الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجماعات، وعلماء ورؤساء وأمراء، بل وغوغاء وجهلة.
ومع ذلك كله كانت هذه الدعوة - حين قامت على الحق والعدل - تنتصر وتنتشر، فقد قاوم إمامها وعلماؤها وأتباعها وأمراؤها كل هذه التحديات، بقوة الإيمان واليقين والعلم والحلم، والصبر والثبات.
وإن الواقع ليشهد أن هذه الدعوة - رغم التحديات الكبيرة - كانت تظهر وتعلو وتؤتي ثمارها الطيبة حتى في فترات ضعف السلطة، بل وفي البلاد التي لا توجد فيها لها سلطان ولا قوة حين لا تملك إلا قوة الحجة، وما ذلك إلا لأنها تمثل الإسلام الحق الذي كتب الله له البقاء والظهور إلى قيام الساعة، ولأنها تملك عوامل البقاء والثبات ومقومات القوة والنصر، ولأنها تستمد القوة من نصرها لدين الله دين الحق والعدل، ومن وعد الله تعالى لكل من نصر هذا الدين كما قال تعالى:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40][سورة الحج، آية: 40] .
ولأنها كانت تخاطب العقول السليمة والفطرة المستقيمة، والقلوب الواعية المتجردة من الهوى.
[عدم التكافؤ المادي بين الدعوة وخصومها]
عدم التكافؤ المادي بين الدعوة وبين خصومها إن انتصار الدعوة وانتشارها وقيام دولتها مهيبة شامخة مع عدم التكافؤ بين إمكاناتها وإمكانات خصومها دليل كافٍ على ما تحمله من الحق والعدل.
لقد تهيأ لخصوم الدعوة والمعارضين لها من الإمكانات والوسائل والقوى، والإغراءات والأسباب المادية، للهجوم على الدعوة ما لا تملك الدعوة منه إلا اليسير سوى القوة المعنوية، لا سيما في أول عهدها.
فكان الخصوم يستعدون دولة كبرى وهي الدولة التركية التي ساندت المناوئين للدعوة في أول الأمر ثم تحولت إلى خصم لدود للدعوة في نهاية المطاف، وأعلنت الخصومة المذهبية والعقدية والسياسية، والحرب العسكرية على الدعوة وأهلها؛ لأن الدولة التركية في آخر عهدها تبنت البدع ودانت بالتصوف والقبورية، وهذا التوجه لا شك أنه معاكس لمنهج الدعوة الإصلاحية التي تقوم على تصحيح العقيدة والعبادة وتحارب التصوف والقبورية.
وكذلك أمراء الحجاز وهم خصومٌ أَلِدَّاء للدعوة وأتباعها كانوا يملكون من الوسائل ما لا تملكه الدعوة في أول عهدها. وكانت دعايتهم المضادة للدعوة تنطلق من مكة التي يؤمها المسلمون من كل مكان.
ومن وراء أولئك وهؤلاء شيوخ الفرق والطرق وأتباعها، وأصحاب المطامع والشهوات والأهواء، وأعداء الإسلام من الكافرين والمنافقين، الذي يرهبونه، ويكيدون للدين وأهله، الذين قال الله فيهم وهو سبحانه العليم الخبير {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] [سورة آل عمران، الآية: 118] .
فالدولة التركية، وأمراء الأقاليم المجاورة وأصحاب الطرق والفرق، وأعداء الإسلام كانوا كلهم يملكون من القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية، ووسائل النشر والإعلام الشيء الكثير، في حين أن الدعوة ودولتها لا تملك من ذلك إلا القليل (كما أسلفت) .
فمن مكة (مثلا) في عهد الأشراف والأتراك كانت تنطلق الشائعات الكاذبة، والمفتريات شفاهًا وبالكتب والرسائل وغيرها ضد الدعوة، إلى كل مكان وبسرعة مذهلة، ثم كانت وسائل الإعلام تنشر هذه المفتريات وكأنها حقائق في كل بقاع الدنيا، وكون هذه الشائعات والمفتريات تصدُر من مكة والمدينة، ومن أشراف، وتؤيدها السلطة التركية، هذه الأمور كافية عند عامة المسلمين البسطاء؛ لأن تُصَدَّق دون مناقشة.
ووسائل الإعلام والنشر خارج العالم الإسلامي كثيرًا ما تعتمد ذلك دون تثبُّت ولا روَّية.
بل كان أمراء الحجاز وأمراء الأحساء ومن شاكلهم حريصين على كل ما يقضي على الدعوة ودولتها الفتية الناشئة في مهدها بما في ذلك استعمال القوة العسكرية، والحرب الإعلامية، واستثارة عواطف الجهلة والغوغاء، وأصحاب المطامع، والمحجوبين عن الحقائق من العلماء والمفكرين وغيرهم.
يقول الدكتور عبد الله الصالح العثيمين تحت عنوان: «موقف القوى المحيطة بنجد من الدولة السعودية الأولى» : «كان متوقعًا أن تهتم جهات متعددة بالتطورات
السريعة التي حدثت في نجد إثر ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقيام الدولة السعودية على أساسها، وكان أهم تلك الجهات أشراف مكة وزعماء بني خالد، وكان زعماء بني خالد أكثر التصاقًا بالأحداث الجارية في نجد؛ لأنهم أقرب جغرافيًا إلى مركز تلك الأحداث من أشراف مكة، ولأن نفوذهم في إقليم العارض الذي انطلق منه دعوة الشيخ محمد كان أقوى من نفوذ أولئك الأشراف؛ بل كان النفوذ الوحيد الموجود حينذاك» .
«لقد اتخذ أشراف مكة موقفًا عدائيًا من دعوة الشيخ محمد والدولة السعودية على حدٍّ سواء منذ البداية. فقد سجن أحد أولئك الأشراف الحجاج التابعين للدولة السعودية سنة (1162هـ)(1) .
وأصدر قاضي الشرع في تلك البلدة المقدسة فتوى بتكفير الشيخ محمد وأتباعه (2) . ولذلك مُنِعوا من أداء الحج سنوات طويلة (3) . وكم كانت فرحة الشيخ عظيمة عندما تلقى رسالة من الشريف أحمد بن سعيد عام (1185هـ) ، طالبًا منه بعث عالم نجدي لشرح الدعوة التي نادى بها. وقد أرسل إليه الشيخ تلميذه عبد العزيز الحُصيِّن. وبعث معه رسالة تنبئ عبارتها بما كان يختلج في نفسه من مشاعر طيّبة تجاه ذلك الشريف، وما كان يملأ جوانحه من آمال في مناصرته لدعوة الحق. قال الشيخ:
«بسم الله الرحمن الرحيم. المعروض لديك، أدام الله فضل نِعَمه عليك، حضرة الشريف أحمد بن الشريف سعيد - أعزَّه الله في الدارين، وأعزَّ به دين جدِّه سيِّد الثقلين - أن الكتاب لما وصل إلى الخادم وتأمَّل ما فيه من الكلام الحسن رفع يديه بالدعاء إلى الله بتأييد الشريف لما كان قصده نصر الشريعة المحمدية ومن تبعها، وعداوة من خرج عنها. وهذا هو
(1) ابن بشر، ج1، ص (37)(العثيمين) .
(2)
أحمد بن زيني دحلان، خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام، القاهرة، 1305هـ، ص (227 - 228)(العثيمين) .
(3)
وهذا مما يعكس الفرية التي زعمها خصوم الدعوة باتهام الإمام محمد وأتباعه بالتكفير والقتال، فإن خصوم الدعوة هم الذين كفروا إمامها وأتباعه ومنعوهم من حقهم المشروع في أداء فريضة الحج ونشر الدعوة، بل وبدؤهم بالعدوان والقتال والتحريض.
الواجب على ولاة الأمور
…
فلا بدَّ من الإيمان به - أي بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بد من نصرته لا يكفي أحدهما عن الآخر. وأحقُّ الناس بذلك وأولاهم أهل البيت الذين بعثه الله منهم، وشرَّفهم على أهل الأرض. وأحقُّ أهل البيت بذلك من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم» (1) .
على أن هذه الرسالة اللطيفة لم تُجن منها الثمار المرجوَّة. ذلك أن الشريف أحمد نفسه لم يبق في الحكم أكثر من سنة (2) . فتلاشى ما دار في ذهن الشيخ من أمل، واستمر منع أنصاره من أداء الحج. ومع مرور الأيام لم يكتف أشراف مكة بذلك المنع؛ بل بدءوا بمهاجمة الأراضي النجدية التابعة للدولة السعودية عام (1205هـ م)(3) . وكانت النتيجة أن انتصر السعوديون في نهاية المطاف على أولئك الأشراف حتى دخلت الحجاز تحت حكمهم (4) .
ولم يكن موقف زعماء بني خالد من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والدولة السعودية أقلَّ عداوة من موقف أشراف مكة» (5) .
إن الدعوة لم تكن تملك (في مراحلها الأولى) من وسائل الإغراء ما يملكه خصومها من المال والجاه والمنافع المادية، وبهارج الدنيا وزينتها ما يرغب الناس فيها، ويجذب النفعيين والغوغاء، وأصحاب المطامع إليها، لكنها بالمقابل كانت تملك الجاذبية الفطرية، جاذبية الإيمان والتوحيد، والحق والبرهان والعقل السليم، والدين القويم. وتلكم والله مقومات السعادة الحقيقية التي تنشدها البشرية، والتي من تذوقها تشبث بها، وبذل أغلى ما يملك فداءً لها.
وهذه الجاذبية الساحرة هي السر الذي جعل من تأثر بهذه الدعوة (بالإسلام الحق) يتميز بالقوة والثبات والتضحية في سبيل الله.
(1) ابن غنَّام، ج2 ص (80 - 81)(العثيمين) .
(2)
السباعي، ج2، ص (85)(العثيمين) .
(3)
دحلان، ص (261) ؛ ابن غنَّام، ج2، ص (144 - 150) ؛ ابن بشر، ج1، ص (108 - 109)(العثيمين) .
(4)
لمعرفة تفصيلات الغزوات المتبادلة بين الطرفين يمكن الرجوع إلى عبد الله العثيمين، تاريخ المملكة. . .، ج1، ص (126 - 135)(العثيمين) .
(5)
العلاقات بين الدولة السعودية الأولى والكويت للدكتور/ عبد الله الصالح العثيمين، ص (55 - 57) ، ط2، 1411هـ (مع الهوامش) .