الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الآية: 34)
* * *
* قالَ اللَّه عز وجل: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [العنكبوت: 34]
* * *
قَال المُفَسِّر رحمه الله: [{إِنَّا مُنْزِلُونَ} بالتَّخْفِيفِ والتَّشْدِيدِ]: أي: "مُنَزِّلُوْنَ"، و (مُنْزِلون)
(1)
.
قوله رحمه الله: [{مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا} عَذَابًا]: والرِّجْزُ غيرُ الرجْسِ، الرَّجْزُ بالزَّاي: هو العَذابُ، والرِّجْسُ النَّجَسُ.
قوله: {مِنَ السَّمَاَءِ} ، هل المرادُ بالسماءِ السَّقْفُ المحفوظُ أو العُلُوُّ؟
قد يُرادُ هنا المعنَيانِ؛ لأن استعمالاتَ السماءِ للسَّقْف المحفوظِ كثيرةٌ، وكذلك السماء بمعنَى العُلُوِّ كثيرٌ، وسواء قُلْنَا: إنه السَّقْفُ المحفوظُ وأن هذا العذابَ نَزَلَ مِنَ السماءِ الدُّنَيا، أو قلنا: إن المرادَ به العُلُوُّ؛ على كِلا الحالَينِ العذابُ أتاهُمْ من فَوق، وكونُه يأتِي مِنْ فوقَ أشَدُّ وأبْلَغُ؛ لأن ما يأتي مِن فوق يكونُ عاليًا ومحيطًا -والعياذ باللَّه- بخلافِ الذي يأتي من أسفلَ فإنه لا يكونُ كذلِكَ.
قَال المُفَسِّر: [{رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} بالفِعْلِ الَّذي {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} بِه، أي: بِسَبَبِ فِسْقِهِمْ]: وكلامُ المُفَسِّر رحمه الله غريبٌ وفيه شيء مِنَ التَّنَاقُضِ، الباءُ في
(1)
انظر: "النشر في القراءات العشر"(2/ 343).
قوله: {بِمَا} للسَّبَبِيَّة، و (ما) أعْربَها على أنها اسم موصولٌ ثم قَدَّرَها بالمصَدْرِ، مما يَدُلُّ على أنه جعَلَهَا مصدَرِيَّةٌ وهذا من الغرائبِ.
فعلى التَّقديرِ الأوَّلِ {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [بالفِعْلِ الذي كانُوا يَفْسُقونَ بِهِ] فتكونُ (ما) اسمًا موصولًا صِفَةً لموصوفٍ محذُوفٍ تقدِيرُه: بالفعلِ، والاسمُ الموصولُ يحتاجُ إلى جملةٍ تكون صِلَةً، ويحتاجُ إلى عائدٍ يربِطُ الجملة بِهِ، أعنْي: جملةَ الصِّلَةِ، وهي قولُه:{بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} ، والعائدُ قدَّرَهُ بقولِهِ: بِهِ.
وهذا خلافُ المشهور عندَ النَّحْوِيِّينَ من أنه إذا كانَ العائدُ مجرورًا، فلا بُدَّ أن يكونَ مُوافِقًا لاسم الموصول في نَوعِ العاملِ وفي نَوعِ حرفِ الجرِّ.
والشاهدُ من كَلامِ ابنِ مالكٍ رحمه الله في اشتِراطِ هذا الشيء قوله
(1)
:
كَذَا الَّذِي جُرَّ بِمَا المَوْصُولَ جُرّ
…
كَـ (مُرَّ بِالَّذِي مَرَرْتُ فَهْوَ بَرّ)
فقال: كَـ (مُرَّ بِالَّذِي مَرَرْتُ فَهْوَ بَرٌّ)، وهنا اختلفَ العامِلُ، فالصحيحُ أن (ما) هنا مَصْدَرِيَّةٌ، أي: بكونِهم يَفْسُقونَ فهي مَصْدَرِيَّةٌ وليست موصولةً.
وقوله: {يَفسُقُونَ} الفِسْقُ في الأصل: هو الخُروجُ عن الطَّاعَةِ، ومِنْهُ قولهم:(فَسَقَتِ الثَّمرةُ) إذا خَرجتْ مِنْ قِشْرِهَا.
وينقَسِمُ الفِسْقُ إلى قِسمَيْنِ:
* فسقٌ أكْبَرُ مخرِجٌ عَنِ المِلَّةِ.
* وفِسقٌ أصغَرُ لا يُخرِج عَنِ المِلَّةِ.
(1)
البيت رقم (104) من ألفيته.
والمصطَلَحُ عليه عندَ أهلِ العِلمِ الثانِي، فإذا أطلْقُوا الفِسْقَ فإنما يُريدُونَ به ما لا يُخرِج من المِلَّةِ، لكنه في القرآن ينقسم إلى هذين القِسمَيْنِ؛ وهو بقِسْمَيْه مخرِجٌ من العَدالَةِ، فالفاسِقُ ليسَ بعَدْلٍ.
والشاهدُ من القُرْآن للفِسْقِ المخرجِ مِنَ الملَّة قوله سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 33]، وكذلك قولُهُ تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة: 20]، في مقابِلِ:{أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} .
وأما الفِسْقُ الذي لا يُخرِجُ مِنَ الملَّةِ، ففي مثل قولِه سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، وقوله سبحانه وتعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121].
وأما سببُ الفِسْقِ -الذي هو الخروجُ عن الطَّاعَةِ- فقد يكون سبُبُه تركَ واجبٍ، كما لو تركَ الإنسانُ صلاةَ الجماعَةِ فإنه يكون فاسِقًا لأن الجماعَةَ واجبةٌ، وقد يكونُ سَبُبُه فِعْلَ محرمٍ كما لو حلَقَ لحيَتَهُ فإن حَلْق اللِّحيةِ مُحَرَّمٌ، إلا أن العلماءَ يقولون في المحرَّمِ إن كان كبيرةً:(فَسَقَ بمُجَرَّدِ فعلها إذا لم يَتُبْ منها)، وإن كانت صغيرة:(لم يَفْسُقْ إلا بالإصرارِ عليها)، فحالِقُ اللِّحْيَةِ لا يَفْسُقُ إذا فعَلَهُ مرَّةً واحدة، لكن إذا أصَرَّ، أي: كُلَّمَا نَبَتَتْ حَلقَها صارَ فاسِقًا، لكن قَصَّ اللَّحيَةِ ليس كحلْقِ اللِّحْيَةِ، لكنه مَعصيةٌ لأن الرسولَ صلى الله عليه وسلم قال:"أَعْفُوا اللِّحَى"
(1)
.
لو قال قائلٌ: إن عَذابَ قومِ لُوطٍ ذَكَرَهُ اللَّه سبحانه وتعالى في القرآنِ فقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر: 34]، ويُذْكَرُ أن جِبريلَ عليه السلام
(1)
أخرجه البخاري: كتاب اللباس، باب إعفاء اللحى، رقم (5554)؛ ومسلم: كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، رقم (259).