الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيات (1 - 3)
* * *
* قال اللَّه عز وجل: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3].
* * *
الحمدُ للَّه ربِّ العالينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشْرفِ الأنْبياءِ والمرْسَلِين نَبِينا محمَّدٍ، وعلَى آلِهَ وأصْحابِهِ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين، أمَّا بَعْدُ:
قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} : البَسْملةُ آيةٌ مستقِلَّةٌ يُؤتَى بها في ابتداءِ السُّورِ ما عدا سورةِ براءةَ
(1)
.
قَالَ المُفَسِّر
(2)
رحمه الله: [{الم} اللَّهُ أعْلمُ بمُرادِهِ بذلكَ] اهـ.
وهذا حقُّ فيما لو جعلْنَا لهذه الكَلمةِ معْنًى، ولكنَّ الصوابَ: أنه لا مَعْنى لها كما قَاله مجاهِدٌ وغيرُهُ
(3)
، فهي في حدِّ ذاتِها ليس لها مَعْنًى، وذلك لأنَّ القرآنَ نزلَ باللُّغةِ العربيَّةِ، والحروفُ المركَّبةُ الهجائيَّةُ ليس لها مَعْنًى، فإن (ألف، باء، تاء، ثاء، جيم) ليس لها مَعْنًى، ومع هذا فابتِداءُ السورَةِ بالآياتِ المقَطَّعَةِ له مغْزًى، وهو
(1)
انظر: تفسير سورة البقرة، لفضيلة الشيخ رحمه اللَّه تعالى المجلد الأول.
(2)
المقصود بـ (المُفَسِّر) هنا: محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم جلال الدين المحلي، المتوفى سنة (864 هـ) رحمه اللَّه تعالى، ترجمته في: الضوء اللامع (7/ 39)، حسن المحاضرة (1/ 443).
(3)
تفسير ابن كثير (1/ 157)، وتفسير القرطبي (1/ 155).
الإشارةُ إلى أنَّ هذا القُرآنَ الكريمَ الذي أعْجَزكم معْشرَ العربِ وأعْجزَ غيرَكُم لم يأتِ بحروفٍ جَديدَةٍ لا تَعرِفونها، وإنما أَتَى بحروفٍ تَعْرِفونها وتُركِّبونَ منها كَلامَكم، ومع ذلك أعْجَزَكم.
ولهذا لا تَكادُ تَجدُ سُورة مَبْدوءةً بهذه الحروفِ الهجِائيَّةِ إلَّا وجدْتَ بعدها ذِكْرَ القُرآنِ أو ما هو مِنْ خصائصِ القُرآنِ، انظُرْ قولَه سبحانه وتعالى:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1 - 2]، وقولَه:{الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمران: 1 - 3]، وقولَه:{المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف: 1 - 2]، وقولَه:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1]، وقولَه:{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} [الأحقاف: 1 - 2]، وقولَهُ:{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} [السجدة: 1 - 2]، وهَكَذَا.
وأما قوله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} فَلَيس فيهِ ذِكْرُ القرآنِ، لكِنْ فيها ذِكرُ ما هو مِنْ لازمِ القُرآن، وهو قَولُه:{أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} ، فإنَّ مَنْ آمَنَ بالقُرآنِ لا بُدَّ أن يُفْتَنَ.
قولُه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} قولُه: {أَن يَقُولُواْ} هَذَا محِلُّ الاستِفْهامِ، يعني: أيظُنُّ الناسُ أن يُترَكوا إذا قالوا: آمنَّا بدونِ أن يُخْتبَروا؟ هذا أمْرٌ لا يكونُ، بل لا بُدَّ من الاخْتِبارِ، وكُلَّما كانَ الإنسانُ أقْوى إيمانًا كان اختِيارُهُ أكثرَ، فإنَّ اللَّه تعالى يَبتِلي الناس، فيُبتَلى الصالحونَ الأمْثلُ فالأمْثلُ، حتَّى يَنْظر في دِينهِ هل فيه قُوَّةٌ أو هو دِينٌ ضَعِيفٌ.
وقوله: {أَحَسِبَ} بمَعْنَى: ظَنَّ، وقولُه:{النَّاسُ} يشْملُ المؤمِنينَ وغيرَ المؤمنينَ، وذلِك لأن قَولَهُ:(إِنِّي مُؤمِنٌ) يكونُ مِنَ المؤمنِ حقًّا، ويكونُ مِنَ المنَافِقِ،
والمنافِقُ لا يصحُّ أن يُسمَّى مؤمنًا على الإطْلاقِ، بل إنَّما يقالُ: مؤمنٌ بلِسَانهِ كافِرٌ بقَلْبِهِ.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{أَنْ يَقُولُوا} أي: بِقَوْلهِمْ: {آمَنَّا}] اهـ.
يَعْنِي: أَيَظُنُّ النَّاسُ أن يُتْرَكوا بلا فِتْنةٍ إذا قَالُوا: آمَنَّا.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَهُمْ لَا يُفتَنُونَ} يختبرون بما يتبين به حقيقة إيمانهم]، وهذا الاستْفهامُ للإنْكارِ، يعني: لا تَظُنوا أنكم إذا قُلتم: آمنا، تُرِكتُم بلا فِتْنةٍ، بل لا بُدَّ مِنْ فِتْنة واخْتبارٍ، واللَّه سبحانه وتعالى يَبْتلي المرءَ تارَة بأفْعالِهِ التي يفْعلُهَا به عز وجل، وتارَةً بأفْعالِ غيم التي يُسَلَّطون بها عَلَيْهِ، أما بأفْعالهِ: فإنَّ اللَّه تعالى قد يَبتِليَ الإنسانَ بمصائبَ يَخْتبِرُ بها إيمانَهُ، مصائبَ في أهلْهِ أو مالِهِ أو بدَنِهِ، ومنَ الناسِ منْ إذَا أصابَتْهُ هذه المصائبَ -والعياذُ باللَّه- عَجَزَ أن يَصْبر، ورُبَّما ارتَدَّ بعدَ إسلامِهِ وكَفَرَ، ومنَ النَّاسِ من يَصْبرُ ويحْتَسِبُ.
كذلك قد يُبتَلى المرءُ بأمْر يُسلِّطهُ اللَّهُ عليه، مِثْلُ أن يُسَلِّط عليه قومًا يُؤْذُونه بالقولِ أو بالفِعلِ أو بِهما جميعًا، مثل ما حَصَل للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ رضي الله عنهم، فإنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أُوذِيَ إيذاءً عظيمًا من قَومهِ، ومن غيرِ قومِهِ، وكذلكَ أصْحابُهُ أُوذُوا إيذاءً عظيمًا، ومع ذلك صَبَرُوا واحتَسَبُوا، فإن عمَّارَ بنَ ياسرٍ وآلَه حصل لهُم إيذَاءٌ عظيمٌ، وكذلك غيرُهُمْ مِنَ المؤمنين، منهم مَنْ يُؤْذَى بالقَولِ، ومنهم مَنْ يُؤْذَى بالفِعْل، ومنهم من يُؤْذَى بالقولِ وبالفِعْل.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [وَنَزَل فِي جماعَةٍ آمنُوا فآذَاهُمُ المشْركونَ] اهـ.
أي: مِنَ الناسِ مَن يقولُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]، ثمَّ يرْتَدُّ والعِياذُ باللَّه.
كذلك مِنَ الناسِ الآن، وخُصُوصًا مِنَ الشبابِ المتَّجهِ إلى الدِّين مَنْ يُؤذِيهِ أولئك الفَسَقَةُ ويسبُّونَه ويقولون:(أنتَ رَجْعيٌّ) وما أشْبَهَ ذلك، وهذا ابْتلاءُ مِنَ اللَّهِ وامتحانٌ ليَعْلمَ هل يَصْبرُ هذا على دِينِهِ أو ينْحَسرُ ثم يرْجِعُ خوفًا من أَذِيَّة هؤلاء؟
ومن النَّاسِ أيضًا من يُؤْذَى بتحلِّيهِ بأخلاقِ المؤمِنينَ، كإعفاءِ اللِّحيَةِ مثلًا، فيؤذَى بذلكَ إما بالقَولِ والاستهزاءِ والاسْتِخفافِ، وإما بالفعل فيُضْربُ عليها أو يُحْبس، فتَجدُه يحلِقُ لحْيَته خوفًا مِنْ هذا الأمْرِ، وهذا لا يجوزُ؛ لأن الواجِبَ أن يَصْبِرَ، نعم: إن أُكْرِهت على هَذَا وغُلَّتْ يدُك وأُتِيَ بالمُوسَى وحُلِقَتْ؛ فهذا أمر ليسَ إليكَ، لكن ما دَامَ الأمر إليكَ فإنَّهُ لا يجوزُ لك أن تَفْعلَ المعْصِيةَ خَوْفًا مِنَ الناسِ، بل يجبُ أن يَصْبرَ ويحتَسِبَ.
أما قاعِدَةُ (المشَّقَّةُ تجلِبُ التَّيسِيرَ) فلا تُطبَّقُ هنا، فهذا الرَّجُل ما أُكِرَه، غايةُ ما هنالك أنه سيُضْربُ أو يُحْبس، فليقلْ: لن أفْعلَ المعصيةَ، ثُمَّ إذا أردتم ضَربِي فاضْرِبونِي كما شِئتُم، فالضَّرب مشقَّةٌ تَزُول، فلْيَصْبر ولْيَحْتسِب على دِينهِ.
ولا يَرِدُ على هذا قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنُّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]، يَعْني: فلا شيءَ عليهِ؛ لأنَّ بعضَ العُلماءِ يقول: إن هذا في الكُفْرِ القَولِيِّ الذي مصدُرُه اللِّسانُ، وإن كان الصحيحُ أنه حتى في الكُفر الفِعْلي، فهو شامِلٌ؛ لأنَّ الآيَةَ عامَّةٌ، حتى لو أُكْره على السُّجودِ وما أشْبَه ذلك، أما التَّخَلِّي عن الأمرِ الشرعِيِّ، فهذا لا يمكنُ أن يَتَخلى المرءُ عنه، فَفَرْقٌ بينَ الفِعل الذي يُجبَر فيه على فِعلِ المعْصِيةِ، كأن تُكْره على الكُفر، فهذا يُعْذر به، وأما أن يَتْركَ واجبًا كوجوبِ إعْفاءِ اللِّحيةِ فهذا لا يجوزُ، مثاله: لو قيلَ لكَ: اتركِ الصلاةَ، فهذا كُفر، ولا يجوزُ لك أن تَتركَهَا، صلِّ ولو أُوذِيتَ بالضَّربِ والحبْسِ، ولا مانِعَ من ذلك.
أما أَكْلُ الميتةِ إذا اضْطُرِرْتَ إليه فلأنك إذا أكلتَ منه بَقِيَتْ حياتُك، لكنَّ الإكراهَ على تركِ الواجبِ فليس كذلك، فقَد تُهدَّدُ بالضربِ ولا تُضْرب، وقد تُضْرب وتَصْبر وتَحْتسبُ، هذه هي الفِتْنة التي ذَكَر اللَّه، وإذا لم نُطَبِّقْهَا على هذا فمَتَى تكونُ الفِتنةُ ما دُمْنَا قلنا: إن الإنسانَ إذا أُوذِيَ في اللَّه يجوزُ أن يَدَع ما أمَر اللَّه به؟ فلا بُدَّ من فِتْنة واخْتبارٍ وإلَّا أصبحتِ الفِتنةُ لا فائدةَ فِيها.
* * *