الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
269 - شاكر (1292 - 1383 هـ)(1875 - 1963 م)
محمد بن محمد شاكر، الفقيه الاديب الشاعر الصوفي.
ولد بصفاقس وكان والده تاجرا ميسور الحال فاعتنى بتربيته فتلقى تعليمه الابتدائي أولا في الكتاب حيث حفظ القرآن، وتعلم الكتابة ومبادئ العربية، وبعد مبارحة الكتاب صار يحضر حلقات الدرس المنعقدة بمساجد المدينة فأخذ القراءات بالجامع الكبير على الشيخ عبد السلام الشرفي باش مفتي صفاقس، والنحو على الشيخ أحمد الكراي إمام الجامع المذكور وخطيبه، وعلى الشيخ الطيب بن عبد السلام الشرفي بجامع الامام اللخمي، والنحو والفقه على الشيخ محمود الشرفي الازهري إثر عودته من مصر بزاوية سيدي علي الكراي، وقرأ شرح التاودي على تحفة الحكام لابن عاصم، وصحيح البخاري على الشيخ محمود الكتاري بمسجد سيدي عبد الرحمن الطباع وسيدي الياس ليلا.
وحوالي سنة 1306/ 1888 أحدثت أول مدرسة ابتدائية لتعليم الفرنسية والعربية في المدرسة الحسينية، ولم يقع إقبال الجمهور على هذا النوع من التعليم لاسباب نفسية وعقلية فاستنجدت السلطة بأعيان المدينة لاقناع الناس والتأثير عليهم لإرسال ابنائهم إلى هذه المدرسة، وكان والد المترجم جارا لخليفة المدينة السيد عمر قدور فاستدعاه والح عليه في توجيه ابنه إلى المدرسة فلبى رغبته فدخل هاته المدرسة، وأقبل على تعلم اللغة الفرنسية، ويحضر بجامع المدرسة دروس العربية التي يلقيها الشيخ أحمد الفراتي باش مفتي المدينة، ولم يكد يجاوز ثلاث سنوات من التعلم بهاته المدرسة حتى أصيب برمد شديد في عينه اليسرى، واليمنى فقدها من قبل
في مراحل الطفولة الأولى وأجبرته العلة الطاغية على مبارحة المدرسة، ولم يترشح لامتحان الشهادة الابتدائية، ولم يمهله الداء طويلا فقد فقد كريمته الأخرى وأصبح كفيفا بالرغم عن عرضه على الطبيب الوحيد بالمدينة ووقوعه في حبالة متطبب دجال، وسافر إلى العاصمة للمعالجة، لكن الطبيب الذي تولى فحصه أعلمه بأن القدح بمرود الذهب من قبل المتطبب الدجال قضى على عروق العين ولا أمل في إعادة الابصار إليها.
وفي سنة 1317/ 1899 سافر إلى تونس العاصمة صحبة بعض زملائه لمواصلة التعلم بجامع الزيتونة، ومكث به طالب علم مدة عامين، ثم تقدم مدعيا لاداء امتحان شهادة التطويع فكان من الفائزين بها في سنة 1319/ 1901، وبعدها عاد إلى مسقط رأسه واحتفل بمقدمه فهنأه الشيخ محمد السلامي ببيتين:
أمحمد يهنيك ما قد نلت من
…
علم يقصر عن مداه الذاكر
فأهنأ بفوز الامتحان فإنه
…
قد جاء في التاريخ «فز يا شاكر»
وانتصب بصفاقس مدرسا متطوعا، وكان في دروسه يحمل على البدع والخرافات القبورية ومالها من ذيول وتأثيرها في العقائد والاخلاق لأنه كان متأثرا بالحركة الاصلاحية التي تقودها مجلة «المنار» وكانت بينه وبين صاحبها الشيخ رشيد رضا مراسلات، والجهر بهذه الآراء في ذلك العصر لم تكن لتحرز رضا كل الناس لأن أغلبهم يرى أن الدين ما مضى عليه السلف الجاهل من استنجاد بالمقبورين، واعتقاد تصرفهم تصرفا جزئيا في الكون، وهكذا يصبح عند العقول الميتة الشرك الجلي مما ينافح عنه. وقام هؤلاء الأضداد المتحمسون بتقديم قضية ضد المترجم إلى المحكمة الشرعية بصفاقس، وقد حكى المترجم في مذكرة له ما حف بدعوته والقضية المقدمة ضده من ملابسات فقال؛ «الأمر الذي فيه خطر على عقيدة التوحيد، ولم يرق لبعض من يحضر الدرس فرفع قضية إلى المجلس الشرعي، ووقعت بيني وبين أعضائه مناقشة شديدة، فقلت لهم في آخرها: كان بودي أن أرى
شيوخ المجلس يعاضدونني في إزالة تلك البدع التي ينكرها الاسلام، وتطهير المجتمع من تلك الموبقات، لا أن يدعونني إلى المحكمة كخصم، ولكن هكذا قضى علينا عموم الجهل».
واستاء أعضاء المجلس الشرعي وغضبوا من مجابهته لهم بمثل هذا فاشتكوا كتابة إلى عامل البلد (الوالي) طالبين عزله، فسار العامل في ركابهم، وصدر الامر الملكي في عزله من التدريس، وتجريده من شهادة التطويع، وكان ذلك في شعبان 1320/ 1902، وهذا الاجراء غاية في الظلم والتنكيل، فإذا كانت خطة التدريس مما يوهب ويسلب فإن شهادة التطويع نتيجة مجهود شخصي لا توهب ولا تسلب، ونشرت خبر عزله وتجريده مجلة «المنار» وجريدة «الطان» الباريسية، وسافر إلى العاصمة لمتابعة القضية وناصره شيخ الشيوخ فخر العلماء الشيخ سالم بو حاجب، وبعد أربع سنوات الغي أمر العزل، وأعيدت له حقوقه المسلوبة بفضل توسط بعض أصدقائه.
ويبدو أن هذه الصدمة القاسية الظالمة، والرجل كفيف البصر لا سلاح له في الحياة إلا شهادته العلمية، وهذه الصدمة أفهمته أن الجو العام غير قابل للآراء الاصلاحية، وإن الرجعية والخرافات تؤيدها السلطة العليا في البلاد، ولعل الوسطاء الذين تدخلوا لتسوية القضية أشاروا عليه بأن يكف عن الدعوة إلى الآراء الاصلاحية، وينتسب إلى الطريقة التيجانية الضالة لأن قصر الباي وحاشيته من اتباع هذه الطريقة، وهما ينظران إلى معتنقها بعين الإكبار لا سيما بعد إعلانها بعد إعلان مجلة المنار الخصومة للشيخ أحمد التيجاني، ويتهمونها بالوهابية كأن الوهابية جريمة في نظر هؤلاء السادة. ومن الملاحظ أن خصوم مجلة المنار كثيرون بتونس.
وليت المترجم سكت عن آرائه الاصلاحية، ولم يتنكر لها وينكص على عقبيه، ويصبح صوفيا غاليا يغذي بدع الصوفية التي قاومتها بشدة مجلة «المنار» ولعله معذور إذا نظرنا بعين الانصاف إلى الجو الخرافي السائد في قصر الباي مركز السلطة العليا في البلاد.
وحوالى سنة 1324/ 1906 فكر في فتح مدرسة قرآنية بصفاقس، وعرض الموضوع على بعض أعيان المدينة الذين راقت لهم الفكرة، وكلفوه باستصدار رخصة من إدارة العلوم والمعارف التي كان مديرها فرنسيا من طواغيت الاستعمار الذي لا يروق له تعليم اللغة القومية خارج اشرافه وتخطيطه، وأشعره عامل المدينة بوجوب التخلي عن هذه الفكرة بواسطة عضو في مجلس الشورى كان نصير الفكرة، وبعد عامين حل بصفاقس تلاميذ المدرسة القرآنية بالمكنين، وسمع الناس من محفوظاتهم وأناشيدهم ما أثار إعجاب العموم والخواص مما دعا السيدين أحمد السلامي ومحمد كمون من أعيان المدينة السعي لاستصدار رخصة مدرسة قرآنية، والأعيان في ذلك العصر تجاملهم السلطة الاستعمارية، وتسترضيهم، ونجحا في مسعاهما وتأسست المدرسة القرآنية «التهذيبية» في سنة 1328/ 1909.
وكان هذا حافزا للمترجم في إعادة طلب رخصة فتح مدرسة قرآنية فتحصل على الرخصة في سنة 1330/ 1911، وفتح المدرسة بداره الكائنة بنهج حنون رقم 26 بمساعدة تلميذه أحمد بودبوس، وسماها المدرسة القرآنية «العلمية» ولم تطل مدة إدارته لهذه المدرسة لاسباب مالية وغيرها وعاد للتدريس بالجامع الكبير.
وكان له حس وطني صادق يكره الاستعمار وسياسته الملتوية ووعوده الكاذبة الجوفاء، فكون مع بعض معاصريه كالسيد أحمد المهيري صاحب جريدة «العصر الجديد» ، والشيخ الطاهر طريفة جمعية سياسية سرية بعد انقضاء الحرب العالمية الأولى، وإعلان الهدنة، وكانت هذه الجمعية تعقد اجتماعاتها بدار الشيخ الطاهر طريفة قرب سيدي سعادة، ويظهر أن القائمين بهذه الجمعية لم يكونوا متكونين تكوينا سياسيا عميقا لأن بعض أسرار الجمعية تسربت إلى الخارج وانكشف أمرها لدى السلطة الاستعمارية فأقبرت بعد عمر قصير، وكان الجو العام السائد في تونس هو السعي للمطالبة بالوعود والحقوق، وانبثقت حركة شعبية لتحقيق هذه الاهداف بزعامة الشيخ عبد العزيز الثعالبي.