الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مسألة القتال]
مسألة القتال لما استقر الإمام في الدرعية 1157هـ تقريبًا شرع في توسيع نطاق وسائل الدعوة، وزاد من إرسال الرسائل والمكاتبات، والنشاط العلمي فراسل العلماء والقضاة وطلاب العلم وأئمة المساجد وشيوخ القبائل (1) وأمراء البلدان، وكان يدعوهم إلى أمرين أولهما: مبادئ الدعوة التي تمثل الرجوع إلى الدين الحق بتحقيق التوحيد، وإقامة الفرائض، والسنن وأحكام الشرع في كل شؤون الحياة، ونبذ الشركيات والبدع وترك المنكرات.
وثانيهما: الدعوة إلى الجماعة ونبذ الفُرْقَة، والانضمام إلى الكيان الجديد في الدرعية وقد استجابت غالب البلدان المجاورة طواعية مثل العمارية وعرقة ومنفوحة والعيينة وحريملاء. فأعلنت ولاءها لدعوة التوحيد وإمارتها في الجملة مع ما شاب ذلك من الاضطراب والتذبذب؛ لأن كثيرين من أهل الرئاسة والجاه وأصحاب المصالح (2) . المستفيدين من الفرقة والشتات وشيوع البدع عَزَّ عليهم أن يفقدوا مصالحهم التي ستنتهي بتوحيد البلاد وتطهيرها من مظاهر الفرقة والبدع.
وبذلك أصبحت الدرعية بمثابة العاصمة للدولة الناشئة.
وكان الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب آنذاك يطمح إلى أن تتحد نجد كلها على دعوة التوحيد، وأن تكون تحت راية واحدة وإمارة واحدة، وتكون على ما أمر الله به من الجماعة ونبذ الفرقة وظهور الدين.
فقد صرح الشيخ الإمام بهذا الهدف السامي بقوله لابن معمَّر حين قدم إليه بالعيينة: «إني لأرجو إن أنت قمت بنصر لا إله إلا الله أن يُظهرك الله وتملك نجدًا وأعرابها» (3) . فكان يؤمل أن تكون نجد مملكة واحدة.
(1) انظر عنوان المجد (1، 16) .
(2)
انظر: الإمام محمد بن سعود للدكتور عبد الرحمن العريني (90، 91) .
(3)
عنوان المجد لابن بشر (1) .
وانظر: الإمام محمد بن سعود للدكتور عبد الرحمن العريني (90، 91) .
ولذا فإن موقف الدعوة من القتال تدرج حسب المراحل الطبيعية والموقف الشرعي في نمو الدعوة ودولتها.
ففي أول الدعوة لم تَشْرَع في القتال، ولم تستحله أصلاً؛ لأنها لم تتمكن، ولم يكن لها سلطان ومن ثم لم يكن لها مبرر شرعي يجيز لها أن تستعمل القوة.
فلما اشتهرت الدعوة، وشرع الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه وأنصاره بالصدع بالحق، ظهرت ردود الأفعال من الخصوم والمخالفين والمعارضين قوية وعنيفة، وصارت تعتدي وتستعدي الدول والحكام والأمراء وشيوخ القبائل والرؤساء وسائر الناس كذلك.
فنتج عن هذه الجهود المضادة أنواع من العنف ضد الدعوة ومؤيديها بشتى أصنافه من الطرد والحبس والقتل، وقبله التشهير والبهتان.
وفي الوقت نفسه تجذرت الأصول الشرعية لإمارة محمد بن سعود حامل لواء الدعوة، وكثر أنصاره وقويت شوكته، وبايعته كثير من الأقاليم المجاورة، وبدأت مواجهة خصوم الدعوة، من قِبَل جيرانها أمثال (دهام بن دوَّاس) وغيره.
ومن هنا نشأت بالضرورة شرعية القتال للدفاع عن النفس والكيان فصارت إمارة آل سعود (الأمير محمد بن سعود) بتوجيه من الإمام محمد بن عبد الوهاب هي القوة المدافعة عن الدعوة وبلادها، مما جعل مركزها السياسي والعسكري والاقتصادي يتنامى ويتقوى بسرعة مذهلة. وتكون ذات كيان معتبر في المنطقة وما حولها.
وأتاحت لها هذه الظروف بتوفيق الله تعالى، أن تكون دولة ذات رسالة وحاملة لواء التوحيد والسنة، وهذا مما سوغ لها أن تقوم بواجب الجهاد لنشر الدين، ونصرة الحق وأهله، وبعد توافر الشروط الشرعية للجهاد: من الدولة والإمارة والبيعة والأنصار والجيوش، والمركز السياسي والاجتماعي، وعليه فإن الدعوة ودولتها لم تبدأ القتال ولم تتجاوز موقف الدفاع إلا حينما تقوَّت، واشتد ساعدها في حلبة الصراع، وصارت لها إمامة شرعية وبيعة وكيان.
فإن الخصوم من رؤساء بعض الأقاليم المجاورة، وأمراء الأحساء، وأمراء نجران قد بدءوا بالهجوم المسلح على الدرعية.
وكذلك أمراء مكة وقد أعلنوا موقفهم العدائي للدعوة وإمامتها ودولتها وأتباعها في وقت مبكر، ومنعوهم من أبسط حقوقهم وهو الحج.
قال محمود فهمي باشا المهندس المصري في الجزء الأول من تاريخه (البحر الزاخر) في سياق الكلام على الدعوة وأهلها التي سماها: الوهابية.
(1) هو يزعم ذلك لكنه لا يستطيع إثباته.
(2)
عن كتاب: الوهابيون والحجاز لمحمد رشيد رضا (58، 59) .
وبهذا نعرف أن أمراء مكة هم الظالمون وهم البادءون بالعدوان، فقد منعوا هؤلاء المسلمين من الحج، ولما طال منعهم وحرمانهم من الحج، وهو ركن الإسلام، ثم لما أعلن الأشراف وأعوانهم الحرب والقتال، وغزوهم في مقر دارهم كان مما ليس منه بد من الدفاع أولا لصد العدوان، ثم الاستمرار في قتال المعتدين وكف شرهم، وتأمين سبيل الحج وإبلاغ دعوة التوحيد والسنة، وتخليص المسلمين من أوضار البدع والمحدثات والمظالم التي شاعت في بلاد الحرمين، فكان ما لا بد منه وهو الاستيلاء على مكة.
فدخلتها جحافل الدعوة وفي مقدمهم الإمام الصالح سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود سلمًا وبدون قتال، فأقام شعائر الدين على السنة، وهدم القباب والمشاهد وكل مظاهر البدع.
وجمع المسلمين على إمام واحد، وكانوا يصلون متفرقين أتباع كل مذهب مع إمامهم. وأزال المنكرات الظاهرة.
وشرع في نشر العلم وتفقيه الناس في دينهم، في العقيدة والأحكام، «أما ما أشاعه خصوم الدعوة من أن جيوش الأمير سعود لما دخلوا مكة سالت الدماء أنهارًا فهو محض افتراء.
وهنا أصل شرعي عملت عليه الدعوة لما تمكنت وصار لها كيان ودولة وهو قتال المخالفين إذا وقفوا ضد الحق والدين والسنة والعدل والأمن وانحازوا مع الباطل والشر والبدع والظلم والفوضى والفتنة، فإن قتال المخالفين في هذه الحال نوع من الجهاد {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] [سورة الأنفال، آية: 39] .
ومعلوم أن الدعوة ودولتها لم تقاتل إلا حين كان لها إمام وبيعة وكيان معتبر شرعًا وعرفاً.
وهنا أمور كذلك لا بد من كشفها بهذا الصدد ومنها: 1 - أن خصوم الدعوة كانوا يحمون البدع والشركيات ويدافعون عنها ويقاتلون في سبيل ذلك، إما أصالة، أو تقليداً، أو جهلاً، أو نحو ذلك. وقد يكون بينهم المستضعفون والمسخرون الذين لا حول لهم ولا قوة. فأمرهم إلى الله لكن هؤلاء كلهم في الظاهر وقفوا أمام دعوة الحق.
2 -
أن الدعوة وأهلها ودولتها كانت تحمل مبادئ الدين الحق، ويحق لها أن تدعو إليه وتدافع عنه وتحميه، وأن تدافع عن وجودها وكيانها، وأن تعمل بكل الوسائل المشروعة في ذلك بما فيه القتال عند الضرورة.
3 -
أضف إلى ذلك أن الدعوة وأتباعها ودولتها تعرضت لمظالم كبرى من خصومها
استهدفت الدين والنفس والمال والحقوق الضرورية، فكان لا بد أن تدافع عن حقوقها المشروعة وتحمي كيانها وحدودها ولو أدى ذلك إلى القتال.
4 -
وكان الإمام وعلماء الدعوة، ودعاتها يبدءون دعوتهم بأساليب النصح والإرشاد واللين والتدرج، وبالخطاب والتعليم والمراسلة والكتاب، والمحاورة، والمجادلة بالتي هي أحسن. إلى أن يصل الأمر إلى الحاجة إلى الحزم والقوة، والقتال حين يكون هو الحل الذي لا محيص عنه. لا سيما مع قوة الباطل وعدوانه وتحكمه في نفوس الكثيرين.
والخلاصة:
أن الدعوة لمَّا صار لها كيان وقامت لها دولة مهيبة وجيوش صارت تحارب، وتعاهد وتسالم بمقتضى شرع الله تعالى والعهود المرعية، ومكَّنهم الله عز وجل تحقيقًا لوعده عن نصر دينه، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] [سورة الحج، آية: 40] .
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وبهذا نقول بأن هذه الدولة حين نصرت الدين وحملت لواء السنة والدعوة، فهي أمكن دولة على الأرض، وأحق أن تسالم وتحارب وتدافع عن الحق بشرع الله ولا تزال ولن تزال كذلك بحول الله وقوته ما دامت على هذا العهد.
هذا وليس بينهم وبين من قاتلوهم معاهدات ولا مواثيق تمنع من القتال في سبيل الله.
كما أنه في تلك الفترة لم تظهر المنظمات الدولية والمواثيق الأمنية التي التزمتها الدول.
ولما ظهرت المعاهدات والمنظمات الدولية الحديثة كانت المملكة العربية السعودية من أكثر الدول التزامًا للعهود والمواثيق والاتفاقيات المشروعة التي كانت هي طرفًا فيها، وحتى الآن وكل منصف يشهد لها بذلك.
ولما كثرت الإشكالات والتساؤلات من الخصوم، وبعض المؤيدين والمحايدين البعيدين عن ساحة الصراع والقتال بين الدعوة وخصومها، حول قتال الممتنعين عن أداء شعائر الدين وأركان الإسلام كالصلاة والزكاة، وقتال الممتنعين عن ترك الشركيات والبدع، وإزالة مظاهرها من القباب والمشاهد والمزارات ونحوها حين حصل هذا: أجاب علماء الدعوة وقادتها وأمراؤها عن شبهات القوم بأدلة القرآن والسنة وعمل السلف الصالح من الصحابة والأئمة الأربعة وغيرهم الموجبة لقتال تارك الصلاة، بل وصرح
الفقهاء بقتال تارك الوضوء وقتال أهل البلد إذا تركوا الأذان أو صلاة العيدين، أو منعوا الزكاة، وذكروا كلام الأئمة المعتبرين في ذلك من المالكية والشافعية والحنابلة، وغيرهم (1) .
يقول الإمام محمد عبد الوهاب موضحًا هذه المسألة: «وأما القتال: فلم نقاتل أحدًا إلاّ دون النفس، والحرمة؛ فإنا نقاتل على سبيل المقابلة {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] [سورة الشورى، آية: 40] وكذلك: من جاهر بسبِّ دين الرسول، بعدما عرفه، والسلام» (2) .
إضافة إلى ما ذكره الإمام وأتباعه في نفي هذه الشبهة فإن الشيخ صرح أن من الكبائر قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، حيث قال:«باب تعظيم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق» (3) .
وقد أثار عليهم خصومهم وبعض الجهلة أنهم يستحلون الغارات والقتال والأموال بدعوى أنها غنائم، وهذا من التلبيس، فإن الغنائم قد أحلها الله ورسوله بالقتال المشروع. وقد أجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن هذه الشبهة بقوله: «من المعلوم عند الموافق والمخالف، أن أئمة المسلمين، الذين أقام الله بهم هذا الدين، بعدما اشتدت غربته من بين الظلمة والمفسدين، أن الله بفضله ورحمته، أقامهم بالحق المبين، فدعوا إلى التوحيد، وأنكروا كل شرك وشك وتنديد، ونشروا أعلام الجهاد، حتى أدخل الله بدعوتهم، كل حاضر من قومهم وباد.
فأخذوا تلك الأموال من أهل البغي والفساد، بسيف الحق والجهاد، فهو - بحمد الله - من طيب الحلال بلا تردد ولا إشكال، فقد أحل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولأمته الغنائم؛ وقد غنم الصحابة رضي الله عنه: أموال من ارتد من العرب، أو شك في الحق واضطرب.
وكل ما لا يؤيد بالدليل، فلا التفات إليه، ولا تعويل، على أن الكثير من تلك الأموال، التي أخذت على هذا الوجه الحلال، وصارت من جملة بيت المال، قد تركت في
(1) الدرر السنية (10 - 335) .
(2)
الدرر السنية (1) .
(3)
كتاب الكبائر للإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب (77) .
أيدي الغاصبين لها، حين تبدلت الحال؛ فلما قام هؤلاء الولاة، واجتمع عليهم الناس في هذه الأوقات، لم يبق في أيديهم من أموال الفيء إلا القليل؛ لتغلب أناس عليهم من ظلمة ذلك الجيل» (1) .
ومن المفتريات التي أشاعها خصومهم دعوى أنهم يتعمدون قتل من لا يجوز قتلهم من الشيوخ والنساء والصبيان ونحوهم.
وقد أجاب على ذلك الشيخ: عبد الله بن الإمام: «وأما قولكم: إنه يحكى لنا أنكم تقتلون، ذا الشيبة، والمرأة، والصغير، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن لا يقتل من المشركين لا شيبة عاجز، ولا امرأة، ولا قاصر لم يُنبت. فنقول: هذا كذب وزور، وبهتان علينا فلا نأمر بقتل الشيخ الكبير من المشركين، ولا المرأة ولا الصغير الذي لم يُنبت، فإن كان أحد من جهال المسلمين البعيد عنا فعل شيئًا من ذلك، فهو مخطئ مخالف لشرع الله ورسوله، ونحن نبرأ إلى الله من ذلك» (2) .
كان الشيخ الإمام يعلم، وكان يدور في خلده آنذاك أن الدعوة إلى توحيد الله تعالى نشر الدين والعلم والعمل بشرع الله، ومحاربة البدع والشركيات والجهل، ومحاربة الفساد والظلم والشتات، كل ذلك من الأمور الكبار التي - ولا شك - ستثير أعداء، وأنها سيكون لها كيان وقوة، ويظهر ذلك جليًا من قول له لابن معمر في العيينة «إن هذا الذي أنا قمت به ودعوت إليه كلمة لا إله إلا الله، وأركان الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن أنت تمسكتَ به ونصرته، فإن الله سبحانه يُظهرك على أعدائك، فلا يزعجك سليمان ولا يفزعك فإني أرجو أن ترى من الظهور والتمكين والغلبة ما ستملك بلاده (يعني والي الأحساء) وما وراءها وما دونها» (3) .
وقوله لمحمد بن سعود عند قدومه إليه بالدرعية: «فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوضك من الغنائم ما هو خير منها» (4)(يعني الضرائب) .
(1) الدرر السنية (11، 325) .
(2)
الدرر السنية (9) .
(3)
عنوان المجد لابن بشر (1) .
(4)
المصدر السابق (1) .