الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نعم لقد حارب الإمام ومعه كل أهل السنة بحزم وقوة كل الشركيات والبدع والمحدثات من البناء على القبور والمشاهد، وما يصاحب ذلك من الشركيات والتبرك البدعي وصرف أنواع العبادة لغير الله وسائر البدع الصوفية والقبورية، والدجل والشعوذة والسحر بمختلف أشكالها، وكل ذلك كان امتثالاً لأمر الله تعالى ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم.
وليس ذلك المنهج مذهبًا شخصيًّا ولا مسلكًا ينفردون به عن كوكبة الدعوة في تاريخ البشرية، بل هو امتداد لمنهج الأنبياء عمومًا ومنهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح على الخصوص، إنه منهج الدين الذي قال الله فيه:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19][سورة آل عمران، آية (19) ]، وقال {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] [سورة آل عمران، آية (85) .]، وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108][سورة يوسف، آية (108) ] .
فكان الإمام محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود وسائر علماء الدعوة وأتباعها على بصيرة من أمرهم سائرين على منهاج النبوة معتمدين على الله ومتوكلين عليه دليلهم القرآن والسنة، وقدوتهم الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والسلف الصالح وأحوالهم وأقوالهم وكتبهم وسيرهم شاهدة بذلك بحمد الله.
وقد دافع الإمام محمد بن عبد الوهاب وعلماء الدعوة وسائر أهل السنة والجماعة في كل مكان عن هذه القضية، وبيَّنوا الحق بدليله من القرآن والسنة وآثار السلف الصالح وأقوال العلماء المعتَبرين عند عامة المسلمين، فأقاموا الحجة وبيَّنوا المحجة.
[جهود الإمام في بيان هذه الحقيقة ورد الاتهامات]
جهود الإمام في بيان هذه الحقيقة ورد المفتريات: ولنترك المجال للإمام نفسه يبين لنا حقيقة الخلاف بينه وبين خصوم السنة في هذه القضية الكبرى، ويشرح ذلك للشريف غالب حاكم الحجاز ولعلماء الأمة هناك سنة (1204هـ) فيقول: «من محمد بن عبد الوهاب: إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام، نصر الله بهم دين سيد الأنام؛ عليه أفضل الصلاة والسلام، وتابعي الأئمة الأعلام.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وبعد: جرى علينا من الفتنة، ما بلغكم، وبلغ غيركم، وسببه: هدم بناء في أرضنا على قبور الصالحين (1) ؛ ومع هذا نهيناهم عن دعوة الصالحين، وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله، فلما أظهرنا هذه المسألة، مع ما ذكرنا من هدم البناء على القبور، كبر على العامة، وعاضدهم بعض من يدعي العلم؛ لأسباب ما تخفى على مثلكم، أعظمها اتباع الهوى، مع أسباب أخر.
فأشاعوا عنا: أنا نَسُبّ الصالحين، وأنَّا على غير جادة العلماء، ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب، وذكروا عنا أشياء يستحي العاقل من ذكرها، وأنا أخبركم بما نحن عليه، بسبب أن مثلكم ما يروج عليه الكذب؛ ليتبين لكم الأمر، وتعلموا الحقيقة.
فنحن - ولله الحمد - متبِعون لا مبتدِعون، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وتعلمون - أعزكم الله - أن المُطاع في كثير من البلدان، لو يتبين بالعمل بهاتين المسألتين، أنها تكبر عند العامة، الذين درجوا هم وآباؤهم على ضد ذلك، وأنتم تعلمون - أعزكم الله - أن في ولاية أحمد بن سعيد، وصل إليكم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله، وأشرفتم على ما عندنا، بعدما أحضروا كتب الحنابلة، التي عندنا عمدة، وكالتحفة، والنهاية عند الشافعية، فلما طلب منا الشريف غالب - أعزه الله ونصره - امتثلنا أمره، وأجبنا طلبه، وهو إرسال رجل من أهل العقل والعلم، ليبحث مع علماء بيت الله الحرام» .
وقال مخاطبًا عامة علماء المسلمين: «محمد بن عبد الوهاب: إلى من يصل إليه من علماء الإسلام، آنس الله بهم غربة الدين، وأحيا بهم سنة إمام المرسلين، ورسول رب العالمين، سلام عليكم معشر الإخوان، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإنه قد جرى عندنا فتنة عظيمة، بسبب أشياء نهيت عنها بعض العوام،
(1) وذلك استجابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كما صح عن علي رضي الله عنه أن النبي (بعثه: «ألا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته» .
أخرجه أحمد في المسند برقم (71) ، ومسلم برقم (969) وغيرهما، كما صح عنه أنه نهى عن البناء على القبور.
من العادات التي نشؤوا عليها، وأخذها الصغير عن الكبير؛ مثل: عبادة غير الله، وتوابع ذلك، من تعظيم المشاهد، وبناء القباب على القبور، وعبادتها، واتخاذها مساجد، وغير ذلك، مما بينه الله ورسوله غاية البيان، وأقام الحجة، وقطع المعذرة؛ ولكن الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم:«بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريبًا كما بدأ» (1)(2) .
فلما عظم [على] العوام: قطع عادتهم؛ وساعدهم على إنكار دين الله: بعض من يدعي العلم، وهو من أبعد الناس عنه - إذ العالم من يخشى الله - فأرضى الناس بسخط الله؛ وفتح للعوام باب الشرك بالله، وزين لهم، وصدهم عن إخلاص الدين لله؛ وأوهمهم: أنه من تنقيص الأنبياء والصالحين؛ وهذا بعينه هو الذي جرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن عيسى عليه السلام: عبد، مربوب، ليس له من الأمر شيء؛ قالت النصارى: إنه سب المسيح وأمه؛ وهكذا قالت الرافضة: لمن عرف حقوق أصحاب رسول الله وأحبهم، ولم يَغْلُ فيهم، رموْه: ببغض أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا هؤلاء، لما ذكرت لهم، ما ذكره الله ورسوله، وما ذكره أهل العلم، من جميع الطوائف، من الأمر بإخلاص الدين لله، والنهي عن مشابهة أهل الكتاب من قبلنا، في اتخاذ الأحبار، والرهبان، أربابًا من دون الله؛ قالوا لنا: تنقصتم الأنبياء، والصالحين، والأولياء؛ والله تعالى ناصر لدينه، ولو كره المشركون.
[وقال مبينًا أن مستنده كلام العلماء من كل الطوائف] : وها أنا أذكر مستندي في ذلك، من كلام أهل العلم، من جميع الطوائف، فرحم الله من تدبرها بعين البصيرة، ثم نصر الله، ورسوله، وكتابه، ودينه، ولم تأخذه في ذلك لومة لائم.
[كلام الحنابلة] : فأما كلام الحنابلة، فقال الشيخ: تقي الدين، رحمه الله لما ذكر حديث الخوارج: فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه ممن قد انتسب إلى الإسلام، من مرق منه، مع
(1) رواه مسلم برقم (232) ، والترمذي (2629) ، وابن ماجه (3986، 3978، 3988) .
(2)
الدرر السنية (2) .
عبادته العظيمة، فيعلم: أن المنتسب إلى الإسلام، والسنة، قد يمرق أيضاً؛ وذلك بأمور، منها: الغلو، الذي ذمَّه الله تعالى؛ كالغلو في بعض المشائخ، كالشيخ عدي؛ بل الغلو في علي بن أبي طالب؛ بل الغلو في المسيح، ونحوه.
فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعًا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، بأن يقول: يا سيدي فلان: أغثني؛ أو أجرني؛ أو أنت حسبي؛ أو أنا في حسبك؛ فكل هذا شرك، وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل؛ فإن الله أرسل الرسل ليُعْبَد وحده، لا يُجعل معه إله آخر، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، مثل الملائكة، أو المسيح، أو العزير، أو الصالحين، أو غيرهم، لم يكونوا يعتقدون: أنها تخلق وترزق؛ وإنما كانوا يدعونهم، يقولون:«هؤلاء شفعاؤنا عند الله» فبعث الله الرسل: تنهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة، انتهى.
وقال في: الإقناع، في أول باب حكم المرتد: إن من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم، فهو: كافر إجماعاً.
[كلام الحنفية] : وأما كلام الحنفية، فقال الشيخ: قاسم، في شرح: درر البحار؛ النذر: الذي يقع من أكثر العوام، بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء، قائلاً: يا سيدي، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي: فلك من الذهب، أو الطعام، أو الشمع، كذا، وكذا، باطل إجماعاً، لوجوه؛ منها: أن النذر للمخلوق، لا يجوز؛ ومنها: أنه ظن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا: كفر؛ إلى أن قال: وقد ابتلي الناس بذلك، ولا سيما في مولد الشيخ أحمد البدوي.
وقال الإمام: البزازي، في فتاويه: إذا رأى رقص صوفية، زماننا هذا، في المساجد مختلطًا بهم جهّال العوام، الذين لا يعرفون القرآن، والحلال والحرام؛ بل لا يعرفون الإسلام، والإيمان، لهم نهيق، يشبه نهيق الحمير، يقول: هؤلاء لا محالة اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا، فويل للقضاة، والحكام، حيث لا يغيرون هذا، مع قدرتهم.
[كلام الشافعية] : وأما: كلام الشافعية، فقال الإمام مُحدِّث الشام: أبو شامة، في كتاب: الباعث على إنكار البدع والحوادث - وهو في زمن الشارح، وابن حمدان - لكن نبين من هذا: ما وقع فيه جماعة من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، وهو ما يفعله الطوائف، من
المنتسبين إلى الفقر، الذي حقيقته الافتقار من الإيمان، من مواخات النساء الأجانب، واعتقادهم في مشائخ لهم.
وأطال رحمه الله الكلام، إلى أن قال: وبهذه الطرق، وأمثالها: كان مبادئ ظهور الكفر، من عبادة الأصنام، وغيرها؛ ومن هذا: ما قد عم الابتلاء به، من تزيين الشيطان للعامة، تخليق الحيطان، والعمد، وسرج مواضع مخصوصة، في كل بلد، يحكي لهم حاكٍ أنه رأى في منامه بها: أحدًا ممن شهر بالصلاح ثم يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم، بالنذر لها، وهي ما بين عيون، شجر، وحائط؛ وفي مدينة: دمشق، صانها الله من ذلك، مواضع متعددة.
ثم ذكر رحمه الله الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قاله له بعض من معه: «اجعل لنا ذات أنواط قال: «الله أكبر، قلتم والذي نفس محمد بيده، كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة» (1) انتهى كلامه رحمه الله.
وقال في: اقتضاء الصراط المستقيم: إذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم في مجرد قصد شجرة، لتعليق الأسلحة، والعكوف عندها، فكيف بما هو أعظم منها: الشرك بعينه، بالقبور ونحوها.
[كلام المالكية] : وأما: كلام المالكية، فقال أبو بكر الطرطوشي، في كتاب: الحوادث والبدع، لما ذكر حديث الشجرة، ذات أنواط؛ فانظروا رحمكم الله: أينما وجدتم، سدرة، أو شجرة، يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء، والشفاء لمرضاهم، من قِبَلِها؛ فهي: ذات أنواط، فاقطعوها؛ وذكر حديث العرباض بن سارية الصحيح، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:«فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» (2) .
قال في البخاري، عن أبي الدرداء أنه قال: والله ما أعرف من أمر محمد شيئًا، إلا
(1) جزء من حديث أبي واقد الليثي رواه الترمذي (2181) وصححه.
(2)
جزء من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه رواه أبو داود (7) ، والترمذي (2 - 113) وغيرهما، وصححه غير واحد منهم الترمذي، والبزار، والحاكم.
راجع: إرواء الغليل (8) ، وصحيح الجامع (3312) .
أنهم يصلون جميعًا. وروى مالك: في الموطأ، عن بعض الصحابة، أنه قال: ما أعرف شيئًا مما أدركت عليه الناس، إلا النداء بالصلاة. قال الزهري: دخلت على أنس، بدمشق، وهو يبكي. . . فقال: ما أعرف شيئًا مما أدركت، إلا هذه الصلاة؛ وهذه الصلاة، قد: ضُيِّعت. قال الطرطوشي رحمه الله فانظروا رحمكم الله: إذا كان في ذلك الزمن، طمس الحق، وظهر الباطل، حتى ما يعرف من الأمر القديم إلا القبلة؛ فما ظنك بزمانك هذا؟! والله المستعان.
وليعلم الواقف: على هذا الكلام من أهل العلم - أعزهم الله - أن الكلام في مسألتين؛ الأولى: أن الله سبحانه بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم لإخلاصه الدين لله، لا يُجعل معه أحد، في العبادة، والتأله، لا ملك، ولا نبي، ولا قبر، ولا حجر، ولا شجر، ولا غير ذلك؛ وأن من عظّم الصالحين بالشرك بالله، فهو: يشبه النصارى؛ وعيسى عليه السلام: بريء منهم.
والثانية: وجوب اتباع سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك البدع، وإن اشتهرت بين أكثر العوام، وليعلم: أن العوام محتاجون إلى كلام أهل العلم، من تحقيق هذه المسائل، ونقل كلام العلماء؛ فرحم الله من نصر الله، ورسوله، ودينه، ولم تأخذه في الله لومة لائم؛ والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم» (1) .
وقد أجمل الإمام ذلك كله بقوله: «والحاصل: أن كل ما ذكر عنا من الأشياء غير دعوة إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، فكله من البهتان» (2) .
وهذا بيان وافٍ وردّ كافٍ على المفتريات والشبهات التي أُثيرت على الدعوة وإمامها.
وقال في خطاب عام أرسله إلى عامة المسلمين كذلك: «من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه من المسلمين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: أخبركم أني - ولله الحمد - عقيدتي، وديني الذي أدين الله به، مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين؛ مثل الأئمة الأربعة، وأتباعهم، إلى يوم القيامة.
(1) الدرر السنية (2 - 54) .
(2)
الدرر السنية (1) .
لكني بينت للناس: إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأنبياء والأموات، من الصالحين، وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يُعبد الله به، من الذبح، والنذر، والتوكل، والسجود، وغير ذلك مما هو حق الله، الذي لا يشركه فيه ملك مقرب، ولا نبي مرسل؛ وهو الذي دعت إليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم؛ وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة.
وأنا صاحب منصب في قريتي، مسموع الكلمة، فأنكر هذا بعض الرؤساء؛ لكونه خالف عادة نشؤوا عليها؛ وأيضاً: ألزمت من تحت يدي، بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وغير ذلك من فرائض الله؛ ونهيتهم عن الربا، وشرب المسكر، وأنواع من المنكرات، فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا وعيبه؛ لكونه مستحسنًا عند العوام، فجعلوا قدحهم، وعداوتهم فيما آمر به من التوحيد، وما نهيتهم عنه من الشرك، ولبَّسوا على العوام: أن هذا خلاف ما عليه الناس، وكبرت الفتنة جدًّا، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان، ورجله» .
إلى أن قال: «فلما جرى في هذه الأمة، ما أخبر به نبيها صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لتتبعن سنن من كان من قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» (1) وكان من قبلهم، كما ذكر الله عنهم:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31][سورة التوبة، آية: 31]، وصار ناس من الضالين: يدعون أناسًا من الصالحين، في الشدة والرخاء؛ مثل: عبد القادر الجيلاني، وأحمد البدوي، وعدي بن مسافر، وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح، صاح عليهم: أهل العلم، من جميع الطوائف؛ أعني: على الداعي؛ وأما الصالحون، الذين يكرهون ذلك فحاشاهم.
وبيَّن أهل العلم: أن هذا هو الشرك الأكبر، عبادة الأصنام» .
إلى أن قال: «فبعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين إبراهيم، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد: محض حق الله تعالى، لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما؛ وإلا فهؤلاء المشركون: يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يخلق، ولا يرزق إلا هو؛ ولا يحيي، ولا يميت إلا هو؛ ولا يدبر الأمر إلا هو؛ وأن
(1) رواه البخاري برقم (3456) ، ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. ولفظه عندهما «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع» ، وأما لفظ «حذو القذة بالقذة» فقد أخرجه أحمد في المسند (4) .
جميع السماوات السبع، ومن فيهن، والأراضين السبع، ومن فيهن، كلهم عبيده، وتحت تصرفه وقهره.
فإذا أردت الدليل: على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون بهذا، فاقرأ قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31][سورة يونس، آية: 31]، وغير ذلك: من الآيات الدالات على تحقق أنهم يقولون بهذا كله، وأنه لم يدخلهم في التوحيد، الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعرفت: أن التوحيد الذي جحدوه، هو توحيد العبادة، الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد، كما كانوا يدعون الله – سبحانه وتعالى ليلاً ونهاراً، خوفًا وطمعاً، ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم، وقربهم من الله عز وجل، ليشفعوا لهم، ويدعو رجلاً صالحاً، مثل اللات، أو نبيًّا مثل عيسى.
وعرفت: أن رسول الله قاتلهم، على ذلك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18][سورة الجن، آية: 18]، وقال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14][سورة الرعد آية: 14] .
وعرفت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم؛ ليكون الدين كله لله، والذبح كله لله، والنذر كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادة كلها لله؛ وعرفت: أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة، والأنبياء، والأولياء: يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله تعالى بهم، هو: الذي أحل دماءهم، وأموالهم، عرفت حينئذ التوحيد، الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون» .
ثم قال: «فإذا عرفت ذلك، وعرفت: أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة، وعلم وحجج، كما قال تعالى:{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأعراف: 86][سورة الأعراف، آية: 86] .
فالواجب عليك: أن تعلم من دين الله، ما يصير لك سلاحاً، تقاتل به هؤلاء الشياطين، الذين قال إمامهم، ومقدمهم لربك عز وجل:{لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ - ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 - 17][سورة الأعراف، الآيات: 16 - 17] .
ثم قال: «والحاصل: أن كل ما ذكر عنا من الأشياء، غير دعوة الناس إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، فكله من البهتان.
ومن أعجب ما جرى من الرؤساء المخالفين: أني لما بيّنت لهم كلام الله وما ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57][سورة الإسراء، آية: 57]، وقوله:{وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18][سورة يونس، آية: 18]، وقوله:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3][سورة الزمر، آية: 3]، وما ذكر الله من إقرار الكفار في قوله:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [يونس: 31][سورة يونس، آية: 31] وغير ذلك.
قالوا: القرآن لا يجوز العمل به لنا، ولأمثالنا، ولا بكلام الرسول؛ ولا بكلام المتقدمين؛ ولا نطيع إلاّ ما ذكره المتأخرون.
قلت لهم: أنا أخاصم الحنفي، بكلام المتأخرين من الحنفية، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، كل أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم، الذين يعتمدون عليهم فلما أبوا ذلك، نقلت كلام العلماء من كل مذهب لأهله، وذكرت كل ما قالوا، بعدما صرحت الدعوة عند القبور، والنذر لها، فعرفوا ذلك، وتحققوه فلم يزدهم إلا نفورًا» .
إلى أن قال: «فرحم الله: من أدى الواجب عليه، وتاب إلى الله، وأقر على نفسه؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له؛ ونسأل الله أن يهدينا وإياكم لما يحبه ويرضاه» (1) .
وقال مُفَنِّدًا لما نسبه إليه الخصُوم من المفتريات، وذلك في رسالته لابن صباح:
(1) الدرر السنية (1 - 74) .
وقال في رسالته إلى ابن السويدي، عالم من أهل العراق حين سأله عما يقول الناس فيه، فأجابه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ في الله: عبد الرحمن بن عبد الله.
سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصل إليّ كتابك، وسُرَّ الخاطر، جعلك الله من أئمة المتقين، ومن الدعاة إلى دين سيد المرسلين؛ وأخبرك أني - ولله الحمد - متبع، لست بمبتدع عقيدتي وديني الذي أدين الله به، هو مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة، وأتباعهم إلى يوم القيامة.
ولكنني بيّنت للناس: إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء، والأموات من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق الله الذي لا يشركه فيه أحد، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل وهو الذي دعت إليه الرسل، من أولهم إلى آخره؛ وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة» (3) .
ثم قال: «وأيضاً: ألزمْتُ مَنْ تحت يدي، بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وغير ذلك من فرائض الله، ونهيتهم عن الربا وشرب المسكر، وأنواع المنكرات، فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا، وعيبه؛ لكونه مستحسنًا عند العوام؛ فجعلوا قدحهم وعداوتهم فيما آمر به من التوحيد، وأنهى عنه من الشرك ولبَّسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه أكثر الناس، ونسبوا إلينا أنواع المفتريات فكبرت الفتنة وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله.
(1) نخاهم: استغاث بهم واستنجد.
(2)
الدرر السنية (1)
(3)
الدرر السنية (1) .
فمنها: إشاعة البهتان بما يستحي العاقل أن يحكيه فضلاً عن أن يفتريه. ومنها: ما ذكرتم أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني، وأني أزعم أن أنكحتهم غير صحيحة فيا عجبًا كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟! وهل يقول هذا مسلم، إني أبرأ إلى الله من هذا القول، الذي ما يصدر إلا عن مختل العقل، فاقد الإدراك فقاتل الله أهل الأغراض الباطلة. وكذلك قولهم: إني أقول: لو أقدر على هدم قبة النبي صلى الله عليه وسلم لهدمتها.
وأما دلائل الخيرات، وما قيل عني: أني حرقتها، فله سبب، وذلك أني أشرت على مَنْ قَبِلَ نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه أجلّ من كتاب الله؛ ولا يظن أن القراءة فيه أفضل من قراءة القرآن، وأما: إحراقها والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان، فنسبة هذا إليّ من الزور والبهتان.
والحاصل: أن ما ذُكر عني من الأسباب، غير دعوة الناس إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، فكله من البهتان؛ وهذا لو خفي على غيركم، فلا يخفى على حضرتكم، ولو أن رجلا من أهل بلدكم ولو كان أحب الخلق إلى الناس قام يُلزم الناس الإخلاص، ويمنعهم من دعوة أهل القبور، وله أعداء وحُسَّاد أشد منه رياسة وأكثر اتباعًا وقاموا يرمونه بمثل هذه الأكاذيب، ويوهمون الناس أن هذا تنقص بالصالحين وأن دعوتهم من إجلالهم واحترامهم لعلمتم كيف يجري عليه» (1) .
وقال في رسالة بعثها إلى أهل المغرب، بعد أن تحدث عن وقوع الافتراق في الأمة: «إذا عُرف هذا، فمعلوم: ما قد عمت به البلوى، من حوادث الأمور، التي أعظمها الإشراك بالله، والتوجه إلى الموتى وسؤالهم النصر على الأعداء، وقضاء الحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلاّ ربّ الأرض والسماوات؛ وكذلك التقرب إليهم بالنذور، وذبح القربان، والاستغاثة بهم في كشف الشدائد، وجلب الفوائد إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله.
(1) الدرر السنية (1 - 83) .
وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله: كصرف جميعها؛ لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك، ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا، كما قال تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ - أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 2 - 3][سورة الزمر، الآيات: 2 - 3] فأخبر سبحانه: أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصًا لوجهه؛ وأخبر: أن المشركين يدعون الملائكة، والأنبياء والصالحين، ليقربوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم عنده، وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار؛ فكذبهم في هذه الدعوى، وكفَّرهم فقال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3][سورة الزمر، آية: 3] وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18][سورة يونس، آية: 18]، فأخبر: أن من جعل بينه وبين الله وسائط، يسألهم الشفاعة، فقد عبدهم وأشرك بهم وذلك: أنَّ الشفاعة كلها لله كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ} [الزمر: 44][سورة الزمر، آية: 44] .
فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، كما قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255][سورة البقرة، آية: 255] وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109][سورة طه، آية: 109] وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد، كما قال تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28][سورة الأنبياء، آية: 28] وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ - وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 - 23][سورة سبأ، آية: 22 - 23] فالشفاعة: حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله تعالى كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18][سورة الجن، آية: 18]، وقال:{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106][سورة يونس، آية: 106] فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه لا يشفع إلا بإذن الله، لا يشفع ابتداء بل «يأتي فيخر ساجدًا فيحمده بمحامد يعلمه إياها، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، ثم يحد له حدًّا فيدخلهم الجنة» فكيف بغيره من الأنبياء، والأولياء؟!
وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من علماء المسلمين، بل قد أجمع عليه السلف الصالح، من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، وغيرهم ممن سلك سبيلهم ودرج على منهجهم.
وأما: ما صدر من سؤال الأنبياء، والأولياء الشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها والسُّرُج، والصلاة عندها واتخاذها أعياداً، وجعل السدنة والنذور لها، فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها النبي صلى الله عليه وسلم وحذَّر منها، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا تقوم الساعة، حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان» (1) .
وهو صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد، أعظم حماية وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، فنهى أن يُجصص القبر، وأن يُبنى عليه كما ثبت في صحيح مسلم، من حديث جابر (2) وثبت فيه أيضاً: أنه بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأمره أن لا يدع قبرًا مشرفًا إلا سواه، ولا تمثالًا إلا طمسه (3) ؛ ولهذا قال غير واحد من العلماء: يجب هدم القبب المبنية على القبور؛ لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذا: هو الذي أوجب الاختلاف، بيننا وبين الناس، حتى آل بهم الأمر، إلى أن كفَّرونا، وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا حتى نصرنا الله عليهم، وظفرنا بهم وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه، بعدما نقيم عليهم الحجة، من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح، من الأئمة ممتثلين لقوله –سبحانه وتعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ} [الأنفال: 39][سورة الأنفال، آية: 39] فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان، قاتلناه بالسيف والسنان، كما قال تعالى:
(1) رواه مسلم (2889) ، وابن ماجه (3952)، والبرقاني في صحيحه واللفظ له عند ابن ماجه:«وستعبد قبائل من أمتي الأوثان» من حديث ثوبان رضي الله عنه) .
(2)
رواه مسلم (2245) .
(3)
أخرجه أحمد في المسند برقم (71) ، ومسلم برقم (969) وغيرهما، كما صح عنه أنه نهى عن البناء على القبور.
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25][سورة الحديد، آية: 25] .
وندعو الناس: إلى إقام الصلاة في الجماعات، على الوجه المشروع، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج بيت الله الحرام، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، كما قال تعالى:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41][سورة الحج، آية: 41] .
فهذا: هو الذي نعتقد وندين الله به، فمن عمل بذلك فهو أخونا المسلم له ما لنا وعليه ما علينا.
ونعتقد أيضًا: أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين لسنته، لا تجتمع على ضلالة وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك وصلى الله على محمد» (1) .
وقال في رسالة له:
«من محمد بن عبد الوهاب، إلى الشيخ فاضل آل مزيد، زاده الله من الإيمان، وأعاذه من نزغات الشيطان.
أما بعد: فالسبب في المكاتبة: أن راشد بن عربان، ذكر لنا عنك كلامًا حسناً، سر الخاطر، وذكر عنك: أنك طالب مني المكاتبة، بسبب ما يجيئك من كلام العدوان (2) من الكذب، والبهتان؛ وهذا هو الواجب من مثلك أنه لا يقبل كلامًا إلا إذا تحققه.
وأنا أذكر لك: أمرين قبل أن أذكر لك صفة الدين.
الأول: أني أذكر لمن خالفني، أن الواجب على الناس اتباع ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته، وأقول لهم: الكتب عندكم، انظروا فيها ولا تأخذوا من كلامي شيئًا، لكن إذا عرفتم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في كتبكم، فاتبعوه ولو خالفه أكثر الناس.
(1) الدرر السنية (1 -88) .
(2)
أي: الأعداء.
والأمر الثاني: أن هذا الأمر الذي أنكروا علي وأبغضوني وعادوني من أجله إذا سألوا عنه كل عالم في الشام واليمن، أو غيرهم يقول: هذا هو الحق وهو دين الله ورسوله؛ ولكن ما أقدر أظهره في مكاني لأجل أن الدولة (1) ما يرضون، وابن عبد الوهاب أظهره؛ لأن الحاكم في بلده ما أنكره بل لما عرف الحق اتبعه، هذا كلام العلماء وأظنه وصلك كلامهم.
فأنت: تفكر في الأمر الأول وهو قولي: لا تطيعوني ولا تطيعوا إلا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في كتبكم، وتفكر في الأمر الثاني: أن كل عاقل مقر به لكن ما يقدر يظهره، فقدم لنفسك ما ينجيك عند الله، واعلم أنه ما ينجيك إلا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والدنيا زائلة، والجنة والنار ما ينبغي للعاقل أن ينساهما.
وصورة الأمر الصحيح، أني أقول: ما يُدعى إلا الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى في كتابه:{فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18][سورة الجن، آية: 18]، وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم:{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21][سورة الجن، آية: 21] فهذا كلام الله والذي ذكره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصانا به، ونهى الناس لا يدعونه فلما ذكرت لهم: أن هذه المقامات التي في الشام والحرمين وغيرها أنها على خلاف أمر الله ورسوله وأن دعوة الصالحين، والتعلق عليهم، هو الشرك بالله الذي قال الله فيه:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72][سورة المائدة، آية: 72] فلما أظهرت هذا: أنكروه وكبر عليهم؛ وقالوا: أجعلتنا مشركين؟ وهذا ليس إشراكاً، هذا كلامهم وهذا كلامي، أسنده عن الله ورسوله وهذا هو الذي بيني وبينكم، فإن ذكر شيء غير هذا فهو كذب وبهتان، والذي يصدق كلامي هذا أن العالم ما يقدر يظهره حتى من علماء الشام من يقول: هذا هو الحق ولكن لا يظهره إلا من يحارب الدولة؛ وأنت -ولله الحمد- ما تخاف إلاّ الله، نسأل الله أن يهدينا وإياكم إلى دين الله ورسوله، والله أعلم» (2) .
(1) يعني الدولة العثمانية حيث مالت في آخر عهدها إلى التصوف وبدع القبور وبناء المساجد والقباب عليها، وبناء المشاهد ونحوها.
(2)
الدرر السنية (1 - 91) .
وللشيخ في بيان هذه القضية العادلة الشريفة والدفاع عنها كلام كثير؛ إذ تدور عليها سائر أعماله وأقواله وأحواله ومؤلفاته وأبرزها كتاب (التوحيد) الشهير، و (كشف الشبهات) و (الأصول الثلاثة) و (مسائل الجاهلية) وغيرها كثير.
ومن الرسائل التي بعثها خطابًا عامًا للمسلمين كذلك: «من محمد بن عبد الوهاب: إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فاعلموا رحمكم الله، أن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الناس بشيرًا ونذيراً، مبشرًا لمن اتبعه بالجنة، ومنذرًا لمن لا يتبعه عن النار، وقد علمتم إقرار كل من له معرفة أن التوحيد الذي بينا للناس هو الذي أرسل الله به رسله، حتى إن كل مطوَّع معاند (1) يشهد بذلك وأن الذي عليه غالب الناس من الاعتقادات في الصالحين، (2) وفي غيرهم هو الشرك الذي قال الله فيه:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72][سورة المائدة، آية: 72] فإذا تحققتم هذا وعرفتم أنهم يقولون: لو يتركون أهل العارض التكفير والقتال كانوا على دين الله ورسوله، ونحن ما جئناكم في التكفير، والقتال لكن ننصحكم بهذا الذي قطعتم أنه دين الله ورسوله أن تعلموه وتعملوا به إن كنتم من أتباع محمد باطنًا وظاهرًا» . (3) .
وفي رسالة للإمام محمد والإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى أحد علماء اليمن بعد الافتتاحية قال:
«من عبد العزيز بن محمد بن سعود، ومحمد بن عبد الوهاب: إلى الأخ في الله: أحمد بن محمد العديلي البكبلي (4) سلمه الله من جميع الآفات،
(1) أي: كل متدين ولو كان خصمًا معاندًا.
(2)
يعني: تقديسهم، واعتقاد أنهم ينفعون أو يضرون من دون الله وفيما لا يقدر عليه إلا الله، ومنه اعتقاد أنهم لهم تصرف في الكون وأنهم يعلمون الغيب ونحو ذلك من المعتقدات الفاسدة.
(3)
الدرر السنية (1، 93)
(4)
قال المهمِّش: لعله: البهكلي: المترجَمُ في نيل الوطر، ص (207) ج المتوفى سنة (1227هـ) وقلت: بل لعله البكيلي من قبيلة بكيل في اليمن.
واستعمله بالباقيات الصالحات، وحفظه من جميع البليات، وضاعف له الحسنات، ومحا عنه السيئات، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أما بعد:
لفانا (1) كتابكم، وسُر الخاطر بما ذكرتم فيه، من سؤالكم، وما بلغنا على البعد، من أخباركم، وسؤالكم عما نحن عليه، وما دعونا الناس إليه، فأردنا أن نكشف عنكم الشبهة بالتفصيل، ونوضح لكم القول الراجح بالدليل، ونسأل الله رضي الله عنه أن يسلك بنا وبكم أحسن منهج وسبيل.
أما: ما نحن عليه من الدين؟ فعلى دين الإسلام، الذي قال الله فيه:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85][سورة آل عمران، آية: 85] .
وأما: ما دعونا الناس إليه؟ فندعوهم إلى التوحيد، الذي قال الله فيه خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108][سورة يوسف، آية: 108] وقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18][سورة الجن، آية: 18] .
وأما: ما نهينا الناس عنه؟ فنهيناهم عن الشرك، الذي قال الله فيه:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72][سورة المائدة، آية: 72] وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على سبيل التغليظ، وإلا فهو منزه، هو وإخوانه من الشرك:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ - بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 65 - 66][سورة الزمر، آية: 65 - 66] وغير ذلك من الآيات.
ونقاتلهم عليه، كما قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 39][سورة الأنفال، آية: 39]، وقوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5][سورة التوبة، آية: 5]
(1) أي: وافانا ووصل إلينا.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل» (1)(2) .
وقال في رسالته لأحد علماء المدينة:
«وإن سألت عن سبب الاختلاف، الذي هو بيننا وبين الناس؟ فما اختلفنا في شيء من شرائع الإسلام، من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج، وغير ذلك ولا في شيء من المحرمات الشيء الذي عندنا زين، هو عند الناس زين؛ والذي عندهم شين هو عندنا شين، إلا أنا نعمل بالزين، ونغصب الذي يدنا عليه، وننهى عن الشين، ونؤدب الناس عليه.
والذي قلب الناس علينا: الذي قلبهم على سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم وقلبهم على الرسل من قبله: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} [المؤمنون: 44][سورة المؤمنون، آية: 44] ومثل ما قاله ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم: «والله ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي» (4) ؛ فرأس الأمر عندنا، وأساسه: إخلاص الدين لله نقول: ما يُدعى إلا الله، ولا يُنذر إلا لله، ولا يُذبح القربان إلا
(1) رواه البخاري، كتاب الزكاة: باب وجوب الزكاة رقم (1399) ،، ومسلم، كتاب الإيمان: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، رقم (32) ، وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه) .
(2)
الدرر السنية (1 -96) .
(3)
الدرر السنية (1 -99) .
(4)
جزء من حديث رواه البخاري رقم (3) ، (3392) وغيرها.
ومسلم رقم (160) من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.