الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلا تَفُوتُونَا]، وهو كذلك، لكنه عبَّرَ بالعملِ نَفْسِهِ لأنه السببُ، ولأن الجزاءَ مِنْ جِنْسِهِ.
من فوائد الآيات الكريمة:
الفَائِدةُ الأُولَى: سَفَهُ هؤلاءِ الكفَّارِ، فإن الإنسانَ إِذَا وُعِدَ بالشيءِ فإن العَقْلَ والرُّشْدَ يقْتَضِي ألا يسْتَعْجِلَ به لقولِهِ:{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} ، ولهذا قال مؤمنُ آل فرعونَ لقومِهِ:{وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر: 28].
الفَائِدةُ الثَّانِية: أن هؤلاءِ الكُفَّارِ قومٌ عُتَاةٌ معانِدُونَ، ولهذا تَحَدَّوُا الرُّسُلَ باستِعْجالهِم العذابَ، لقوله تعالى:{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} .
الفَائِدةُ الثَّالِثة: إثباتُ حِكْمَةِ اللَّهِ عز وجل وأنها غايةٌ في الكَمالِ، لقوله:{وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} . فلولا الحكمةُ لعُوجِلُوا بالعَذابِ لاستِعْجالهم به، ولكن الحكْمَةَ تقْتَضِي عدمَ ذلكَ.
وانظر إلى غايةَ الحِكْمَةِ الإنسانيةِ في قولِ الرَّسولِ عليه الصلاة والسلام لملكِ الجبالِ لما قال له: إن شئتَ أنْ أُطْبِقَ عليهم الأخشَبَين؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"
(1)
، ما ظنُّكَ لو أن مِثْل هذا وقعَ لأحدِ النَّاسِ، قومٌ كذَّبُوه وأخْرجُوه من بَلَدِه ثم رجَعَ من البلدِ الآخَرِ على نفس الحال، مقْتَضَى الطبيعةِ البشرية إذا جاء من يُمَكِّنُكَ منهم ويقول:
(1)
أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين، والملائكة في السماء. . .، رقم (3059)؛ ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، رقم (1795) عن عائشة.
سأُهْلِكُهم، لك أن تقول: نعم وجزاكَ اللَّه خيرًا، لكن الحكمةَ هي التي تمْنَعُ الإنسانَ من أيِّ فِعْلٍ لا يُحْمَدُ عُقْباهُ، ولذلك يقول اللَّه عز وجل:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269].
وكثيرًا ما ينْدَمُ الإنسان على تَصَرُّفاتِهِ بسببِ عدمِ الحِكْمةِ، فلهذا يجِبُ على الإنسان أن يُغلِّب جانب العَقْلِ دائمًا لا جانِبَ العاطِفة؛ لأن جانب العاطِفَةِ فيه خَللٌ كثيرٌ، لكن تغليبَ جانبِ العقلِ هذا هو الحِكمَةُ.
الفَائِدةُ الرَّابِعةُ: أن أفعال اللَّه سبحانه وتعالى مقدَّرَةٌ منَظَّمَةٌ لا تأتي صُدْفةً بغيرِ عِلْمٍ ولا بغيرِ رَشَدٍ، بل هو سبحانه وتعالى كاملُ العِلم كامِلُ الحِكمَةِ، كلُّ أفعالِهِ مُقَدَّرَةٌ منَظَّمَةٌ لقوله:{وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} .
الفَائِدةُ الخامِسَةُ: أن الحوادث مُقَدَّرَةٌ عندَ اللَّه تعالى في عِلمِهِ، لقوله:{وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى} ، فيكونُ هذا فردًا مِنَ الأفرادِ الكثيرةِ الدَّالَّة على أن اللَّه عز وجل قَدَّرَ ما يكون، ولا نقول: خَلَق، بل قَدَّر؛ لأن الخَلْقَ تابعٌ للإرادَةِ، متى أرادَ أن يفْعَلَهُ عز وجل خلقه لكِنَّهُ مُقَدَّرٌ.
وقد دَلَّ على هذا قوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]، وهاتان مَرْتَبتَانِ من مراتبِ القضاءِ والقَدرِ، فالقضاءُ والقَدَرُ يتضَمَّنُ أربعَ مراتب عندَ أهلِ السُّنَّةِ ففي هذه الآية الكريمة مرتبتانِ: وهما العِلْمُ والكتابةُ قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} ، وقوله:{إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} ، والمرتبة الثالثةُ: المشِيئَةُ، والرابعة: الخَلْقُ.
عِلْمٌ كِتَابَةُ مَوْلَانَا مَشِيئَتُهُ
…
وَخَلْقُهُ وَهْوَ إِيجَادٌ وَتَكْوِينُ
الفَائِدةُ السَّادِسَة: عِظَمُ العذابِ إذا كان غيرَ متَوَقَّعٍ، لقولِهِ:{وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} .
الفَائِدةُ السَّابِعَةُ: تهديدُ هؤلاءِ المسْتَعْجِلينَ بالعذابِ بأنه سَيَأتِيهِمْ؛ لكنه سيأتِيهِمْ على غِرَّةٍ وبغْتَةٍ ليكونَ أشَدَّ وَقْعًا.
الفَائِدةُ الثَّامِنة: تكرارُ ما به الذَّمُّ على من يَسْتَحِقُّه، لقوله عز وجل:{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} ، هذا إذا جَعَلَنْا {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} الثانية تَوْكِيدًا للأُولَى، أما إِذَا حَمَلْنَا الأُولَى على عذابِ الدُّنْيَا والثانية على عَذابِ الآخِرَةِ، فلا توكيدَ فِي المسألَةِ.
الفائِدَتانِ التَّاسِعَةِ والْعاشِرَة: إثباتُ النارِ، وكذلكَ إثباتُ يومِ القيامَةِ، لقوله:{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ} وهذا قَطْعًا في النَّار ولا يكون إلا يوم القيامة.
الفَائِدةَ الحَادِيةَ عشْرَةَ: أن أهلَ النارِ -والعياذ باللَّه- يأْتِيهِمُ العَذابُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لقولِهِ:{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} .
الفَائِدةُ الثانية عشرةَ: عِظَمُ هذا العذابِ، حيث إنه يُغَلَّظُ عليهم مِنْ ناحِيَتَيْنِ: مِنَ العُلُوِّ ومن السُّفْل؛ لأنه يكون كالغِطاءِ والوِطاءِ، كأنَّهُم يُطْبَقُ عليهم بنارٍ وموقَدُ من تحتهم نارٌ، هذا عَدَا ما يأْتِيهِمْ من كلِّ جانِبٍ؛ لقولِهِ:{لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} .
الفَائِدةُ الثالثةَ عشرةَ: أن تعْذِيبَ الكفارِ جِسْمِيٌّ ونَفْسِيٌّ:
الجسمي ما يَذُوقونَهُ مِنْ أنواعِ العَذابِ، والنَّفْسِيُّ ما يحْصُلُ لهؤلاءِ المعَذَّبِينَ مِنَ التَّقْرِيعِ والتَّوْبِيخِ الذي فيه الألم النَّفْسِيُّ، والألم النفسي قد يكون أشدَّ من الألم الجِسْمِيِّ، لقولِهِ:{ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
ولا أدري كيف يتَصَوَّرُ الإنسانُ حَسْرَتَهم حين يقالُ لهم: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ}، ولا أدْرِي كيف يتَصَوَّرُ الإنسانُ مَقْتَ هؤلاءِ لأنفسهمْ، لا شَكَّ أنهم سيَبغَضُونَ أنْفُسَهُم أشدَّ البغضِ ويقولونَ: هذا هو عَمَلُنَا، فتأْثِيرُهُم النفسي لا نظيرَ له.
الفَائِدةُ الرابعةَ عشرةَ: جوازُ التَّعْبِيرِ بالسَّبب عن المسَبَّبِ، لقولِهِ:{مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، وهم في الحَقيقةِ لا يَذُوقون ما كانوا يعْمَلُونَ، إنما يذُوقُونَ جزاءَهَ، لكنه من بابِ التَّعْبِيرِ بالسَّببِ عن المسبَّبِ.
وأيضًا هو أشدُّ في التَّقْرِيعِ؛ لأن هذا العملَ اختَارُوه بأنفُسِهِمْ والجزاءُ لم يختارُوهُ بأنفسهم، فكأنه يقول: هذا هو الَّذِي اختَرْتُم تمامًا.
الفَائِدةُ الخامسةَ عشرةَ: أن الجزاءَ مِنْ جِنْسِ العَملِ، لقوله:{مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، فنَجْعَلُ الجزاءَ هو نفسُ العملِ وهو نَظِيرهُ تمَامًا؛ لأنه عبَّرَ به عنه، وهو بالنسبَةِ للكفَّارِ وأهلِ الظلْم يجَازَوْنَ بقَدْرِ أعمالهِمْ، أما من عَمِلَ خَيْرًا فإنه يُجْزَى الحسنَةَ بعَشْرِ أمثالها إلى سبعمئة ضِعْفٍ إلى أضعْافٍ كثيرةٍ أعظمَ وأكثرَ.
الفَائِدةُ السادسةَ عشرةَ: إثباتُ العَدْلِ، حيثُ كان الجزاء من جِنْسِ العَملِ.
الفَائِدةُ السابعةَ عشرةَ: فيه رَدٌّ على الجبْرِيَّةِ الذين يقولون: إن الإنسان لَا يُضافُ إليه العَملُ إلا على سبيلِ المجازِ فقط. فعمَلُ الإنسان عندهم كإحْراقِ النار لما تَحْرِقُهُ، فهو شيء مُجْبَرٌ عليه بدونِ اختيارِهِ، وجه ذلك قوله تعالى:{مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
* * *