الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المبحث الرابع نماذج من شهادات غير المسلمين]
المبحث الرابع
نماذج من شهادات غير المسلمين لقد شهد للدعوة وإمامها وأتباعها ودولتها عدد كبير من الغربيين من مختلف الدول الغربية، وكان كثير منهم شاهد عيان، أو ممن بحث هذه المسألة على المنهج العلمي المتجرد، أو وقف على شيء من الحقيقة، وغالبية من وقفوا على حقيقة الدعوة من الرحالة والباحثين والمستشرقين أثنوا عليها وعلى إمامها، ومما يؤسف له أن هؤلاء الأجانب وهم غير مسلمين إلا النادر منهم كانوا أكثر إنصافا في تقويمها، وأصدق لهجة في الثناء عليها، وأكثر عدلا في الحكم عليها من خصوم الدعوة من المنتسبين للإسلام، من أهل البدع والأهواء.
ولعل أهم سبب لذلك أن الدعوة واجهت أهل البدع، وكشفت عوارهم، وصادمت مصالحهم المبنية على رواج البدع وتبعية الدهماء لهم، التي أكسبتهم الجاه والمال والتحكم في مصالح البلاد والعباد، أما أولئك فكانوا بعيدين عن الصراع المباشر مع الدعوة، ولذلك لما قامت دولتها وتوسعت وقفت الدول الغربية وساستها ضدها، وأسهموا في التحريض عليها ومحاربتها بكل الوسائل، لكن بقي كثيرون من أهل الفكر منهم والباحثين أقرب للحياد والإنصاف والموضوعية في نظرتهم وأحكامهم.
يقول الرحالة (بوركهارت) السويسري الأصل (1)
" لم تكن مبادئ محمد بن عبد الوهاب مبادئ ديانة جديدة، بل كانت جهوده موجهة فقط لإصلاح المفاسد التي تفشت بين المسلمين ونشر العقيدة الصافية بين البدو الذين كانوا مسلمين اسميا، لكنهم جهلاء بالدين وغير مبالين بكل فروضه التي أوجبها (2) وكما
(1) نقلت الكلام بهوامشه التي علقها الدكتور عبد الله الصالح العثيمين مترجم الكتاب.
(2)
ورد في بعض رسائل الشيخ محمد ما يؤيد ما ذكره المؤلف، بل إنه كان بين البدو من لا يؤمن بالبعث بعد الموت.
انظر: روضة الأفكار، ج1 ص (108 و 144)(العثيمين) .
هي الحال بالنسبة لكل المصلحين لم يفهم محمد بن عبد الوهاب من قبل أصدقائه ولا من قبل أعدائه (1) فأعداؤه حينما سمعوا بفرقته الجديدة التي تهاجم انحراف الأتراك وتنظر إلى نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بغير نظرتهم التقديسية اقتنعوا بسهولة أن عقيدة جديدة قد اعتنقت، وأن الوهابيين لذلك ليسوا مجرد ضالين بل كافرين (2) وقد تأكد لديهم هذا الاعتقاد أولا بخداع شريف مكة غالب، وثانيا بنذير الخطر الذي حل بكل الباشوات المجاورين (3) .
فقد كان شريف مكة العدو اللدود لحكومة الوهابيين حريصا على توسيع شقة الخلاف بين هؤلاء وبين الإمبراطورية التركية، ولذلك نشر بمهارة متواصلة تقارير عن الوهابيين بأنهم كفار؛ ليحبط كل محاولة للتفاوض معهم (4) ولم يكن باشوات بغداد ودمشق والقاهرة القريبون من البدو المفزعين أقل حرصا منه على إظهار مخططات أعداء المفاسد التركية، وبالتالي العقيدة التركية، بأحلك الألوان " (5) .
" وبالإضافة إلى ذلك كانت هناك تقارير كثيرة من الحجاج الذين ذهبوا عن طريق البحر إلى جدة ومكة، وعانوا من غطرسة الجنود الوهابيين، ولم يسمح لهم بأداء الحج أحيانا، وبعد عودتهم إلى بلادهم بالغوا في تصوير ما عانوه، ومن المؤكد أن وصفهم للوهابيين لا يمكن أن يكون محايدا، ولذلك لم يكن غريبا أن أصبح من المعتقد في الشرق عامة أن
(1) أكثر أصدقاء الشيخ محمد قد فهموه فهما جيدا، لكن من عامة أتباعه من جهل مبادئه نوعا ما، أما أعداؤه فمنهم من فهمه لكنه حاربه عنادا، ومنهم من جهله فعارضه بناء على ما أشيع عنه خطأ (العثيمين) .
(2)
ينظر الوهابيون إلى النبي صلى الله عليه وسلم نظرة شرعية، يحبونه ويتبعونه، ولكنهم لا يصرفون إليه أي نوع من أنواع العبادة (العثيمين) .
(3)
كانت مبادئ دعوة الشيخ محمد قد وصلت إلى الحجاز قبل أكثر من أربعين سنة من تولي الشريف غالب الحكم، وكانت قد وصلت إلى هناك مشوهة عن طريق معارضيها في نجد، ووقف أشراف الحجاز منها موقفا عدائيا منذ البداية، إذ سجنوا أتباعها ومنعوهم من الحج سنين طويلة، ثم بدءوا يحاربونها عسكريا منذ سنة 1205 هـ.
انظر تفاصيل ذلك في كتاب: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص (66 - 69)(الدكتور عبد الله العثيمين) .
(4)
في عهد الشريف مسعود بن سعيد - أي قبل تولي الشريف غالب الحكم بأكثر من أربعين سنة - أصدر قاضي الشرع بمكة حكما كفر فيه الشيخ محمدا وأتباعه، فمنعوا من أداء الحج سنين طويلة (العثيمين) .
(5)
من الواضح كره المؤلف للأتراك، على أن عقيدة الأتراك لا تختلف عن عقيدة غيرهم من المسلمين، فقد كانت البدع والخرافات منتشرة لديهم ولدى غيرهم على حد سواء (العثيمين) .
الوهابيين كانوا يحاولون أن يوجدوا ديانة جديدة تماما، وأنهم يعاملون الأتراك بقسوة متناهية لأنهم مسلمون، وهو اعتقاد لا ينفيه تصرف كثير من الوهابيين (1) على أن أصحاب هذا التصرف من البدو الذين كانوا جهلاء تماما بالإسلام قبل أن يعرفوا الوهابية، والذين لا تزال معرفتهم به غير صحيحة، ولذلك فإن المبادئ الجديدة بدت لهم ديانة جديدة، خاصة بعد أن عرفوا عادات الحجاج الأتراك وسكان المدن العرب ومبادئهم المختلفة، وقارنوها بمبادئهم الخاصة، ولم تسمح لهم روح التعصب التي غذاها رئيسهم بكل ما وسعه أن يفرقوا بين أمور لا يعرفون عنها إلا معرفة غير صحيحة، وهذا يفسر بوضوح كيف حدث أنهم كانوا يتهمون الأتراك بالكفر، وأن الأتراك بدورهم كانوا يتهمونهم بذلك، على أن قليلا من السوريين الأذكياء الذي قاموا بأداء الحج وجدوا فرصا للتحدث مع المطلعين من الوهابيين، واقتنعوا - على الأرجح - أن عقيدة البدو كانت هي عقيدة الإسلام (2) ومع أن آراءهم قد لا تتفق مع آراء الوهابيين في كل النقاط فقد شعروا أنه من غير الإنصاف تسميتهم كفارا، لكن شهادة مثل هؤلاء إن جسروا على أدائها دون تعريض أنفسهم لتهمة سوء إسلامهم، كانت غير مجدية أمام الصيحة العامة خاصة بعد سنة 1803 م حين ردت قوافل الحج، وتكون رأي عام بأن الوهابيين كانوا أعداء لدودين للديانة الإسلامية " (3) .
" ومنذ أن وطد جيش محمد علي مكانته في الحجاز ولم تعد مكائد الشريف غالب ذات جدوى، وبدأت الاتصالات المباشرة مع زعماء الوهابيين وقادتهم الصغار، وعادت قوافل الحج تسير في طرقها القديمة، عرفت حقيقة الوهابيين أحسن من ذي قبل حتى في الأجزاء البعيدة من المناطق التركية، ومن المرجح أن الاحترام الذي عبر عنه أهل مكة تجاه
(1) الدعايات المغرضة ضد هؤلاء وتكفيرهم من قبل الأشراف وغيره من الأمور التي حدثت قبل استيلائهم على الحجاز بأكثر من نصف قرن، لكن هذا الاستيلاء وما ترتب عليه من أحداث زاد من تصميم الدولة العثمانية على القضاء عليهم (العثيمين) .
(2)
يظهر المؤلف أحيانا الوهابيين وكأنهم بدو فقط، والواقع أن عماد دعوة الشيخ محمد كانوا من حاضرة نجد، خاصة في المراحل الأولى من قيام الدولة التي قامت على أساسها. (العثيمين) .
(3)
كان منع سعود بن عبد العزيز قوافل الحج من الوصول إلى مكة موجها فقط ضد أولئك الذين لم يتمشوا بما كان يراه من الحق دينيا وسياسيا، كما سيتضح فيما بعد (العثيمين) .
حكمهم القصير قد أثر بمعظمه على كل حاج استفسر عن تلك الفرقة الجديدة.
وإذا تطلب الأمر دليلا آخر على أن الوهابيين مسلمون محافظون فإن كتبهم توضح ذلك، فحينما استولى سعود على مكة وزع نسخا من تلك الكتب على السكان (1) وأمر أن يحفظها التلاميذ في المدارس العامة، وليس فيما احتوته إلا ما لا بد لكل تركي من أن يعترف بأنه الحق، وكانت لدى سعود فكرة سيئة مؤداها أن سكان تلك المدينة نشئوا على جهل تام بدينهم، ولذلك رغب في أن يعلمهم أصوله الأولى " (2) .
إلى أن قال: " ولا يوجد في النظام الوهابي أي مبدأ أخلاقي جديد، فقد اتخذ محمد بن عبد الوهاب القرآن والسنة دليله الوحيد، والخلاف بين فرقته وبين الأتراك السنة مهما قيل عنه هو أن الوهابيين يتبعون بدقة نفس الأحكام التي أهملها الآخرون، أو توقفوا عن مزاولتها كلية، ولهذا فإن وصف الديانة الوهابية ما هو إلا تلخيص للعقيدة الإسلامية، ولإيضاح النقاط التي تختلف فيها هذه الفرقة عن الأتراك لا بد من إعطاء قائمة بكل المفاسد التي يدان بها هؤلاء الأخيرون، ويؤيد هذا القول بقوة رأي علماء أجلاء من القاهرة، ففي خريف عام 1815م أرسل الزعيم الوهابي مندوبين إلى هذه المدينة أحدهما عالم وهابي جليل (3) .
وقد طلب محمد علي باشا منهما أن يشرحا عقيدتهما لعلماء القاهرة الكبار، فتقابل العالم الوهابي معهم عدة مرات، وأحرز قصب السبق عليهم لأنه كان يبرهن على كل مسألة عن ظهر قلب بآية من القرآن أو حديث من السنة، وهما مما لا يمكن رده بطبيعة الحال، فأعلن أولئك العلماء أنهم لم
(1) الكتاب الذي وزعه سعود على أهل مكة بعد دخوله إليها هو رسالة الأصول الثلاثة، وهي معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وهذه الرسالة من تأليف الشيخ محمد المطبوعة مرات عديدة، وقد أورد بوركهارت ترجمة لها جعلها من بين ملاحق كتابه هذا. (العثيمين) .
(2)
مواد لتاريخ الوهابيين لبوركهارت (13 - 17) ترجمة وهوامش الدكتور عبد الله العثيمين.
(3)
العالم الجليل المشار إليه هو عبد العزيز بن حمد بن إبراهيم من آل مشرف، وهو ابن بنت الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولد حوالي سنة 1190 هـ، وكان قاضيا في الدرعية، وآخر عمل له تولي القضاء في بلدة سوق الشيوخ العراقية حيث توفي بعد سنة 1240 هـ.
انظر ترجمته في كتاب: علماء نجد خلال ستة قرون، لعبد الله البسام، مكتبة النهضة الحديثة بمكة، 1398 هـ، ج2، ص (443 - 444)(العثيمين) .
يجدوا أية بدع لدى الوهابيين، وبما أن هذا الإقرار قد صدر من العلماء المذكورين فإنه لا يرقى إليه أدنى شك، وقد وصل إلى القاهرة أيضا كتاب يشتمل على رسائل مختلفة عن موضوعات دينية كتبها محمد بن عبد الوهاب نفسه، وقرأ كثير من العلماء ذلك الكتاب، فأقروا بالإجماع أنه إذا كانت هذه هي عقيدة الوهابيين فإنهم أنفسهم يؤمنون بتلك العقيدة.
ولأن العامة من المتحمسين في أية فرقة جديدة يندر أن يتشبعوا بروح مؤسسها الحقيقية فقد حدث أن كثيرا من أتباع ابن عبد الوهاب عدوا أمورا ثانوية من الأمور الأساسية في العقيدة، وهذا ما جعل أعداءهم يكونون فكرة خاطئة عما يفترضون أنها ديانة جديدة، وقد انصب هجوم الوهابيين الشديد بعد حربهم للأولياء (1) بصفة رئيسية على الملابس وتدخين التبغ، فملابس الأتراك الأغنياء لا تتفق إلا قليلا مع تعاليم السنة التي تحرم لبس الحرير والذهب، كما تحرم لبس الفضة إلا بكمية قليلة، وقد نظر الوهابيون إلى أثواب الأتراك المزركشة بازدراء، ولأنهم علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لبس عباءة مثلهم، وحرم الملابس الفخمة، عدوا من الضروري أن يتبعوا طريقته في اللباس كاتباعهم لمبادئه الأخلاقية، وكان يمكن معرفة الوهابيين في جزيرة العرب فورا بملابسهم، فالعربي الذي لم يعتنق دعوتهم من المؤكد أن يكون جزء من ملابسه من الحرير، إما أن يحلي به الغطاء الذي يلفه على رأسه، أو يطرز به بردته.
أما تدخين التبغ فمن المعروف أن كثيرا من العلماء الأتراك قد ذكروا مرارا في كتاباتهم أنه عمل محرم، وهو مكروه في المذهب المالكي، أحد المذاهب السنية الأربعة، وكثير من العلماء في كل جزء في تركيا يمتنعون عن تدخينه على أساس ديني، وقد رغب الزعيم الوهابي أيضا في أن يمنع تدخين النباتات المسكرة المستعملة كثيرا في الشرق لمعارضة ذلك للقرآن، لكنه لم يستطع أن ينجح في هذا الأمر تماما، ولا بد أن ابن عبد الوهاب كان يعلم في الوقت نفسه أن أتباعه في تضحيتهم الكبيرة بامتناعهم عن التدخين سيصبحون بطبيعة الحال أشد أعداء لكل أولئك الذين لا زالوا منغمسين في ذلك الترف، ولم يعتنقوا دعوته بعد (2)
(1) لم يحارب الوهابيون الأولياء، ولم ينكروا كراماتهم، ولكنهم حاربوا وأنكروا صرف أي نوع من أنواع العبادة لهم.
انظر تفصيل ذلك في كتاب: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص (113 - 114)(العثيمين) .
(2)
حرم أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب تدخين التبغ على أساسين:
أحدهما: أنه يسكر خاصة إذا دخن بعد فترة طويلة من الامتناع عن تدخينه.
وثانيهما: أنه يسبب رائحة خبيثة، والخبائث محرمة بنص القرآن الكريم.
انظر: مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، القاهرة 1346 هـ، ج1، ص (652) (العثيمين) قلت: أهم سبب في تحريمه ضرره المجمع عليه (الباحث) .
وكان تحريم التدخين إحدى الوسائل الرئيسية لإثارة أذهان الوهابيين ضد الأتراك، فلقد أصبح كلمة لامة لشمل المعتنقين الجدد للدعوة، لكنه ظل أصعب شيء على نفوس العرب من بين كل المبادئ التي نادى بها المصلح، وقد حرم الوهابيون الدعاء بالمسبحة، وهو أمر شائع لدى المسلمين مع أن الشرع لم ينص عليه، ومنعوا استعماله (1) ويقال أيضا إنهم حرموا شرب القهوة، ولكن ذلك غير صحيح إذ إنهم دائما يشربونها بقدر كبير.
ومن المشكوك فيه ما إذا كانت لدى ابن عبد الوهاب حين دعا إلى الإصلاح في الدرعية أية فكرة في إنشاء حكم جديد يستظل بظله أتباعه من جزيرة العرب (2) فقوة أسرته وأسر أقاربه لم تكن تمكنه من اتخاذ تلك الخطوة التي يبدو أنها لم تنجح إلا في عهد عبد العزيز بن محمد بن سعود، ولا ينكر أنه كان لابن عبد الوهاب فضل كبير على العرب بدعوتهم إلى مبادئه الجديدة، كما لا يمكن أن يقال: إن شكل الحكومة التي قامت على أساس دعوته غير مفيد لمصالح الأمة العربية جميعها ورفاهيتها، أما أن العقيدة السائدة والتي يقال: إنها محافظة هي الديانة المحمدية الصحيحة أم الوهابية فأمر غير مهم، لكنه أصبح مهما أن يقضى على الشرك الذي انتشر في كل جزيرة العرب، وفي جزء كبير من تركيا، والذي ترك أثرا أكثر ضررا على أخلاق الأمة من الاعتراف المحدد بديانة خاطئة (3) ولهذا فإن فضيلة الوهابيين ليست أنهم طهروا الديانة الموجودة، لكن
(1) يرى أتباع الشيخ محمد أن التسبيح باليد أفضل لأنه الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه أكثر حضورا للقلب (العثيمين) .
(2)
يبدو أن الشيخ محمدا كان يرى في بداية الأمر أن منطقة نجد هي مدار الدولة التي ستقوم على أساس دعوته، ذلك أنه حين قابل الأمير عثمان بن معمر أمير العيينة قال له:" إني أرجو إن أنت قمت بنصر لا إله إلا الله أن يظهرك الله وتملك نجدا وأعرابها "، وحين قابل الأمير محمد بن سعود بعد انتقاله إلى الدرعية قال له قولا مشابها لذلك.
انظر: عنوان المجد، ج1، ص (22 و 24)(العثيمين) .
(3)
هكذا وردت العبارة، ولعل بوركهارت قصد أن يقول: إن الأثر الذي تركه انتشار الشرك أكثر ضررا من مخالفة ما جاء به الشيخ محمد من أمور خاطئة في نظر خصومه (العثيمين) .
لأنهم جعلوا العرب يزاولون بدقة الأخلاق الإيجابية لدين واحد، ذلك أنه بالرغم من أن البدو في كل زمان عبدوا الله بإخلاص فإن المبادئ الإلهية وحدها لم يكن من المعتقد أن تكفي لتعليم أمة جافة صعبة المراس مزاولة الفضيلة والعدل.
ولقد دفعت رغبة ابن عبد الوهاب وخلفائه في إعادة العرب إلى الحالة التي كانوا عليها عند ظهور مؤسس ديانتهم إلى تغيير وضعهم السياسي بمجرد أن رأوا أتباعهم في ازدياد، وكان محمد صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه القادة السياسيين والدينيين لأمتهم، وتوضح كتب الفقه الإسلامي في كل صفحة من صفحاتها كيف أنه من الضروري وجود زعيم أعلى في الشئون الدينية والدنيوية، وكانت نجد التي أصبحت المركز الرئيسي للقوة الوهابية مقسمة إلى عدد من المناطق والبلدان والقرى الصغيرة المستقل بعضها عن البعض الآخر، وكانت في حالة حرب مستمرة، ولم يكن يعترف فيها خلا بقانون القوي سواء في البادية أو داخل أسوار البلدان، وكان الأمان الشخصي دائما لا يتحقق إلا على حساب الملكية الفردية (1) .
وبالإضافة إلى ذلك كانت الحرية غير المحدودة للقبائل البدوية، وحروبها التي لا تنتهي، وغزواتها ذات السلب والنهب، قد جعلت نجدا وما حولها مسرحا للفوضى الدائمة وسفك الدماء، ولم يبسط عبد العزيز بن محمد ديانته على كل نجد إلا بعد كثير من الصراع الشديد، ولأنه لم يعد زعيم قبيلة، بل رئيس منطقة، تولى السلطة العليا، وجعل حكمه مشابها لذلك الذي زاوله الأوائل من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد رأى عبد العزيز من العبث أن يحاول استرقاق بني جلدته، ولذلك تركهم ينعمون بحريتهم، لكنه أجبرهم على أن يعيشوا بسلام، وأن يحترموا الملكيات الخاصة، ويطيعوا قرارات النظام " (2) .
ويقول أحد الرحالة الغربيين الذي سمى نفسه (علي بك العباسي) وقد حضر موسم حج سنة 1807 م، وكانت الحجاز تحت سلطة الدولة السعودية الأولى:
(1) لم يكن الأمراء من أسرة عبد العزيز بن محمد الذي حكموا قبله زعماء قبيلة، بل كانوا أمراء لبلدة، وحين توسع حكمهم بعد اتفاقهم مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب أصبحوا أمراء لمنطقة ثم لمناطق متعددة، فآل سعود في الدرعية قبل عبد العزيز وبعده، وكانوا أمراء حاضرة. (العثيمين) .
(2)
المصدر السابق (23 - 28) .
" لم يلبث الجبل (1) حتى اكتسى وما حوله من الأرض بجموع الوهابيين، وكان مشهدهم يملأ النفوس ذعرا (2) ولكن إذا ما تغلب الإنسان على هذا الانطباع الأول وجد لديهم خصالا حميدة، فهم لا يسرقون قط، لا عن طريق القوة، ولا عن طريقة الحيلة، إلا إذا اعتقدوا أن المتاع يخص عدوا أو كافرا، وهم يؤدون أثمان كل ما يشترونه، وأجور كل الخدمات التي تقدم إليهم، بالعملة التي لديهم، يطيعون زعماءهم طاعة عمياء، ويتحملون صامتين كل أنواع المشاق، وهم على استعداد لأن يتبعوا قادتهم إلى أقصى أنحاء المعمورة.
" إن الحقيقة تفرض علي أن أعترف أنني وجدت جميع الوهابيين الذين تحدثت إليهم على جانب من التعقل والاعتدال (3) وقد استقيت منهم كل المعلومات التي أوردوها عن مذهبهم، ولكن على الرغم من اعتدالهم لا يستطيع السكان والحجاج سماع مجرد اسمهم دون أن تتملك الرجفة قلوبهم، ولا يتلفظون به إلا همسا، لذا فإن الناس يهربون منهم، ويتجنبون التحدث إليهم قدر الإمكان، وكلما أردت التحدث إليهم كان علي أن أتغلب على كثير من الصعوبات التي يخلقها لي من يحيطون بي ".
والسبب الأول في هذه العداوة أن الناس لم يفهموا للوهلة الأولى المعنى الإصلاحي لهدم المزارات وتقويض أضرحة الأولياء التي كان المؤمنون يؤدون لها واجب الإجلال، وقد كاد هذا الإجلال يتحول إلى نوع من العبادة التي لا تجب إلا لله وحده، وألغيت بعض العادات التي كان يتبعها الحجاج، كالإبقاء على خصلة من الشعر عند حلاقة الرأس وفقا للتقاليد، وحظرت زيارة بعض الأماكن المقدسة التي دخلت من قبل في تقاليد الحج، وهكذا هدم مزار جبل النور الذي تقول التقاليد إن الملاك جبرائيل أملى فيه على النبي أول سورة من القرآن، وأقيم حاجز كبير في أسفل الجبل للحيلولة دون صعود الحجاج إليه لأداء الصلاة فيه، وكذلك هدم مزار جبل عرفات نفسه.
وقد طبق الوهابيون على عكس ذلك نصوص الشريعة كما وردت في القرآن الكريم تطبيقا مشددا بحماسة كلية، حتى إن أحدا من الحجاج لم يجرؤ على التدخين، وأرسل
(1) يقصد جبل عرفات.
(2)
هذا بفعل الدعاية المضادة بدليل ما بعده.
(3)
إذن لماذا الذعر؟
سعود قاضيا وهابيا ليحل محل الحاكم الزنجي الذي كان قد عينه الشريف في مكة، ومنذ ذلك الحين ساد المدينة نظام جديد، فقد عهد إلى الشرطة الخاصة بالمحافظة على مواعيد الصلاة أن تجوب المدينة لحمل الناس على حضور الصلاة العامة خمس مرات في اليوم، وكان الصناعيون والتجار يجدون أنفسهم مضطرين إلى ترك مشاغلهم وحوانيتهم لأداء تلك الفريضة " (1) .
ويقول ر. ب. ويندر في كتابه: " العربية السعودية في القرن التاسع عشر ":
" ونحن لا نعرف إن كانت الوهابية تستطيع مواجهة عصر الذرة والفضاء، ولكن أحدا لا ينكر قيمتها وأثرها في الفكر الإسلامي الحديث، وأنها استطاعت الانتقال من " الواقعية " إلى " المثالية "، ومما كان عليه الإسلام إلى ما يجب أن يكون عليه، وبقيت محتفظة " بحيويتها " وفكرتها التحريرية.
ويقول المستشرق الفرنسي هنري لاوست بعد أن ذكر حركة الأفغاني ومحمد عبده:
" ويطلق لقب السلفية أيضا على الحركة الوهابية؛ لأنها أرادت إعادة الإسلام إلى صفائه الأول في عهد السلف الصالح، ولكن كلمة السلفية ليست خاصة بالوهابيين أو الحنابلة، ففي كل المذاهب السنية سلفيون "(2) .
وكتبت (معلمة الإسلام) في نسختها الإنكليزية، تحت عنوان " الوهابية " ما يلي:
" غاية الوهابية تطهير الإسلام، وتجريده من البدع التي أدخلت عليه بعد القرن الثالث الهجري، ولذلك نراهم يعترفون بالمذاهب الأربعة وبكتب الحديث الستة "(3) .
ويقول الكاتب الأمريكي لوثروب ستودارد في كتابه (حاضر العالم الإسلامي) :
" في القرن الثامن عشر كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ، ومن التدني والانحطاط أعمق درجة، فاربد جوه، وطبقت الظلمة كل صقع من أصقاعه ورجا من أرجائه، وانتشر فيه فساد الأخلاق والآداب، وتلاشى ما كان باقيا من آثار التهذيب العربي، واستغرقت الأمم الإسلامية في اتباع الأهواء والشهوات، وماتت الفضيلة في الناس، وساد الجهل، وانطفأت قبسات العلم الضئيلة ".
(1) اكتشاف جزيرة العرب لجاكلين بيرين (202، 203) .
(2)
تاريخ البلاد العربية السعودية للعجلاني (1) .
(3)
تاريخ البلاد العربية السعودية للعجلاني (1) .
إلى أن قال: " وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة الناس سجفا من الخرافات وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عديد الأدعياء الجهلاء وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من مكان إلى مكان، يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، ويوهمون الناس بالباطل والشبهات، ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور، وغابت عن الناس فضائل القرآن، فصار يشرب الخمر والأفيون في كل مكان، وانتشرت الرذائل، وهتكت ستر الحرمات على غير خشية ولا استحياء، ونال مكة المكرمة والمدينة المنورة ما نال غيرها من سائر مدن الإسلام، فصار الحج المقدس الذي فرضه النبي على من استطاعه ضربا من المستهزآت، وعلى الجملة فقد بدل المسلمون غير المسلمين، وهبطوا مهبطا بعيد القرار، فلو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر ورأى ما كان يدهى الإسلام لغضب وأطلق اللعنة على من استحقها من المسلمين، كما يلعن المرتدون وعبدة الأوثان (1) .
وفيما العالم الإسلامي مستغرق في هجعته ومدلج في ظلمته إذ بصوت قد يدوي من قلب صحراء شبه الجزيرة مهد الإسلام، يوقظ المؤمنين ويدعوهم إلى الإصلاح والرجوع إلى سواء السبيل والصراط المستقيم، فكان الصارخ هذا الصوت إنما هو المصلح المشهور (محمد بن عبد الوهاب) الذي أشعل نار الوهابية، فاشتعلت واتقدت واندلعت ألسنتها إلى كل زاوية من زوايا العالم الإسلامي، ثم أخذ هذا الداعي يحض المسلمين على إصلاح النفوس واستعادة المجد الإسلامي القديم والعز التليد، فتبدت تباشير صبح الإصلاح، ثم بدأت اليقظة الكبرى في عالم الإسلام.
إلى أن قال: " فالدعوة الوهابية إنما هي دعوة إصلاحية خالصة بحتة، غرضها إصلاح الخرق، ونسخ الشبهات، وإبطال الأوهام، ونقض التفاسير المختلفة والتعاليق المتضاربة التي وضعها أربابها في عصور الإسلام الوسطى، ودحض البدع وعبادة الأولياء، وعلى الجملة هي الرجوع على الإسلام، والأخذ به على أوله وأصله، ولبابه وجوهره، أي أنها الاستمساك بالوحدانية التي أوحى الله بها إلى صاحب الرسالة صافية ساذجة، والاهتداء والائتمام بالقرآن المنزل مجردا، وأما ما سوى ذلك فباطل وليس في شيء من الإسلام، ويقتضي ذلك الاعتصام كل
(1) لو أن فيلسوفا نقريسا من فلاسفة الإسلام، أو مؤرخا عبقريا بصيرا بجميع أمراضه الاجتماعية، أراد تشخيص حالته في هذه القرون الأخيرة ما أمكنه أن يصيب المحز، وأن يطبق المفصل تطبيق هذا الكاتب الأمريكي ستودارد (تعليق: شكيب أرسلان) .
الاعتصام بأركان الدين وفروضه وقواعد الآداب كالصلاة والصوم وغير ذلك " (1) .
ويقول المستشرق الهولندي كرستيان سنوك هود خرونيه: " لقد ظهر على أرض شرق الجزيرة العربية مصلح للإسلام (2) كسب إلى جانبه أمراء (3) الدرعية، الذين ساندوه في دعوته، ثم تدريجيا منت بدعوته كل مراكز الجزيرة العربية، لقد كان هذا المصلح ينوي أن يعيد الحياة للإسلام بكل ما لديه من قوله، ليس في الجزيرة وحدها، بل في كل مكان يستطيع الوصول إليه "(4) .
إلى أن قال: " لقد كانت السمة التي تميز بها محمد بن عبد الوهاب كونه عالما تثقف بالعلوم الإسلامية، وفهم مقاصدها وأسرارها، واستطاع بجدارة تامة أن يبرز الإسلام بالصورة الصالبة النقية، كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ".
وقال: " لقد أدرك محمد بن عبد الوهاب الاختلاف بين الإسلام كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والإسلام الذي يمارسه الناس في عصره "(5) .
ثم قال: " لقد التزم الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالدعوة إلى الإصلاح، وجعله هدف دعوته، وكان رائده الإخلاص في القول والعمل، وقد سخر لذلك لسانه وقلمه بجانب قوة ابن سعود وسيفه الذي تبنى هذه الحركة الإصلاحية ودعمها، لقد كانت مدرسة الإمام أحمد بن حنبل هي التي رفع لواءها الشيخ، وجعلها أساسا فكريا للإصلاح، وربما تكون هذه المدرسة أكثر المدارس بساطة وقربا من قلوب السكان، الذين يعيش معظمهم في جهل مطبق، مماثل للجهل الذي كان سائدا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، غير أن هؤلاء السكان لم يكونوا أقل انفتاحا من ذي قبل أمام تأثير دين بسيط ميسر، يثبت كل يوم وعن طريق الوسائل المادية أنه يعمل بصفته قوة مؤثرة وحافزة.
لقد كانت العدالة البسيطة المصحوبة بالقوة عند أمراء آل سعود - حماة الدعوة السلفية -، وأيضا النجاح الباهر الذي أحرزوه، والغنائم الوفيرة التي كانت توزع على الأتباع، قد أثارت الميل إليهم في مواقع معينة، والخوف منهم في مواقع أخرى، وفي غضون سنوات قلائل نمت
(1) حاضر العالم الإسلامي ترجمة عجاج نويهض، تعليق: شكيب أرسلان.
(2)
هو الإمام محمد بن عبد الوهاب.
(3)
هو الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى ونصير الدعوة.
(4)
صفحات من تاريخ مكة (253، 254) .
(5)
صفحات من تاريخ مكة (256، 257) .
الدولة السعودية لتصبح القوة الرئيسة في جزيرة العرب.
لقد قدر العالم فرصة قليلة لنجاح الدعوة السلفية، وربما كان تقدير سكان المدينتين المقدستين لنجاح هذه الحركة أقل من غيرهم؛ لأن ما كانت الدعوة الإصلاحية تقوم عليه وتطالب بإلغائه كان من بين متطلبات الحياة عند سكان المدينتين المقدستين، فالقبور والأضرحة والبيوت المقدسة كانت تجلب الأموال والفوائد للأدلاء والسدنة، والرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يتغنى باسمه في كل عيد بأغاني المديح تعد زيارة قبره في المدينة من أكبر الحظوظ، إن كل هذه الأمور تبدو على عكس ما يراه زعماء الإصلاح الجدد، الذين كانوا يرون أن معظم الجاليات الإسلامية في مكة والجنود وكذلك الرعاع تنتاب حياتهم الكثير من البدع، وأن بعض العلماء هنا يتساهل في قبول مثل هذه الأمور البدعية " (1) .
يقول المستشرق الأسباني " أرمانو " الذي طاف عام (1921) في أنحاء نجد:
" إن كل ما ألصق بالوهابية من سفاسف وأكاذيب لا صحة له على الإطلاق، فالوهابيون قوم يريدون الرجوع بالإسلام إلى عصر صحابة " محمد " صلى الله عليه وسلم، وإنما ينقصهم للوصول إلى أهدافهم المقدسة رجال متنورون مثقفون، وهم ويا للأسف قلائل في هذه الديار، كما تنقصهم أيضا الدعاية لأجل إظهارهم على حقيقتهم البريئة الشريفة "(2) .
ويقول أحد المعاصرين المحايدين، وهو ولي العهد لولاية برليس بماليزيا: حيث قرأ ترجمة كتاب " مجموع رسائل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب " فقال: " وقرأت تلك الترجمة ووجدت أن ما فيها كله مستدل بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة، ووجدت أن محمد بن عبد الوهاب في كتابه دعانا إلى توحيد الله والابتعاد عن الشرك والخرافات، وهل مثل هذه التعاليم خطأ ويؤدي إلى الخلاف والتفرقة؟ وأنا أرى أن من قرأ الكتاب سيجد الشيخ أراد أن نفرق بين الحق والباطل وبين الهداية والضلالة "(3) .
(1) صفحات من تاريخ مكة (258، 259) .
(2)
كتاب " الإسلام " للمستشرق الإيطالي (ليبرتيني) نقلا عن كتاب بين الديانات والحضارات لطه المدور (142) .
(3)
مقتطفات من كلمة ولي عهد ولاية (برليس) بماليزيا في دورة تدريبية لمعلمي اللغة العربية والثقافة الإسلامية التي أقامتها الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية عام (1415 هـ) مناولة الدكتور عبد الله بن محمد الطريقي.