المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (61) * * * * قالَ اللَّه عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ - تفسير العثيمين: العنكبوت

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآيات (1 - 3)

- ‌الآية (3)

- ‌من فوائد الآيات الكريمة:

- ‌الآية (4)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (5)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (6)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (7)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (8)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (9)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (10)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (11)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (12، 13)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (14)

- ‌الآية (15)

- ‌الآية (16)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (17)

- ‌الآية (18)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (19)

- ‌الآية (20)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (21)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (22)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (23)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (24)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (25)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (26)

- ‌الآية (27)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (28)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (29)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (30)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (31)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (32)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (33)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌(الآية: 34)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (35)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (36 - 37)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (38)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (39)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (40)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (41)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (42)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (43)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (44)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (45)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (46)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (47)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (48)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (49)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (50)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (51)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (52)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيات (53 - 55)

- ‌من فوائد الآيات الكريمة:

- ‌الآية (56)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (57)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (58)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (59)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (60)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (61)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (62)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (63)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (64)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (65)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (66)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (67)

- ‌الآية (68)

- ‌الآية (69)

الفصل: ‌ ‌الآية (61) * * * * قالَ اللَّه عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ

‌الآية (61)

* * *

* قالَ اللَّه عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61].

* * *

قَال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَلَئِنْ} لامُ قَسَمٍ {سَأَلْتَهُمْ} أي: الكُفَّارَ] اهـ.

يقولُ المُفَسِّر رحمه الله في قوله تعالى: {وَلَئِنْ} : (اللام) لامُ القَسَمِ، يعْنِي: موطِئَّةً للقَسَمِ، وقد اجتَمَع في هذه الآية قَسَمٌ وشَرْطٌ، والقاعدة: إذا اجتَمَعَ شرطٌ وقَسَمٌ حُذِفَ جوابُ المتأخِّرِ، قال ابن مالك رحمه الله

(1)

:

وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ

جَوَابَ مَا أَخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ

وقوله: {وَلَئِنْ} : (اللام) لامُ القَسَمِ، و (إن) شَرْطِيَّةٌ، فكانَ الجوابُ للقسمِ وهو قولُهُ:{لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، وحُذِفَ جوابُ الشَّرْطِ.

قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} فيها ضميران: (التاء) و (الهاء)، التاءُ خِطَابٌ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أو لكلِّ مَنْ يتَأَتى خِطابُه، والهاء خطابٌ للمَسْؤولِينَ.

وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} أي: ولئنْ سألتَ هؤلاءِ الكُفَّارِ {مَنْ خَلَقَ} ، (خلق): بمعنى أوْجَدَ، ولكن على تقديرِ مُعَينٍ، فالخلْقُ ليس بمعنى الإيجَادِ المجَرَّدِ، بل هو

(1)

البيت رقم (706) من ألفيته.

ص: 368

إيجادٌ على تَقْديرٍ مُعَيَّنٍ، أي: أنه يكون مَسْبُوقًا بتقديرٍ، ولذلك لا يكون إلا فيما فيه إتقانٌ وجودةٌ.

قوله عز وجل: {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} : والسمواتُ تُجْمَعُ دائمًا في القرآن، والأرضُ لا تأتي إلا مُفْرَدَةً، ولكنَّ الثابتَ أن الأَرَضِين سبْعٌ كما أن السموات سبْعٌ.

قوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ} بمعنى: ذَلَّلَ الشَّمْسَ وجَعلهَا مُذَلَّلَة لمصالحِ العِبادِ تَسيرُ بهذا النِّظامِ الذي لا يختَلِفُ ولا يتَغَيَّرُ لا تَقَدُّمًا ولا تَأَخُّرًا، ولا عُلُوًّا ولا نُزُولًا، ولو تَدَبَرْت هذه الشمسَ لرَأَيْتَهَا على نظامٍ بديعٍ لا يَتَغَيَّرُ على عِظَمِهَا وكِبَرها.

ثم إن فيها من آيات اللَّه الكثيرةِ: انْظُرْ إلى حَرارَتِها في أيام الصيفِ، وهذه الحرارةُ العظيمةُ ما هي إلَّا نفَسٌ بسيطٌ مِنَ نَارِ جَهَنَّمَ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:"اشْتكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِى بَعْضًا، فَأَذِنَ لهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ في الصَّيْفِ ونَفَسٍ في الشِّتَاءِ"

(1)

، هذه الحرارة العَظِيمَةُ مع أن المسافَةَ بَينَنَا وبينها بَعِيدَةٌ جدًّا، ومع ذلك يقولون: لو قَرُبَ منها أَقْوَى حَدِيدٍ وأمْنَعَ حديدٍ لصارَ هَباءً قبلَ أن يَصِلَ إليها مِنْ شِدَّةِ الحرَارةِ، وهذا أمرٌ مَعْلُومٌ؛ لأنك لو تُوقَدُ نارًا عَظِمية مِنْ أعظمِ نِيرانِ الدُّنَيا فلا تَجِدُ هذه الحرارةَ العَظِيمَةَ من هذه المسافَةِ البعيدة.

ثم إن هذه الشمسَ كلُّ يومٍ لها مَطْلَعٌ، وكل يوم لها مَغْرِبٌ؛ وذلك لأن اللَّه سَخَّرَها، ولولا ذَلِكَ ما اختلَفَتْ مشَارِقُ الشتاءِ ومشَارِقِ الصَّيْفِ.

الحاصلُ: أن الشَّمسَ مخلوقٌ عَظِيمٌ وأنها مُذَلَّلَةٌ لمصالحِنَا بها تَنْضُج الثمارُ، وبها

(1)

أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، رقم (512)؛ ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر لمن يمضي إلى جماعة. . .، رقم (617) عن أبي هريرة.

ص: 369

تُعْلَمُ السُّنونُ، ولو قَرُبَتْ أو بَعُدَتْ تَغَيَّرَ الجوُّ بلا شكٍّ، مع أنها تأتي يومَ القيامَةِ يكون بينها وبينَ الناسِ قَدْرَ مِيلٍ

(1)

، واللَّهُ على كُل شيءٍ قَدِيرٌ، وأحوالُ الآخِرَةِ لا تُقاسُ بأحوالِ الدُّنْيَا.

وقوله سبحانه وتعالى: {وَالْقَمَرَ} : القَمَرُ معروف، وإنما ذَكَر اللَّه سبحانه وتعالى هنا الشَّمْسَ والقَمْرَ لما فيهما مِنَ المصَالِحِ الظاهرَةِ؛ لأن النُّجومَ والكواكبَ ليس فيها مصالِحُ ظاهِرَةٌ لنا، وإلا فقدْ سَخَّرَ اللَّهُ الشمسُ والقمر والنجوم، فكُلُّهَا مُسَخَّرَةٌ؛ لكنَّ المصالحَ في الشمسِ والقَمَرِ أظهرَ وأبَيْنَ.

وفي قوله تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} دليل على أنهما هُمَا اللذانِ يَجْرِيانِ حولَ الأرض، خِلافًا لمن قال: إنهما لا يَسِيرَانِ حولَ الأرض، وإنَّ اختلافَ الليلِ والنهار بسببِ دَورانِ الأرْضِ نَفْسِها.

ولا شكَّ أن الذي لا يعْتَقِدُ أنهما يَدُورانِ حولَ الأرضِ أنه على خَطَرٍ عظيم، ربما يَصِلُ به ذلك إلى الكُفْرِ؛ لأن الذي نُؤْمِنُ به ونعْتَقِدُهُ ما أخبرنا اللَّه عنه من أنَّ الشمسَ هي التي تَدُورُ حولَ الأرضِ، وكذلك القَمَرُ قال تعالى:{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف: 17]، فأضافَ اللَّه هذه الأفعالَ الأرْبَعَةَ إلى الشمسِ:(طَلعت، تَزَاور، غَرَبت، تَقْرِضهم).

(1)

أخرجه أحمد (4/ 157)(17475)؛ والحاكم (4/ 615)(8704) عن عقبة بن عامر، ولفظ أحمد:"تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الأَرْضِ، فَيَعْرَقُ النَّاسُ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَبْلُغُ عَرَقُهُ عَقِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ الْعَجُزَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ الِخاصِرَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ مَنْكِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ عُنُقَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ وَسْطَ فِيهِ، وَأشَارَ بِيَدِهِ فَأْلجَمَهَا فَاهُ، -رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ هَكَذَا-، وَمِنْهُمْ مَنْ يُغَطِّيهِ عَرَقُهُ"، وضرب بيده إشارة.

ص: 370

ولو كان الأمرُ كما يقولُ هؤلاءِ الخرَّاصُونَ لكانت الأرضُ هي التي تَزَاورُ وهي التي تَطْلُعُ على الشَّمْسِ، وهي التي تَغْرُب عن الشمسِ، فَهُمْ ليس عندهم إلا أمورٌ ظَنِّيَّةٌ فقط، والقرآنُ دَلالَتُهُ ظاهرَةٌ على أن الشمسَ تَدُورُ حولَ الأرضِ، وكذلك القَمْرُ، والنَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام لما غَرَبت الشمسُ قال لأبي ذَرٍّ:"أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ"

(1)

، ولم يقل: أتَدْرِي أينَ نَذْهَبُ عن الشمسِ، بل الشمسُ هي التي تَذْهَبُ وهي التي تَأْتِي، وهي التي تستأذنُ وهي التي يُؤْذَنُ لها أو تُمْنَعُ.

ومن العَجِيبِ أن هذا القولَ المخالِفَ لظاهِرِ القُرآنِ قد سَرَى إلى أناس لا نَشُكُّ في دِيانَتِهِمْ، لكن غرَّهُم السَّرابُ فانْخَدَعُوا، والواجِبُ علينا في هذه الأمورِ أن نَمْشِيَ على ظاهِرِ القُرآنِ حتَّى يَتبَيَّنَ لنا ما يكونُ مخالِفًا لهذا الظاهِرِ، أما ما دَلَّ عليه القرآنُ دلالَةً يَقينِيَّةً فإنه لا يُمْكِنُ لشيءٍ أن يخالِفَهُ، فدَلالَةُ القرآنِ إما ظاهِرَةٌ وإما صَرِيحةٌ، فالصَّريحةُ قَطْعِيَّةُ الدِّلالَةِ، ولا يمكن لشيءٍ أن يخالِفَهَا، والظاهرةُ ظنِّيَةُ الدِّلَالَةِ فنبقى على الظاهرِ حتَّى يَتبَيَّنَ لنا بأمرٍ قَطعِيٍّ خلافُهُ، وحينئذٍ ما دام ظاهرًا فإنه يُمْكِنُ أن يُؤَوَّلَ.

فالحاصلُ: أن عِندنَا الآن ثلاثةُ مسائلَ:

الأُولَى: ثبوتُ الشمسِ والقَمَرِ، يعني: وُقوفُهُما، فقائلُ هذا مُكَذِّبٌ للقرآنِ.

والثانية: كونُ الليلِ والنَّهارِ بسبب دَورانِ الأرضِ أو بسببِ دَوَرانِ الشمسِ والقمر، نقول: هذا خلافُ الظاهِرِ، فنكَذِّبُهُم في قولهم: إن تَعَاقُبَ الليلِ والنَّهارِ بسببِ دَورانِ الأرضِ حتى يأْتُوا بدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ واضحٍ مثل الشمسِ يكون حُجَّةً لنا

(1)

أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب صفة الشمس والقمر بحسبان، رقم (3027)؛ ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، رقم (159) عن أبي ذر.

ص: 371

في تأويلِ ظاهِرِ القُرآنِ، وإلا فلا نَقْبَلُ قولَهم ولو اجتمَعُوا جميعًا؛ لأننا نعْرِفُ أن أقوالهم هذه تَخَرُّصَاتٍ، حتى إن الآخِرَ منهم يَنْقُلُ عبارةَ الأَوَّلِ بِنَصِّهَا، مما يدل على أن المتَأَخِّرِينَ ببغاوات كلما نطَقَ لهم نَطَقُوا بما سَمِعُوا.

الثالثة: دَورانُ الأرضِ حولَ نَفسِهَا، هذا لا يوجَدُ في القرآنِ دليلٌ -لا ظاهرٌ ولا صَريحٌ- يدُلُّ على أن الأرضَ تدورُ أو لا تَدُورُ، لكن قوله تعالى:{وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان: 10]، قد يقول قائل: إن قوله: (تَميدَ) يدل على أنه هناك حَركة، ووُضِعَتْ هذه الجبالُ لاتِّزَانِ هذه الحركةِ؛ لأن نَفْي الأَخَصِّ لا يَدُلُّ على نَفْي الأعَمِّ، ومع ذلك نقول: ما لنا ولمثل هذا البحث، لو أن هذا مِنَ الأمور التي يجبُ علينا اعتقادها أو اعتقادُ نَفْيهَا لكان قد بُيِّنَ في القرآنِ غايَةَ البيانِ؛ لأن اللَّه تعالى يقولُ:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].

ولو قالَ قائلٌ: لماذا نُشْغَلُ بهذه المسألةِ؟

فالجواب: إذا ابتُلي الإنسانُ فلا بُدَّ أن يَنْزِلَ إلى الميدانِ.

ومثلُ هذا طُرقُ أهلِ الكلامِ في إثباتِ العقيدةِ فهي ليست على طريقةِ السَّلفِ، لكنَّ السلفَ لم يتْرُكوهُمْ وشأنهم، بل خاضُوا معهم، وقبلَ أرْبعينَ سنةً كانَ الناسُ على عقائدهم الفطْرِيَّةُ أن الشَّمسَ تطْلُعُ وتَغِيبُ والقَمَرُ يطْلُعُ ويَغِيبُ، ولم يكن يَطْرَأْ ببالهِمْ إطْلاقًا هذه الأُمورَ المحْدَثَة.

وقوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} تَسْخِيرُ القَمرِ أيضًا لمنَافِعِ العبادِ ومصالحِهِمْ، قال سبحانه وتعالى:{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39]، بيَّن اللَّهُ الحكمةَ مِنْ ذلك في قوله عز وجل:{لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5]،

ص: 372

فباختلافِ منازِلِ القَمَرِ نعلمُ عَدَدَ السِّنينَ والحسابَ؛ لأن الأَهِلَّةَ هي المواقيتُ العالميَّةُ الفِطْرية، قال اللَّه سبحانه وتعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189]، عامَّة، وقال تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة: 36]، وهذه الأشْهُرُ التي بَيَّنَهَا الرسولُ عليه الصلاة والسلام: هي الأشْهُرُ الهِلالِيَّةُ.

وبالمناسَبَةِ: حدَّثَنِي أحدُ الناس أن في بعضِ البلادِ يعْتَقِدُونَ أن سببَ الكسوفِ أن مخلوقًا يحولُ بينَ القمرِ وبين الأرض، وأيضًا في بعضِ البلاد يعتَقِدُونَ أن حيوانًا سَمَاويًا يتَرَصَّدُ بالقَمرِ -لعله حوت- فيحْجُبُه عن الأرضِ، ولذلك هم يخْرُجونَ بالطبولِ يهْتِفُون: يا فلانة يا فلانة انْقِذِي القَمَرَ، وهذا من البِدَع والمصائبِ التي حَلَّتْ بالمسلمين، والواجبُ على أهْلِ العلمِ التَّنْبِيه على خَطر هذه البِدَع والتَّحْذِيرِ مِنْهَا.

قوله: {لَيَقُولُنَّ} نونُ التوكيدِ اتَّصَلَتْ بالمضَارِعِ، والمعروفُ عندَ أهلِ النَّحْو أن نون التوكيد إذا اتصلتْ بالمضَارعِ يُبْنَى على الفَتْحِ، والموجودُ هنا ضمَّةٌ؟

والجواب: أن نون التوكيد إذا اتَّصَلَتْ بالمضارع فيُشْتَرَطُ أن تكونَ مباشِرةً للفعل لفظًا أو تَقْدِيرًا، ولذلك يقول ابن مالك رحمه الله

(1)

:

. . . . . . . . . . .

وَأَعْرَبُوَا مُضَارِعًا إِنْ عَرِيَا

مِنْ نُونِ تَوْكِيدٍ مُبَاشِرٍ وَمنْ

نُونِ إِنَاثٍ كَـ (يَرُعْنَ مَنْ فُتِنْ)

فالنون في قولِه: {لَيَقُولُنَّ} ليستْ مبَاشِرَةً للفِعْلِ تقديرًا؛ لأنه حالَ بينها

(1)

البيتان (19، 20) من ألفيته.

ص: 373

وبين الفعلِ اسم وهو (الواو)، وحرفٌ وهو (النون) أي: نُونُ المضارِعِ، وحُذِفَتْ نونُ المضارِعِ لتوالِي الأمثالِ، والواو حُذِفَتْ لالتقاءِ السَّاكنين؛ لأنه لما حُذِفَتِ النُّونُ الأُولَى لتَوالِي الأمثالِ والنُّونُ الثانِيَةُ مشَدَّدَةٌ، والحرفُ المشَدَّدُ أوله ساكن فيلتقي مِنْ ساكِنٍ، وهو الواو فتُحْذَفُ الواو، قال ابن مالك رحمه الله في الكافية:

إِنْ سَاكِنَانِ الْتَقَيَا اكْسِرْ مَا سَبَقْ

وَإِنْ يَكُنْ لَيْنًا فَحَذْفُهُ اسْتَحَقْ

قوله: {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أي: المسؤولُونَ مِنَ الكفَّارِ.

لفظ الجلالة {اللَّهُ} إعرابه: خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ تقْدِيرُهُ: (هو اللَّه)، فالكفار يُقِرُّونَ بأن اللَّه هو الذي خلقَ هذه الأشياء، ويعْتَرِفُونَ أن هذه الأشياءَ لا تَصْنَعُها الآلهةُ لا خَلْقًا ولا تَدْبِيرًا، والآية جمعتْ بين الإيجادِ والتَّدْبِيرِ في قوله -سبحانه-:{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} ولم يقل: خَلَقَ الشمس والقمر.

والحاصل: أنهم مُقِرُّونَ بأن خالقَ السمواتِ والأرض ومُسَخِّرُ الشمس والقمر هو اللَّه تعالى دونَ أصنَامِهِمْ، وهم لما أقَرُّوا هذا الإقرارَ أقامُوا الحُجَّةَ على أنفسهم؛ لأن مَنْ أقرَّ بالرُّبُوبِيَّةِ لَزِمَهُ أن يُقِرَّ بالألوهية، ومَنْ أقَرَّ بالألوهية فقد أقرَّ بالرُّبُوبِيَّةِ، فهما متلازِمَانِ، والإقرارُ بالرُّبوبِيَةِ أسبقُ لأن الإنسان لا يَعْبُد إلا ربًّا يعلَمُ أسماءَه وصِفَاتِه وأفْعَالَهُ.

قوله: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (أَنَّى): اسمُ استِفْهامٍ الغَرضُ منه التَّوبِيخُ، يعني: بعد أن أَقَرُّوا بهذا كيف يُصْرَفُونَ؟ وسمَّي الصَّرْفُ إفْكًا لأنه صَرفٌ للشيءِ عن حَقِيقَتِهِ كما يُسَمَّى صَرْفُ الكلامِ عن الواقع إفْكًا، كما لو قال لكَ رجلٌ:(قَدِمَ زَيدٌ). وزيدٌ لم يَقْدم، هذا يُسَمَّى إفْكًا؛ ولهذا قال المُفَسِّر رحمه الله:[{فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}: أنَّى يُصْرَفُونَ عن تَوْحِيدِهِ بعدَ إقْرارِهِمْ بِذَلكَ].

ص: 374