الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الأنموذج الثاني بيان أئمة الدعوة وحكامها من بعده لعقيدتهم والتزامهم بنهج السلف]
الأنموذج الثاني
عرض لمنهج أئمة الدعوة ودولتها بعده (1)
وأسوق للقارئ أنموذجًا لمنهج الدعوة العام في الدين، كما بينه ورسمه أحد علمائها الكبار وهو الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، وأحد ولاتها الأفذاذ وهو الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد، وهو المنهج الذي يمثل منهج السلف الصالح، أهل السنة والجماعة في جميع الجوانب، في العقيدة والأحكام والتعامل في البيان الذي كتبه الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب أثناء دخولهم مكة ملبين منتصرين سنة (1218هـ)، وقد أعلنوا الأمان لسكان البيت الحرام:
[البدء بالبسملة والحمد] : أول مظاهر التزام السنة بدؤه بالبسملة والحمد والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
«
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين» (2) .
ثم حمده لله وشكره له، على ما مَنَّ به على أهل السنة من التمكين، ولم يظهر منهم ما يفعله خصومهم من العُجب والكبر والغرور والتعالي على الخلق قال:
تحقيقهم للأمن والأمان لأهل مكة والحجاج: وكانوا يرعون حق الله تعالى ويعظمون شعائره ويقفون عند حدوده ويرعون حقوق الناس، ويتقون الله فيهم لا سيما سكان البيت الحرام، ويرغبون في تحقيق الأمن والسلم
(1) عرضت هذه الوثيقة عرضًا تفصيليًا؛ لأنها تمثل الشمولية في المنهج في العقيدة، ومنهج التعامل في السلم والحرب وفي الدعوة والدولة؛ مما ينفى سائر الاتهامات.
(2)
الدرر السنية (1) .
(3)
الدرر السنية (1) .
والتسامح، ويحبون العفو عند المقدرة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل. لذا نجد أن الأمير سعود استجاب لطلب أشراف مكة وعلمائها، بل والعامة في ضمان أمنهم وحقوقهم، رغم أنهم كانوا قد عزموا على حشد الحشود لصد أهل الحق. أما ما أصاب بعض أهل البدع من الرعب آنذاك فهو من مظاهر النصر التي وعد الله بها المؤمنين الصادقين المتقين كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:« «ونصرت بالرعب مسيرة شهر» (1) . قال:
دخولهم كان بملابس الإحرام والنسك: فقد دخلوا بمنتهى التواضع والتذلل لله تعالى، معلنين للتوحيد، كما أعلنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير متلبسين بشيء من البدع والمحدثات، ولا المنكرات التي يفعلها في هذه المواقف وغيرها كثيرون، كما أنهم لم يدخلوا بالقتال، ولم يريقوا الدماء كما يزعم كثيرون من خصومهم والجاهلين بحالهم. قال:
أدبهم وانضباطهم في مكة المكرمة: وكانوا أثناء دخولهم لمكة المكرمة على غاية السكينة، والانضباط والأدب وتعظيم شعائر الله تعالى، بخلاف ما يشيعه عنهم خصومهم والجاهلون بحقيقة أمرهم من أنهم
(1) جزء من حديث جابر رواه البخاري (1، 212) ، ومسلم (1163) ، وهو حديث متواتر. راجع إرواء الغليل (1) .
(2)
الدرر السنية (1) .
(3)
الدرر السنية (1) .
متوحشون وغير مؤدبين قال:
«ومن حين دخل الجند الحرم، وهم على كثرتهم مضبوطون متأدبون، لم يعضدوا به شجرًا، ولم ينفروا صيدًا» (1) .
ولم يباشروا قتالًا في الحرم: ثم حين دخلوا الحرم كانوا - بخلاف ما يشاع عنهم - حريصين على رعاية حرمة مكة، وحقن دماء المسلمين. قال:
«ولم يريقوا دمًا إلا دم الهدي، أو ما أحل الله من بهيمة الأنعام على الوجه المشروع» (2) .
شرح منهجهم وما يدعون إليه ويقاتلون الناس عليه: ولما أدوا مناسكهم لم يحتجبوا عن الناس، ولم يلزموهم الحق بالقوة كما يزعم خصومهم، بل عرضوا منهجهم علنًا، وبينوا بالدلائل والبراهين أنهم جاءوا لنصر التوحيد والسنة وإعلانها، وإزالة مظاهر الشرك والبدع وإنكارها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما كانت طريقة المرسلين، وسنة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين والسلف الصالح. قال: «ولما تمت عمرتنا: جمعنا الناس ضحوة الأحد، وعرض الأمير رحمه الله على العلماء ما نطلب من الناس ونقاتل عليه؛ وهو: إخلاص التوحيد لله تعالى وحده؛ وعرفهم أنه لم يكن بيننا وبينهم خلاف له وقع إلا في أمرين:
أحدهما: إخلاص التوحيد لله تعالى، ومعرفة أنواع العبادة، وأن الدعاء من جملتها، وتحقيق معنى الشرك، الذي قاتل الناس عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، واستمر دعاؤه برهة من الزمن بعد النبوة إلى ذلك التوحيد، وترك الإشراك قبل أن تفرض عليه أركان الإسلام الأربعة.
والثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي لم يبق عندهم إلا اسمه، وانمحى أثره ورسمه» (3) .
(1) المصدر السابق (1 - 223) .
(2)
المصدر السابق (1 - 223) .
(3)
المصدر السابق (1) .
موافقة علماء مكة وأشرافها وغيرهم لدعوة الحق ومبايعتهم على ذلك: ولما سمع أهل العلم والعقل والحلم من علماء مكة وأشرافها وأعيانها ما كان عليه أهل الدعوة، وما يدعون إليه، وما جاءوا من أجله، ورأوا الحقيقة الجليَّة صافية نقية سالمة من حجب البهتان والتزوير والتضليل أذعنوا للحق، واستبانت لهم المحجة. قال:«فوافقونا على استحسان ما نحن عليه جملة وتفصيلًا، وبايعوا الأمير على الكتاب والسنة» (1) .
الرفق بالعلماء والعامة والعفو عنهم: ثم أخذوا الجميع بالرفق والتلطف، واستمرت بين الطرفين المحاورات والتناصح والمذاكرة، وعاملهم الأمير سعود بالصفح والعفو. قال:«وقبل منهم وعفا عنهم كافة، فلم يحصل على أحد منهم أدنى مشقة، ولم يزل يرفق بهم غاية الرفق، لا سيما العلماء، ونقرر لهم حال اجتماعهم، وحال انفرادهم لدينا: أدلة ما نحن عليه، ونطلب منهم المناصحة والمذاكرة وبيان الحق» (2) .
إعلانهم الاستعداد لقبول الحق بدليله: وأعلن الأمير سعود ومن معه من العلماء المنهج الشرعي الذي يجمع عليه المسلمون: من التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم مستعدون لقبول الحق بدليله، وأنه لا مساومة على هذا المبدأ المجمع عليه، ولما عرضوا على أهل مكة ذلك، وطلبوا منهم التحاكم فيما اختلفوا فيه إلى هذه القاعدة لم يكن منهم إلا التسليم بالحق. قال:«وعرفناهم: بأن صرح لهم الأمير حال اجتماعهم، بأنا قابلون وما وضحوا برهانه، من كتاب أو سنة أو أثر عن السلف الصالح، كالخلفاء الراشدين، المأمورين باتباعهم، بقوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» (3) أو
(1) المصدر السابق (1) .
(2)
المصدر السابق (1) .
(3)
جزء من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه رواه أبو داود (7) ، والترمذي (2 - 113) وغيرهما، وصححه غير واحد منهم الترمذي، والبزار، والحاكم.
راجع: إرواء الغليل (8) ، وصحيح الجامع (3312) .
عن الأئمة الأربعة المجتهدين ومن تلقى العلم عنهم إلى آخر القرن الثالث، لقوله صلى الله عليه وسلم:«خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (1) .
وعرفناهم: أنا دائرون مع الحق أينما دار، وتابعون للدليل الجلي الواضح، ولا نبالي حينئذ بمخالفة ما سلف عليه من قبلنا، فلم ينقموا علينا أمرًا» (2) .
تقرير منع طلب الحاجات من الأموات وإذعان المخالفين للحق: ثم شرعوا مع علماء مكة بمناقشة القضية الكبرى بين دعوة السنة وبين أهل البدع، بل بين الرسل والدعاة دائمًا، وبين خصومهم، وهي قضية الشركيات والبدع، كطلب الحاجات من الأموات. ولما وردت بعض الشبهات، ردها أهل الحق بالأدلة من الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة، وبذلك اعترف الآخرون بالحق والحمد لله.
انشراح صدور الناس للحق حين سمعوه ورأوا الحقيقة: قال: «وحلفوا لنا الأيمان المغلظة، من دون استحلاف لهم، على انشراح صدورهم وجزم ضمائرهم: أنه لم يبق لديهم شك في أن من قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يا ابن عباس أو يا عبد القادر أو غيرهم من المخلوقين، طالبًا بذلك دفع شر أو جلب خير، من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، من شفاء المريض والنصر على العدو والحفظ من المكروه،
(1) جزء من حديث ابن مسعود مرفوعًا رواه البخاري (3650) ، ومسلم (2533) .
وله شاهد من حديث عمران بن حصين عند الترمذي (2، 49) ، وابن حبان (2285) ، وسنده صحيح على شرط مسلم.
راجع: السلسلة الصحيحة للألباني (669) .
(2)
الدرر السنية (1 - 224) .
(3)
الدرر السنية (1 - 224) .
ونحو ذلك: أنه مشرك شركًا أكبر يهدر دمه، ويبيح ماله، وإن كان يعتقد أن الفاعل المؤثر في تصريف الكون، هو الله تعالى وحده، لكنه قصد المخلوقين بالدعاء، مستشفيًا بهم ومتقربًا بهم، لقضاء حاجته من الله بسرهم، وشفاعتهم له فيه أيام البرزخ» (1) .
وقد يقول قائل: إن ذلك الذي حدث من علماء مكة من الإذعان للحق كان تحت الإكراه والخوف، والمداراة التي قد تكون في مثل هذه المواقف. فنقول:
إنه لا داعي للخوف ولا المداراة وقد كانوا أخذوا الأمان ورأوا كامل الوفاء والاحترام من الإمام سعود. كما أنهم حين حلفوا الأيمان المغلظة دون أن يطلب منهم ذلك - وهم علماء - فإن هذا وحده دليل كاف على أن هذا هو عين الحقيقة. ويضاف لذلك أن ما عرض هنا مما أعلنوه وأقروا به هو الحق الذي لا خلاف عليه أصلًا، لكن أعداء الدعوة كانوا يوهمون الناس بخلافه، فقد كان ذلك كله في مجالس حوار وتناصح، وليس مجلس حكم وتسلط كما قد يتوهم البعض.
كشف حقيقة الأضرحة والشركيات عندها: فقد تم البيان بأن غاية هذه الدعوة المباركة هي الغاية العظمى التي بعث الله بها النبيين والمرسلين وندب لها الدعاة والمصلحين، وهي إخلاص العبادة لله وحده، وتحرير الناس من أوضار الشرك والبدع ووسائلها.
(1) المصدر السابق (1، 225) .
(2)
يعني علماء مكة الذين أعلنوا الحق حين استبان لهم.
(3)
المصدر السابق (1، 225) .
رفع المظالم من المكوس والضرائب: ومن الحسنات التي تميزت بها هذه الدعوة المباركة ودولتها أنها كلما تمكنت من بلد رفعت عن أهلها المظالم والمكوس ونحوها، بل كان هذا المبدأ الشرعي من الأصول التي تعاقد عليها الإمامان: محمد بن عبد الوهاب المجدد إمام الدعوة، ومحمد بن سعود مؤسس الدولة التي احتضنت الدعوة، وبهذا المبدأ عامل الإمام سعود أهل مكة وغيرهم.
قال الشيخ عبد الله: «ثم رفعت: المكوس والرسوم» (1) .
إزالة المنكرات ووسائلها الظاهرة: وأعلنت الدعوة المباركة الأصل الشرعي العظيم الذي جعله الله من خصائص هذه الأمة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي جعله الله شرطًا للتمكين والعزة والنصر. وهل يخالف في هذا المبدأ الكبير مسلم يخشى الله ويتقيه؟
قال: «وكسرت آلات التنباك، ونودي بتحريمه، وأحرقت أماكن الحشاشين، والمشهورين بالفجور» (2) .
الأمر بصلاة الجماعة وجمع المسلمين على إمام واحد: وكان من ثمار هذه الدعوة المباركة في كل بلد وصلت إليها إزالة مظاهر التعصب المذهبي والفرقة والشتات والفشل الذي أصاب كثير من بلاد المسلمين، بسبب إعراضهم عن التفقه في دين الله وعن طلب الدليل، وبسبب هيمنة البدع والمحدثات والفرق والطرق، كما ساد الإعراض عن الصلاة وترك الجماعات!
حتى وصل الحال من الفرقة أنه بمكة بالبلد الحرام (بل بالمسجد الحرام) أنه كانت تقام أكثر من جماعة وأكثر من إمام في الفرض الواحد.
فسعت هذه الدعوة المباركة إلى ما أمر الله به، وما أوحى به رسوله صلى الله عليه وسلم من الجماعة والاجتماع، ونبذ كل مظاهر الفرقة والتنازع.
(1) المصدر السابق (1) .
(2)
المصدر السابق (1) .
فقام الأمير سعود بجمع المسلمين في الحرم على إمام واحد (دون اعتبار لمذهبه الفقهي) لأن المذاهب الأربعة كلها على السنة، والخلاف بين الأئمة الأربعة وأتباعهم كان في الاجتهاديات قال:«ونودي بالمواظبة على الصلوات في الجماعات، وعدم التفرق في ذلك، بأن يجتمعوا في كل صلاة على إمام واحد، ويكون ذلك الإمام من أحد المقلدين للأربعة، رضوان الله عليهم؛ واجتمعت الكلمة حينئذ، وعبد الله وحده، وحصلت الألفة، وسقطت الكلفة» (1) .
حرصهم على حفظ الولاية والأمن والتيسير على الناس: وقام الأمير سعود بما أوجبه الله عليه من رعاية مصالح المسلمين، وتولية من يرعى شؤونهم ويقيم بينهم العدل والأمن، وييسر لهم أمورهم، ويحفظ دماءهم وأقوالهم وأعراضهم، ويدفع عنهم المشقة والحرج.
قال: «وأمر عليهم، واستتب الأمر من دون سفك دم، ولا هتك عرض، ولا مشقة على أحد، والحمد لله رب العالمين» (2) .
تبصير المسلمين بالحق وتعليمهم الضروري من دينهم ونشر العلم: ثم شرع العلماء وطلاب العلم بتنفيذ النهج الذي تميزت به هذه الدعوة استجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وهو تعليم الناس ضروريات دينهم في العقيدة والعبادة والأحكام والمعاملات.
(1) المصدر السابق (1) .
(2)
المصدر السابق (1) .
(3)
المصدر السابق (1، 226) .
الاستعداد للحوار والمناقشة والإجابة على الشبهات: واتسعت صدورهم لمن كان لديه شيء من الشبهات، ومن رغب في استمرار الحوار والمناقشة للمسائل محل الخلاف بين أهل السنة وبين المخالفين لهم كمسألة الشفاعة التي يرى أهل السنة (بالدليل) أن منها المشروع، وهو ما توافرت فيه الشروط الواردة في القرآن والسنة، ومنها الممنوع (البدعي أو الشركي) حين لا تتوافر فيها الشروط.
التزامهم لمنهج السلف جملة وتفصيلًا: التأكيد على التزام الإمام محمد بن عبد الوهاب وعلماء الدعوة وأتباعها بنهج السنة والجماعة جملة وتفصيلًا.
مذهبهم في الصفات مذهب السلف الصالح: قال: «وهي: أنا نقرأ آيات الصفات، وأحاديثها على ظاهرها، ونكل معناها مع اعتقاد حقائقها إلى الله تعالى؛ فإن مالكًا - وهو من أجل علماء السلف - لما سئل عن الاستواء، في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] [سورة طه، آية: 5.] قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة» (3) .
(1) المصدر السابق (1، 226) .
(2)
المصدر السابق (1) .
(3)
المصدر السابق (1) .
وفي القدر كذلك: قال: «ونعتقد: أن الخير والشر، كله بمشيئة الله تعالى، ولا يكون في ملكه إلا ما أراد؛ فإن العبد لا يقدر على خلق أفعاله، بل له كسب، رتب عليه الثواب فضلًا، والعقاب عدلًا، ولا يجب على الله لعبده شيء» (1) .
ويؤمنون بالرؤية كسائر أهل السنة: قال: «وأنه يراه المؤمنون في الآخرة، بلا كيف ولا إحاطة» (2) .
وهم على مذهب الإمام أحمد ويقرون المذاهب الأخرى المعتبرة عند أهل السنة:
أما ما بهتهم به خصومهم والجاهلون بحقيقة منهجهم من أنهم جاءوا (بمذهب خامس) أو أنهم يحرمون الاجتهاد، وأنهم ينتقصون علماء الأمة كل ذلك محض افتراء.
لا يدّعون الاجتهاد المطلق لكنهم يأخذون بما صح به الدليل: وكذلك هم لا يدَّعون الاجتهاد المطلق، بل يلتزمون مصادر التلقي ومناهج الاستدلال المعتبرة عن أئمة المسلمين، ومع أنهم على مذهب الإمام أحمد - أحد أئمة السنة الأربعة - إلا أنهم لا يتعصبون للمذهب، بل يدورون مع الدليل حيث دار، ومع من قال به من الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة السنة.
قال: «ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد لدينا يدَّعيها، إلا أننا في بعض المسائل، إذا صح لنا نص جلي، من كتاب أو سنة غير منسوخ، ولا مخصص، ولا معارض
(1) المصدر السابق (1، 227) .
(2)
المصدر السابق (1، 227) .
(3)
المصدر السابق (1) .
بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة، أخذنا به، وتركنا المذهب، كإرث الجدة والإخوة، فإنا نقدم الجد بالإرث، وإن خالف مذهب الحنابلة» (1) .
لا ينازعون المخالف ولا يلزمونه في الاجتهاديات: فقد نفوا في هذه الوثيقة فرية من أكبر المفتريات التي يشيعها الخصوم عنهم من أنهم يلزمون الناس في الأمور الخلافية، وأنهم يضيقون بالاجتهاد، وأنهم لا يقرون للمذاهب الأخرى المعتبرة لدى أهل السنة، وأنَّهم يتعصبون لمذهبهم ورأيهم.
يلتزمون منهج السلف وكتبهم في التلقي والاستدلال: وكذلك ينفون ما أشاعه الخصوم عنهم أنهم يفسرون القرآن والحديث بهواهم وأنهم لا يعتبرون تفسير العلماء والسلف، وأنهم لا يعنون بالعلوم الأخرى.
قال: «ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله، بالتفاسير المتداولة المعتبرة، ومن أجلها لدينا: تفسير ابن جرير، ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذا البغوي، والبيضاوي، والخازن، والحداد، والجلالين، وغيرهم. وعلى فهم الحديث، بشروح الأئمة المبرزين، كالعسقلاني والقسطلاني على البخاري، والنووي على مسلم، والمناوي على الجامع الصغير.
(1) المصدر السابق (1) .
(2)
المصدر السابق (1) .
ونحرص على كتب الحديث، خصوصًا: الأمهات الست وشروحها، ونعتني بسائر الكتب في سائر الفنون أصولًا وفروعًا وقواعد وسيرًا ونحوًا وصرفًا وجميع علوم الأمة» (1) .
يحترمون كتب العلم إلا ما أوقع الناس في خلل الشرك: وما أشيع عنهم من أنهم يحرقون كتب العلماء من غيرهم مطلقًا فهو من البهتان إلا ما كان في الكتب المفسدة للعقيدة والدين، ككتب الشركيات والسحر وكتب المنطق الفلسفية، أما المنطق العلمي الصحيح فمنهم من قد يدرسه بعضهم.
يتبرءون مما يفعله بعض الجهلة: ومع ذلك فإنه قد تحدث بعض التصرفات الطائشة كإحراق الكتب من بعض جهلة المنتسبين إليهم من العوام والأعراب والغوغاء، الذين لا يسلم من الابتلاء بهم أحد، ومع ذلك لما حدث من بعض المنتسبين للدعوة من الأعراب ونحوهم شيءٌ من ذلك أدّبوه وزجروه.
قال: «ومما اتفق لبعض البدو في إتلاف بعض كتب أهل الطائف، إنما صدر منه لجهله وقد زُجر هو وغيره عن مثل ذلك» (3) .
لا يرون سبي العرب ولا قتل النساء والأطفال في الحرب: وما افتراه عليهم خصومهم من أنهم يسبون العرب ويقتلون النساء والأطفال والشيوخ في الحرب إنما هو من البهتان.
(1) المصدر السابق (1) .
(2)
المصدر السابق (1) .
(3)
المصدر السابق (1) .
قال: «ومما نحن عليه: أنا لا نرى سبي العرب ولم نفعله ولم نقاتل غيرهم، ولا نرى قتل النساء والصبيان» (1) .
تفنيدهم لشبهات الخصوم: وحينما شاعت عن إمامهم وعنهم وعن دعوتهم الشبهات الكثيرة، والمفتريات والبهتان بغير حق ولا برهان، دافعوا عن الحق الذي يحملون وكشفوا الحقائق، وردوا المفتريات بقولهم وسيرتهم ومؤلفاتهم وحواراتهم، وبكل ما يملكون من وسائل قليلة ومحدودة، إزاء ما يملكه خصومهم من إمكانات كبرى، ووسائل عظيمة لكنها كانت كالزبد يذهب جفاء.
قال: «وأما ما يكذب علينا: سترًا للحق وتلبيسًا على الخلق بأنا نفسر القرآن برأينا، ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا من دون مراجعة شرح، ولا معول على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا النبي رمة في قبره، وعصا أحدنا أنفع له منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله، حتى أنزل عليه {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] مع كون الآية مدنية.
وأنا لا نعتمد على أقوال العلماء، ونتلف مؤلفات أهل المذاهب؛ لكونها فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة، وأنا نكفر الناس على الإطلاق، أهل زماننا ومن بعد الستمائة، إلا من هو على ما نحن عليه، ومن فروع ذلك: أنا لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرير عليه بأنه كان مشركًا وأن أبويه ماتا على الإشراك بالله.
وأنا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقًا، وأن من دان بما نحن عليه، سقط عنه جميع التبعات حتى الديون.
وأنا لا نرى حقًا لأهل البيت - رضوان الله عليهم - وأنا نجبرهم على تزويج غير الكفء لهم.
وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة لتنكح شابًا إذا ترافعوا إلينا.
(1) المصدر السابق (1) .
فلا وجه لذلك، فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استَفْهَمَنا عنها من ذُكِر أولًا، كان جوابنا في كل مسألة من ذلك، سبحانك هذا بهتان عظيم، فمن روى عنا شيئًا من ذلك أو نسبه إلينا، فقد كذب علينا وافترى» (1) .
وكانت أكبر وسيلة، وبرهان يدفع عنهم المفتريات ويبين سلامة النهج الذي كانوا عليه:
دعوة الناس إلى ما يشهد به الواقع وحال الدعوة وأهلها: قال: «ومن شاهد حالنا وحضر مجالسنا وتحقق ما عندنا علم قطعًا: أن جميع ذلك وضعه وافتراه علينا أعداء الدين وإخوان الشياطين، تنفيرًا للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة، وترك أنواع الشرك الذي نص الله عليه بأن الله لا يغفره. {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء: 48] [سورة النساء، آية: 48.] ، فإنا نعتقد: أن من فعل أنواعًا من الكبائر، كقتل المسلم بغير حق، والزنا والربا وشرب الخمر وتكرر منه ذلك، أنه لا يخرج بفعله ذلك عن دائرة الإسلام ولا يخلد به في دار الانتقام، إذا مات موحدًا بجميع أنواع العبادة» (2) .
(1) المصدر السابق (1، 230) .
(2)
المصدر السابق (1، 230) .
تعظيمهم لقدر النبي صلى الله عليه وسلم، وحقوقه صلى الله عليه وسلم: وكانت من أشنع الأكاذيب والبهتان الذي يشاع عن هذه الدعوة المباركة وأئمتها وأتباعها دعوى: أنهم لا يحترمون النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقدرونه حق قدره، وأنهم ينقصونه، لكن الله حسبنا ونعم الوكيل.
والحق أنهم إن لم يكونوا هم وأمثالهم أحباء الرسول صلى الله عليه وسلم وأولياؤه حقًا لاتباعهم سنته، وبذلهم الأرواح والأموال، والمهج في سبيل محبته واتباع هديه وطاعته ونصرة دينه، وتطهيره من البدع والشركيات. إن لم يكن هؤلاء أحباءه فمن؟ إن أهل البدع والأهواء والافتراق الذي جانبوا سنته هم الذين لا يحبونه حقًا، ولم يقدروه حق قدره وإن زعموا ذلك، فالحب ليس بمجرد الدعوى، لكن بالاتباع والعمل بسنته.
حقيقة مذهبهم في الأولياء وكراماتهم وحقوقهم:
وكذلك كذب عليهم خصومهم، وأشاعوا (كذبًا وبهتانًا) بأنهم لا يحبون الأولياء والصالحين، وحقيقة الأمر أنهم أولى بالأولياء والصالحين ممن آذوا الأحياء والأموات، بالبدع والخرافات والمكاء والتصدية، والسماعات المحدثة، والتبركات المبتدعة.
قال: «ولا ننكر كرامات الأولياء ونعترف لهم بالحق، وأنهم على هدى من ربهم، مهما ساروا على الطريقة الشرعية والقوانين المرعية، إلا أنهم لا يستحقون شيئًا من أنواع العبادات، لا حال الحياة ولا بعد الممات، بل يطلب من أحدهم الدعاء في حال حياته، بل ومن كل مسلم، فقد
(1) المصدر السابق (1، 231) .
جاء في الحديث: «دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه» (1) الحديث، وأمر صلى الله عليه وسلم عمر (2) وعليًا (3) بسؤال الاستغفار من " أويس " ففعلا (4) .
وعقيدتهم في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم هي الحق بمقتضى النصوص: وما أشاعه عنهم خصومهم من أنهم ينكرون شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها من الشفاعات الثابتة بالنصوص الصحيحة كل ذلك من البهتان:
(1) رواه مسلم (3732) ، وعند أبي الدرداء بلفظ «ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب قال الملك ولك بمثل ذلك» ، وقال العجلوني: ورواه أبو بكر في الخلافيات عن أم كريب بلفظ: «دعوة الرجل لأخيه بظهر الغيب مستجابة وملك عند رأسه يقول آمين ولك بمثل ذلك. .» ، رواه البزار عن عمران بن حصين كشف الخفاء (1، 488) .
(2)
رواه مسلم (2492) من حديث أسير بن جابر.
(3)
رواه الحاكم (3) من حديث علي رضي الله عنه وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (812) ، وهذا سند ضعيف من أجل شريك ويزيد بن أبي زياد فإنهما ضعيفان من قبل حفظهما فحديثه حسن في الشواهد.
(4)
المصدر السابق (1، 231) .
(5)
المصدر السابق (1، 232) .
بيان الحق في مسألة التوسل ورفع الصوت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع الأذان: قال: «أما التوسل وهو أن يقول القائل: اللهم إني أتوسل إليك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، أو بحق نبيك، أو بجاه عبادك الصالحين، أو بحق عبدك فلان، فهذا من أقسام البدع المذمومة، ولم يرد بذلك نص، كرفع الصوت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الأذان» (2) .
رعايتهم لحقوق آل البيت من غير غلو ولا تفريط: قال: «وأما أهل البيت فقد ورد سؤال على علماء الدرعية في مثل ذلك، وعن جواز نكاح الفاطمية غير الفاطمي، وكان الجواب عليه ما نصه: أهل البيت - رضوان الله عليهم - لا شك في طلب حبهم ومودتهم، ولما ورد فيه من كتاب وسنة، فيجب حبهم ومودتهم، إلا أن الإسلام ساوى بين الخلق، فلا فضل لأحد إلا بالتقوى، ولهم مع ذلك التوقير والتكريم والإجلال، ولسائر العلماء مثل ذلك، كالجلوس في صدور المجالس، والبداءة بهم في التكريم، والتقديم في الطريق إلى موضع التكريم ونحو ذلك، إذا تقارب أحدهم مع غيره في السن والعلم.
وما اعتيد في بعض البلاد من تقديم صغيرهم وجاهلهم على من هو أمثل منه،
(1) المصدر السابق (1) .
(2)
المصدر السابق (1) .
حتى إنه إذا لم يقبل يده كلما صافحه عاتبه وصارمه أو ضاربه أو خاصمه، فهذا لم يرد به نص ولا دل عليه دليل، بل منكر تجب إزالته، ولو قبل يد أحدهم لقدوم من سفر أو لمشيخة علم أو في بعض الأوقات لطول غيبه فلا بأس، إلا أنه لما أُلف في الجاهلية الأخرى: أن التقبيل صار علمًا لمن يعتقد فيه أو في أسلافه أو عادة المتكبرين من غيرهم، نهينا عنه مطلقًا، لا سيما لمن ذكر حسمًا لذرائع الشرك ما أمكن» (1) .
هدم القباب على القبور حسمًا لمادة الشرك: ومما أثاره عليهم خصومهم - أهل البدع - وأجلبوا عليهم بخيلهم ورجلهم، وأوغروا صدور عوام المسلمين الجاهلين بحقيقة الأمر مسألة هدمهم للقباب والمزارات والمشاهد البدعية. وهذا من التلبيس وقلب الحقائق، فإن ذلك مما يمدحون به ويشكر لهم لأنهم إنما فعلوا ذلك امتثالًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صح عنه الأمر بذلك والنهي عن البناء على القبور.
بيان حكم تزويج الفاطمية لغير الفاطمي: قال: «وأما نكاح الفاطمية غير الفاطمي: فجائز إجماعًا، بل ولا كراهية في ذلك، وقد زَوَّج علي عمر بن الخطاب، وكفى بهما قدوة، وتزوجت سكينة بنت الحسين بن علي، بأربعة ليس فيهم فاطمي، بل ولا هاشمي، ولم يزل عمل السلف على ذلك من دون إنكار، إلا أنا لا نجبر أحدًا على تزويج موليته ما لم تطلب هي، وتمتنع من غير الكفء، والعرب: أكفاء بعضهم لبعض، فما اعتيد في بعض البلاد من المنع دليل التكبر، وطلب التعظيم، وقد يحصل
(1) المصدر السابق، (1، 233) .
(2)
المصدر السابق، (1، 233) .
بسبب ذلك فساد كبير كما ورد، بل يجوز الإنكاح لغير الكفء، وقد تزوج زيد - وهو من الموالي - زينب أم المؤمنين وهي قرشية، والمسألة معروفة عند أهل المذاهب، انتهى» (1) .
تورعهم عن التكفير وبيان أن لازم الكفر عندهم ليس بلازم: وكانت من القضايا الكبرى بينهم وبين خصومهم دعوى: أنهم يكفرون المسلمين وقد تبرءوا من ذلك، وكتاباتهم وفتواهم ومواقفهم تكذب هذه الفرية، وهم في مسألة التكفير متبعون لنصوص القرآن والسنة، فلا يكفرون إلا بدليل شرعي وبينات، فهم يكفرون من كفَّره الله ورسوله، ولا يكفرون عموم المسلمين كما زعم خصومهم، بل يتورعون عن تكفير المسلمين ويحذرون من مذهب الخوارج في ذلك:
لا يحكمون على أموات المسلمين إلا بخير: قال: «ونحن نقول فيمن مات: تلك أمة قد خلت» (3) .
ولا يكفرون إلا بالشروط وانتفاء الموانع: قال: «ولا نكفر إلا من بلغته دعوتنا للحق، ووضحت له المحجة، وقامت عليه الحجة، وأصر مستكبرًا معاندًا كغالب من نقاتلهم اليوم، يصرون على ذلك الإشراك، ويمتنعون من فعل الواجبات، ويتظاهرون بأفعال الكبائر والمحرمات» (4) .
(1) المصدر السابق، (1، 234) .
(2)
السابق (1، 235) .
(3)
السابق (1، 235) .
(4)
السابق (1، 235) .
لا يلزم من القتال التكفير: قال: «وغير الغالب: إنما نقاتله لمناصرته من هذه حاله ورضاه به، ولتكثير سواد من ذكر والتأليب معه، فله حينئذ حكمه في قتاله» (1) .
الاعتذار عمن مضى من المسلمين ولم تقم عليه الحجة: قال: «ونعتذر عمن مضى: بأنهم مخطئون معذورون لعدم عصمتهم من الخطأ، والإجماع في ذلك ممنوع قطعًا» (2) .
الخطأ وارد على سائر أفراد الأئمة: قال: «ومن شن الغارة فقد غلط (3) ولا بدع أن يغلط، فقد غلط من هو خير منه، كمثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما نبهته المرأة رجع في مسألة المهر وفي غير ذلك، يعرف ذلك في سيرته. بل غلط الصحابة وهم جمع ونبينا صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم سار فيهم نوره، فقالوا اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط» (4) .
والمجتهد المخطئ معذور ما لم تقم عليه الحجة: قال: «فإن قلت: هذا فيمن ذهل، فلما نبه انتبه، فما القول فيمن حرر الأدلة؟ واطلع على كلام الأئمة القدوة؟ واستمر مصرًا على ذلك حتى مات؟ قلت: ولا مانع أن نعتذر لمن ذكر ولا نقول: إنه كافر، ولا لما تقدم أنه مخطئ (5) وإن استمر على خطئه، لعدم من يناضل عن هذه المسألة في وقته، بلسانه وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه الحجة، ولا وضحت له المحجة، بل الغالب على زمن المؤلفين المذكورين: التواطؤ على هجر كلام أئمة السنة في ذلك رأسًا، ومن اطلع عليه أعرض عنه، قبل أن يتمكن في قلبه، ولم يزل أكابرهم تنهى أصاغرهم عن مطلق
(1) السابق (1) .
(2)
السابق (1) .
(3)
أي في الإنكار والتغليظ على المخالف.
(4)
الدرر السنية (1) .
(5)
كذا في الأصل.
النظر في ذلك، وصولة الملوك قاهرة لمن وقر في قلبه شيء من ذلك إلا من شاء الله منهم.
هذا: وقد رأى معاوية وأصحابه رضي الله عنه منابذة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتاله ومناجزته الحرب وهم في ذلك مخطئون بالإجماع، واستمروا في ذلك الخطأ، ولم يشتهر عن أحد من السلف تكفير أحد منهم إجماعًا، بل ولا تفسيقه، بل أثبتوا لهم أجر الاجتهاد وإن كانوا مخطئين، كما أن ذلك مشهور عند أهل السنة» (1) .
بيان الحق في زلة العالم وحفظ مكانته: قال: «ونحن كذلك: لا نقول بكفر من صحت ديانته، وشهر صلاحه وعلم ورعه وزهده، وحسنت سيرته وبلغ من نصحه الأمة ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة والتأليف فيها، وإن كان مخطئًا في هذه المسألة أو غيرها، كابن حجر الهيتمي فإنا نعرف كلامه في الدر المنظم ولا ننكر سعة علمه، ولهذا نعتني بكتبه كشرح الأربعين والزواجر وغيرها، ونعتمد على نقله إذا نقل؛ لأنه من جملة علماء المسلمين» (2) .
دعوة المنصفين إلى حقيقة الأمر الذي هم عليه: قال: «هذا ما نحن عليه مخاطبين من له عقل وعلم، وهو متصف بالإنصاف خال عن الميل إلى التعصب والاعتساف ينظر إلى ما يقال لا إلى من قال» (3) .
ومن أصر على الباطل يؤخذ بالحزم: قال: «وأما من شأنه لزوم مألوفه وعاداته سواء كان حقًا أو غير حق، فقلد من قال الله فيهم:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23][سورة الزخرف، آية: 23] ، عادته وجبلته أن يعرف الحق بالرجال لا الرجال بالحق، فلا نخاطبه وأمثاله إلا بالسيف حتى يستقيم أوده ويصح معوجه، وجنود التوحيد - بحمد الله - منصورة، وراياتهم بالسعد والإقبال منشورة:{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227][سورة الشعراء، آية: 227] ،
(1) السابق (1، 236) .
(2)
السابق (1، 237) .
(3)
السابق (1، 237) .
و {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56][سورة المائدة، آية: 56]، وقال تعالى:{وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173][سورة الصافات، آية: 173]، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] [سورة الروم، آية: 47]، {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] [سورة الأعراف، آية: 128] .
بيان حقيقة البدعة شرعًا: قال: «هذا ومما نحن عليه: أن البدعة هي: ما حدثت بعد القرون الثلاثة مذمومًا مطلقًا، خلافًا لمن قال حسنة وقبيحة، ولمن قسمها خمسة أقسام، إلا إن أمكن الجمع، بأن يقال: الحسنة ما عليه السلف الصالح شاملة: للواجبة والمندوبة والمباحة، ويكون تسميتها بدعة مجازًا، والقبيحة ما عدا ذلك شاملة: للمحرمة والمكروهة، فلا بأس بهذا الجمع» (1) .
نماذج من البدع المذمومة: وكذلك نفوا ما يزعمه الخصوم عنهم من أنهم يُبدِّعون من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويمنعون من الأذكار المشروعة وبيّنوا أن ذلك من الكذب عليهم، وأنهم إنما منعوا البدع ونهوا عنها.
إبطال البدع المألوفة بمكة: قال: «وقد أبطلنا ما كان مألوفًا بمكة، من التذكير والترحيم ونحوه، واعترف علماء المذاهب أنه بدعة.
ومنها: قراءة الحديث عن أبي هريرة بين يدي خطبة الجمعة، فقد صرح شارح الجامع الصغير بأنه بدعة، ومنها الاجتماع في وقت مخصوص على من يقرأ سيرة المولد الشريف، اعتقادًا أنه قربة مخصوصة مطلوبة دون علم السير، فإن ذلك لم يرد.
ومنها: اتخاذ المسابح، فإنا ننهى عن التظاهر باتخاذها.
(1) السابق (1) .
(2)
السابق (1) .
ومنها: الاجتماع على رواتب المشائخ برفع الصوت، وقراءة الفواتح والتوسل بهم في المهمات، كراتب السمان وراتب الحداد ونحوهما، بل قد يشتمل ما ذكر على شرك أكبر، فيقاتلون على ذلك، فإن سلموا من أرشدوا إلى أنه على هذه الصورة المألوفة غير سنة بل بدعة فذاك، فإن أبوا عزرهم الحاكم بما يراه رادعًا» (1) .
الأوراد المشروعة لا تنكر: قال: «وأما أحزاب العلماء، المنتخبة من الكتاب والسنة، فلا مانع من قراءتها، والمواظبة عليها فإن الأذكار، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار، وتلاوة القرآن ونحو ذلك مطلوب شرعًا؛ والمعتني به مثاب مأجور، فكلما أكثر منه العبد كان أوفر ثوابًا، لكن على الوجه المشروع، من دون تنطع ولا تغيير ولا تحريف، وقد قال تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55][سورة الأعراف، آية: 55]، وقال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180][سورة الأعراف، آية: 180] ولله در النووي في جمعه كتاب الأذكار؛ فعلى الحريص على ذلك به، ففيه الكفاية للموفق.
عودة إلى أنواع البدع المذمومة: ومنها: ما اعتيد في بعض البلاد، من قراءة مولد النبي صلى الله عليه وسلم بقصائد بألحان، وتخلط بالصلاة عليه، وبالأذكار والقراءة، ويكون بعد صلاة التراويح، ويعتقدونه على هذه الهيئة من القرب، بل تتوهم العامة أن ذلك من السنن المأثورة، فينهى عن ذلك، وأما صلاة التراويح فسنة، لا بأس بالجماعة فيها والمواظبة عليها.
ومنها: ما اعتيد في بعض البلاد من صلاة الخمسة الفروض بعد آخر جمعة من رمضان، وهذه من البدع المنكرة إجماعًا فيزجرون عن ذلك أشد الزجر، ومنها رفع الصوت بالذكر عند حمل الميت أو عند رش القبر بالماء وغير ذلك مما لم يرد عن السلف، وقد ألف الشيخ الطرطوشي المغربي كتابًا نفيسًا سماه [الحوادث والبدع] واختصره أبو شامة المقدسي فعلى المعتني بدينه بتحصيله» (2) .
(1) السابق، (1، 238) .
(2)
السابق (1، 239) .
التفريق بين ما هو بدعي وما ليس ببدعي من المحدثات: قال: «وإنما ننهى عن البدع المتخذة دينًا وقربة؛ وأما ما لا يتخذ دينًا وقربة كالقهوة وإنشاء قصائد الغزل ومدح الملوك فلا ننهى عنه، ما لم يخلط بغيره إما ذكر أو اعتكاف في مسجد ويعتقد أنه قربة؛ لأن حسان رَدَّ على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: قد أنشدته بين يدي من هو خير منك، فقبل عمر» (1) .
مشروعية اللعب المباح: قال: «ويحل كل لعب مباح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الحبشة على اللعب في يوم العيد في مسجده صلى الله عليه وسلم ويحل الرجز والحداء في نحو العمارة، والتدريب على الحرب بأنواعه، وما يورث الحماسة فيه كطبل الحرب دون آلات الملاهي، فإنها محرمة والفرق ظاهر، ولا بأس بدف العرس وقد قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السمحة» (2) وقال: «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة» (3) » (4) .
إمامة ابن تيمية وابن القيم في الدين: قال: «هذا وعندنا أن الإمام ابن القيم وشيخه، إماما حق من أهل السنة وكتبهم عندنا من أعز الكتب، إلا أنا غير مقلدين لهم في كل مسألة، فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومعلوم مخالفتنا لهما في عدة مسائل، منها طلاق الثلاث بلفظ واحد في مجلس، فإنا نقول به تبعًا للأئمة الأربعة، ونرى الوقف صحيحًا والنذر جائزًا، ويجب الوفاء به في غير المعصية» (5) .
(1) السابق (1، 239) .
(2)
رواه البخاري في الأدب المفرد رقم (387) بلفظ أي الأديان أحب إلى الله عز وجل؟ قال: «الحنيفية السمحة» ، وأحمد (5) ، (6، 233) ، والطبراني في الكبير (11) وغيرهم، راجع كشف الخفا للعجلاني (1) ، والسلسلة الصحيحة للألباني رقم (881) .
(3)
رواه أحمد (6، 233) .
(4)
الدرر السنية (1، 240) .
(5)
السابق (1) .
وينبغي المحافظة على هذه الكلمات، والتحرز عن الشرك ما أمكن؛ فإن عمر بن الخطاب قال: إنما ينقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا دخل في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، أو كما قال. وذلك لأنه يفعل الشرك، ويعتقد أنه قربة، نعوذ بالله من الخذلان، وزوال الإيمان» (2) .
ثم قال الشيخ عبد الله بعد هذا البيان:
دعوة الناس إلى التحقق من حال الدعوة ومنهجها: ثم إنهم قد أنصفوا من أنفسهم وأقاموا الحجة بالدعوة إلى التثبت مما يشاع عنهم والاطلاع على حقيقة حالهم.
(1) رواه ابن حبان في المجروحين (3) ، وأعلّه "بيحيى بن كثير"، ورواه أبو يعلى (58) بسند فيه ليث بن أبي سليم، وقد ضعّف. راجع مجمع الزوائد (10) .
وله شاهد عند أحمد (4) ، والطبراني في الأوسط (4940) .
وله شاهد أيضًا عن عائشة وابن عباس كما في حلية الأولياء (3)(8) .
(2)
الدرر السنية (1، 241) .
(3)
يقصد حسين بن محمد الحضرمي الحياني.
(4)
السابق (1) .
بيان حقيقة التعبد المشروع والتصوف المأمون: وهم حين ينكرون التصوف البدعي، والطرق المحدثة فإنهم يقرون بالتنسك والتعبد المشروع على منهاج السنة والسلف الصالح، وإن سمي ذلك تصوفًا أو طريقة صوفية إذا كان على الاستقامة والسنة وسلم من البدع والمحدثات.
لا يفوضون أمورهم كلها إلا إلى الله تعالى: قال: «ولا نعول، ونستعين، ونستنصر، ونتوكل في جميع أمورنا إلا على الله تعالى، فهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على محمد وآله وصحبة وسلم» (3) .
وبعد:
فإن هذه الوثيقة قد كشفت للناس منهج الدعوة وحقيقة ما هي عليه وأتباعها ودولتها بوضوح وصراحة، وكشفت بالدليل والبرهان الكثير من الزيوف والبهتان الذي يقال عنها.
فهل بعد هذا من بيان لمن ألقى السمع وهو شهيد؟
(1) السابق (1) .
(2)
السابق (1) .
(3)
السابق (1) .