الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{بِهَا} : هل نقولُ: إن (الباء) هنا بمعنى (على)، أي: ما سَبقَكُمْ عليها، أم نقول: إن الباءَ على معناها، أي: لم تُسْبَقُوا بها؟
الجواب: الباءُ هنا على معناها؛ لأننا لو قُلنَا: لم تُسْبَقوا عليها، لكان هذا فيمنْ أدركَ زَمنهُمْ وكانوا هم أسبقُ إلى هذا منه، أما إذا قُلنَا: ما سبقكم بها فهذا يقْتَضِي السبْقَ الزَّمَنِيَّ.
قَال المُفَسِّر: [{مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} الإنْسِ والجِنِّ]: {الْعَالَمِينَ} يجوزُ أن يكونَ عامًّا إلا فيما يُخَصِّصُهُ العَقْلُ كالملائكةِ فتَشمَلُ الجِنَّ والإنسَ، ويجوز أن يكونَ عامًّا أريدَ به الخاص، أي: من بَنِي آدَمَ، وأما البهائمُ فغَيرُ مكلَّفة.
فقوله: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} يريد زِيادَةَ التَّشْنيعِ عليهم، يعني: أنتم الذين سنَنَتُم هذه الطريقةَ، ومن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئةً فعليه وِزْرُها ووِزْرُ من عَملَ بها
(1)
، كأنه يقول لهم: لو سُبِقْتُم بهذه الفاحِشَةِ لكان لكم نوعٌ من العُذْرِ لكنكم ما سُبِقتم بها، فأنتمُ القُدْوَةُ فيها والعياذُ باللَّه.
من فوائد الآية الكريمة:
الفَائِدةُ الأُولَى: رَفعُ ذِكر هؤلاءِ الدُّعاةِ إلى اللَّه مِنَ الأنبياءِ وغيرهم؛ لأن قوله: [اذْكُرْ] يعْني: اذْكُرْهُ في موضِعِ الثَّناءِ، ولهذا قال اللَّه تعالى في القرآن في قصَّةِ مريمَ:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} [مريم: 16].
(1)
أخرجه مسلم بلفظ: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ"، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة. . .، رقم الحديث (1017)؛ وهو بلفظه عند ابن ماجه: افتتاح الكتاب في الإيمان وفضل الصحابة والعلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، رقم الحديث (203)؛ وأحمد (4/ 361)(19225).
الفَائِدةُ الثَّانِية: فضَيلَةُ لُوطٍ عليه السلام.
الفَائِدةُ الثَّالِثة: التَّركيزُ على الأمر الذي انغْمَسَ فيه الناسُ وإن كان غيرُهُ أولى مِنْهُ؛ لأن لُوطًا عليه السلام لم يُرَكِّز على التَّوحيدِ في هذه القصَّةِ، لكنه ركَّزَ على العملِ السائدِ بينَ الناس، وما مِنْ رَسولٍ إلا ويدْعو قومَهُ إلى التَّوحيدِ، ولهذا بعضُ النَّاسِ إذا رأى بعضَ الدُّعاة يُنْكرُ شَيئًا مُعَيَّنًا انغَمَسَ فيه الناس، قال: النَّاسُ أشدُ من هذا، لماذا تتكلَّمُ على هذا، في الفَخِّ أكبرُ من العُصفورِ، يعني: لا تَتكَلَّمْ عنِ الملاهِي أو عَنِ الميْسِرِ أو عنِ الرِّبَا والناس لا يُصَلُّون، لماذا لا تتكلم على تَركِهِمُ الصَّلاةَ.
فنقول: لا مانِعَ أن يُرَكِّزَ الدُّعاةُ على ما انْغَمَسَ فيه الناسُ وإن كان غيرُهُ مما لم ينْغَمِسُوا فيه أهمَّ منه؛ لأن المقصودَ علاجُ هذا الدَّاءِ الذي انغْمَسَ فيه الناس.
الفَائِدةُ الرَّابِعَةُ: فُحْشُ اللُّواطِ -والعياذ باللَّه-، وهو إتْيانُ الذَّكَرِ الذَّكرَ، ولا رَيبَ أنه مِنْ أعظَمِ الفواحِشِ، وفي الآية الكريمَةِ لم يذْكُرْ حَدَّ اللُّواط، وكذلك السُّنَّةُ ليس فيها أحاديثُ صحيحةٌ صريحةٌ في حدِّ اللُّواطِ، ولذلك اختلف أهلُ العِلم على ثلاثةِ أقوالٍ:
القولُ الأَوَّلُ: أن حدَّهُ القَتْلُ بكلِّ حالٍ، يعني: سواء كان الفاعِلُ والمفعولُ به محُصَنَيْنِ أم غيرَ محُصَنٍ، والمحْصَنُ: هو الذي تزوَّجَ وجامَعَ في نِكاحٍ صَحيحٍ، واستَدَلُّوا بقولِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام:"مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَاقْتُلوا الْفَاعِلَ، وَالمفْعُولَ بِهِ"
(1)
، وهو حديثٌ أدْنَى أحوالِهِ أن يكونَ حَسَنًا.
(1)
أخرجه أبو داود: كتاب الحدود، باب فيمن عمل عمل قوم لوط، رقم الحديث (4462)؛ والترمذي: كتاب الحدود، باب حد اللوطي، رقم الحديث (1456)، وابن ماجه: كتاب الحدود، باب من عمل عمل قوم لوط، رقم الحديث (2561)، وأحمد (1/ 300)(2732).
ثم إنَّ الصحابة رضي الله عنهم أجْمَعُوا على قَتْلِ اللُّوطِيِّ الفاعلَ والمفعولَ بِهِ، إلا أنهم اختلفوا كيف يُقْتَلُ؟
فقال بعضهم: إنه يُحَرَّقُ بالنار، وقال بعضُهم: إنه يُرْجَم بالحجَارَةِ، وقال آخرون: يُلْقَى مِنْ أعْلى مكانٍ في البلَدِ.
والذي اختَارَهُ شيخُ الإسلامِ ابن تيمية رحمه الله
(1)
أن يُقْتَلَ الفاعِلُ والمفعولُ به؛ للحَديثِ والآثارِ عَنِ الصحابة رضي الله عنهم، وللمَعْنى والقياسِ الصَّحيحِ؛ لأن هذه الفاحِشَةَ والعياذُ باللَّه لا يُمكنُ التَّحَرُّزُ منها، فإذا لم يكن لها رَادعٌ قَوِيٌّ استَشْرَتْ في الناس -والعياذُ باللَّه-؛ ولأنها قَتْلٌ للرُّجُولَةِ، فإن الإنسان يكونُ بمنزلَةِ المرأةِ.
وأما كيفيةُ قتْلِهِ فالذي نرَى أن يُرجَع إلى رَأيِ الإمامِ فيُقْتَلُ بما يَراه أنْكى وأبْلغَ.
القول الثاني: أن حَدَّهُ كحَدِّ الزَّانِي، يعني: إن كان مُحْصَنًا رُجِمَ، وإن كان غير مُحَصن فإنه يجلَدُ ويُغَرَّبُ، وهذا القولُ هو المشهور من مذهبِ الإمامِ أحمدَ، وقالوا: إن الحديثَ لا تقومُ به حُجَّةٌ، بمعنى أنه لا يَصِلُ إلى دَرجَةٍ يُستَباحُ بها دَمُ المسلمِ، واللواطُ فاحِشَةٌ بنَصِّ القرآن، فيجب أن يلْحَقَ بالفاحِشَةِ التي نَصَّ القرآن على حدِّهَا وهي الزِّنَا، فعليه يكون طريقُه طَريقُ الزِّنَا، فيُرْجَم المُحْصَن ويُجلَد غيرُ المُحْصَن ويغرب.
لو قالَ قائلٌ: المذهبُ يأخُذونَ بآثارِ الصحابَةِ؛ لأن مِنْ أُصولِ أحمدَ العِلْمُ بقولِ الصَّحابِيِّ، فلماذا في هذه المسألة لم يأْخُذوا بالآثار التي ورَدَتْ عنِ الصحابة
(1)
مجموع الفتاوى (15/ 412، 20/ 390، 28/ 335، 34/ 180، 181)، والصارم المسلول (ص 87).
في حدِّ اللُّوطِيِّ؟
فالجواب: إذا قيل: مذهبُ الإمامِ أحمدَ، فالمرادُ المذْهَبُ الاصطلاحيُّ لا المذهبُ الشَّخْصِيُّ، فقد يكونُ مذهبُ الإمامِ الشخصيِّ خلافَ المذهب الاصطلاحيِّ، فلذلك نَنسُبُه إلى الإمام أحمدَ اصطلاحًا.
القول الثالثُ: أنه لا حدَّ فيه، وأنه يُكتَفَى فيه بالرَّادِعِ النَّفْسِيِّ، وما كان خبيثًا في النفوس فإنه لا حدَّ فيه بل يُكْتَفَى فيه بالرَّادِعِ النَّفْسِيِّ، فالبولُ أخبث من الخمْر، والخمر فيه حَدٌّ، والبولُ ليس فيه حَدٌّ لأن النفوس تنْفِرُ منه وتستَقْذِرُهُ، فاكتفى بالرادِعِ الطَّبيعِيِّ عن الرادِعِ التأْدِيبِيِّ، وهذا القول حكي عن أبي حنيفة رحمه الله، وهو قولٌ ضَعِيفٌ جِدًّا.
وأما قولهُمْ: إنه مستَقْذَرٌ لا تأْلَفُه الطِّباعُ، فهذا صحيحٌ بالنسبة للطِّباعِ السَّليمَةِ، لكن بالنسبة للطِّباعِ المهِينَةِ فإنها تألَفُه، فهؤلاء قومُ لوط أمَّةٌ كلُّهُم على هذا الأمر، فكيف نقول: الذي يُسْتَقْذَرُ في الطباعِ السلِيمَةِ لا يرْدعُ بالتأدِيبِ، فالصوابُ أن هذا القولَ ضَعيفٌ جِدًّا، ولولا أنه قيل ما حَكَيْنَاهُ.
الفَائِدةُ الخامِسة: ينْبَغِي ذِكْرُ ما يُنَفِّرُ عن العملِ السَّيئ، لقولِهِ:{مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} ، ووجه كونه مُنَفِّرًا لأنهم ليس لهم قُدْوَةٌ حتى يُعذَرُوا بها، وكذلك آثامُ مَنْ بَعدهُم تكونُ عليهم.
الفَائِدةُ السَّادسَة: تأكيدُ الأمرِ المنْكَرِ بما يقْتضِيهِ الأُسلوبُ في اللغة العَربِيَّةِ، لقولِهِ:{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} فإن (إن) و (اللام) للتوكيد.
وكيف يُؤَكَّدُ هذا الأمرُ مع أنهم معتَرِفُونَ به؟
الجواب: لأنه نَزَّلَ غيرَ المنكَرِ منْزلِةَ المنْكَرِ؛ لأن ممارسَتَهُم لهذا الفعل يقْتَضي أنهم ينْكِرُونَ كونَه فاحشةً، فحالهُم تقْتَضِي أنهم يستَبِيحُون ذلك ولا يَرَوْنَهُ مُنْكرًا، فكونهم يمارِسونَهُ ولا يبالُونَ بها ويرونَهَا أمْرًا سَائغًا فهُمْ كالمنْكِرينَ لكونِهَا فاحِشَةً، ونظيرُ ذلك قوله تعالى:{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون: 15]، فـ (إنَّ) و (اللام) مؤكدَّةٌ للموتِ والموتُ لا شكَّ فيه، لكن أتى بالتوكيدِ مِنْ أجل أن فِعْلَ هؤلاءِ المشركين فِعْلُ المنْكِرِ للموتِ؛ لأن مَنْ أقَرَّ بالموتِ فلا بُدَّ أن يستَعِدَّ لَه، والآية ساقها اللَّه جَلَّ وَعَلَا في ذِكْر ابتداءِ الخلقِ وانتِهائهِ، ولهذا قال سبحانه وتعالى:{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15 - 16].
* * *