول قد تداعوا علينا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال عمر رضي الله عنه ألا أقتل يا رسول الله هذا الخبيث؟ بارك الله فيك يا سيدي يا عمر كلما تكون قضية فيها ما يغضب الله ورسوله إلّا قوّم نفسه لينتقم لله ورسوله. راجع أول سورة الممتحنة المارة وقصة الفتح الآتية والآية 60 فما بعدها من سورة النّساء المارة، فقال صلى الله عليه وسلم لا يتحدث الناس إنه كان يقتل أصحابه، أي لا تفعل حتى لا يترنم النّاس في ذلك فيقولوا إنه كان يقتل أصحابه إذ لا يعلمون أحقية القتل لمثله. وفي رواية مسلم فقال لا بأس، ولينصر الرّجل أخاه ظالما كان أو مظلوما، أي إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره، وزاد الترمذي، فقال له ابنه عبد الله لا تنقلب حتى تقرّ أنك أنت الذليل ورسول الله العزيز، ففعل. وقد ذكرنا في الآية 43 من من سورة النّساء إن هذه الحادثة كانت سنة خمس، والصّحيح سنة ستّ كما جاء هنا والله أعلم. وروى البخاري ومسلم عن زيد بن أرقم قال خرجنا مع رسول الله في صفر أصاب النّاس فيه شدة، فقال عبد الله بن سلول لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأزل، قال فأتيت رسول الله فأخبرته بذلك، فأرسل إليه فسأله فاجتهد يمنه ما فعل، فقالوا كذب زيد رسول الله، قال فوقع في نفسي مما قالوه شدة
حتى أنزل الله بتصديقي (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) ثم قال دعاهم رسول الله ليستغفر لهم، قال فلووا رؤوسهم، قال أصحاب السّير جاء عبد الله رضي الله عنه بن عبد الله بن أبي بن سلول فقال لحضرة الرّسول إن كنت تريد قتله يا رسول الله فدعني آت لك برأسه، لأن النّاس تعلم أني أبرّ النّاس به، فإن قتله غيري يا رسول الله يصعب علي ما تلوكه بعد ألسنة النّاس، وأنا ما أنا عليه من البر بالوالدين والغيرة على السّمعة، لذلك يا سيدي أحشى أن لا تدعي نفسي أنظر إلى قاتله غيرة منها وخشية من تقول النّاس، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النّار، فقال له صلى الله عليه وسلم بل لترفق به وتحسن صحبته ما كان معنا، وقال أسيد بن حضير يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاء الله بك وقومه يعملون له التاج كي يتوجوه، وأنه يرى أنك سلبته ملكه قال أصحاب السّير ولما قرب عبد الله بن أبي من المدينة وأراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله رضي الله عنه وأرضاه وقال له وراءك، قال ويلك مالك، قال والله لا تدخلها أبدا إلّا أن يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتعلمن اليوم من الأعز من الأزل فشكاه إلى رسول الله، فأرسل إليه أن خلّ عنه، فقال إذا جاء أمر الرّسول فقم فدخل المدينة. وقيل قالوا اذهب إلى رسول الله يستغفر لك، فقال أمرتموني أن آمن فآمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فأعطيت، فما بقي إلّا أن أسجد لمحمد، فأنزل الله هذه السّورة. وذكر قصة المريسيع فيها لا يعني أنها نزلت بوقتها بل كانت في سنة ستّ كما ذكرنا وقد أنزل الله في هذه الغزوة فرض التيمم كما أشرنا إليه في الآية 42 من سورة النّساء المارة وأشار إليها جل شأنه في هذه السّورة كغيرها من القصص فإنها قد تقع في
زمن يخبر عنها في زمن آخر قبل وقوعها أو بعده أو زمنه، كما أن أسباب النّزول كذلك، فإنه قد يرافق الحادثة وقد يتقدمها أو يتأخر عنها. قالوا ثم اشتكى عبد الله ولم يلبث إلّا أياما ومات على نفاقه كما سيأتي ذكره في الآية 84 من سورة التوبة الآتية إن شاء الله. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» (9) في الدّنيا بسبب عقلتهم وانهما كهم في حب أموالهم وأولادهم المؤدي إلى خسارتهم في الآخرة
قال تعالى «وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ» أيها النّاس «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» فيتعذر عليه الإنفاق في حياته وفيما يؤتى به يوم القيامة في الموقف ويسأل عن تقصيره هذا يعتذر «فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ» ولم تمتني بغتة «فَأَصَّدَّقَ» بمالي على عيالك فلا يقبل منه، لأنه أمهله أعواما كثيرة ولم يفعل وكان يمكنه التصدق قبل حلول أجله لو كان صادقا فيما يقوله ويتمناه، وكان بوسعه التصدق ولكنه كان كاذبا يسوف طيلة السّنن التي قضاها حال صحته وقدرته على التصدق ولم يفطن لهذا ولم يذكره، وكذلك قوله «وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ» (10) لا صحة له، لأن الله يعلم لو أمهله فيما أراد لا يفعل شيئا من ذلك لاغتراره بالدنيا ولهوه في زخارفها فلم يخطر بباله حال الرّخاء ما خطر بباله حال الشّدة، فوقع في الأسف والدّامة والحسرة بعد فوات وقت قبولها فلم يصلح لإجابة طلبه بل للقاء النّار. وهذه الآية من تتمة ما نزل في المنافقين لأن المؤمن لا يسأل الرّجعة عند حلول الموت، ولأن ما بعده خير له مما قبله، وهو يحب لقاء الله والله يحب لقاءه، فلا يغتر بالدنيا ولا بطول العمر والتمتع بالعافية والرّفاه فيمنع الزكاة ويسوف بالتوبة ويصر على المعاصي كالكافر والمنافق، بل يتوب ويتصدق وهو صحيح صحيح،
ولهذا قد ردّ الله على المنافق قوله وتمنيه بقوله عز قوله «وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها» أبدا لما ثبت باللوح هكذا ولا يقدم ولا يؤخر عن وقته المقدر له «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (11) بالدنيا لو ردّكم إليها لاستمريتم على أفعالكم القبيحة وحرصكم على المال وتقاعسكم عن فعل الخير كما كنتم واكثر، قال تعالى (لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الآية 27 من الأنعام ج 2 وهذه الآية عامة في كلّ من هذا شأنه، ونزولها في المنافقين لا يمنع شمولها لغيرهم ولا يخصصها فيهم، لأن العبرة لعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب فنسأل الله العفو والعافية والتوفيق إلى أقوم طريقها وأقول:
إليك بسطت الكف في فحمة الدّجى
…
نداء غريق في الذنوب غريق
رجاك ضميري كي تخلص حجتي
…
وكم من فريق شافع لفريق
فاشفع يا رسول الله بعبدك الجامع لهذا. ويا رب وفقه لإكماله وانفع به عبادك،