الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته (1) ونهى: عن تجصيص القبور، وعن الكتابة عليها.
فنحن: ننكر الغلو في أهل القبور، والإطراء، والتعظيم؛ ونهدم البنايات، التي على قبور الأموات؛ لما فيها من الغلو، والتعظيم الذي هو أعظم وسائل الشرك بالله، وهذه الأمور التي أوجبت عبادتها من دون الله: ابتدعها أناس، أرادوا بها التعظيم، وإظهار تشريفهم، فجاء من بعدهم، فعبدوهم من دون الله، وقصدوا منهم كشف المُلِمات، وسألوهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات؛ واعتقدوا هذا الشرك الوخيم، قربة ودينًا يدينون به، واشتد نكيرهم على من أنكر ذلك، وحذروا عنه، ورموه بالزور والبهتان؛ والله ناصر دينه في كل زمان، ومكان لكنه يمتحن حزبه، بحربه منذ كانت الفئتان» (2) .
[الشفاعة والتوسُل والتبرك ودعوى منعها]
دعوى منعهم الشفاعة والتوسل والتبرك مطلقا: التوسل والتبرك والشفاعة من الأمور الكبيرة التي أثارها الخصوم من أهل البدع والأهواء والافتراق على أهل السنة والجماعة منذ زمن بعيد؛ ثم لما ظهر الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، ودعا إلى السنة وأنكر البدع، وكان أشهرها وأظهرها إنكار التوسلات البدعية والتبرك البدعي والغلو في باب الشفاعة.
وهذه الأمور أغلب مسائلها تتفرع عن القضية الكبرى التي سبق الحديث عنها وهي قضية: التوحيد وما ينقضه وما ينافيه.
وقد أشاع خصوم السنة -من أهل البدع - حول هذه المسائل شبهات كثيرة وافتروا على أهل السنة عمومًا، وعلى الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه على الخصوص مفتريات ومزاعم كبيرة.
فزعموا أنهم يمنعون التوسل والتبرك والشفاعة مطلقًا.
وأنهم بناء على ذلك ينتقصون الرسول صلى الله عليه وسلم وربما قالوا: يبغضونه؛ وأنهم بناء على ذلك يبغضون الأنبياء والصالحين ويكرهون الأولياء! .
(1) أخرجه أحمد في المسند برقم (71) ، ومسلم برقم (969) وغيرهما، كما صح عنه أنه نهى عن البناء على القبور.
(2)
الدرر السنية (1 - 571) .
والحق: أن أهل السنة ومنهم الإمام محمد وأتباعه - يثبتون كلَّ ما جاء في الأدلة من القرآن وصحيح السنة من ذلك وينفون ما عداه؛ لأن هذا من الأمور التوقيفية التي لا يمكن للناس أن يشرعوا فيها شيئاً. ومن شرع إثباتًا أو نفيًا فقد ابتدع، وأحدث في الدين ما ليس منه، وعمله مردود بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (2) وهذه نصوص قطعية محكمة.
يعتقد أهل السنَّة والجماعة (ومنهم أتباع هذه الدعوة المباركة) أن الشفاعة نوعان: مثبتة وهي ما جاءت بها النصوص وتوافرت بها الشروط التي ذكر الله تعالى في كتابه كالشفاعة العظمى والمقام المحمود للنبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته لأهل الكبائر من أمته، وشفاعته لعمه أبي طالب أن يخفف عنه من عذاب النار، ونحو ذلك مما ثبت بدليل وما لم يثبت بدليل، فهو الشفاعة المنفية وهو النوع الثاني.
وقد أفاض الإمام محمد بن عبد الوهاب في هذه المسألة وكذلك علماء الدعوة وسائر أهل السنة وبينوها بأدلتها غاية البيان بالأدلة وكشفوا شبهات أهل البدع بما فيه الكفاية لمن كان قصده الحق.
يقول الإمام منكرًا التوسلات والشفاعات الشركية والبدعية في رسالته لابن صباح: بسم الله الرحمن الرحيم الذي يعلم من وقف عليه من الإخوان، المتبعين محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن صباح: سألني عما ينسب إليّ؟ فطلب مني: أن أكتب الجواب؛ فكتبته:
الحمد لله رب العالمين؛ أما بعد:
فما ذكره المشركون: على أني أنهى عن الصلاة على النبي، أو أني أقول: لو أن لي أمرًا، هدمت قبة النبي صلى الله عليه وسلم أو أني أتكلم في الصالحين، أو أنهي عن محبتهم، فكل هذا كذب وبهتان، افتراه عليَّ الشياطين، الذين يريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل، مثل أولاد شمسان، وأولاد إدريس، الذين يأمرون الناس ينذرون
(1) رواه البخاري (2697) ، ومسلم (4492) من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
(2)
رواه مسلم (4493) ، وأبو داود (4606) واللفظ لمسلم.
لهم، وينخونهم، ويندبونهم، وكذلك فقراء الشيطان، الذين ينتسبون إلى الشيخ عبد القادر رحمه الله وهو منهم بريء، كبراءة علي بن أبي طالب من الرافضة.
فلما رأوني: آمر الناس بما أمرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم أن لا يعبدوا إلا الله، وأن من دعا عبد القادر، فهو كافر؛ وعبد القادر منه بريء، وكذلك من نخا الصالحين، أو الأنبياء أو ندبهم أو سجد لهم أو نذر لهم، أو قصدهم بشيء من أنواع العبادة، التي هي حق الله على العبيد، وكل إنسان، يعرف أمر الله ورسوله: لا ينكر هذا الأمر، بل يُقِرُّ به، ويعرفه.
وأما الذي ينكره، فهو بين أمرين، إن قال: إن دعوة الصالحين واستغاثتهم والنذر لهم وصيرورة الإنسان فقيرًا لهم، أمر حسن؛ ولو ذكر الله ورسوله: إنه كفر؛ فهو مُصِرّ بتكذيب الله ورسوله، ولا خفاء في كفره فليس لنا معه كلام.
وإنما كلامنا: مع رجل يؤمن بالله واليوم الآخر، ويحب ما أحب الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله، لكنه جاهل، قد لبست عليه الشياطين دينه؛ ويظن: أن الاعتقاد في الصالحين حق؛ ولو يدري أنه كفر، يُدْخل صاحبه في النار ما فعله؛ ونحن: نبين لهذا ما يوضح له الأمر، فنقول: الذي يجب على المسلم أن يتبع أمر الله ورسوله، ويسأل عنه والله سبحانه: أنزل القرآن وذكر فيه ما يحبه، ويبغضه، وبيّن لنا فيه ديننا، وأكمل؛ وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، فليس على وجه الأرض أحد أحب إلى أصحابه منه؛ وهم يحبونه على أنفسهم، وأولادهم، ويعرفون قدره، ويعرفون أيضًا: الشرك والإيمان.
فإن كان أحد من المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعاه، أو نذر له أو ندبه (1) أو أحد من أصحابه جاء عند قبره بعد موته يسأله، أو يندبه، أو يدخل عليه للالتجاء له عند القبر، فاعرف: أن هذا أمر صحيح حسن، ولا تطعني، ولا غيري.
وإن كان إذا سألت وجدت أنه: صلى الله عليه وسلم تبرأ ممن اعتقد (2) في الأنبياء، والصالحين وقتلهم وسباهم وأولادهم، وأخذ أموالهم وحكم بكفرهم، فاعرف: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالحق؛ والواجب على كل مؤمن اتباعه فيما جاء به.
(1) أي: استغاث به.
(2)
الإمام كثيرًا ما يسمى تقديس الصالحين، وعبادتهم من دون الله عز وجل (اعتقاد فيهم) .
وبالجملة فالذي أنكره: الاعتقاد في غير الله، مما لا يجوز لغيره؛ فإن كنت قلته من عندي، فارم به؛ أو من كتاب لقيته، ليس عليه عمل، فارم به كذلك؛ أو نقلته عن أهل مذهبي، فارم به، وإن كنت قلته عن أمر الله ورسوله، وعما أجمع عليه العلماء في كل مذهب، فلا ينبغي لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرض عنه؛ لأجل أهل زمانه، أو أهل بلده، وأنّ أكثر الناس في زمانه أعرضوا عنه.
واعلم أن الأدلة على هذا، من كلام الله وكلام رسوله كثيرة، لكن: أنا أمثل لك بدليل واحد، ينبهك على غيره، قال الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56 - 57][سورة الإسراء، آية: 56، 57] ذكر المفسرون في تفسيرها: أن جماعة كانوا يعتقدون في عيسى عليه السلام وعزير؛ فقال تعالى: هؤلاء عبيدي، كما أنتم عبيدي، ويرجون رحمتي، كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي، كما تخافون عذابي.
فيا عباد الله: تَفَكَّرُوا في كلام ربّكم، تبارك وتعالى، إذا كان ذكر عن الكفار، الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن دينهم الذي كفرهم به، هو الاعتقاد في الصالحين؛ وإلا فالكفار يخافون الله، ويرجونه، ويحجون، ويتصدقون، ولكنهم كفروا بالاعتقاد في الصالحين؛ وهم يقولون: إنما اعتقدنا فيهم، ليقربونا إلى الله زلفى، يشفعوا لنا، كما قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3][سورة الزمر، آية: 3]، وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا} [يونس: 18][سورة يونس، آية: 18] .
فيا عباد الله: إذا كان الله ذكر في كتابه، أن دين الكفار، هو الاعتقاد في الصالحين؛ وذكر أنهم اعتقدوا فيهم ودعوهم وندبوهم؛ لأجل أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، هل بعد هذا البيان، بيان؟ فإذا كان من اعتقد في عيسى ابن مريم، مع أنه نبي من الأنبياء، وندبه ونخاه (1) فقد كفر؛ فكيف بمن يعتقدون في الشياطين، كالكلب: أبي حديدة،
(1) نخاه، أي: استغاث به واستنجد.
وعثمان، الذي في الوادي، والكلاب الأخر في الخرج، وغيرهم في سائر البلدان، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله؟!» .
ثم قال موجهًا النصيحة لكل مسلم مستمسك بالحق:
ثم ذكر الذين يدعون علي بن أبي طالب، وهو بريء منهم.
وقال: «ومن أعجب ما جرى من الرؤساء المخالفين أني لما بيّنت لهم كلام الله، وما ذكر أهل التفسير في قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57][سورة الإسراء، آية: 57] وقوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا} [يونس: 18][سورة يونس، آية: 18] وقوله {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3][سورة الزمر، آية: 3] وما ذكر الله من إقرار الكفار في قوله {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [يونس: 31][سورة يونس، آية: 31] وغير ذلك.
قالوا: القرآن لا يجوز العمل به لنا، ولأمثالنا، ولا بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولا بكلام المتقدمين، ولا نطيع إلا ما ذكره المتأخرون.
قلت لهم: أنا أخاصم الحنفي، بكلام المتأخرين من الحنفية والمالكي، والشافعي،
(1) أي لا يتفرد أحدكم باجتهاد من نفسه والله أعلم.
(2)
الدرر السنية (1 - 78) .
والحنبلي، كل أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم، الذين يعتمدون عليهم، فلما أبوا ذلك، نقلت كلام العلماء من كل مذهب لأهله، وذكرت كل ما قالوا، بعدما صرحت الدعوة عند القبور، والنذر لها، فعرفوا ذلك، وتحققوه، فلم يزدهم إلاّ نفورًا» (1) .
وقد فصَّل الشيخ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب هذه المسألة فقال مجيباً:
«عمن كان يستغيث بالمخلوق عند الشدائد بالنداء والدعاء ويستغيث ويتوسل ويتوجه بنبيه أو بالصالحين فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في أدعية الصباح «أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض وبكل حق هو لك وبحق السائلين عليك أن تقيلني في هذه الغداة» (2) مع الحديث الآخر: «أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له ادع الله أن يعافيني قال: «إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك» قال: ادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضي لي اللهم فشفعه في» (3) . فهذان الحديثان مصرحان بالتوسل والتوجه والدعاء والتشفع والنداء، وما حكم من فعل ذلك وهو غير قاصد للشرك ولا معاند للإسلام؟ فالفرق ظاهر بينه وبين من قصد الشرك والعناد بعد معرفة التوحيد» .
قال: فنقول: «الجواب: وبالله التوفيق أما سؤال الميت والغائب نبيًّا كان أو غيره تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، والاستغاثة به في الأمور المهمات فهو من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين لم يأمر الله به ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين، وهذا مما يُعلم بالاضطرار من دين الإسلام، فإنه لم يكن أحد منهم إذا نزلت به تِرَة أو عرضت له حاجة أو نزلت به كربة وشدة يقول لميت يا
(1) الدرر السنية (1، 73) .
(2)
رواه الطبراني قال الهيثمي في المجمع (10) وفيه فضَّال بن جبير وهو ضعيف مجمع على ضعفه.
(3)
رواه الترمذي (3578) ، وابن ماجه (13785)، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو الخطمي، وحسنه الألباني في التوسل.
سيدي فلان حسبك أو اقض حاجتي أو أنا مستشفع بك إلى ربي؛ كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين. ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم ولا إذا بعدوا عنها ولا كانوا يقصدون قبورهم للدعاء والصلاة عندها. ولهذا ثبت في الصحيح «أن الناس لما قحطوا في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس وتوسل بدعائه، وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك إذا أجدبنا بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. فيسقون» (1) وكذلك معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام توسل بيزيد بن الأسود الجرشي (2) . فهذا الذي ذكره عمر رضي الله عنه توسُّل منهم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته؛ ولهذا توسل بعده بدعاء العباس، وتوسل معاوية بدعاء يزيد بن الأسود. وهذا الذي ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء، وقالوا: يُستحب أن يستسقى بالصالحين وإذا كانوا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أفضل.
وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع: أبعدها عن الشرع من يسأل الميت حاجته كما يفعله كثير من الناس وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام، وقد قال الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 56 - 57][سورة الإسراء، الآيات: 56، 57] الآية. قالت طائفة من السلف كان أقوام يدعون الملائكة والمسيح وعزيرًا فقال الله لهم هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، فكل من دعا نبيًا أو وليًا أو صالحًا وجعل فيه نوعًا من الإلهية فقد تناولته هذه الآية؛ فإنها عامة في كل من دعا من دون الله مدعوا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة ويرجو رحمته
(1) رواه البخاري (2) ، كتاب الاستسقاء، باب: سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، وفي الفضائل (7) ، وابن سعد (4 -29) ، والبيهقي (3) .
(2)
أخرجه أبو زرعة الدمشقي في تاريخ دمشق (1) ، وسنده صحيح، كما قال الحافظ في التلخيص (151) ، وقال «ورواه أبو القاسم اللالكائي في السنة في "كرامات الأولياء" منه» ، وكذلك صححه في الإصابة (10) .
راجع: إرواء الغليل (3 - 140) .
ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتًا أو غائبًا من الأنبياء أو الصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرهما فقد فعل الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه.
ومعلوم أن هؤلاء كلهم يجعلونهم وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهى عن دعائهم وبيَّن أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله لا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع كتغيير صفته أو قدره.
ولهذا قال: (ولا تحويلا) فذكر نكرة تعم أنواع التحويل فكل من دعا ميتًا أو غائبًا من الأنبياء والصالحين أو دعا الملائكة أو الجن فقد دعا من لا يُغيث ولا يملك كشف ضره ولا تحويله، وقد قال تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6][سورة الجن، آية: 6] وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أن لا يجوز الاستغاثة بمخلوق. وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك، فدل على أن كلمات الله غير مخلوقة، وأنها صفة من صفاته؛ لأن الاستغاثة بالمخلوق لا تجوز.
والمقصود أن يعلم السائل وفقه الله تعالى أن الاستغاثة بالمخلوق في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله من كشف الكربات وإغاثة اللهفات وإجابة الدعوات من الشرك الذي لا يغفره الله وهو من الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171][سورة النساء، آية: 171]، وقال:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77][سورة المائدة، آية 77] .
والغلو في الصالحين هو من فعل المشركين كما حكاه – سبحانه وتعالى عن قوم نوح في قوله: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ} [نوح: 23][سورة نوح، آية: 23] الآية. قال ابن عباس رضي الله عنه «هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كان يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تُعْبَد حتى إذا هلك أولئك ونُسِيَ العلم عُبِدَتْ» (1) .
(1) رواه البخاري (4920) .
فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعًا من العبادة، مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل» .
إلى أن قال: «ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يُشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها؛ وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان تعظيم القبور. ولهذا اتفق العلماء على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره لا يتمسح بحجرته ولا يُقَبِّلها؛ لأن ذلك إنما يكون لأركان بيت الله فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق، كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملاً إلا به ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، قال الله تعالى:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48][سورة النساء، آية: 48] .
وقال: «والتوسل إلى الله في الدعاء بغير نبينا صلى الله عليه وسلم لا نعلم أحدًا من السلف فعله ولا روي فيه أثر، وقد قال أبوالحسين القدوري الحنفي في شرح الكرخي: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك أو بحق خلقك. وهو قول أبي يوسف قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشك هو الله فلا أكره هذا (1) وأكره بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت والمشعر الحرام بهذا الحق يكره قالوا جميعًا. انتهى.
وكذلك قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام الفقيه الشافعي في فتاويه المشهورة عنه: أنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى بخلقه إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم إن صح الحديث فيه يعني حديث
(1) وقد صحَّ الحديث في ذلك وتقدم تخريجه.