الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
319 - ابن أبي الصلت (460 - 529 هـ)(1067 - 1135 م)
أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت الأندلسي، أبو الصلت، الفيلسوف والعالم الرياضي، الموسيقى، الشاعر، نزيل المهدية، الداني الإشبيلي.
ولد بدانية من الجزائر الشرقية بالأندلس المعروفة الآن بجزائر البالبار وتتلمذ على قاضي دانية أبي الوليد الوقّشي، وورث عنه ثقافته الموسوعية، كما أخذ عن غيره، وتلقى العلم أيضا بإشبيلية بلد النحاة والفنانين، واستقر بها مدة، ولذلك يقال له الداني الإشبيلي، وبعد أن تضلع من الأدب والفلسفة وعلوم الأوائل رحل إلى مصر، وتجشم المشاق، وقطع المفاوز والقفار طمعا في الظفر بعيش كريم في مصر واكتساب جاه وثروة إلا أن آماله خابت ولقي عكس ما يرجوه، وبارح الأندلس خلال عام 1069/ 489 ولنستمع إليه يحدثنا عن رحلته البرية إلى مصر فقد قال في صدر رسالته المصرية:«فجعلت استقري البلاد لأتيمم أوفقها للمقام، وأعونها على مقارعة الأيام، فكانت مصر مما وقع عليه اختياري وصدّقت حسن ظني قبل اختياري، وسرت قاصدا إليها اعتسف المجاهل والنتائف، وأخوض المهالك والمتالف، فلما تحرت ركابي من النيل، واستذرت ظل المقطّم، ألقيت عصا التسيار، واستقرت بي النوى، وخفّت ظهورهن من الرجال، وأرحتهن من الحل والترحال، وقلت: ضالتي المنشودة وبغيتي المقصودة، ههنا ألبث وأقيم، فلا أبرح ولا أريم «بلدة طيبة ورب غفور» ولم تطل مدة اللبث حتى تبينت بما شاهدته أني فيها مبخوس البضاعة موكوس الصناعة، مخصوص بالإهانة والاضاعة، وأن عيشها الرغد مقصور على الوغد، وغابها
المرّ موقوف على الحر، فلو تقدمت فعلت ذلك لخف عنها مركبي وصرفت إلى سواها رحلة طلبي، ولكان في الأرض مرمى شاسع ومنتاب واسع، بل شبلت حتى تورطت حتى عوجلت بما يعامل به ذوو الجرائر والذنوب، وجرعتني المذلة بأرض ذنوب، هذا مع ما حبرت من المدح التي اشتهرت شهرة الصباح، وهبّت هبوب الرياح، ولهج بها الحادي والملاّح.
فسار بها من لا يسير مستعرا
…
وغنّى بها من لا يغنّي مفردا».
متى قدم إلى مصر؟ وهل أقام بالمهدية مدة في بلاط الملوك الصنهاجيين قبل ارتحاله إلى مصر؟ وما هو سبب سجنه بمصر؟ ومتى حل بالمهدية بعد خروجه من مصر؟
هذه الاسئلة لا تتفق المصادر التي ترجمت له في الاجابة عنها، وتبادر بالقول بأنه لم يقم بالمهدية فترة من الزمان تحت رعاية ملوكها الصنهاجيين، بل كان مقصده من رحلته البرية الحلول بمصر على ما يستفاد من مطالعة «رسالته المصرية» التي نقلنا منها الفقرات السابقة، وهي نصوص صريحة يبطل معها كل اجتهاد شخصي أو محاولة ترجيح أو توفيق بين الروايات المتضاربة المدونة في المصادر التي تكفلت بترجمته.
أما عن تاريخ حلوله بمصر فقد نص المؤرخ الثقة ابن خلكان أنه قدم الاسكندرية مع أمه يوم عيد الأضحى من سنة تسع وثمانين وأربعمائة 489 (1096) في أيام الخليفة المستنصر الفاطمي ووزيره الأفضل شاهن شاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالي الأرمني، وذكر ياقوت الحموي في «معجم الأدباء» أنه «كان قدومه إلى مصر في أيام المسمى بالآمر من ملوك مصر واتصل بوزيره ومدير دولته الأفضل شاهن شاه ابن أمير الجيوش بدر» .
وحسب هذا القول كان حلوله بمصر على عهد الآمر بأحكام الله منصور ابن المستعلي بالله أحمد ابن المستنصر الفاطمي، ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه ورد مصر في أيام المستنصر، وأنه لبث في زوايا الخمول والإغفال إلى أن اتصل بالوزير الأفضل شاهنشاه فذاع صيته ولقي الاكرام
والمبرة مدة. وذكر ابن أبي أصيبعة في «عيون الأنباء» أن أبا الصلت أتى من الأندلس إلى ديار مصر وأقام بالقاهرة مدة ثم عاد بعد ذلك إلى الأندلس، وكان دخوله إلى مصر في حدود سنة عشر وخمسمائة ولما كان بالاسكندرية حبس بها. فإن صحت هذه الرواية يكون قد رجع إلى وطنه بعد خروجه من مصر، ثم استقر مدة في المهدية في خدمة أبي الطاهر يحيى بن تميم بن المعز بن باديس، ورحل إلى مصر مرة أخرى بعد وفاة ولي نعمته سنة تسع وخمسمائة وروى المقري في «نفح الطيب» ما نصه:«يقال إن عمره ستون سنة، عشرون في بلده إشبيلية وعشرون في مصر محبوسا في خزانة الكتب وكان وجهه صاحب المهدية إلى ملك مصر فسجن بها طول تلك المدة في خزانة الكتب فخرج في فنون العلم إماما» كلام المقري لا يثبت أمام التمحيص لانفراده بأشياء لم يذكرها غيره. والبعض منها لا يتفق مع كلام أبي الصلت نفسه.
يفهم من كلام المقري أنه بارح بلده إشبيلية في حدود العشرين من عمره أي أنه بارحها في حدود سنة ثمانين وأربعمائة بينما سبق لنا النقل عن ابن خلكان أنه قدم الاسكندرية مع أمه في سنة تسع وثمانين وأربعمائة وله من العمر تسع وعشرون سنة، وما ذكره المقري من أن صاحب المهدية وجهه رسولا إلى مصر فإن أبا الصلت نفسه أثبت صدر رسالته المصرية أنه رحل إلى مصر بمحض رغبته وكمال اختياره.
وتختلف الروايات في مكان سجنه فذكر ياقوت الحموي أن الأفضل حبسه بسجن المعونة بالقاهرة، وكان يحبس في هذا السجن أرباب الجرائم، أما الأمراء والأعيان فيسجنون بخزانة البنود على ما ذكره المقريزي في «الخطط» وقد لمح أبو الصلت في صدر رسالته المصرية إلى أنه عومل بما يعامل به ذوو الجرائم والذنوب، ولذلك نستبعد كلام المقري في كونه لبث في السجن عشرين سنة في خزانة الكتب بالقاهرة، وقد نص ابن أبي أصيبعة أنه سجن بالاسكندرية إذ قال:«نفاه الأفضل شاهنشاه من مصر سنة خمس وخمسمائة وتردد إلى الاسكندرية» .
ولبث أبو الصلت بسجن المعونة مدة ثلاث سنوات وشهر واحد على ما ذكره ياقوت الحموي حسبما أخبر به الثقة عن أبي الصلت نفسه.
أما سبب سجن أبي الصلت فإن ياقوتا الحموي يعلله بحسد ودسائس كاتب الوزير الأفضل ضده بعد زوال حظوة تاج المعالي مختار ونكبته واعتقاله، وكان هذا الرجل هو السبب في ايصاله إلى الأفضل، وذكر ابن أبي أصيبعة سبب سجنه بالإسكندرية فقال: «وحدثني الشيخ سديد الدين المنطقي بالقاهرة سنة اثنتين وثلاثين وستمائة أن أبا الصلت أمية بن عبد العزيز كان سبب حبسه بالاسكندرية أن مركبا وصل إليها وهو موقر بالنحاس فغرق قريبا منها، ولم يكن لهم حيلة في تخليصه لطول المسافة في عمق البحر فذكر أبو الصلت في أمره وأجال النظر في هذا المعنى حتى تلخص له فيه رأي واجه به الأفضل أمير الجيوش ملك الاسكندرية وأجمله أنه قام أن تهيأت له جميع ما يحتاج إليه من الآلات أن يرفع المركب من عمق البحر ويجعله على وجه الماء مع ما فيه من الثقل فتعجب من قوله وخرج به وسأله أن يفعل ذلك، ثم أتاه على جميع ما يطلبه من الآلات وغرم عليه جملة من المال، ولما تهيأت وضعها في مركب عظيم على موازاة المركب الذي غرق، وأرسى إليه حبالا مروحة من الإبريسم، وأمر قوما لهم خبرة في البحر أن يغوصوا ويوثقوا ربط الحبال في المركب الغارق.
وكان قد صنع آلات بها أشكال هندسية لرفع الأثقال في المركب الذين هم فيه، وأمر الجماعة ما يفعلونه في تلك الآلات، ولم يزل شأنهم ذلك والحبال الابريسم ترفع إليهم أولا فأول وتنطوي على دواليب بين أيديهم حتى بان لهم المركب الذي قد غرق وارتفع إلى قرب من سطح الماء ثم بعد ذلك انقطعت الحبال الابريسم، وهبط المركب راجعا إلى قاع البحر.
ولقد تلطف أبو الصلت جدا فيما فعله في التخيل إلى رفع المركب على أن القدر لم يساعده وحنق عليه الملك لما غرمه من الآلات وكونها أموالا
جمة، وأمر بحبسه وإن لم يستوجب ذلك، وبقي في الاعتقال إلى أن شفع فيه بعض الأعيان وأطلق، وكان ذلك في خلافة الآمر بأحكام الله ووزارة الأفضل ابن أمير الجيوش».
وعلق الأستاذ قدري حافظ طوقان على هذه الحكاية في كتابه «تراث العربي العلمي في الرياضيات والفلك» بقوله: «ومن هذا يتبين جليا أن العرب فكروا في إمكان رفع المراكب الموجودة في قعر البحر، وهذا ولا شك يعطي فكرة عن بعض التقدم الذي وصلت إليه العلوم الطبيعية والهندسية عند العرب في القرون الوسطى إذ في صنع الآلات بأشكال هندسية، واستعمالها في رفع الأثقال دليل على تقمصهم بحث الميكانيكا والهندسة وبراعتهم في الجمع بينهما جمعا عمليا» .
وبعد خروجه من السجن استقر بالمهدية في سنة ست وخمسمائة، وخدم الأمراء الصنهاجيين أبا الطاهر يحيى بن تميم بن المعز بن باديس وابنه علي وابنه الحسن آخر أمرائهم إلى أن أدركته منيته في يوم الاثنين غرة محرم سنة 529/ 1135 ودفن تحت الرباط الكبير بالمنستير.
والمترجم شخصية خصبة المواهب متعددة الجوانب، خصبة الانتاج، فهو شاعر ناثر ومؤرخ آداب، وطبيب وعالم رياضي، وفلكي وموسيقي، قال ابن أبي اصيبعة:«وقد بلغ في صناعة الطب مبلغا لم يصل إليه غيره من الأطباء، وحصل من معرفة الأدب ما لم يدركه كثير من سائر الأدباء، وكان أوحد في العلم الرياضي متقنا لعلم الموسيقى وعمله جيد اللعب بالعود» .
قال المقري في «نفح الطيب» إنه: «هو الذي لحن الأغاني الافريقية» .
قال ابن سعيد: «وإليه تنسب إلى الآن» أي القرن السابع الهجري في عهد الدولة الحفصية.