الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحُجَّةُ الرابِعَةُ: دعاؤُهُم اللَّه جَلَّ وَعَلَا في حالِ الشِّدَّةِ.
والحُجَّةُ الخامِسَةُ: إخلاصُهُم الدُّعاءَ في حالِ الشِّدَّةِ للَّه جَلَّ وَعَلَا.
قوله عز وجل: {فَلَمَّا} شَرْطِيَّةٌ، وفِعْلُ الشَّرطِ:{نَجَّاهُمْ} وجوابُهُ: {إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} ، و {إِذَا} يُسَمِّيهَا النَّحْويونَ فُجَائية، والفُجَاءَةُ الشيءُ الذي يَأْتِي بَغْتَةً، والمعنى أنهم إذا نُجُّوا إلى البَرِّ فاجَؤوا وبادَرُوا بالشركِ -أعوذ باللَّه- جزاءَ النِّعْمَةِ أن يكفروا.
والمعنى: فلما نَجَّاهُمْ اللَّه سبحانه وتعالى وأنْقَذَهُم مِنَ الشِّدَّةِ التي هم فيها إلى البَرِّ الذي هو شاطئُ السلامةِ {إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} .
وقوله عز وجل: {إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} جملةٌ اسميَّةٌ تُفِيدُ الثُّبوتَ، أي أن الشِّرْكَ صارَ كالصِّفَةِ اللازمة لهم، فهم مُسْتَمِرُّونَ على الشركِ مُبادِرُونَ به، وهذا غَايَةُ ما يكون من اللُّؤمِ؛ لأن الإنسانَ بطَبِيعَتِهِ وفِطْرتِهِ لا يَكْفُرُ بمن أنْعَمَ عليه، بل يَشْكُرُ مَنْ أنعَمَ عليه، أما هؤلاء فإنهم بمُجَرَّدِ حصولِ نِعمةِ النَّجاةِ يُشْرِكُونَ.
من فوائد الآية الكريمة:
الفَائِدةُ الأُولَى: بيانُ أن المشرِكينَ يُخْلِصُونَ في حالِ الشِّدَّةِ ويُشْرِكُونَ في الرخاءِ، لقولِهِ:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} .
الفَائِدةُ الثَّانِية: اعترافُ المشرِكِينَ ضِمْنًا بأن آلهتَهم لا تَنْفَعُهم؛ لأنهم لو كانوا يعْتَقِدُونَ نَفْعَها لدَعَوْهَا في هذه الحال، لكن هم يَعْرِفُون بأنها لا تنْفَعُهُمْ.
الفَائِدةُ الثَّالِثة: أن إشراكَ السابِقِينَ أهونُ مِنْ إشراكِ مَنْ أشركَ مِنَ المتأَخِّرِينَ
من هذه الأُمَّةِ؛ لأن المشركينَ المتَأَخِّرِينَ يُشْرِكُون في الرَّخاءِ وفي الشِّدَّةِ، وأيضًا لا يَدْعُون اللَّه سبحانه وتعالى لكِنْ يَدْعُونَ أولياءَهُم، فالرافِضَةُ يدْعُون عليًّا، وسمعتُ رَجُلًا يَدْعُو عند المقامِ ويَرْفعُ صوته بقوةٍ: يا عَلي يا على، فجاء أحدُ رجالِ الحِسْبَةِ وزجَرَهُ، وقال: تشركُ عندَ الكعْبةِ، فقال أنا أقولُ:(يا على) واللَّه يقولُ في القرآنِ: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الشورى: 4]، وهذا من التَّقيَّةِ عندَهم التي هي سبيلُ المنَافقين؛ لأن هذا الرَّجلَ الظاهِرُ أنه يريدُ عَلِيًا وإلا لقال: يا رب، أو: اللهم، وما أشبه ذلك.
الفَائِدةُ الرَّابِعةُ: أن اللُّجوءَ إلى اللَّه في حالِ الشِّدَّةِ أمرٌ فِطْرِيٌّ، بدليل أن هؤلاء غَلَبَتُهم فِطْرتُهم حتى دَعَوا اللَّهَ وحْدَهُ مخْلِصينَ له الدِّينَ.
الفَائِدةُ الخامِسةُ: أن الدُّعاءَ من الدِّينِ لقولِهِ: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ولا شكَّ أن الدُّعاءَ من الدِّينِ والعبادةِ؛ لأن فيه غايَةَ الذُّلِّ والاعترافِ بكمالِ اللَّه عز وجل، وأنت عندما تقول: يا رَبِّ، فأنتَ مُفْتَقِرٌ إلى اللَّه عز وجل، ومعناه أن اللَّه كامِلٌ، ولهذا "بايعَ الصَّحَابةُ رضي الله عنهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم على ألَّا يَسْألوا الناسَ شيئًا، فكان الرَّجُلُ يسقُطُ سَوْطُه من بَعِيرِهِ فيَنْزِلُ ويأْخُذُهُ ولا يقول: نَاولنْي إِيَّاه يا فُلانُ"
(1)
، بينما في وَقْتِنَا تجدُ الإنسانَ يتَذَلَّلُ غايةَ الذُّلِّ في سؤالِ المال وهو غيرُ محتاجٍ، فهؤلاء يأتون يومَ القيامَةِ وليس في وجوههم مِزْعَةُ لحْمٍ -والعياذ باللَّه-.
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس، رقم (1043) عن عوف بن مالك بلفظ: كنا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال:"أَلَا تُبَايعُونَ رَسُولَ اللَّه؟ " وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك يا رسول اللَّه. ثم قال: "أَلَا تُبايعُونَ رَسُولَ اللَّه؟ " فقلنا: قد بايعناك يا رسول اللَّه. ثم قال: "أَلَا تُبَايعُونَ رَسُولَ اللَّه؟ " قال: فبسَطنا أيدينا، وقلنا: قد بايعناك يا رسول اللَّه فعلام نبايعك؟ قال: "عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللَّه وَلَا تُشْرِكُوا بهِ شَيْئًا وَالصَّلَواتِ الخمْسِ وَتُطِيعُوا -وأسر كلمة خفية- وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا". فلقد رأيتَ بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدًا يناوله إياه.
فالحاصل: أن الدُّعاءَ تَذَلُّلٌ، ولهذا كان مِنَ العابِدَةِ.
الفَائِدةُ السَّادسَة: أن هؤلاءِ المشركينَ إذا نَجَوْا مِنَ الشدَّةِ كَفَرُوا بالنِّعْمَةِ، لقولِهِ:{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} .
الفَائِدةُ السَّابِعةُ: سَفَهُ من يجْعَلُ النِّعَمَ سببًا للأشَرِ والبَطَرِ، فإن مَن فَعَلَ ذلك فيه شَبَهٌ من هؤلاءِ المشركين، لأن الواجِبَ على مَنْ أنعَمَ اللَّهُ عليه النِّعْمَةَ أن يزْدَادَ عبادَةً للَّه عز وجل؛ لأن العِبادَةَ مِنَ الشُّكْرِ، فإذا أنْعمَ عليكَ ربُكَّ بنِعْمَةٍ فازَدَدْ له شُكرًا، وقد تقدَّم أن الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم لما دَخَل مكَّة فاتحًا طأْطَأ رأسَهُ
(1)
، حتى إنه ليُصِيبُ مَورِكَ رَحْلِهِ صلى الله عليه وسلم، كلُّ هذا من أجلِ التَّذَلُّلِ للمُنعِمِ سبحانه وتعالى، فلا تَجْعَلْ نِعَمَ اللَّه سَبَبًا للأشر، بل اجْعلَها سببًا للشكرِ والذُّلِّ للَّه سبحانه وتعالى حتى تَزْدادَ هذه النِّعَم وتكون نِعِمًا حَقِيقَةً.
* * *
(1)
أخرجه أبو يعلى في مسنده (3393)؛ والحاكم في مستدركه (3/ 49)(4365)؛ وابن عساكر في تاريخه (4/ 80) عن أنس، ولفظ الحاكم:"دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وذقنه على رحله متخشعًا".