الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
302 - ابن الشيخ (نحو 1239 - 1329 هـ)(1826 - 1911 م)
عمر بن أحمد بن علي بن حسن بن علي بن قاسم المعروف بابن الشيخ، الفقيه، المتكلم، العارف بالفلسفة، الجامع بين المنقول والمعقول.
أصله من الماتلين من قرى بنزرت، ثم انتقل مع والده إلى رأس الجبل، وكان والده ثريا قائما بالأعمال التجارية والفلاحية.
لمّا عزل الشيخ الطاهر بن أحمد اللطيف القلعي (من القلعة الصغرى بإقليم الساحل) عن التدريس بسبب إداري طفيف، ولزم بيته وكان لعزله صدى كبير في الأوساط الزيتونية، وبلغ الخبر إلى والد المترجم فاتصل بالشيخ اللطيف، وألح عليه وأقنعه في احترام أن يقبل منه عين المرتب الذي كان يتقاضاه من وظيفته ليتفرغ لتعليم ابنه فرضي الشيخ اللطيف بهذا العرض، وأصبح أستاذا خاصا للمترجم، واعتنى بتوجيهه وتربيته حتى تمكن من الفوز بنجاح في الانخراط في سلك التلامذة الزيتونيين، واستمر الشيخ اللطيف في رعايته وتوجيهه في حياته التعليمية، وبإشارته التحق بالدروس التي يلقيها أعلام مرموقون في تلك الفترة، وكانت العادة الجاري بها العمل أن التلميذ ينتخب لدروسه من يختاره من المشايخ المدرسين، وكان المترجم قبل أن يلتحق بجامع الزيتونة قد انتقل للسكنى بالعاصمة بصحبة أسرته، وبقي والده مترددا بينها وبين رأس الجبل، وتلقى المترجم تعلمه الابتدائي بالعاصمة التونسية.
وكان دخوله جامع الزيتونة سنة 1259/ 1844 وقرأ على المشايخ:
ابراهيم الرياخي، ومحمد البناء، ومحمد الخضار، ومحمد بن سلامة، ومحمد
بن الخوجة، ومحمد بن حمزة الشاهد، ومحمد معاوية ومحمد بن عاشور الشهير بحمدة، ومحمد النيفر، ومحمد بن ملوكة ومحمود قابادو، ومحمد الشريف الذي أجازه بما في ثبته، ومحمد الشاذلي بن صالح الذي أجازه بما في فهرسته، ومصطفى البارودي.
ونجح في شهادة التطويع بدرجة حسن جدا، وباشر بعدها التدريس بجامع الزيتونة بصفة متطوع بإذن من شيوخه وإلحاحهم وذلك سنة 1266/ 1848، وفي سنة 1268/ 1850 أعلن عن فتح مناظرة للتدريس من الطبقة الثانية فلم يشارك فيها، ولما انتهى المتناظرون من مواد المناظرة قال العلامة شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع لرفاقه في النظارة: إني سمعت منذ أيام طالبا صغيرا لا أعرف اسمه يقرئ درسا يفوق هذه الدروس التي ألقاها المتناظرون، وبحث المشايخ النظار عن ذلك الطالب الصغير فإذا هو صاحب الترجمة فأولي مدرسا من الطبقة الثانية، وبقي فيها خمس عشرة سنة فارتقى إلى الطبقة الأولى سنة 1283/ 1865، واستمر على التدريس نحوا من ستين عاما درس فيها أهم الكتب والمواد في التعليم الزيتوني كالتفسير، والحديث، والفقه، والأصلين، والبلاغة، والمنطق، وآداب البحث والمناظرة، وتخرجت عليه طبقات لا تحصى: وممن قرأ عليه ابراهيم المارغني، وحمودة تاج، وصالح الشريف، ومحمد القصار، ومحمد مخلوف المنستيري صاحب «شجرة النور الزكية» ومحمد السلامي الصفاقسي، ومحمد الطاهر بن عاشور، ومحمد الخضر حسين، ومحمد المكي بن عزوز، وعلي الشنوفي، وغيرهم كثيرون.
قال عن أسلوبه وطريقته في التدريس تلميذه العلامة الشيخ محمد الخضر حسين: «أما أسلوب الأستاذ في التعليم فمن أنفع الطرق كان يقرئ عبارة المتن ويبسطها حتى يتضح المراد منها، ثم يأخذ في شرح عبارات الشرح، وما تمس الحاجة إليه من الحواشي والكتب التي بحثت في الموضوع لا سيما الكتب التي استمد منها شارح الكتاب، ويتبعها بالبيان جملة جملة، ولا يغادر عويصة أو عقدة إلا حل مغلقها، وأوضح مجملها
حيث يتعلم الطالب من دروسه كيف يلتقط جواهر المعاني من أقوال المؤلفين زيادة عما يستفيده من علم.
والأستاذ لم يأخذ في دروسه بطريقة الإملاء كما يصنع كثير من الأساتذة إلا أن له مزيد التحقيق والكشف عن أسرارها بوجه يدلك على ما له من سعة العارضة والغوص في أعماق المباحث إلى أبعد غاية.
وعادته أن لا يورد بحثا أو جوابا عن اعتراض إلا بعد التثبت والاستناد فيه إلى قاعدة مسلمة ومن هنا كان الغالب على إفهامه الاستقامة وإصابة المرمى، وإذا عثر على خلل لبعض المؤلفين التمس له المعذرة ما أمكنه وإلا قرّر وجه الخلل ونبّه على مكانه بأدب ولطف في البيان، وكان له عقل أشرب قوانين المنطق فلا يروح عليه الزيف وإن صدر من عظيم أو خرج من زخرف من القول ومن أشهر دروسه وأدلها على مقدرته الفائقة درسه للمواقف لعضد الدين الإيجي بشرح السيد الشريف الجرجاني الذي ابتدأه في حدود سنة 1285/ 1867 ولبث في تدريس هذا الكتاب عشرين سنة أو أكثر حتى أتى على ختمه، ويوم ختمه أنشد تلامذته القصائد البليغة من إنشائهم وانقطع لهذا الدرس انقطاعا عديم النظير، وأظهر من الضلاعة في العلوم الحكمية ودقة الفهم، وبراعة التقرير معاني سارت بها الركبان، ولإعداد هذا الدرس يعقد مجلسا ليليا في منزله يشهده كثير من العلماء الذين يحضرون الدرس بجامع الزيتونة للتذاكر في مسائل درس الغد فيهتدي بتوقفاتهم وإفهامهم إلى مقاعد التحرير من الدرس، ويفارقونه والمسائل عندهم وعنده لا تزال محاطة بشيء من الغموض محتاجة إلى طريق فيصل في تقريرها وتصويرها، وبعد انصرافهم يخلو بنفسه للمطالعة فيجيء إلى الدرس صباحا وقد قتل مسائله بحثا وتحقيقا.
وقد حضر هذا الدرس الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في زيارته الأولى لتونس سنة 1300/ 1883 وأعجب بقيمة المترجم ودرسه أيما إعجاب، وناهيك بقيمة الشيخ محمد عبده في العلوم الحكمية.
وفي سنة 1278/ 1861 انتخب عضوا في المجلس الأكبر المؤسس بمقتضى قانون عهد الأمان، ونائبا لرئيس المجلس الاعتيادي فظهرت له براعة فائقة في تطبيق القوانين.
لما عزل الوزير مصطفى خزنه دار، وعزمت حكومة خير الدين على محاسبته على الأموال التي دخلت خزينة الدولة مدة ولايته تشكل مجلس يتركب من اثنين من الوزراء واثنين من شيوخ المجلس الشرعي تحت رئاسة ولي العهد، وأن تتقدم الدولة بمطالبها على خزنه دار، ويتولى وكيله الدفاع عنه واختار الوزير خير الدين صاحب الترجمة وكيلا للدولة في هذه القضية ثقة بما عرف به من رجاحة العقل وسداد الرأي ولما انتهت هذه المسألة تولى قضاء باردو سنة 1290/ 1876 أثر انتقال شيخه محمد الشاذلي بن صالح من هذه الخطة إلى خطة الافتاء، وكان من أعضاء اللجنة التي تشكلت في وزارة خير الدين لوضع قانون تنظيمي للتعليم الزيتوني تحت رئاسته، وأعضاء هذه اللجنة هم كما يلي: رئيسها الوزير خير الدين، وكيل الرئيس الباش كاتب (وزير القلم) الشيخ محمد العزيز بوعتور، والأعضاء هم:
صاحب الترجمة، والشيخ أحمد بن الخوجة، والشيخ الطاهر النيفر، والشيخ محمد بيرم الخامس، والشيخ أحمد الورتاني، والشيخ مصطفى رضوان، والسيد العربي زروق.
وكان كل واحد من أعضاء هذه اللجنة يضع ما يبدو له، ثم يجتمعون وينقحون ذلك ويدونونه فصولا حتى انتهى ذلك القانون سنة 1292/ 1878، وبعد انتهائه عرض عليهم الوزير خير الدين قانونا حرره بنفسه لنظارة الجامع وإقامة نائبين عن الدولة، وسمي صاحب الترجمة نائبا أول عن مستشار المعارف الجنرال حسين، فوقف المترجم على تنفيذ القانون أحسن قيام، وأصبحت إدارة الجامع العلمية بيد صاحب الترجمة فكان مثال العدالة والاستقامة.
لما أراد المقيم العام الفرنسي بول كامبون إجراء تنظيمات جديدة تمس التقاضي بين التونسيين والأجانب في شأن الأراضي اهتم أولا بقضايا
التسجيل وما يطرأ من خلافات بين التونسيين والأجانب واقترح وضع القانون العقاري فكان المترجم من العمد في تدوينه وصدر به الأمر عام 1303/ 1885، وبمقتضى هذا القانون تأسس المجلس المختلط العقاري، وانتخب المترجم لرئاسة القسم التونسي فيه.
واختير ضمن من سيضعون لائحة مجلة العقود والالتزامات فكانت تقاريره محل إعجاب أساتذة الحقوق في الجامعات الأوربية الذين حلوا بتونس لهذا الغرض.
وولي في عام 1303/ 1890 خطة الافتاء للمالكية مع احتفاظه بوظائفه الأخرى فأظهر فيها ضلاعة فقهية مع براعة فائقة في تطبيق الفروع على الأصول.
ومن حبه للخير وإيثار العمل الصالح أنه تنازل في سنة 1324/ 1906 عن مرتب التدريس للمتطوعين بالتدريس بجامع الزيتونة، وأوصى لهم بقطع من المزارع يصرف لهم ريعها بعد وفاته.
وفي سنة 1325/ 1907 استقال من جميع وظائفه عدا التدريس بجامع الزيتونة لتقدمه في السن وضعفه عن القيام بأعباء وظائفه وبقي في التدريس يدرس تفسير البيضاوي، وقبلت الدولة استقالته من منصب الفتوى والنيابة بجامع الزيتونة، وسمته مفتيا شرفيا ونائبا شرفيا، وعينت له في السنة أربعة آلاف وسبعمائة وأربعين فرنكا مرتبا دائما.
وفيما يخص أخلاقه قال عنه تلميذه محمد الخضر حسين: «كان ذا جبين طلق وصدر رحب يقابل الأذى بالحلم، وربما ابتسم للكلمة يرمى بها وهو شاعر بما تنطوي عليه من سوء، ولا تأخذه رفعة منصبه من الانبساط للفقراء والأميين والنزول إلى محادثتهم بقدر ما يفهمون، وله عطف على سائر المتعلمين، واعتناء بالغ بالأذكياء منهم، كما اشتهر بالمحافظة على إجلال الأساتذة، ورعاية حقوقهم في حال الغيبة واللقاء.