الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (25)
* * *
* قالَ اللَّه عز وجل: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25].
* * *
قَال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَقَالَ} إبراهِيمُ {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} تَعْبُدُونَها، و (ما) مَصْدَرِيَّةٌ {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} خبرُ (إن)، وعلى قِراءَةِ النَّصْبِ: مفعولٌ له، و (ما) كافَّةٌ، المعنى: تَوادَدُتْم على عِبادَتِهَا].
المُفَسِّر رحمه الله بيَّن لنا أن قولَهُ: {مَوَدَّةَ} فيه قِراءتانِ سَبْعِيَّتانِ: قراءة الرفعِ: (مَوَدَّهُ)
(1)
وعلى هذه القراءةِ المُفَسِّر أعربَ (ما) مَصْدَرِيَّةٌ، لا كافَّة ولا موصولة، والتقديرُ على رأيه: إن اتِّخَاذِكُم من دون اللَّه أوْثَانًا مودةُ بيْنكم، فيكونُ المصدرُ المنْسَبِكُ مِن (ما) والفعل اسم (إن) و (مودة) خبرُ إن، ويكون قولُه:{مِنْ دُونِ اللَّهِ} شِبْهُ الجملة حَالًا مِنْ أوثانٍ؛ لأنها قُدِّمَتْ عليها.
وعلى قراءةِ النَّصْبِ يقولُ المُفَسِّر: إن (مودةَ) مفعولٌ لَهُ، يعني: مَفْعولًا لأجله، يعني: إنما اتَّخَذْتُم مِنْ دونِ اللَّهِ أوْثانًا لأجِل الموَدَّةِ بينكم، ولكن على هذه القراءة
(1)
هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي، انظر: تفسير الطبري (18/ 382)، وتفسير القرطبي (13/ 338).
(ما) كافة، فتكونُ داخِلَةً على (إن)، و (ما) الكافة إذا دخلتْ عَلَى (إن) تفيدُ الحَصْرَ، يعني: ما اتخذتُمُ الأوثانَ إلَّا لأجلِ الموَدَّةِ بينكم؛ هذا ما قاله المُفَسِّر.
وقيل: إنَّ (ما) اسمٌ موصولٌ -على قراءةِ الرَّفع- وإن العائدَ محذوفٌ، والتقدير: إن الذي اتَّخَذتُموه مِنْ دونِ اللَّهِ أوثانًا مودَّةُ بينكم، وعلى هذا التقْدِيرِ يكونُ مفعول (اتخذ) الأَوَّلَ محْذوفًا ومفعولها الثاني: أوْثَانًا، وعلى هذا فنقولُ:
(إن): أداةُ توكيدٌ تَنْصِبُ الاسمَ وترفعُ الخبرَ.
و(ما): اسمْهُا بمعنى الذي، و {اتَّخَذْتُمْ}: صلِةُ الموصُولِ، والعائدُ محذوفٌ، والتقديرُ: اتَّخذتمُوه، و {أَوْثَانًا} مفعولٌ ثان لـ (اتَّخذ)؛ لأن (اتخذ) تَنصبُ مفعولَينِ، كما في قوله تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125].
وهذا التقديرُ الذي ذَكرْنَاه يُصلُح حتى على قِراءةِ النَّصْبِ: إن الذي اتَّخذْتمُوه أوثَانًا لأجلِ المودَّةِ بينكم لا ينفعكم، فيكون الخبرُ على قِراءةِ النَّصْبِ مَحذوفًا، والتقدير: لا ينْفَعُكُمْ.
وعلى القول بأن (ما) مَصدَرِيَّة أو كافَّة، نقول: إن المفعولَ الثاني أيضًا محذوف، والتقدير: آلهةً؛ كقوله تعالى: {قُرْبَانًا آلِهَةً} والمعنى: اتخذْتُم هذه الأوثانَ آلهةً موَدَّة بينكم.
قَال المُفَسِّر رحمه الله: [المعْنَى: تَوادَدْتُمْ على عِبادَتهمْ]؛ لأنَّ أهلَ الشرِّ -والعياذ باللَّه- يتوادُّونَ على فِعلِ الشَّرِّ، كما أن أهلَ الخيير يتَنَاصَرُونَ أيضًا على فِعلِ الخيرِ، يعني: إن الذي اتخذْتمُوه أوثَانًا لا يجمَعُكم عليه إلا المودَّة.
وقوله عز وجل: {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} يجوزُ في كَلِمَةِ (بينَ) أن يضافَ إليها ما قَبْلهَا،
ويجوزُ أن تقطَعَ عَنِ الإضافَةِ، فيجوزُ في غيرِ القُرآن: مودَّةً بينكم، ويجوز: مودَّةَ بينِكم، وهي هنا على هذا الوجه.
وقوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} متعلِّقَةٌ بما قَبلَها، يعني أنها موَدَّةٌ في الحياة الدنيا فقط، فهؤلاءِ المشْرِكون يتوادُّونَ في الشِّرك في الدنيا فقط، فتَجِدُهم متَناصِرِين متَعاويينَ؛ لكن:{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ومعنى قولِهِ: {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} : يعْنِي: يُنْكِرُهُ، كقوله سبحانه وتعالى:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166]، وهذا لا شَكَّ أنه إنكارٌ وكُفْرٌ لبَعضِهِمْ ببَعْضٍ.
{وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ، كقوله عز وجل:{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 67 - 68]، ومجادَلَةُ الأتْباعِ للمَتْبوعِينِ في عِدَّةِ آياتٍ مِن القرآنِ، كما في قوله تعالى:{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} ، وقوله:{وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} ، وقوله:{كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} وما أَشْبَهَ ذلِكَ.
والحاصل: أن هذه الموَدَّة بينَ المُشْركينَ في الدُّنْيا فقط، أما يوم القيامة فإن كُلَّ واحدٍ منهُمْ يَتبَرَّأُ مِنَ الآخر ويُنكِرُه ويَلْعنُه أيضًا، وهذا لا شك أنه من أشَدِّ ما يكونُ مِنَ العُقوباتِ، لكنَّ المتَّقِينَ خُلَتُّهم باقيةٌ إلى يومِ القيامَةِ، قال عز وجل:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، وأما هؤلاءِ فإن المودَّةَ فيما بينهم تَزُولُ في الموقِفِ.
وقوله: [{يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} يَتبَرَّأُ القَادةُ مِنَ الأَتْباعِ، {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} يَلْعنُ الأتْباعُ القادَةَ]، وهذه الآية عامَّةٌ، يتَبَرَّأُ القادَةُ من الأتْباعِ
ويلْعَنُ الأتْباعُ القادَّةَ، وكذلك يَلْعنُ بعْضُهم بَعْضًا.
قوله: [{وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ}، مَصِيرُكم جَمِيعًا]: فالمأْوَى بمَعْنى المصْير؛ لأنه مِنْ أَوْى يَأْوِي إذا صارَ إلى الشيءِ واتَّجَه إليه.
قوله: {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} هذه النَّارُ قد أعدَّهَا اللَّه سبحانه وتعالى للكافرين، وهي الآنَ موجودةٌ، ورآهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ أُسرِيَ به، وهي نارٌ لا يستطيعُ الإنسانُ أن يُدرِكَ في الدنيا ما فيها مِن العَذابِ، فإنها فُضِّلِتْ على نارِ الدُّنيا بتِسع وستِّينَ جُزءًا، والرسولُ عليه الصلاة والسلام يقولُ:"عَلَى نَارِكُمْ هَذه"
(1)
، أي: على نارِ الدُّنيا، ونارُ الدُّنيا كما هو معروفٌ فيها نارٌ شَديدةُ الحرارةِ وفيها نَارٌ متوسطة وفيها نارٌ باردة بالنِّسْبَةِ لغَيرهَا، ومع ذلك فإنها تُقَاس بأعلى نارِ في الدنيا فتفَضَّل عليها بتِسعٍ وستِّينَ جزءًا.
وقَال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} مَانِعِينَ عنْهَا]: {مِنْ} : زائدِةٌ للتَّوكيدِ؛ لأن {نَاصِرِينَ} أصْلَهَا مبتدأٌ، وخبرُهُ قوله:{لَكُمْ} يعني: لا أحدَ ينْصُركُمْ فيمنَعُكُم مِنْ دُخولِ النار، وهذا كلامُ إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأنه قالَ:{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} .
(1)
أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، رقم (3092)؛ ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها. . .، رقم (2843) عن أبي هريرة، ولفظه عند مسلم:"نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ". قالوا: واللَّه إن كانت لكافية يا رسول اللَّه؟ قال: "فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلَّهَا مِثْلُ حَرِّهَا".