الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أيضًا قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36]، ثم إن المالَ المفروضَ أن ينْتَفِعَ به الإنسانُ، لكنَّ هؤلاءِ الكفَّارَ لم ينْتَفِعُوا بمالهُم، فمَهْمَا أنْفَقُوا مِنْ نفَقَةٍ فلن تُقْبَلَ منهم، قال سبحانه وتعالى:{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54]، فهم الخاسرونَ من كُلِّ وجه -والعياذ باللَّه-، ولهذا حَصَرَ الخِسَارَة فيهِمْ.
من فوائد الآية الكريمة:
الفَائِدةُ الأُولَى: أن اللَّهَ سبحانه وتعالى شهادَتُهُ أعظَمُ وأكبرُ شَهادةٍ، لقوله:{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} ، وفي سُورَةِ الأنعامِ قال تعالى:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19].
الفَائِدةُ الثَّانِيةُ: أن شهادةَ اللَّهِ سبحانه وتعالى تكونُ بالقَولِ وبالفِعْلِ:
أما بالقول: فإنَّ اللَّه تعالى يقولُ للنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166].
وأما بالفعل: فإن تَمكِينَ اللَّهِ سبحانه وتعالى لرَسولِهِ عليه الصلاة والسلام في الأرضِ ونَصْرَهُ إيَّاهُ وخُذلانَ أعدائِهِ أكبرُ شهادَةٍ على أنه صاحِبُ الحقِّ وأن أعدَاءَهُ أهلُ الباطل؛ إذن: فالشهادَةُ نوعان: شهادةٌ فِعْلية، وشهادة قَولِيَّة.
الفَائِدةُ الثَّالِثةُ: إطلاقُ الشَّهادةِ على الحُكم، لقوله عز وجل:{بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} لم يقل: شَهِيدًا لي عَليكُمْ، بل قالَ:{بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} .
لو قال قائل: إذا كان عندَ الحاكِمِ شهادةٌ هل يحكُمُ بها؟
الجواب: إذا كانَ عندَ الحاكمِ شهادةٌ فلا يُحْكَمُ بها كما قالَ أهلُ العِلم، بل يُحَوِّلُ القَضِيَّة إلى قاضٍ آخِرَ ويَشْهَدُ.
الفَائِدةُ الرَّابِعةُ: إثباتُ عِلم اللَّه سبحانه وتعالى، لقولِهِ:{يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وإثباتُ عُمومِ عِلم اللَّهِ سبحانه وتعالى، وعُمُومُ العِلم غيرُ مطْلَقِ العِلْمِ، فالإنسان عالمٌ، لكن عِلْمَهُ ليس بعام، أما اللَّهُ عز وجل فعالم وعِلْمُهُ عامٌّ شامِلٌ لكُلِّ شيءٍ.
الفَائِدةُ الخامِسةُ: إثباتُ تعَدُّدِ السمواتِ، لقوله:{يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} وهي جَمْعٌ، وهي هنا مُبْهَمَةٌ، لكنها بُيِّنَتْ في آياتٍ متَعَدِّدَةٍ بأنها سبعُ سمواتٍ.
الفَائِدةُ السَّادسَةُ: إثباتُ عِلم اللَّهِ لما يَفْعَلُه الإنسان؛ لأن ما يَفْعَلُه الإنسانُ داخلٌ في كونِهِ في السموات والأرض، فيكون في ذلك رَدٌّ على غُلاةِ القَدَرِيَّةِ الذين أنْكَرُوا عِلْمَ اللَّهِ وقالوا -والعياذ باللَّه-: إن اللَّه تعالى لا يَعلَمُ أفعالَ العَبْدِ، وأن الأمْرَ أُنُف، أي: مستَأْنَفٌ، وقد تقدم.
الفَائِدةُ السَّابِعة: أن الإيمانَ بالباطلِ والكُفْرَ باللَّهِ سببٌ للخَسَارَةِ، لقوله عز وجل:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ، ويَتَرَتَّبُ على ذلك أن الخسرانَ يكونُ بقَدْرِ ما آمنَ الإنسانُ به مِنَ الباطِلِ وكَفَر به مِنَ الحقِّ، فأعْظَمُهُ الشركُ باللَّه عز وجل، ومنه ما هو دُونَ ذلك، كما لو آمَنَ بحُكْمٍ مخالِفٍ لحُكْمِ الشَّريعَةِ وكَفَر بحُكْمِ الشَّرِيعَةِ؛ فإن لَدَيْهِ مِنَ الخُسرانِ بقدر ما حصَلَ منه مِنْ هذه المخَالَفَةِ.
وما فَسَدَتْ أحوالُ العالم الإسلامي وغير الإسلامي إلا بالحُكْمِ بغيرِ ما أنْزَلَ اللَّه عز وجل، ولو كانتِ الأُمَّةُ الإسلامية صادِقَةً في إرادَةِ العِزَّةِ والكرامَةِ والسعادَةِ والفَلاحِ، لرَجَعَتْ إلى الحكمِ بكِتابِ اللَّه؛ لأن الحكمَ بالقوانِينِ الوَضْعِيَّةِ المخالِفَة للشريعةِ لا شكَّ أنه خَسَارةٌ بنَصِّ القرآنِ؛ لأنها باطِلٌ، وما أنزل به القرآن فَهُو الحقُّ، فيكون عليهم مِنَ الخسْرانِ بقدرِ ما خالَفُوا من الحقِّ.
الفَائِدةُ الثَّامِنةُ: أن من حَقَّقَ الإيمانَ باللَّهِ والكُفْر بالباطلِ فهو الرَّابِحُ، ويَدُلُّ على ذلك قَولُه سبحانه وتعالى:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3].
هل نأخُذُ من هذه الآيةِ أنَّ مَنْ آمَنَ بالباطِلِ فهو كافر باللَّه؟
الجواب: ظاهِرُ الآية أنهم لا يَكْفُرونَ؛ لأنها جمعَتْ أمْرينِ، والعَطْفُ يقْتَضِي المغايَرَةَ، ويمكنُ أن يُقالَ: إن قولَهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ} لبيانِ حالهِمْ، وأنه يَلْزَمُ مِنَ الإيمانِ بالباطلِ الكُفرُ باللَّهِ؛ لأننا نقول: هب أنهم آمَنُوا بالباطلِ وآمنُوا باللَّه، هل يكونُ إيمانُهُم صَادِقًا؟
الجواب: لا؛ لأنَّ مَنْ آمَنَ باللَّه رَبًّا ثم ذَهَبَ يعْبُدُ صَنَمًا، هذا ليس بمؤمنٍ باللَّهِ، فإيمانهم بالباطِلِ يلْزَمُ منه كُفْرُهم باللَّه عز وجل.
لو قالَ قائلٌ: هل التَّحاكُمُ للمحاكِمِ غيرِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الإيمانِ بالباطلِ، وهل هُو كُفْرٌ؟
فالجواب: من اعتَقَدَ في القَوانِينِ الوَضْعِيَّةِ المخالفةِ للشَّريعَةِ أنها حَقٌّ، فإننا نَحْكُمُ بكُفْرِهِ؛ لأنه إذا أثْبَتَ الحقَّ في أحدِ المتَضَادَّيْنِ لَزِمَ أن يْنَتفَي الحَقُّ عن الضِّدِّ الآخَر.
فهذه المسألةُ خَطِيرَةٌ، فإشعارُ الناسِ مِنْ بعضِ أهلِ العِلْمِ أن هذه القَوانينَ الوضْعِيَّةَ صحيحةٌ وحَقٌّ، وهي تخالِفُ الشَّريعةَ؛ هذا خَطَرٌ عَظيمٌ.
لو قال قائلٌ: ما الحكم إذا قَرَّبُوا هذه القَوانِينَ الوضْعِيَّةَ إلى الإسلامِ؟
فالجواب: إذا أمكنَ أن نُصَحِّحَهَا بطريقٍ من الطُّرُقِ فهذا أَوْلَى؛ لكن كون هذه الأحكامِ مخالِفَة للشريعةِ، ثم نقول: إنها حقٌّ؛ فهذا خطأ ولا يجوزُ.
لو قالَ قائلٌ: ما الحُكْمُ إذا كانت هذه الأحكامُ الوضْعِيَّةُ يَكَمِّلُ بَعْضُها بعْضًا؟
فالجواب: الإيمان ببعضِ الكِتابِ والكُفْرُ ببعضٍ هو كُفرٌ بالجَميعِ؛ لأنه اتِّبَاعٌ للهَوَى، حيثُ أخَذَ ما يُوافِقُ هَوَاهُ.
ولو قالَ قائلٌ: الذين سَافَرُوا إلى الغَرْبِ وجَاءوا يتَحَدَّثُونَ عن الحياة والسعادةِ، هل يَدْخُلُونَ في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ. . .} الآية؟
فالجواب: الذي يَمْدَحُ الغَرْبَ على سبيلِ الإطلاقِ، هذا في الحقيقة عنده جَهْلٌ عظيمٌ؛ لأن ما عليه الغربُ من حَقٍّ كالصِّدْقِ والإخْلاصِ في المعامَلَةِ وما أشبه ذلك يُحْمَدُون عليه إذا ثَبَتَ أنهم كذلك؛ لأن هذا هو العَدْلُ، وأما ما عندهم من بَاطلٍ وفِسْقٍ وفُجور وكُفْرٍ، فلا يحمدون عليه.
لو قال قائل: بَعْضُ العَوامِّ يقولون: أنتم دائمًا تَقُولونَ: الدَّجَّالُ سيَخْرُجُ، والآن له ما يزيدُ على ألْفِ سَنَةٍ ولم يَخْرُجْ، هل هَذَا يَدْخُل في قولِهِ تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} ؟
الجواب: هؤلاءِ العوام يُنْصَحُونَ ونَقُولُ لهُمْ: ربما يكون هذا تَكْذِيبًا بالحقِّ فتَكْفُرون وأنتم لا تَشْعُرونَ، إن كان شكًّا فهو يُشْبِهُ الاستعْجَالَ بالعَذَابِ، مع أن
الدَّجَّالَ ليس عَذَابًا فقط، بل هو عَذَابٌ على قومٍ ورَحْمَةٌ على آخرين، فهذا الذي يقتُلُه ويُحْييه هو أعْظَمُ الناس شهادَةً عندَ اللَّه، وهو له رَحْمَةٌ، وعُمومًا هذا الكلامُ خَطِيرٌ.
ونقولُ لهم: ألَسْتُمْ في كلِّ صلاةٍ تقولون: "نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَمنْ فِتْنَةِ المسِيحِ الدَّجَّالِ"
(1)
، والرسولُ صلى الله عليه وسلم حَذَّرَ الصَّحابَةَ
(2)
، والصحابةُ خَافُوا حتى ظَنُّوا أنه في أطَرافِ النَّخْلِ، خافُوا لشِدَّةِ إنذارِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لا لكونه سيَخْرُجُ، لكن كونُكَ أيضًا تُوهِمُ الناسَ أن الدَّجَّالَ سيَخْرُجُ الآن، أو أنه سَيأتِي بعدَ سَنَةٍ أو سَنَتينِ، هذا غَلَطٌ لأنَّنَا لا عِلْمَ لنا بهذَا، بل نقول: إنَّهُ مِنْ أشْراطِ السَّاعةِ.
لو قالَ قائلٌ: ما حُكْمُ التَّحَاكُمِ إلى المحاكِمِ غيرِ الشَّرْعِيَّةِ، أي: التي تَحْكُمُ بالأحكامِ المخالِفَةِ للشَّرِيعَةِ؟
فالجوابُ: إذا أُلْجِئَ إلى المحاكَمَةِ إلى هذه المحاكمِ غيرِ الشَّرْعِيَّةِ، فإننا نقولُ بالجوازِ إذا كان وَسِيلَةً لاستِخْراجِ حقِّه، بشَرْطِ ألا يَقْبَلَ ما زادَ عَلَى الحقِّ، فالناسُ حقيقة مضَطَّرون إلى هذا في البلادِ الأُخْرى لأن حَقُوقَهُم تَضِيعُ، ولو قيل بالمنْعِ
(1)
أخرجه البخاري: كتاب صفة الصلاة، باب الدعاء قبل السلام، رقم (798)؛ ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، رقم (589)، عن عائشة.
(2)
أخرجه البخاري: كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، رقم (7127)؛ ومسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صيام، رقم (169)، عن ابن عمر، واللفظ لمسلم: قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الناس، فأثنى على اللَّه بما هو أهله، ثم ذكر الدجال فقال:"إني لأنذركموه، ما من نبي إلا وقد أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه، ولكن أقول لكم فيه قولًا لم يقله نبي لقومه: تعلموا أنه أعور، وأن اللَّه تبارك وتعالى ليس بأعور".
لكان له وَجْهٌ؛ لأن التحاكمَ إليه يُوجِبُ اغترارَ المسلمين بذلك، لكنَّ جوازَ التَّحاكُمِ هو الظَّاهِرُ، إلا إذا كانت المفْسَدَةُ متَيَقَّنَةً فيَجِبُ أن تَتَجَنَّبَ هذا وتجعلَ مَا لك مِنْ حقٍّ مِنَ الأُمورِ التي قَدَّرَ اللَّه عليها التَّلَفَ بحَريقٍ أو بِلُصوصٍ تَسَلَّطُوا عليه، وإذا كان عَالمًا أو قُدْوة ويُخشَى أن تكونَ مَفْسَدَةٌ من تحاكُمِهِ، فالأَوْلَى ألا يَتَحَاكَمَ إليهم، إلا إذا تَيَقَّنْتَ المفسدةَ فيَجِبُ عدمُ التَّحاكُمِ، ويَرَى أن هذا أمرٌ قَدَّرَهُ اللَّه عز وجل عليه، ولو جعل مُحَاميًا عنه -أي وكيلًا عنه- قد يكونُ أخْفَى وأَوْلى؛ لأنَّه قُدْوَةٌ؛ هذا إذا كان مضطرًا لذلك.
وأما حُكْمُ من يعْمَلُونَ في هذه المحاكمِ غيرِ الشَّرْعِيَّةِ: فإذا كان عمَلُهُم للتَّخْفِيفِ من مخالفَةِ الشرعِ فهذا لا بأس به، بل قد يَجِبُ عليهم هذا إذا قالوا: سنكونُ حُكَّامًا لأجلِ أن نَحْكُم بالشَّريعَةِ بقدرِ ما نَسْتَطِيعُ، وكي نُخَفِّفَ الأحكامَ المخالِفَةَ للشرعِ، مثاله: في بعض الأحيان يَحْكُمُ بالحقِّ، وإذا أُجْبِرَ حَكَمَ بالحقِّ ثم أتى بمُبَرِّرَاتٍ تُخَالِفُ معارضَةَ هذه الأحكامِ الوضْعِيَّةِ، فهذا يجبُ عليه الدُّخولُ، أما إذا كان لا يُمْكِنُ أن يحْكُم إلا بالطَّاغوتِ، فلا يجوز أن يدْخُلَ هذه المحاكم ولا يعمل فيها.
* * *