المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[المبحث الثالث نماذج من شهادات المسلمين من العرب وغيرهم] - إسلامية لا وهابية

[ناصر العقل]

فهرس الكتاب

- ‌[المقدمة]

- ‌[تمهيد]

- ‌[حال نجد قبل دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب]

- ‌[المقصود بنجد]

- ‌[حال نجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين]

- ‌[حال نجد في عهد الدولة الأموية]

- ‌[حال نجد في عهد الدولة العباسية]

- ‌[حال نجد في عهد الأتراك]

- ‌[السمات العامة بنجد إبان ظهور الدعوة]

- ‌[حال العالم الإسلامي أثناء قيام الدعوة]

- ‌[ظهور دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب]

- ‌[إمام الدعوة وأميرها الدعوة ودولتها]

- ‌[الإمام المجدد والدعوة]

- ‌[نشأته وشمائله]

- ‌[ركائز الدعوة]

- ‌[مميزات سيرة الإمام ودعوته]

- ‌[الأمير المؤسس والدولة]

- ‌[أسرته]

- ‌[صفاته وشمائله]

- ‌[مميزات سيرته ودولته]

- ‌[الفصل الأول في حقيقة الحركة الإصلاحية أو ما يسمى الوهابية وبواعثها ما ينفي المزاعم]

- ‌[المبحث الأول حقيقة الحركة الإصلاحية والدولة السعودية الأولى]

- ‌[هي الإسلام على منهج السلف الصالح]

- ‌[تسميتها بالوهابية وبيان الحق في ذلك]

- ‌[الوهابية وأحداث سبتمبر بأمريكا]

- ‌[حقيقة الدعوة كما شهد بها المنصفون]

- ‌[المبحث الثاني بواعث قيام الدعوة وأهدافها الكبرى]

- ‌[تحقيق التوحيد]

- ‌[تنقية مصادر التلقي]

- ‌[نشر السنن وإظهارها ونبذ البدع]

- ‌[القيام بواجبات الدين]

- ‌[تحكيم شرع الله]

- ‌[نشر العلم ومحاربة الجهل]

- ‌[تحقيق الجماعة ونبذ الفرقة]

- ‌[تحقيق الأمن والسلطان]

- ‌[رفع التخلف والبطالة]

- ‌[المبحث الثالث حال نجد وما حولها يقتضي ضرورة قيام الدعوة]

- ‌[المبحث الرابع التكامل في منهج الدعوة والدولة]

- ‌[الفصل الثاني في منهج الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه في الدين ما يرد الاتهامات]

- ‌[المبحث الأول وقفة مع الاتهامات والمنهج]

- ‌[المبحث الثاني معالم المنهج عند الإمام وأتباعه وأنهم على منهج السلف الصالح]

- ‌[المبحث الثالث عرض نماذج عن منهجهم في الدين وسلوكهم طريق السلف الصالح وفيه]

- ‌[الأنموذج الأول بيان الإمام لعقيدته ورده على مفتريات الخصوم]

- ‌[الأنموذج الثاني بيان أئمة الدعوة وحكامها من بعده لعقيدتهم والتزامهم بنهج السلف]

- ‌[المبحث الرابع منهجهم في التلقي مصادر الدين ومنهج الاستدلال هو منهج أهل السنة]

- ‌[توقيرهم للعلماء واحترامهم لهم]

- ‌[المبحث الخامس منهجهم في العقيدة تفصيلًا واقتفاؤهم لعقيدة السلف الصالح]

- ‌[التزامهم منهج الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة]

- ‌[قولهم في الإيمان]

- ‌[عقيدتهم في أسماء الله تعالى وصفاته]

- ‌[دفع فرية التجسيم عنهم]

- ‌[عقيدتهم في القرآن]

- ‌[عقيدتهم في الملائكة والكتب والرسل]

- ‌[عقيدتهم في رسول الله وحقوقه وخصائصه]

- ‌[رد مفتريات الخصوم في أن الإمام وأتباعه ينتقصون من حق النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[دفع فرية التلويح بدعوى النبوة عن الإمام محمد بن عبد الوهاب]

- ‌[عقيدتهم في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[عقيدتهم في آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم]

- ‌[عقيدتهم في الصحابة]

- ‌[عقيدتهم في الشفاعة عمومًا]

- ‌[عقيدتهم في اليوم الآخر والجنة والنار والرؤية]

- ‌[عقيدتهم في الرؤية]

- ‌[عقيدتهم في القدر]

- ‌[عقيدتهم في الأولياء وكراماتهم]

- ‌[عقيدتهم في أئمة المسلمين والسمع والطاعة]

- ‌[موقفهم من عموم المسلمين]

- ‌[عقيدتهم في مرتكبي الكبيرة]

- ‌[عقيدتهم في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

- ‌[قولهم في الاجتهاد والتقليد]

- ‌[موقفهم من البدع وأهلها]

- ‌[الفصل الثالث أهم المزاعم والاتهامات التي أثارها الخصوم ضد الدعوة وإمامها]

- ‌[المبحث الأول تمهيد]

- ‌[حقيقة الصراع بين الدعوة وخصومها]

- ‌[عدم التكافؤ المادي بين الدعوة وخصومها]

- ‌[حقيقة المفتريات والاتهامات ضد الدعوة]

- ‌[المبحث الثاني أبرز المفتريات والتهم التي رميت بها الدعوة إجمالاً]

- ‌[وصفهم بالوهابية]

- ‌[رميهم بالتجسيم]

- ‌[بهتانهم بالتنقص من حق النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[اتهامهم بالتشدد]

- ‌[اتهامهم بالتكفير والقتال]

- ‌[دعوى معارضة علماء المسلمين لهم]

- ‌[دعوى مخالفة أكثرية المسلمين وأنهم مذهب خامس]

- ‌[دعوى تحريم التبرك والتوسل والشفاعة مطلقا]

- ‌[المبحث الثالث لماذا هذه المفتريات والاتهامات]

- ‌[الحسد والخوف على السلطان والمصالح]

- ‌[اختلاف المناهج والمشارب]

- ‌[كشف العوار]

- ‌[دعوة إلى الإنصاف والموضوعية]

- ‌[وقفة تأمل ومراجعة]

- ‌[المبحث الرابع نماذج من المفتريات والاتهامات]

- ‌[الأنموذج الأول والتعليق عليه]

- ‌[جواب الإمام وابنه عبد الله على هذه المفتريات ونحوها]

- ‌[الأنموذج الثاني والتعليق عليه]

- ‌[وقفة حول هذه المفتريات والاتهامات]

- ‌[المبحث الخامس القضايا الكبرى التي أثيرت حول الدعوة ومناقشتها]

- ‌[أولا قضية التوحيد والسنة والشرك والبدعة وما يتفرع عنها وفيها]

- ‌[أنها القضية الكبرى]

- ‌[جهود الإمام في بيان هذه الحقيقة ورد الاتهامات]

- ‌[سير أتباعه على هذا المنهاج]

- ‌[الشفاعة والتوسُل والتبرك ودعوى منعها]

- ‌[هدم القباب والأبنية على القبور والمشاهد والمزارات ودعوى بغض الأولياء]

- ‌[ثانيا مسألة التكفير والتشدد والقتال وما يلحق بها]

- ‌[حقائق لا بد من ذكرها]

- ‌[مسألة التشدد وحقيقتها]

- ‌[بطلان دعوى أن الدعوة الوهابية مصدر العنف]

- ‌[وقفة مع شبهة]

- ‌[موقف الإمام وأتباعه من دعوى التكفير وقتال المسلمين]

- ‌[التزام الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه لقواعد التكفير المعتبرة]

- ‌[دعوى إتلاف الكتب]

- ‌[رد دعوى أنهم يكفرون بالذنوب كشرب الدخان]

- ‌[رد دعوى أنهم يكفرون من لم يوافقهم]

- ‌[رد دعوى التشدد]

- ‌[مسألة القتال]

- ‌[المبحث السادس قضايا أخرى]

- ‌[دعوى أنهم خوارج وأن سيماهم التحليق]

- ‌[دعوى أن منشأ الدعوة نجد هي قرن الشيطان]

- ‌[لمزهم أنهم من بلاد مسيلمة الكذاب]

- ‌[فرية منع الحج ونهْب خزائن الحجرة النبوية وانتهاك حرمة المقدسات]

- ‌[دعوى التضييق على أهل الحرمين في أرزاقهم]

- ‌[دعوى أن دعوة الإمام مذهب خامس]

- ‌[دعوى الخروج على الخلافة]

- ‌[الفصل الرابع شهادات الناس للدعوة قديما وحديثا]

- ‌[المبحث الأول وقفة مع الشهادات]

- ‌[المبحث الثاني سرد لأسماء بعض الشهود من العلماء والمفكرين والباحثين العرب المسلمين وغير المسلمين]

- ‌[المبحث الثالث نماذج من شهادات المسلمين من العرب وغيرهم]

- ‌[المبحث الرابع نماذج من شهادات غير المسلمين]

- ‌[المبحث الخامس استطلاع آراء نخبة من طلاب العلم والخريجين من شتى بلاد العالم]

- ‌[الفصل الخامس في آثار الدعوة ما يرد على الخصوم]

- ‌[المبحث الأول كلمة حول آثار الدعوة الإصلاحية وثمارها إجمالا]

- ‌[المبحث الثاني أبرز الآثار المباركة والثمار الطيبة للدعوة تفصيلا]

- ‌[تحقيق العبودية لله تعالى وحده]

- ‌[نشر السنن ومحاربة البدع]

- ‌[التزام نهج السلف الصالح وإظهاره]

- ‌[تحرير مصادر الدين]

- ‌[تحرير منهج الاستدلال]

- ‌[نشر العلم ومحاربة الجهل]

- ‌[الإسهام في النهضة العلمية الحديثة]

- ‌[إظهار شعائر الدين والفضائل وحمايتها]

- ‌[إقامة دولة مسلمة ومجتمع مسلم]

- ‌[تحقيق الجماعة الشرعية والطاعة]

- ‌[تثبيت الأمن]

- ‌[تحرير العقول والقلوب والنفوس]

- ‌[تحكيم شرع الله حتى كان الدين كله لله]

- ‌[إقامة الحجة على الناس]

- ‌[إلغاء مظاهر الجاهلية وأعمالها]

- ‌[المبحث الثالث استعراض بعض النقول والشهادات عن آثار الدعوة]

- ‌[الفصل السادس المملكة العربية السعودية كيان قائم ينفي الاتهامات]

- ‌[المبحث الأول المملكة ودعوى الوهابية]

- ‌[المبحث الثاني منهج الملك عبد العزيز يرد الاتهامات والمزاعم]

- ‌[المبحث الثالث نظام المملكة إسلامي شامل لا يرتبط بمذهب]

- ‌[المبحث الرابع التزامات المملكة الدولية تنفي المزاعم]

- ‌[المبحث الخامس يعيبون أحكام الإسلام ثم ينسبونها للمملكة وللوهابية]

- ‌[المملكة والعمل بشرع الله وحدوده]

- ‌[قطع يد السارق]

- ‌[قتل المفسدين]

- ‌[قتل المرتد]

- ‌[منع دخول غير المسلمين إلى مكة والمدينة]

- ‌[قضايا المرأة وحقوقها في المملكة العربية السعودية]

- ‌[المبحث السادس المملكة تحارب الفساد في الأرض]

- ‌[المبحث السابع المملكة العربية السعودية وأحداث 11 سبتمبر في أمريكا]

- ‌[الخاتمة]

- ‌[ملحق عن نتائج الاستبانة حول الدعوة]

الفصل: ‌[المبحث الثالث نماذج من شهادات المسلمين من العرب وغيرهم]

[المبحث الثالث نماذج من شهادات المسلمين من العرب وغيرهم]

المبحث الثالث

نماذج من شهادات المسلمين من العرب وغيرهم كثيرون جدا أولئك الذين شهدوا لهذه الدعوة الإصلاحية من المسلمين من العرب والعجم، سواء منهم من تأثروا بمبادئ الدعوة، أو من بقوا على اتجاهاتهم المخالفة، لكنهم شهدوا بالحق، وقد ذكرت في هذا المبحث نماذج من تلك الشهادات فحسب، ومن ذلك:

* شهادة محمد بن رشيد رضا في مقدمة كتاب " صيانة الإنسان " للسهسواني، مبينا فيها أنه كان متأثرا بالدعاية المضادة للدعوة، وأن عامة المسلمين كذلك، وأنه تحقق من كتب الدعوة وحالها أن الدعاية كاذبة، وأن الخصوم يفترون عليها الكذب.

حيث قال: " كنا نسمع من صغرنا أخبار الوهابية المستمدة من رسالة دحلان هذا ورسائل أمثاله، فنصدقها بالتبع لمشايخنا وآبائنا، ونصدق أن الدولة العثمانية هي حامية الدين، ولأجله حاربتهم وخضدت شوكتهم، وأنا لم أعلم بحقيقة هذه الطائفة إلا بعد الهجرة إلى مصر، والاطلاع على تاريخ الجبرتي، وتاريخ الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى، فعلمت منهما أنهم هم الذين كانوا على هداية الإسلام دون مقاتليهم.

وأكده الاجتماع بالمطلعين على التاريخ من أهلها، ولا سيما تواريخ الإفرنج الذين بحثوا عن حقيقة الأمر، فعلموها وصرحوا أن هؤلاء الناس أرادوا تجديد الإسلام وإعادته إلى ما كان عليه في الصدر الأول، وإذا لتجدد مجده، وعادت إليه قوته وحضارته، وأن الدولة العثمانية ما حاربتهم إلا خوفا من تجديد ملك العرب، وإعادة الخلافة الإسلامية سيرتها الأولى على أن العلامة الشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت كان ألف كتابا في تاريخ الإسلام ذكر فيه الدعوة التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقال إنها عين ما دعا إليه النبيون والمرسلون، ولكنه قال إن الوهابيين في عهده متشددون في الدين، وقد عجبنا له كيف تجرأ على مدحهم في عهد السلطان عبد الحميد، ورأيت شيخنا الشيخ محمد عبده في مصر على رأيه في هداية سلفهم، وتشدد خلفهم، وأنه لولا ذلك لكان إصلاحهم عظيما ورجا أن يكون عاما، وقد ربى الملك عبد العزيز الفيصل أيده الله غلاتهم المتشددين منذ سنتين بالسيف تربية يرجى أن تكون تمهيدا لإصلاح عظيم.

ص: 315

ثم اطلعت على أكثر كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب ورسائله وفتاويه وكتب أولاده وأحفاده ورسائلهم ورسائل غيرهم من علماء نجد في عهد هذه النهضة التجديدية، فرأيت أنه لم يصل إليهم اعتراض ولا طعن فيهم إلا وأجابوا عنه، فما كان كذبا عليهم قالوا:{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] ، وما كان صحيحا أو له أصل بينوا حقيقته وردوا عليه، وقد طبعت أكثر كتبهم، وعرف الألوف من الناس أصل تلك المفتريات عنهم " (1) .

شهادة علماء مكة بعد دخول الدولة السعودية الأولى للحجاز، وحين اطلع علماء مكة وغيرهم على الدعوة ومنهجها عن كثب وحاوروا علماءها وأميرها سعود بن عبد العزيز، وعرفوا أنها هي الدين الحق، واعترفوا بهذه الحقيقة قالوا:

" نشهد - نحن علماء مكة، الواضعون خطوطنا، وأختامنا في هذا الرقيم - أن هذا الدين الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى -، ودعا إليه إمام المسلمين سعود بن عبد العزيز، من توحيد الله، ونفي الشرك، الذي ذكره في هذا الكتاب، أنه هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب.

أشهد بذلك، وكتبه الفقير إلى الله تعالى: عبد الملك بن عبد المنعم القلعي الحنفي، مفتي مكة المكرمة، عفا عنه، وغفر له (2) .

ثم شهد به كل من محمد صالح بن إبراهيم، مفتي الشافعية بمكة، ومحمد بن محمد عربي البناني، مفتي المالكية بمكة المشرفة، ومحمد بن أحمد المالكي، وعبد الحفيظ بن درويش العجيمي، وزين العابدين جمل الليل، وعلي بن محمد البيتي، وعبد الرحمن جمال، وبشر بن هاشم الشافعي " (3) .

وشهد بذلك وأقر به الشريف غالب، وكان من ألد أعداء الدعوة قائلا: " الحمد لله رب العالمين، أشهد أن هذا الدين الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ودعانا إليه إمام المسلمين سعود بن عبد العزيز، من توحيد الله عز وجل، ونفي الشرك له، وهو الدين الحق الذي

(1) مقدمة صيانة الإنسان (8، 9) .

(2)

الدرر السنية (314) .

(3)

الدرر السنية (315) .

ص: 316

جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وكتبه الشريف غالب بن مساعد، غفر الله له آمين؛ الشريف غالب " (1) .

وقد شهد العلامة الشوكاني بأن هذه الدعوة أخرجت الناس في البلاد التي تمكنت منها من الظلمات والبدع والجاهليات إلى إقامة فرائض الدين وشعائر الإسلام، مع تحفظه على بعض الخطابات التي تقال عن هذه الدعوة وأميرها، فقال:

فإن صاحب نجد تبلغ عنه قوة عظيمة لا يقوم لمثلها صاحب الترجمة (2) فقد سمعنا أنه قد استولى على بلاد الحسا والقطيف وبلاد الدواسر، وغالب بلاد الحجاز ومن دخل تحت حوزته أقام الصلاة والزكاة والصيام، وسائر شعائر الإسلام، ودخل في طاعته من عرب الشام الساكنين ما بين الحجاز وصعدة غالبهم إما رغبة وإما رهبة، وصاروا مقيمين لفرائض الدين بعد أن كانوا لا يعرفون من الإسلام شيئا، ولا يقومون بشيء من واجباته إلا مجرد التكلم بلفظ الشهادتين على ما في لفظهم بها من عوج، وبالجملة فكانوا جاهلية جهلاء كما تواترت بذلك الأخبار إلينا، ثم صاروا الآن يصلون الصلوات لأوقاتها، ويأتون بسائر الأركان الإسلامية على أبلغ صفاتها، ولكنهم يرون أن من لم يكن داخلا تحت دولة صاحب نجد وممتثلا لأوامره خارج عن الإسلام (3) .

ولقد أخبرني أمير حجاج اليمن السيد محمد بن حسين المراجل الكبسي أن جماعة منهم خاطبوه هو ومن معه من حجاج اليمن بأنهم كفار، وأنهم غير معذورين عن الوصول إلى صاحب نجد لينظر في إسلامهم، فما تخلصوا منه إلا بجهد جهيد (4) وقد صارت جيوش صاحب نجد في بلاد يام، وفي بلاد السراة المجاورة لبلاد أبي عريش، ومن تبعه من هذه الأجناس اعتبط بمتابعته، وقاتل من يجاوره من الخارجين عن طاعته، فبهذا السبب صار معظم تلك البلاد راجعا إليه، وتبلغنا عنه أخبار الله أعلم بصحتها، ومن ذلك أنه يستحل دم من استغاث بغير الله من نبي أو ولي أو غير ذلك، ولا ريب أن ذلك إذا كان من اعتقاد تأثير

(1) الدرر السنية (316) .

(2)

يقصد الشريف غالب.

(3)

ليس الكلام على إطلاقه، راجع دعوى التكفير السابقة في هذا البحث.

(4)

ليس هذا منهجهم، وقد يكون هؤلاء من الأعراب والمتعجلين الذين يفتاتون على الدعوة.

ص: 317

المستغاث به كتأثير الله كفر يصير به صاحبه مرتدا كما يقع في كثير من هؤلاء المعتقدين للأموات الذين يسألونهم قضاء حوائجهم، ويعولون عليهم زيادة على تعويلهم على الله سبحانه، ولا ينادون الله - جل وعلا - إلا مقترنا بأسمائهم، ويخصونهم بالنداء منفردين عن الرب، فهذا من الكفر الذي لا شك فيه ولا شبهة، وصاحبه إذا لم يتب كان حلال الدم والمال كسائر المرتدين، ومن جملة ما يبلغنا عن صاحب نجد أنه يستحل سفك دم من لم يحضر الصلاة في جماعة (1) وهذا إن صح غير مناسب لقانون الشرع، نعم من ترك صلاة فلم يفعلها منفردا ولا في جماعة فقد دلت أدلة صحيحة على كفره، وعورضت بأخرى، فلا حرج على من ذهب إلى القول بالكفر، إنما الشأن في استحلال دم من ترك مجرد الجماعة ولم يتركها منفردا.

وتبلغ أمور غير هذه الله أعلم بصحتها، وبعض الناس يزعم أنه يعتقد اعتقاد الخوارج، وما أظن ذلك صحيحا، فإن صاحب نجد وجميع أتباعه يعملون بما تعلموه من محمد بن عبد الوهاب، وكان حنبليا، ثم طلب الحديث بالمدينة المشرفة، فعاد إلى نجد، وصار يعمل باجتهادات جماعة من متأخري الحنابلة كابن تيمية وابن القيم وأضرابهما، وهما من أشد الناس على معتقدي الأموات، وقد رأيت كتابا من صاحب نجد الذي هو الآن صاحب تلك الجهات أجاب به على بعض أهل العلم، وقد كاتبه وسأله بيان ما يعتقده، فرأيت جوابه مشتملا على اعتقاد حسن موافق للكتاب والسنة، فالله أعلم بحقيقة الحال.

وأما أهل مكة فصاروا يكفرونه، ويطلقون عليه اسم الكافر (2) وبلغنا أنه وصل إلى مكة بعض علماء نجد لقصد المناظرة، فناظر علماء مكة بحضرة الشريف في مسائل تدل على ثبات قدمه، وقدم صاحبه في الدين.

وفي سنة (1215) وصل من صاحب نجد المذكور مجلدان لطيفان أرسل بهما إلى حضرة مولانا الإمام حفظه الله، أحدهما يشتمل على رسائل لمحمد بن عبد الوهاب كلها في الإرشاد إلى إخلاص التوحيد، والتنفير من الشرك الذي يفعله المعتقدون في القبور، وهي رسائل جيدة مشحونة بأدلة الكتاب والسنة، والمجلد الآخر يتضمن الرد على جماعة من

(1) هذه من مفتريات الخصوم، فإن المتتبع لأقوال علماء الدعوة وأعمالهم وفتاواهم يجد الأمر خلاف ذلك.

(2)

وهذه شهادة من محايد ثقة عالم بأن خصوم الدعوة يكفرون، ومن يكفرون؟ يكفرون أهل السنة.

ص: 318

المقصرين من فقهاء صنعاء وصعدة ذاكروه في مسائل متعلقة بأصول الدين، وبجماعة من الصحابة، فأجاب عليهم جوابات محررة مقررة محققة، تدل على أن المجيب من العلماء المحققين العارفين بالكتاب والسنة، وقد هدم عليهم جميع ما بنوه، وأبطل جميع ما دونوه؛ لأنهم مقصرون متعصبون، فصار ما فعلوه خزيا عليهم وعلى أهل صنعاء وصعدة، وهكذا من تصدر ولم يعرف مقدار نفسه، وأرسل صاحب نجد مع الكتابين المذكورين بمكاتبة منه إلى سيدي المولى الإمام، فدفع حفظه الله جميع ذلك إلي، فأجبت عن كتابه الذي كتب إلى مولانا الإمام حفظه الله على لسانه بما معناه أن الجماعة الذين أرسلوا إليه بالمذاكرة لا ندري من هم، وكلامهم يدل على أنهم جهال، والأصل والجواب موجودان في مجموعي.

وفي سنة (1217) دخلت بلاد أبي عريش وأشرافها في طاعة صاحب نجد، ثم تزلزلت الديار اليمنية بذلك، واستولى أصحابه على بعض ديار تهامة، وجرت أمور يطول شرحها، وهي الآن في سريان، وقد أفردت ما بلغنا من ذلك في مصنف مستقل؛ لأن هذه الحادثة قد عمت وطمت، وارتجفت لها أقطار الديار الشامية والمصرية والعراقية والرومية، بل وسائر الديار، ولا سيما بعد دخول أصحاب النجدي مكة المشرفة، وطرد أشرافها عنها، ولله أمر هو بالغه.

ثم في سنة (1222) وصل إلينا جماعة من صاحب نجد سعود بن عبد العزيز، لبعضهم معرفة في العلم، ومعهم مكاتيب من سعود إلى الإمام المنصور بالله -رحمه الله تعالى-، وإلي أيضا، ثم وصل جماعة آخرون كذلك في سنة (1227) ، ثم وصل جماعة آخرون كذلك في سنة (1228) ، ودار مع هؤلاء الواردين ومع غيرهم من المكاتبة ما لا يتسع المقام لبسطه " (1) .

* ويشهد المؤرخ الشهير عبد الرحمن الجبرتي للدعوة وأهلها فيقول في حوادث سنة (1221 هـ) :

" وفي هذه الأيام أيضا وصلت الأخبار من الديار الحجازية بمسالمة الشريف غالب للوهابيين؛ وذلك لشدة ما حصل لهم (2) من المضايقة الشديدة، وقطع الجالب عنهم من كل ناحية حتى وصل ثمن الأردب المصري من الأرز خمسمائة ريال، والأردب البر ثلاثمائة

(1) البدر الطالع (525 - 527) .

(2)

يعني أهل مكة قبل دخول الإمام سعود.

ص: 319

وعشرة، وقس على ذلك السمن والعسل وغير ذلك، فلم يسع الشريف إلا مسالمتهم والدخول في طاعتهم، وسلوك طريقتهم، وأخذ العهد على دعاتهم وكبيرهم بداخل الكعبة، وأمر بمنع المنكرات والتجاهر بها وشرب الأراجيل بالتنباك في المسعى وبين الصفا والمروة، وبالملازمة على الصلوات في الجماعة، ودفع الزكاة، وترك لبس الحرير والمقصبات، وإبطال المكوس والمظالم.

وكانوا (1) خرجوا عن الحدود في ذلك، حتى إن الميت يأخذون عليه خمسة فرانسة وعشرة بحسب حاله، وإن لم يدفع أهله القدر الذي يتقرر عليه فلا يقدرون على رفعه ودفنه، ولا يتقرب إليه الغاسل ليغسله حتى يأتيه الإذن، وغير ذلك من البدع والمكوس والمظالم التي أحدثوها على المبيعات والمشتروات على البائع والمشتري.

ومصادرات الناس في أموالهم ودورهم، فيكون الشخص من سائر الناس جالسا بداره، فما يشعر على حين غفلة منه إلا والأعوان يأمرونه بإخلاء الدار وخروجه منها، ويقولون: إن سيد الجميع محتاج إليها، فإما أن يخرج منها جملة وتصير من أملاك الشريف، وإما أن يصالح عليها بمقدار ثمنها أو أقل أو أكثر.

فعاهده (2) على ترك ذلك كله، واتباع ما أمر الله تعالى به في كتابه العزيز، من إخلاص التوحيد لله وحده، واتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون إلى آخر القرن الثالث، وترك ما حدث في الناس من الالتجاء لغير الله من المخلوقين الأحياء والأموات في الشدائد والمهمات، وما أحدثوه من بناء القباب على القبور والتصاوير والزخارف، وتقبيل الأعتاب والخضوع والتذلل والمناداة والطواف والنذور، والذبح والقربان وعمل الأعياد والمواسم لها، واجتماع أصناف الخلائق، واختلاط النساء بالرجال، وباقي الأشياء التي فيها شركة المخلوقين مع الخالق في توحيد الألوهية التي بعثت الرسل إلى مقاتلة من خالفها؛ ليكون الدين كله لله،

(1) يعني أهل مكة قبل دخول الإمام سعود.

(2)

يقصد أن الشريف غالبا عاهد سعودا على هذه الأمور المذكورة.

ص: 320

فعاهده على منع ذلك كله، وعلى هدم القباب المبنية على القبور والأضرحة؛ لأنها من الأمور المحدثة التي لم تكن في عهده.

بعد المناظرة مع علماء تلك الناحية وإقامة الحجة عليهم بالأدلة القطعية التي لا تقبل التأويل من الكتاب والسنة وإذعانهم لذلك، فعند ذلك أمنت السبل، وسلكت الطريق بين مكة والمدينة، وبين مكة وجدة والطائف، وانحلت الأسعار، وكثر وجود المطعومات، وما يجلبه عربات الشرق إلى الحرمين من الغلال والأغنام والأسمان والأعسال حتى بيع الأردب من الحنطة بأربعة ريالات.

واستمر الشريف غالب يأخذ العشور من التجار، وإذا نوقش في ذلك يقول: هؤلاء مشركون، وأنا آخذ من المشركين، لا من الموحدين " (1) .

* ويقول الأستاذ محمود شكري الألوسي عن عقيدة أهل نجد ومنهجهم، وأنهم على نهج السلف الصالح:

" والحاصل أن مذهبهم في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وأن طريقتهم طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم، بل الأحكم، وهي أنهم يقرون آيات الصفات والأحاديث على ظاهرها، ويكلون معناها إلى الله تعالى كما قال الإمام مالك في الاستواء، ويعتقدون أن الخير والشر كله بمشيئة الله تعالى ".

" وأما ما يكذب عليهم بأنهم يفسرون القرآن برأيهم، ويأخذون من الحديث ما وافق فهمهم من دون مراجعة شرح، ولا معول في شيخ، وأنهم يضعون من رتبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنهم لا يعتمدون أقوال العلماء، وأنهم يتلفون مؤلفات أهل المذاهب لكون الحق والباطل فيها، وأنهم مجسمة، وأنهم يكفرون الناس على الإطلاق من بعد الستمائة إلى هذا الزمان إلا من كان على ما هم عليه، وأنهم لا يقبلون بيعة أحد إلا إذا أقر عليه أنه كان مشركا، وأن أبويه ماتا على الشرك بالله، وأنهم ينهون عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم يحرمون زيارة القبور المشروعة مطلقا، وأنهم لا يرون حقا لأهل البيت، وأنهم يجبرونهم على تزويج غير الكفء لهم، إلى غير ذلك من الافتراءات، فكل ذلك زور عليهم وبهتان وكذب

(1) تاريخ الجبرتي (3، 117) .

ص: 321

محض من خصومهم أهل البدع والضلال، بل أقوالهم وأفعالهم وكتبهم على خلاف ذلك كله، فمن روى عنهم شيئا من ذلك أو نسبه إليهم فقد كذب عليهم وافترى، ومن شاهد حالهم وحضر مجالسهم وتحقق ما عندهم علم قطعا أن جميع ذلك وضعه عليهم وافتراه أعداء الدين ".

إلى أن قال: " والقصد بما ذكرناه التنبيه على خطأ من نسب إلى القوم ما هم بريئون منه مما يخل بالديانة، حتى أساء الظن بقسم عظيم من الأمة العربية، وانطوى على بغضهم الذي هو من أعظم أسباب النفاق.

وغالب من أشاع ذلك هم أهل البدع والأهواء الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، وكذبوا بأقوالهم وأفعالهم على الدين المبين الذي هو بعيد عنهم بمراحل، وهم الدجالون الجالبون على الإسلام كل عار، وإلا فأهل الإيمان هم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " (1) .

* ويقول الأستاذ أمين سعيد:

" أما بعد، فسيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي من أحفل السير بالعظات، وأغناها بالفضائل، وأحقها بالبحث والفحص، والتفسير والتعليل، في سيرة مصلح من كرام المصلحين، ومجاهد من كبار المجاهدين، وعالم من خيرة العلماء، أنار الله بصيرته، وهداه سبله، وألهمه التقوى، فدعا أمته للرجوع إلى الله، والعمل بكتابه، وسنة رسوله، ونبذ الشرك وعبادة القبور، فانقادت إليه واقتدت به، واستجابت له، فأخرجها الله به من الظلمات إلى النور، فنجت وفازت، وجنت أطيب الثمار، وسمت إلى مرتبة الأخيار "(2) .

قال: " وحققت الدعوة لنجد آمالها، وقد بدأت في محيطها أول ما بدأت، فأنشأت لها مجتمعا إسلاميا سليما، يؤمن بالتوحيد، ويعظم شأنه، ويسير على هداه، ولا يدعو مع الله أحدا، ولا يزال هذا حاله، لم يتبدل ولم يتغير منذ عهد الشيخ حتى يومنا هذا، فهو يصدع بالحق ويؤمن به "(3) .

وقال: " وسيجد دارس هذه الدعوة دراسة علم وتدبر، ورغبة صادقة في الوقوف على حقيقتها وبلوغ أعماقها، والإحاطة بتطورها وتحولها أن الإخلاص الكامل والرغبة الصادقة في

(1) تاريخ نجد للألوسي (45 - 49) باختصار وتصرف يسير.

(2)

هذا هو كتاب سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب (7) .

(3)

سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب (8، 9) .

ص: 322

تطهير الدين من البدع والخرافات، والعودة إلى الإسلام الصحيح، والأخذ بمذهب الإمام أحمد مذهب السلف الصالح هو الحافز الحقيقي الذي حفز صاحبها إلى دعوتها والمناداة بها " (1) .

إلى أن قال: " الشيخ لم يبتدع بدعة، ولم يحدث حدثا، ولم يأت بجديد من عنده، وإنما هو رأي ارتآه، يمكن أن يلخص بهذه الجملة (الرجوع إلى الله، والعمل بما جاء في كتاب الله، والاقتداء بالرسول والسير على سننه) "(2) .

وقال في موضع آخر: " فإن المنصفين من علماء الشرق والغرب، ولا سيما أولئك الذين جاءوا في الأزمنة المتأخرة، وفوها حقها من التعظيم والتبجيل، بعد أن درسوها حق دراستها، وغاصوا إلى أعماقها، وأحاطوا بما أنتجته من نتائج عظيمة، وما أثمرته من ثمار طيبة للإسلام والعروبة، ولم يكتف بعضهم بجمل عابرة، بل حبر في وصفها الفصول الطوال، ويمكن القول بدون تردد أن تقدير الناس لها وإعجابهم بسمو مقاصدها يزداد كلما ازدادوا دراسة لها، وإحاطة بسيرة مؤسسها باعتبارها أعظم حركة إصلاح ديني واجتماعي ظهرت في الشرق العربي بالعصور المتأخرة.

وهنالك حقيقة أخرى نرى أن نسجلها في هذه المناسبة، وهي أن معظم العلماء الغربيين الذين كتبوا عنها بالغوا كثيرا في تعظيمها، وأسهبوا وأطالوا في وصف نتائجها، لا فرق في ذلك بين العلماء الإنكليز والألمان والأمريكان من الباحثين في شئون الشرق والإسلام، فقد اتفقوا في وصفها بأنها حركة البعث الإسلامي وطليعة هذه النهضة الكبرى التي تنير آفاق الشرق العربي والإسلامي " (3) .

* وقال الأستاذ منير العجلاني بعد أن ساق عدة تعاريف للدعوة:

" وعندنا أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عودة إلى الإسلام في أول أمره ومطلع فجره، ومتى قلنا ذلك كفينا أنفسنا عناء الجدل العقيم، ذلك أن من دعا إلى الإسلام الأول فإنما يدعو إلى الإسلام كما كان يرى في المدينة، في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم في عهود الخلفاء الراشدين.

(1) سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب (13) .

(2)

سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب (13، 14) .

(3)

هذا هو كتاب سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب (191) .

ص: 323

كان المسلمون يومئذ يقرءون القرآن، لا دلائل الخيرات ونحوها، وكانوا يروون الأحاديث، لا قصص الطواغيت والخرافات، وكانوا يقولون:" لا إله إلا الله " بقلوبهم، لا على أطراف ألسنتهم، وكانوا يفهمون معناها، ويعملون بمقتضاها، فما كانوا يعبدون إلا الله وحده، لا يشركون معه الصالحين ولا الشياطين، وما كانوا يقيمون المباني والقباب على أضرحة الأولياء، ليدعوا أصحابها وينذروا لهم ويستشفعوا بهم، كأنهم وهم رمم بالية قادرون على جلب الخير ودفع الضر.

كان المسلمون يصلون ويزكون ويحجون ويصومون، وكانوا يجاهدون ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وكان الأئمة في بلاد الإسلام يسوسون الناس بالشرع، ويأمرونهم بأوامر الشرع، وينهونهم عن نواهي الشرع، ثم غابت هذه الصورة الكريمة للإسلام الأول، وحلت محلها صورة شوهاء تعاون على صنعها الجهل والفساد، فعاد الناس إلى ما يشبه " الجاهلية " التي سبقت الإسلام.

وحركة محمد بن عبد الوهاب هي حركة تجديد وتطهير، تجديد وإحياء لما أهمله المسلمون من أمور الإسلام وأوامره، وتطهير للإسلام مما أدخلوه عليه من الشركيات والبدع، ولم تكن دعوة محمد بن عبد الوهاب دعوة " فيلسوف " معتزل في غرفته، ولكنها كانت دعوة زعيم مصلح يكافح دون عقيدته، ويعمل لها بلسانه ويده، وبكل قلبه، وبكل عقله، وبكل جهده.

إن دعوة محمد بن عبد الوهاب ليست " نظرية " أو كتابا ألفه ليقرأه الناس، ولكنها منهاج رسمه، وقام وراءه يدعو إلى العمل به بالموعظة أولا، ثم بالقوة، قوة دولة الإسلام التي قامت على أساس الشرع وحده.

فمنهاج الشيخ ليس إصلاحا دينيا خالصا بالمعنى الذي يفهمه الأوربيون اليوم؛ لأنهم يفرقون بين الدين والدنيا، ويجعلون الدين صلة خاصة بين العبد وخالقه، لا يحمل الناس على اتباعه بالقوة، ثم هم يفرقون بين الدين (أو الشرع) وبين القانون، ويقولون: إن الدولة تلزم الأفراد بالقانون الذي تضعه هي لهم، ولكنها لا تلزمهم بالشرع، بل قد يخالف قانونها الشرع.

إن الإسلام وحده دين ودنيا، ودعوة الشيخ لذلك دعوة جامعة للأمور الدينية والسياسية.

ص: 324

وخلاصة القول:

أن الوهابية حركة قامت بنشر التوحيد، وكافحت الشرك والبدع، واستأنفت الجهاد، وأنشأت دولة إسلامية على أساس الشرع وحده، ونحن بعد هذا نتفق مع القائلين بأن منهاج الحكومة الوهابية كان مستمدا في كثير من أموره من أفكار ابن تيمية في " السياسة الشرعية " وغيرها من كتبه، ومن أفكار تلامذته وخصوصا ابن القيم " (1) .

ويقول الأستاذ منير العجلاني أيضا:

" كثرت الكتابات عن الوهابية قديما وحديثا، وفيها ثناء، وفيها تجريح، وكانت الكتابات في زمن العثمانيين كلها تقريبا حملات جائرة ظالمة، ثم أخذ الناس يتشككون في حقيقة هذه الكتابات، ويتفهمون الأسباب السياسية والدوافع الشخصية التي كانت تمليها على أصحابها.

وأخيرا بدأ العلماء المنصفون يعطون الحركة الوهابية حقها من الإنصاف والتقدير، وإن لم يكونوا من أتباعها وأنصارها، وإذا اختلفوا معها في أشياء فهم يعرفون لها فضلها ومزاياها، ولكنهم إنما يخشون عليها من الغلاة الذين يريدون فرض آرائهم " المتطرفة " على الآخرين؛ لتوهمهم أن الحق معهم وحدهم " (2) .

ويقول الأستاذ حافظ وهبة تحت عنوان: " ما هي الدعوة الوهابية؟ ":

" لم يكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب نبيا كما ادعى نيبهر الدانمركي، ولكنه مصلح مجدد داع إلى الرجوع إلى الدين الحق، فليس للشيخ محمد تعاليم خاصة، ولا آراء خاصة، وكل ما يطبق في نجد من الفروع هو طبق مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وأما في العقائد فهم يتبعون السلف الصالح، ويخالفون من عداهم، وتكاد تكون عقائدهم وعبادتهم مطابقة تمام المطابقة لما كتبه ابن تيمية وتلاميذه في كتبهم، وإن كانوا يخالفونهم في مسائل معدودة من فروع الدين، وهم يرون فوق ذلك أن ما عليه أكثر المسلمين من العقائد

(1) تاريخ البلاد العربية السعودية (1 - 242) .

(2)

تاريخ البلاد العربية السعودية (1) .

ص: 325

والعبادات لا ينطبق على أساس الدين الإسلامي الصحيح " (1) .

وإننا نلخص فيما يلي المسائل التي اشتهروا بها، والتي تعد كأنها طابع خاص بالنجديين (2) .

أولا: " التوحيد " يعتقدون - استنادا (3) إلى كلام الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة السلف - أن معنى " لا إله إلا الله " البراءة من كل معبود غير الله، وإخلاص التوجه إلى الله وحده، وأن العبادة إذا صرفت لغير الله صار ذلك الغير إلها مع الله، وإن لم يعتقد الفاعل ذلك، فالمشرك مشرك سواء سمي شركه شركا أو توسلا، وليس لديهم من شك في أن من قال: يا رسول الله، أو يا ابن عباس، أو يا عبد القادر، أو غيرهم من المخلوقين، طالبا بذلك دفع شر أو جلب خير في كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فهو مشرك يهدر دمه، ويستباح ماله (4) .

ثانيا: " الشفاعة " لا ينكرون شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حسبما ورد، وهم يثبتونها لسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسبما ورد أيضا، ولكنها تسأل من المالك لها وهو الله، وإذنه فيها لمن شاء من الموحدين، فيقال: اللهم شفع نبينا محمدا فينا يوم القيامة، اللهم شفع فينا عبادك الصالحين، أو نحو ذلك، أما ما يجري على ألسنة الناس من قولهم: يا رسول الله، أو يا ولي الله أسألك الشفاعة، أو غيرها كأدركني أو أغثني أو نحو ذلك فإنه من الشرك، إذ لم يرد بذلك نص من كتاب أو سنة، ولا أثر من السلف الصالح.

ثالثا: " القبور " الكلام على القبور يتناول أولا: البناء عليها وزيارتها، ثانيا: ما يفعله الناس عندها من الدعاء والصلاة وغيرها، ثالثا: ما يقام عليها من القباب والمساجد، رابعا: السفر إليها. أما زيارة القبور فهي مندوبة للاعتبار والاتعاظ والدعاء للميت وتذكر الآخرة، ويراعى فيها الطريقة التي سنها النبي صلى الله عليه وسلم في الزيارة، أما الذبح للمقبور

(1) جزيرة العرب في القرن العشرين (308، 309) .

(2)

ليس للنجديين اختصاص في شيء من الدين، فهم على نهج السلف الصالح.

(3)

استنادا للأدلة الشرعية أولا.

(4)

بالشروط والضوابط الشرعية، فليس لكل أحد أن يفعل ذلك بلا دليل ولا سلطان.

ص: 326

والاستغاثة به والسجود له فهي شرك، وأما تجصيص القبور والبناء والكتابة عليها فكلها من الأمور المبتدعة المنهي عنها.

وهم يستدلون على ذلك بأحاديث كثيرة وردت، وبأقوال السلف الصالح وعملهم، ولذا فقد هدموا في مكة والمدينة القبور المرتفعة وسووها بالأرض، كما أزالوا القباب عند استيلائهم على الحرمين الشريفين في القرن الماضي، كما أزالوها مرة أخرى في الفتح الحاضر سنة (1343 و 1344 هـ)(1925 و 1926 م) ، أما شد الرحال والسفر إلى القبور فبدعة.

رابعا: إعلان الحرب على البدع الشائعة في الأمصار مثل الاجتماع في وقت مخصوص على من يقرأ سيرة المولد الشريف اعتقادا منه أنه قربة، ومثل الزيادات على الأذان المشروع.

وبالجملة: فإنهم يحرصون على العبادات الشرعية أن تكون على السنة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا زيادة أو نقص، ويلحق بهذا ما هو شائع في كثير من الأمصار من خروج النساء وراء الجنائز، وخروجهن لزيارة القبور، والاحتفالات السنوية المسماة بالموالد، وإقامة الحفلات للأذكار المبتدعة، وما يفعله بعض الدراويش من الرقص والمزمار، فإن ذلك كله محرم، وقد منعوا ما كان موجودا منه في الحجاز.

وبسبب ذلك كان الخلاف بين الحكومة العربية السعودية وبين الحكومة المصرية على المحمل وقبوله في الحجاز، والنجديون يحتجون بأنه بدعة لا يصح إقرارها في بلد الوحي والدين، والمصريون يقولون: إنه عادة وشعار للحج ليس إلا (1) .

خامسا: " الجهاد ": مما لا جدال فيه أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يعتبر ما انصرف من العبادات لغير الله إسلاما، ولذا فإنه كان يبدأ الأمر بالدعوة إلى التوحيد، وتنفيذ أوامر الله بلا هوادة، فمن أطاع فقد سلم، ومن خالف أو عاند فقد حل دمه وماله، وعلى هذا الأساس كانت غزواتهم في نجد وخارج نجد من اليمن والحجاز، وضواحي سوريا والعراق.

كل بلد يدخلونها حربا فهي حلال لهم، إن أمكنهم البقاء بها ألحقوها بأملاكهم،

(1) لكن أهل البدع لما منع دخول بدعة المحمل تركوا الحج كله، وزعموا أن السعوديين منعوا الحج.

ص: 327

وإن لم يمكنهم البقاء اكتفوا بما يصل إلى أيديهم من الغنيمة، وهنا يجيء الخلاف بينهم وبين معارضيهم، فإن غيرهم يقول: إن من قال: " لا إله إلا الله محمد رسول الله " فقد عصم ماله ودمه (1) أما هم فيقولون: إن القول لا عبرة به ما لم يدعمه العمل، فمن قال:" لا إله إلا الله محمد رسول الله " وهو لا يزال يدعو الموتى، ويستغيث بهم، ويسألهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، فهو كافر مشرك، حلال الدم والمال، ولا عبرة بقوله، ولهم على هذا أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، ليس هنا موضع تفصيلها.

والجهاد - أو إعلان الحرب - من حقوق الإمام، ينظر إلى المصلحة أو دفع المضرة، فإن رأى المصلحة تعين عليه إعلان الجهاد، ووجب على سائر رعيته متابعته والدخول في سلك الجندية، وعلى هذا كانت الغزوات القديمة والحديثة معتبرة من الجهاد الشرعي.

سادسا: " الاجتهاد ": للشيخ محمد بن عبد الوهاب بعض رسائل في الدعوة إلى الاجتهاد، والرد على أهل التقليد والمعاندين، استند في أكثرها إلى ما كتبه ابن القيم في أعلام الموقعين، ولكن الشيخ محمد وإن كان له بعض مسائل اجتهادية - مثل جعل دية المسلم 800 ريال بدل مائة ناقة - فإنه في الحقيقة يخطو خطوات الإمام أحمد، ويعتمد على كتب الفروع المؤلفة على طريقته، ومما لا شك فيه أن علماء نجد في بدء النهضة الإصلاحية كانوا أكثر إحاطة بالسنة، وعلما بالشريعة، وأوسع مدارك، وأبعد نظرا في فهمهم للأحكام " (2) .

* ويقول أحمد عبد الغفور عطار في الدعوة وإمامها ودولتها: " فالشيخ الإمام مصلح ديني واجتماعي وزعيم سياسي، والمصلح الديني في الإسلام ليس الذي يكون في عزلة عن المجتمع أو السياسة أو الحكم أو الدولة، بل يتناول الإصلاح كل أسباب الحياة ومقوماتها، فالمصلح الديني يصلح حياة الأمة ظاهرها وباطنها، وإصلاح الباطن هو إصلاح المعتقد.

(1) هذا نص، وتفسره وتقيده نصوص ثابتة أخرى، لكنهم جعلوا ذلك مطلقا، وهذا خلاف ما جاءت به النصوص الشرعية الأخرى، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته هو المفسر والمبين لما أطلق، كما سيأتي بيانه.

(2)

جزيرة العرب في القرن العشرين ص (308 - 311) .

ص: 328

وكان الإمام محمد بن عبد الوهاب مصلحا دينيا على هذا المعنى، وكان بصيرا نافذ البصر في شئون الحكم؛ لأنه وقف على نظم الحكم في الإسلام وغير الإسلام، وعرف الحكم الإسلامي الصحيح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنشأه وأرسخ قواعده، وتمسك به من بعده خلفاؤه الراشدون الأربعة، ومن بعدهم عمر بن عبد العزيز، وعرف حكم غير هؤلاء من الخلفاء والملوك معرفة ثاقبة.

وأوقفته دراسة القرآن والسنة على أنظمة حكومات مختلفة سبقت الإسلام من جاهلية وغيرها، واختار من كل ذلك أصح حكم إسلامي، ألا وهو حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وطبقه بقدر ما اتسع له عصره وقدرة الدولة التي بناها.

وكان الوفاق بين الشيخ ومحمد بن سعود تاما، ووجهة نظرهما واحدة، وكان الشيخ يعين الحاكم بعلمه وآرائه، ويريه نهج الإسلام في السياسة وشئون الدولة، والحاكم نفسه ما كان يعمل عملا في الدولة إلا برأي الشيخ الذي كان يعلن الجهاد، ويبعث الرسل والكتب إلى الأمراء والحكام والعلماء والقضاة في البلدان الخارجة عن حكمه ".

إلى أن قال: " وابن عبد الوهاب بنى حكومته وأسسها وشيدها على قواعد الإسلام الثلاث، فدعا إلى الإيمان بالله إيمانا حقا يقضي بصرف العبادات كلها لله وحده، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورسالة رسل الله صلى الله عليهم وسلم هي الدعوة إلى الاعتصام بهذه القواعد، وبناء المجتمع وكل نظمه وقوانينه وتصرفاته عليها، وإذا تعرض الإيمان للفساد أو الخطر وجب على المسلم العالم الصالح أن ينهض للإصلاح ورد الخطر عن العقيدة.

وهذا ما صنع الإمام الشيخ، فهو قد رأى مجتمعه فاسد العقيدة، فقام بالإصلاح، ثم رأى العقيدة الصحيحة السليمة الصالحة في خطر من المبتدعين والضالين والمضلين، فنهض للدفاع عنها بأسلوب الإسلام نفسه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكنهما تعرضتا مع العقيدة لحرب شنها عليها الحكام المبتدعون، والعلماء الضالون، والعامة المضللون، فاضطر الإمام لاتخاذ سلاح من حاربوه للدفاع عن العقيدة وأصحابها.

ص: 329

ونصر الله الإمام المصلح ابن عبد الوهاب نصرا مبينا، وقامت دولة الإسلام التي شيدها على قواعده الصحيحة، وأصبح هو إمام هذه الدولة المسئول عن حمايتها ورعايتها.

وإذا كان الإمام محمد بن عبد الوهاب هو صاحب الدعوة التي أسست حكم الإسلام في الدرعية ثم في نجد، وأقامت دولته، فإن محمد بن سعود كان رأس الحكومة الإسلامية، إذ بايعه الإمام على ولاية الأمر، والدعوة في فجرها ما تزال فكرة في أذهان بضعة نفر من المقتنعين بها، وأبرز الشيخ ومحمد بن سعود الدعوة إلى الواقع بعد أن كانت فكرة، وأقاما مجتمعا إسلاميا، ودولة إسلامية " (1) .

* ويقول الأستاذ فؤاد حمزة في كتابه: " قلب جزيرة العرب ":

" وقد أطلق على أهل نجد خطأ في القرن الماضي اسم الوهابيين، ونسب إليهم أنهم أهل مذهب جديد في الإسلام، إلا أن الحقيقة الآن أصبحت معروفة للناس، فأهل نجد سلفيون يقلدون في المسائل الاجتهادية الإمام أحمد بن حنبل، وقد كانت دعوة الشيخ (محمد بن عبد الوهاب) في القرن الماضي دعوة إصلاحية خالصة لوجه الله، سداها ولحمتها الدعوة إلى الرجوع إلى الإسلام الصحيح، وترك البدع، وهدم معالم الشرك والخرافات والأوهام، وأما نسبة المذهب الجديد إليهم فقد حدث بسبب اختلاط الدعاية التي بثت ضدهم بعناصر سياسية بقصد تنفير الناس منهم، وعدهم خارجين على الإسلام، إلا أنهم مسلمون سنيون، موحدون سلفيو العقيدة خالصو الإيمان "(2) .

* قال الشيخ محمد أبو زهرة: " لقد اتسمت العصور التي جمد فيها العقل بتقديس آراء الأئمة المجتهدين كما أشرنا، وكان من مظاهر ذلك تقديس الصالحين في حياتهم وبعد مماتهم، وزيارة أضرحتهم والطواف حولها بما يشبه الطواف حول بيت الله الحرام، وكان من أثر ذلك أن قامت طائفة تحارب هذا وتشدد في محاربته متبعة في ذلك آراء ابن تيمية، وقد أخرجتها من مرقدها بعد أن طمرتها السنون "(3) ثم قال:

(1) محمد بن عبد الوهاب لأحمد عبد الغفور عطار (88 - 92) .

(2)

قلب جزيرة العرب لفؤاد حمزة (104، 105) .

(3)

المذاهب الإسلامية (211، 212) .

ص: 330

" ظهرت الوهابية في الصحراء العربية نتيجة للإفراط في تقديس الأشخاص والتبرك بهم، وطلب القربى من الله بزيارتهم، ونتيجة لكثرة البدع التي ليست من الدين، وقد سادت هذه البدع في المواسم الدينية والأعمال الدنيوية، فجاءت الوهابية لمقاومة كل هذا وأحيت مذهب ابن تيمية "(1) .

* وقال الزركلي في الأعلام: " محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي: زعيم النهضة الدينية الإصلاحية الحديثة في جزيرة العرب ".

" وكانت دعوته وقد جهر بها سنة (1143 هـ) (1730 م) الشعلة الأولى لليقظة الحديثة في العالم الإسلامي كله، تأثر بها رجال الإصلاح في الهند ومصر والعراق والشام وغيرها، فظهر الألوسي الكبير في بغداد، وجمال الدين الأفغاني بأفغانستان، ومحمد عبده بمصر، وجمال الدين القاسمي بالشام، وخير الدين التونسي بتونس، وصديق حسن خان في بهوبال، وأمير علي في كلكتة، ولمعت أسماء آخرين، وعرف من والاه وشد أزره في قلب الجزيرة بأهل التوحيد " إخوان من أطاع الله "، وسماهم خصومهم بالوهابيين (نسبة إليه) ، وشاعت التسمية الأخيرة عند الأوربيين فدخلت معجماتهم الحديثة، وأخطأ بعضهم فجعلها " مذهبا " جديدا في الإسلام؛ تبعا لما افتراه خصومه، ولا سيما دعاة من كانوا يتلقبون بالخلفاء من الترك العثمانيين "(2) .

* ويقول الدكتور محمد فتحي عثمان: " وقيض الله للانتصار لعقيدة التوحيد الصحيحة (دعوة) و (حركة) تهز عامة الناس وعلماءها وحكامها جميعا على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (1115 - 1206 هـ \ 1703 – 1791 م) ، وكانت هذه (الحركة) الواسعة العميقة الفعالة هي خصيصة الرجل وميزته بين الدعاة إلى عقيدة السلف من علماء الحق ومعلمي الخير، الذين طالما نادوا بإصلاح العقائد والأقوال والأعمال، كم من المصلحين دعوا مثل هذه الدعوة، فما السبب في نجاح الدعوة الوهابية دون الأخرى؟ السبب في هذه ما أحاط بالدعوة الوهابية من ظروف لم تتهيأ لغيرها.

(1) المذاهب الإسلامية (211، 212) .

(2)

الأعلام لخير الدين الزركلي (7) .

ص: 331

فقد اضطهد في بلده (العيينة) واضطر أن يخرج منها إلى (الدرعية مقر آل سعود) وهناك عرض دعوته على أميرها محمد بن سعود، فقبلها وتعاهدا على الدفاع عن الدين الصحيح، ومحاربة البدع، ونشر الدعوة في شبه جزيرة العرب باللسان عند من يقبلها، وبالسيف عند من لم يقبلها " (1) .

ويقول العقاد: " فالنهضة في مصر بدأت عند أوائل القرن التاسع عشر، ولكنها بدأت في الجزيرة العربية قبل ذلك بنحو ستين سنة بالدعوة الوهابية التي تنسب إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبدأت نحو هذا الوقت في اليمن بدعوة الإمام الشوكاني صاحب كتاب " نيل الأوطار "، وكلاهما ينادي بالإصلاح على نهج واحد، وهو العود إلى السنن القديم، ورفض البدع والمستحدثات في غير هوادة، وإنما تسامع الناس بحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وظلت الدعوة الشوكانية مقصورة على قراءة كتب الفقه والحديث؛ لأن الوهابيين هدموا القباب والأضرحة في الحجاز، واصطدموا بجنود الدولة العثمانية في إبان حربها مع الدولة الأوربية التي اتفقت على تقسيمها، مثل هذا الاصطدام قد أودى بدولة علي بك الكبير في مصر، فانقض عليه أعوانه، وتمكن منه حساده بعد محالفته لروسيا في حرب الخلافة الإسلامية.

ولم تذهب صيحة ابن عبد الوهاب عبثا في الجزيرة العربية، ولا في أرجاء العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه، فقد تبعه كثير من الحجاج وزوار الحجاز، وسرت تعاليمه إلى الهند والعراق والسودان وغيرها من الأقطار النائية، وأعجب المسلمين أن سمعوا أن علة الهزائم التي تعاقبت عليهم إنما هي في ترك الدين لا في الدين نفسه، وأنهم خلقاء أن يستجدوا ما فاتهم من القوة والمنعة باجتناب البدع، والعودة إلى دين السلف الصالح في جوهره ولبابه " (2) .

ويقول الحسن بن علي آل عايض (3) في رسالة له إلى الحسين بن علي شريف مكة، مفندا ما رمى به ابن سعود (الملك عبد العزيز رحمه الله) وعلماء الدعوة من أوصاف مشينة:

(1) السلفية في المجتمعات المعاصرة (32) .

(2)

موسوعة العقاد الإسلامية (4، 609) .

(3)

أمراء عسير قبل أن تضم للدولة السعودية.

ص: 332

" وإن أمر ابن سعود ليس كما وهمت في رسالتك أنه أعرابي يقود أجلافا طعامهم الجراد، من ضئضئي ذي الخويصرة، وأن دياره ديار فتن، وعلماءه غلاة يكفرون من لم يدخل في طاعته، ويستبيحون ماله ودمه، وينظرون إلى ما سواهم نظرة الازدراء، وأنه من ولد مسيلمة الكذاب، وأن حوله بني حنيفة وبني تميم، إلى آخر ما ذكرت، ولكن الأمر خلاف ذلك، فأكثر من حوله من قحطان، وهي قبائل ذات بأس ومنعة، ولها أخلاق، ودين تدافع في سبيله ".

ثم قال: " وأما علماء نجد فإن لنا بهم صلة، إذ كانوا يأتون عسيرا ويتصلون بأبي وعمي، وكنا نحضر دروسهم ونحن صغار، فنعم الرجال هم، فإنهم شديدون في ذات الله، وليس لديهم مواربة، فلو علموا أن عبد العزيز قد وضع يده مع الإنكليز في معاهدة ضد العثمانيين لوقفوا في وجهه وكفروه "(1) .

إلى أن قال:

" أما أن الديار هي قرن الشيطان فإن الأرض بأهلها، ولا نعرف عنهم إلا خيرا، ويجب ألا نسيء الظن بالمسلمين، بل علينا أن نتغاضى عن سيئاتهم وخاصة العلماء منهم "(2) .

وقال محمود فهمي باشا (المهندس المصري) في الجزء الأول من تاريخه (البحر الزاخر) في سياق الكلام عن الوهابية: " ومن بعد مدة استمرت في محاربات شديدة ووقائع عتيدة دخل جميع بلاد العرب في العقائد الوهابية، أي العقائد الإصلاحية للديانة الإسلامية، وصارت نجد أيضا في حالة سياسية مدنية جديدة، وبدل أن كانت جهاتها منقسمة إلى عدة عشائر، وشعوب صغيرة منفصلة عن بعضها ومستمرة في حروب وكروب بين بعضها، صارت مقر دولة قوية، وسلطنة سياسية، مثال سلطنة الخلفاء القدماء، ولرئيس هذه الدولة السلطة في الأعمال الدينية والدنيوية ".

" ومع ما كان عليه الوهابيون من الحروب والمبارزات في بلاد العرب لم يعتدوا على حقوق الحكومتين المجاورتين لهم، وهما حكومة بغداد والحجاز، وكانت قوافل الحجاز تمر من وسط أراضيهم

(1) تاريخ عسير للحفظي (358 - 360) .

(2)

تاريخ عسير للحفظي (358 - 360) .

ص: 333

من غير أن يحصل لأي قافلة ضرر أو انزعاج، وكانوا في أحوال أخوية ودية مع الشريف سرور شريف مكة، وفي سنة (1781) بعد الميلاد استحصلوا على رخصة منه في أداء حجهم وطوافهم بالكعبة، فتولد من زيادة قوتهم ونفوذ شوكتهم اشتعال نار الحسد في قلب الشريف غالب، وفي ظرف بضع سنين من تقلده الحكومة وتوظفه شريف مكة بعد الشريف سرور أعلن حربا على الوهابية " (1) .

وقال: " ولما انتظمت مخابرات الشريف غالب مع الدولة التركية العثمانية لم يهمل أدنى طريقة يمكنه إجراؤها في تمكين الدولة العثمانية من الدخول بعساكرها في بلاد العرب لأجل الوقوع بالوهابيين إلا وأجراها، وأثبت (أي زعم) أنهم من الملحدين الكافرين، وأن معاملتهم مع قوافل الحجاج التركية من أقبح الأعمال الفاسدة المضرة "(2) .

ويقول الدكتور طه حسين عن أثر الدعوة الإصلاحي والأدبي: " اعلم أن الباحث عن الحياة العقلية والأدبية في جزيرة العرب لا يستطيع أن يهمل حركة عنيفة نشأت فيها أثناء القرن الثامن عشر، فلفتت إليها العالم الحديث في الشرق والغرب، واضطرته أن يهتم بأمرها، وأحدثت فيها آثارا خطيرة هان شأنها بعض الشيء، ولكنه عاد فاشتد في هذه الأيام وأخذ يؤثر لا في الجزيرة وحدها بل في علاقاتها بالأمم الأوربية أيضا، هذه الحركة هي حركة الوهابيين التي أحدثها محمد بن عبد الوهاب شيخ من شيوخ نجد.

نشأ محمد بن عبد الوهاب في بيت علم وفقه وقضاء، تثقف على أبيه، ثم رحل إلى العراق فسمع من علماء البصرة وفقهائها، وأظهر فيها آراءه الجديدة القديمة معا، فسخط عليه الناس وأخرج من البصرة، وكان يريد أن يذهب إلى الشام فحال الفقر بينه وبين ذلك، فعاد إلى نجد وأقام مع أبيه حينا يناظر ويدعو إلى آرائه حتى ظهر أمره وانتشر مذهبه.

وانقسم الناس فيه قسمين: فكان له الأنصار، وكان له الخصوم، وتعرضت حياته آخر الأمر للخطر، فأخذ يعرض نفسه على الأمراء ورؤساء العشائر ليجيروه ويحموا دعوته، حتى انتهى به الأمر إلى قرية الدرعية، وهناك عرض نفسه على أميرها محمد بن سعود فأجاره وبايعه على المعونة والنصرة، ومن ذلك اليوم أصبح المذهب الجديد مذهبا رسميا يعتمد على قوة سياسية تؤيده

(1) البحر الزاخر (1، 174) نقلا عن (الوهابيون والحجاز) لمحمد رشيد رضا (58، 59) .

(2)

البحر الزاخر (1، 174) نقلا عن (الوهابيون والحجاز) لمحمد رشيد رضا (58، 59) .

ص: 334

وتحميه، بل تنشره في أقطار نجد بالدعوة اللينة حينا وبالسيف والحرب في أكثر الأحيان، وعن هذا التحالف بين الدين والسياسة نشأت في الجزيرة العربية دولة سياسية عظم أمرها واشتد خطرها حتى أشفق منها الترك أشد الإشفاق، فقاوموها ما وسعتهم المقاومة، فلما لم يفلحوا استعانوا بالمصريين وكان أمرهم إذ ذاك إلى محمد علي الكبير، فنجح المصريون في إضعاف هذه الحركة وإزالة هذه الدولة الجديدة، ورد أمرائها إلى ما كانوا عليه قبل ذلك من التواضع، فلا بد من وقفة قصيرة عند هذا المذهب الجديد لنعرف ما هو؟ وما مبلغ تأثيره في الحياة العقلية العربية في هذا العصر الحديث؟

قلت: إن هذا المذهب جديد قديم معا، والواقع أنه جديد بالنسبة إلى المعاصرين، ولكنه قديم في حقيقة الأمر لأنه ليس إلا الدعوة القوية إلى الإسلام الخالص النقي المطهر من كل شوائب الشرك والوثنية، هو الدعوة إلى الإسلام كما جاء به النبي خالصا لله وحده ملغيا لكل واسطة بين الله وبين الناس، هو إحياء للإسلام العربي وتطهير له مما أصابه من نتائج الجهل ومن نتائج الاختلاط بغير العرب، فقد أنكر محمد بن عبد الوهاب على أهل نجد ما كانوا قد عادوا إليه من جاهلية في العقيدة والسيرة، وكانوا يعظمون القبور، ويتخذون بعض الموتى شفعاء عند الله، ويعظمون الأشجار والأحجار، ويرون أن لها من القوة ما ينفع وما يضر.

وكانوا قد عادوا في سيرتهم إلى حياة العرب الجاهليين، فعاشوا من الغزو والحرب، ونسوا الزكاة والصلاة، وأصبح الدين اسما لا مسمى له، فأراد محمد بن عبد الوهاب أن يجعل من هؤلاء الأعراب الجفاة المشركين قوما مسلمين حقا على نحو ما فعل النبي بأهل الحجاز منذ أكثر من أحد عشر قرنا.

ومن الغريب أن ظهور هذا المذهب الجديد في نجد قد أحاطت به ظروف تذكر بظهور الإسلام في الحجاز، فقد دعا صحبه إليه باللين أول الأمر فتبعه بعض الناس، أظهر دعوته فأصابه الاضطراب وتعرض للخطر، ثم أخذ يعرض نفسه على الأمراء ورؤساء العشائر كما عرض النبي نفسه على القبائل، ثم هاجر إلى الدرعية وبايعه أهلها على النصر، كما هاجر النبي إلى المدينة، ولكن ابن عبد الوهاب لم يرد أن يشتغل بأمور الدنيا فترك السياسة لابن سعود، واشتغل هو بالعلم والدين، واتخذ السياسة وأصحابها أداة لدعوته، فلما تم له هذا أخذ يدعو الناس إلى مذهبه، فمن أجاب منهم قبل منه، ومن امتنع عليه أغرى به السيف وشب عليه الحرب، وقد انقاد أهل نجد لهذا المذهب، وأخلصوا له الطاعة، وضحوا بحياتهم في سبيله على نحو ما انقاد العرب للنبي وهاجروا معه.

ص: 335

ولولا أن الترك والمصريين اجتمعوا على حرب هذا المذهب وحاربوه في داره بقوى وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها، لكان من المرجو جدا أن يوحد هذا المذهب كلمة العرب في القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة، كما وحد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن الأول " (1) .

ويقول الدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم (2)" أثارت الدعوة السلفية ولا تزال تثير جدلا كثيرا، فأيدها كثيرون وعارضها كثيرون، والحقيقة أنها لم تأت بجديد في الدين الإسلامي، ولم تكن خارجة عن مبادئه، بل إنها دعوة سنية سلفية، فصاحبها وأتباعها يؤمنون بمذهب أهل السنة والجماعة، ويسيرون على طريقة السلف الصالح فيما يتعلق بآيات الصفات وأحاديثها ".

إلى أن قال: " فالدعوة في أصولها تعتمد على مصدرين أصليين للتشريع، هما القرآن والسنة "(3) .

وقال: " أما أعداء الدعوة فلقد رموها بما لم يكن فيها، وذلك باتهام أتباعها بالقول بأن العصا خير من النبي صلى الله عليه وسلم (4) وباتخاذهم راية شعارها: " لا إله إلا الله محمد رسول الله " (بحذف ميم محمد) أي ليس هناك رسول الله، ولا شك أن هدفهم من وراء ذلك هو نشر دعاية سيئة للدعوة وأتباعها، وإظهارها أنها بدعة جديدة لتنفير الناس منها "(5) .

ويقول محمد جلال كشك: " فالطابع السياسي للحركة الوهابية متوفر لمجرد انتمائها للفكر الإسلامي الصحيح ودعوتها للتوحيد، ولكن لماذا انفردت هذه الدعوة بذلك الأثر السياسي، وتميزت عن الدعوات السلفية التي سبقت أو تلتها، مع أن الفكر التوحيدي ورفض الأولياء أو التمسح بالقبور آراء موجودة - كما قلنا - في الفكر الإسلامي، وأشار إليها ودافع عنها أكثر من عالم في كل قرن وفي أكثر من بلد، ودعوة

(1) الحياة الأدبية في جزيرة العرب (32 - 37) .

(2)

النص له مع الهوامش.

(3)

278.

(4)

خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام، أحمد بن زيني دحلان ص (230) .

(5)

جزيرة العرب في القرن العشرين، حافظ وهبة ص (314) .

ص: 336

التوحيد التي نادى بها الشيخ تقبلها العلماء في شتى بلدان العالم الإسلامي، أو قل: لم يستطع أحد منهم أن يرفضها، بل على العكس ركز خصومها على اتهامها بأنه " لا جديد فيها " واهتموا بمناقشة الشكليات وافتراء الاتهامات، بينما أعلن أكثر من عالم وفقيه أو حتى مستشرق انطباقها على مبادئ الإسلام الصحيحة، وقد كان ابن سند (1) صادقا وسيئ النية في نفس الوقت عندما قال:" إن خطاب سعود في مكة لم يأت بجديد لا يعرفه عوام أهل مكة "، كذلك ذهب ابن بشر إلى أن الشريف غالبا وافق على أفكار الشيخ لولا أن الحاشية حذرته بأن الوهابيين إنما يريدون ملكه وليس ضميره، " فارتعش قلبه وطار ".

ومحمد بن عبد الوهاب اهتم اهتماما كبيرا هو وورثته من بعده بتأكيد أنه لا جديد في دعوته، وأنه لم يأت بمذهب خامس، وهذا صحيح بالطبع، وإن كان الحرص على نفي تهمة المذهب الخامس " أمر مبالغ فيه؛ لأن المذاهب في حد ذاتها ليست أديانا منزلة، وإنما هي اجتهادات " وهم رجال ونحن رجال " (2) .

وقال الشيخ أحمد الناصري السلاوي المغربي: " وفي هذه السنة - أعني سنة ست وعشرين ومائتين وألف - وجه السلطان المولى سليمان (3) رحمه الله ولده الأستاذ الأفضل المولى أبا إسحاق إبراهيم بن سليمان إلى الحجاز لأداء فريضة الحج مع الركب النبوي الذي جرت العادة بخروجه من فاس على هيئة بديعة من الاحتفال، وإبراز الأخبية لظاهر البلد، وقرع الطبول (4) وإظهار الزينة ".

إلى أن قال: " حكى صاحب الجيش (5) أن المولى إبراهيم عندما ذهب إلى الحج استصحب معه جواب السلطان، فكان سببا لتسهيل الأمر عليهم، وعلى كل من تعلق بهم من

(1) هو عثمان بن سند البصري، أحد خصوم الدعوة.

(2)

السعوديون والحل الإسلامي (94) .

(3)

يعني سلطان المغرب.

(4)

قرع الطبول لا يليق بشعيرة الحج، وهو من البدع، ومن عبادات الجاهلية والأمم الضالة، وهو ما كانت تمنعه الدولة السعودية لما دخلت مكة والمدينة تعظيما لشعائر الله.

(5)

يقصد المصاحب لركب الحجاج المغاربة.

ص: 337

الحجاج شرقا وغربا حتى قضوا مناسكهم وزيارتهم على الأمن والأمان والبر والإحسان، قال: حدثنا جماعة وافرة ممن حج مع المولى إبراهيم في تلك السنة أنهم ما رأوا من ذلك السلطان (يعني ابن سعود) ما يخالف ما عرفوه من ظاهر الشريعة، وإنما شاهدوا منه ومن أتباعه ما به الاستقامة والقيام بشعائر الإسلام من صلاة وطهارة وصيام، ونهي عن المنكر الحرام، وتنقية الحرمين الشريفين من القاذورات والآثام التي كانت تفعل بهما جهارا من غير نكير.

وذكروا أن حاله كحال آحاد الناس، لا يتميز عن غيره بزي، ولا مركوب، ولا لباس، وأنه لما اجتمع بالشريف المولى إبراهيم أظهر له التعظيم الواجب لأهل البيت الكريم، وجلس معه كجلوس أحد أصحابه وحاشيته، وكان الذي تولى الكلام معه هو الفقيه القاضي أبو إسحاق إبراهيم الزداغي، فكان من جملة ما قاله ابن سعود لهم: إن الناس يزعمون أننا مخالفون للسنة المحمدية، فأي شيء رأيتمونا خالفنا من السنة؟ وأي شيء سمعتموه عنا قبل اجتماعكم بنا؟

فقال له القاضي: بلغنا أنكم تقولون بالاستواء الذاتي المستلزم لجسمية المستوي، فقال لهم: معاذ الله، إنما نقول كما قال مالك:" الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة " فهل في هذا من مخالفة؟ قالوا: لا، وبمثل هذا نقول نحن أيضا.

ثم قال له القاضي: بلغنا عنكم أنكم تقولون بعدم حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحياة إخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم، فلما سمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ارتعد، ورفع صوته بالصلاة عليه، وقال: معاذ الله، إنما نقول: إنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره، وكذا غيره من الأنبياء حياة فوق حياة الشهداء.

ثم قال له القاضي: وبلغنا أنكم تمنعون من زيارته صلى الله عليه وسلم، وزيارة سائر الأموات مع ثبوتها في الصحاح التي لا يمكن إنكارها، فقال: معاذ الله أن ننكر ما أثبت في شرعنا، وهل منعناكم أنتم لما عرفنا أنكم تعرفون كيفيتها وآدابها؟ وإنما نمنع منها العامة الذي يشركون العبودية بالألوهية، ويطلبون من الأموات أن تقضي لهم أغراضهم التي لا تقضيها إلا الربوبية، وإنما سبيل الزيارة الاعتبار بحال الموتى، وتذكر مصير الزائر إلى ما صار إليه المزور، ثم يدعو له بالمغفرة، ويستشفع به إلى الله تعالى، يسأل الله المنفرد بالإعطاء والمنع بجاه ذلك الميت إن كان ممن يليق أن يستشفع به، هذا قول إمامنا أحمد بن حنبل رضي الله عنه، ولما كان

ص: 338

العوام في غاية البعد عن إدراك هذا المعنى منعناهم سدا للذريعة، فأي مخالفة في هذا القدر؟ اهـ.

ثم قال صاحب الجيش: هذا ما حدث به أولئك المذكورون، سمعنا ذلك من بعضهم جماعة، ثم سألنا الباقي أفرادا فاتفق خبرهم على ذلك " اهـ.

وذكر المؤلف (صاحب الاستقصاء) بعد هذا الخبر بحثا في زيارة القبور، رجح فيه القول بمنع زيارة الأولياء سدا للذريعة مع بيان العلة، وإشهارها بين الناس، وذكر أن سلطان المغرب المولى سليمان رحمه الله كان يرى هذا، وألف فيه رسالته المشهورة " (1) .

ويقول عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه نقلا عن بعض أكابر جيش محمد علي باشا الذين هزمهم أتباع الدعوة في الحجاز سنة 1227 هـ:

" ولقد قال لي بعض أكابرهم من الذين يدعون الصلاح والتورع: أين لنا بالنصر وأكثر عساكرنا على غير الملة، وفيهم من لا يتدين بدين، ولا ينتحل مذهبا، وصحبتنا صناديق المسكرات، ولا يسمع في عرضينا أذان، ولا تقام به فريضة، ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين؟ والقوم (2) إذا دخل الوقت أذن المؤذنون وينتظمون صفوفا خلف إمام واحد بخشوع وخضوع، وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة أذن المؤذن وصلوا صلاة الخوف، فتتقدم طائفة للحرب وتتأخر الأخرى للصلاة، وعسكرنا يتعجبون من ذلك لأنهم لم يسمعوا به فضلا عن رؤيته، وينادون في معسكرهم هلموا إلى حرب المشركين المحلقين الذقون، المستبيحين الزنا واللواط، الشاربين الخمور، التاركين للصلاة، الآكلين الربا، القاتلين الأنفس، المستحلين المحرمات، وكشفوا عن كثير من قتلى العسكر فوجدوهم غلفا غير مختونين، ولما وصلوا (3) بدرا واستولوا عليها وعلى القرى والخيوف، وبها خيار الناس، وبها أهل العلم الصلحاء، نهبوهم وأخذوا نساءهم وبناتهم وأولادهم وكتبهم، فكانوا يفعلون فيهم ويبيعونهم من بعضهم لبعض ويقولون: هؤلاء الكفار الخوارج (4) حتى اتفق أن بعض أهل بدر الصلحاء

(1) الوهابيون والحجاز لمحمد رشيد رضا (37 - 39) .

(2)

يعني السعوديين.

(3)

يعني عسكر خصوم الدعوة.

(4)

أكثر الخصوم يأخذون على أتباع الدعوة وصف بعض خصومهم بالكفر والشرك لمن قد يستحق هذا الوصف بمقتضى الدليل الشرعي، ولا يتورعون عن إطلاق الكفر والخروج - كما في هذا النص - على أتباع الدعوة الذين هم أبعد عن هذه الأوصاف في واقع الحال.

ص: 339

طلب من بعض العسكر زوجته، فقال له: حتى تبيت معي هذه الليلة وأعطيها لك من الغد " (1) .

ويقول محمد كامل ضاهر تحت عنوان: " الدعوة الوهابية والتطور ":

" مضى على ظهور الدعوة الوهابية حوالي قرنين من الزمن، استطاعت خلالهما أن تحافظ على حيويتها رغم الصعاب الشديدة التي واجهتها، وأن تصبح مصدرا روحيا لمعظم حركات التجديد في العالم الإسلامي الحديث، فالعثمانيون حاولوا القضاء عليها عسكريا بعدما شعروا بجسامة خطرها عليهم من الناحيتين السياسية والدينية، لكنهم فشلوا فأخذوا يحرضون الناس ضدها في شتى أنحاء العالم الإسلامي بعد أن اتهموا أتباعها بالكفر، وبالخروج على طاعة الخليفة العثماني، وقد شارك كثير من علماء المسلمين في هذه الحملة التشهيرية بعد أن هددت الدعوة مكانتهم عند الناس، وقوضت الخرافات والبدع التي كانوا يعتبرونها من صميم الدين، وساعد الانجليز أيضا بهذا التشهير بأن لجئوا إلى تشويه مبادئ الدعوة، خاصة وأن بعض الهنود المتأثرين بالتعاليم الوهابية أسسوا دعوات مشابهة لها في بلادهم، فكانت مصدرا لكثير من المتاعب للحكم الإنجليزي.

ساهمت كل هذه الأسباب في تعثر انتشار أفكار الدعوة بين المسلمين، أو التعرف إلى حقيقتها، لكن الوهابيين تخطوا كل هذه الظروف القاسية، واستطاعوا إنشاء دولة لها دورها المتعاظم في مجتمع الدولة المعاصر.

ومن الممكن أن نعلل حيوية الدعوة الوهابية واستمراريتها بالأسباب التالية:

1 -

لأنها كانت تعبر بصدق وإخلاص عن تعاليم الإسلام الحقيقية، كما جاءت من منابعها الأولى في القرآن والسنة، وكما مارسها النبي وصحابته، لذلك دعت إلى تطهير هذه التعاليم من البدع والخرافات التي تسربت إليها من مصادر غريبة، فشوهتها وحادت بها عن معانيها الحقيقية.

2 -

لأنها كانت أول حركة إسلامية في العصور الحديثة سعت إلى إعادة توحيد المسلمين دينيا وسياسيا بعدما أنهكتهم الخلافات المذهبية الضيقة، الناتجة عن تعصب كل فريق لمذهبه دون النظر إلى ما في المذاهب الأخرى من أفكار وآراء راجحة.

(1) الجبرتي في تاريخه (3، 342) .

ص: 340

3 -

لأنها ثارت ضد التقليد الذي كان أحد أسباب تخلف المسلمين الفكري وتقهقرهم الحضاري، ونادت بفتح الأبواب بين جميع المذاهب الإسلامية تشبها بالأئمة الأربعة، أصحاب المذاهب الذين دعوا إلى محاربة التقليد بجميع صوره، وإلى أخذ الحقائق من مصادرها أينما وجدت (1) .

وبهذه الثورة ضد مظاهر الجمود والتقليد والتعصب، التي كانت الطابع المميز لمعظم المسلمين في العهد العثماني، كان مؤسس الدعوة في طليعة الذين عملوا في العصر الحديث لفتح الأبواب بين المذاهب السنية الأربعة التي أغلقها الفقهاء الجامدون منذ القرن الخامس الهجري، وأول من شدد على مبدأ الاجتهاد، واعتبروه واجبا على كل مسلم يستطيعه.

ففي الوقت الذي حارب فيه الشيخ محمد بن عبد الوهاب أي تدخل من جانب العقل في قضايا العقيدة باعتبارها من مصدر إلهي لا يجوز للعقل البشري مسها، فإن دعوته إلى الاجتهاد والثورة على التقليد ردت الاعتبار إلى دور هذا العقل في القضايا الدينية والدنيوية التي لا نص عليها في القرآن والسنة، فالاجتهاد عمل هام من أعمال العقل في تطور الإسلام ومرونته، وقد وجد فيه زعماء الإصلاح الإسلامي المحدثون السبيل المأمون للتطور والإصلاح الاجتماعي داخل الإسلام نفسه وفي خلود هذا الإسلام في العالم المعاصر وفي المستقبل (2) .

وبهذا الإقرار بمبدأ الاجتهاد الذي يساير التطور في المجتمع البشري برهنت الدعوة الوهابية قبل غيرها من الدعوات الإصلاحية الإسلامية الحديثة، على أنه تتوافر في تعاليم الإسلام منذ البداية مرونة تمكن المجتمع الإسلامي من التطور الطبيعي دون إهمال قواعده الأساسية.

4 -

استعانتها بقوة سياسية وحربية لتضمن لمبادئها الانتشار والفعالية؛ لأن النظريات والمثل العليا لا تستطيع أن تنتصر بقوتها وصدقها فقط، بل بما يؤيدها من قوى سياسية واقتصادية وعسكرية، ومن أجل ذلك اتصل الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأمير الدرعية

(1) راجع مجموعة الرسائل والمسائل النجدية رسائل وفتاوى الشيخ أحمد بن ناصر بن عثمان بن معمر ص (325)(محمد كامل) .

(2)

راجع الإسلام في نظر الغرب، ترجمة إسحاق موسى الحسيني (72)(محمد كامل) .

ص: 341

محمد بن سعود، وتعاهد معه على الجهاد، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر الدعوة في جزيرة العرب، " باللسان عند من يقبلها، وبالسيف عند من لم يقبلها ".

إن أحد أسباب الفشل الذي منيت به الحركات الإصلاحية الإسلامية قبل الدعوة الوهابية وبعدها إنما يرجع إلى عدم توافر هذا المبدأ، وهو دليل على بعد النظر الذي كان يتصف به الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونصيره الأمير محمد بن سعود، وقد ظل هذا الاتحاد بين القوتين الدينية والسياسية ينمو ويتفاعل حتى انبثقت عنه المملكة العربية السعودية التي يزداد حجم تأثيرها الديني والسياسي والاقتصادي على المجتمعين الإسلامي والعربي من ناحية، وعلى المجتمع الدولي وحضارته من ناحية أخرى.

وفي الوقت الذي بدأت فيه الحضارة الغربية تطرح نفسها كمنهج للتطور المادي للشعوب، وتتسرب وسائلها إلى المجتمعات المتخلفة، كانت المملكة العربية السعودية التي (1) تتمسك بالتعاليم الإسلامية بمفهومها الوهابي في طليعة هذه المجتمعات التي فتحت لها أبوابها، واستعانت بها لتطوير حياة شعبها دون أن يمس ذلك بعقيدتها الدينية أو يتعارض معها " (2) .

وإن من الحق ما شهدت به الخصوم، ومن ذلك ما قاله عن أثر هذه الدعوة خصمها عثمان بن سند البصري، واختصره عنه أمين بن حسن الحواني:

قال: " ومن محاسن الوهابيين أنهم أماتوا البدع ومحوها، ومن محاسنهم أنهم أمنوا البلاد التي ملكوها، وصار كل ما كان تحت حكمهم من هذه البراري والقفار يسلكها الرجل وحده على حمار بلا خفر خصوصا بين الحرمين الشريفين، ومنعوا غزو الأعراب بعضهم على بعض، وصار جميع العرب على اختلاف قبائلهم من حضرموت إلى الشام كأنهم إخوان أولاد رجل واحد "، ثم قال:" وبهاتين الدسيستين خدعوا جميع العوام - يعني بمحو البدعة وتأمين الطرقات والسبل خصوصا بين الحرمين -، وأحبهم سائر الأمم، وغفلوا عن باقي معتقداتهم "(3) .

(1) راجع الإسلام في نظر الغرب، ترجمة إسحاق موسى الحسيني (73)(محمد كامل) .

(2)

الدعوة الوهابية وأثرها في الفكر الإسلامي الحديث (209 - 211) .

(3)

نقلا عن انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، محمد كمال جمعة (56) .

ص: 342