الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (67)
* * *
* قالَ اللَّه عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67].
* * *
قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا} تقدَّمَ الكلامُ على مِثلِ هذا التركيبِ، وذَكَرْنَا أن الهمزةَ للاستفهامِ، والواو حرفُ عَطْفٍ، وهل الهمزةُ مقدَّمَة عن مكانها أو لا؟ وذَكَرْنَا أن في ذلك خلافًا، وأن الأرْجَحَ أن الهمزةَ للاستفهامِ، وأن الواو عاطِفَةٌ على ما قَبْلَها.
قَال المُفَسِّر رحمه الله: [{أَوَلَمْ يَرَوْا} يَعْلَمُوا ذلِكَ]: لأن الرُّؤيَةَ نوعان: عِلْمِيَّةٌ، وبَصَرِيَّةٌ، إن تَعَدَّتْ إلى مَفْعولين فهي عِلْمِيَّةٌ، كقولك:(رأيتُ العِلْمَ نافِعًا)، وإن تعَدَّتْ إلى مفعولٍ واحد فَهِي بصَرِيَّة، كقولك:(رأيت فلانًا).
ومثال الرؤيةِ العِلمِيَّةِ في القرآن قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6 - 7]، أي: نَعْلَمُه قَرِيبًا، والرؤْيَةُ في {يَرَوْنَهُ} الأُولى رؤيةٌ ظُنٍّ أي: يَظُنُّونَه بعيدًا.
وقوله: {جَعَلْنَا حَرَمًا} الحَرَمُ ما له حُرْمَةٌ، أي: تَعْظِيمٌ، وسُمِّيَ التَّعْظِيمُ حُرمة؛ لأنه يمْنَعُ بهذا التَّعْظِيمِ ما كان سَائغًا لَوْلَاهُ، ومن جُملَةِ حُرماتِ مكَّةَ: تحريمُ قتلِ الصَّيْدِ، والقتالِ فيها، وقَطْعِ الشجَرِ، وحَشِّ الحَشِيشِ، حتى الحيواناتِ غيرِ المؤْذِيَةِ يجبُ أن تكون آمنة.
وقوله: {حَرَمًا آمِنًا} أهل المجاز يقولون: آمِنًا مَنْ فيه، والصواب أن الحرَمَ نَفْسَهُ آمن، ولهذا عَصَمَهُ اللَّه سبحانه وتعالى من كلِّ أحدٍ، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1]، وحرَّمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم القتالَ فِيهِ
(1)
، فهو نفْسُهُ آمِنٌ، وإذَا أمِنَ نفْسُه أمِنَ مَنْ فيه.
قَال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} قَتْلًا وسَبْيًا دُونهُم]: ففي عَهْدِ الجاهِلِيَّةِ كان غيرُ أهلِ الحرَمِ لا يعرِفُونَ الأمنَ والأمانَ، يُغَار عليهم ويُقتلَوُن ويُسْبَون وتؤخَذُ أموالهُمْ ونساؤهم؛ لكنَّ أهلَ مكَّة آمنون، حتى إن الإنسان يجِدُ قاتِلَ أبِيهِ في الحرمِ ولا يَقْتُلُه مع شِدَّةِ الحَمِيَّة عندهم، لكن في غيرِ الحرَمِ تَجِدُ القتلَ والسَّبْي والنَّهْبَ، فكانت نِعْمَةُ الأمْنِ على قريشٍ نِعْمَةً عظيمةً، وكان عليهم أن يُقابِلُوا هذه النِّعْمَةَ بالشُّكْرِ والتَّصْديقِ للرسولِ عليه الصلاة والسلام، مع أنَّ الرسولَ عليه الصلاة والسلام منهم يَعْرفونَهُ، ويُسَمُّونَه قبل أن يأتي بالرسالة بالأمينِ، ويحْتَكِمون إليه أحيانًا؛ لكن لما بُعِثَ بالرسالةِ وخالَفَ أهواءَهُم كَفَروا به، فالحرَمُ آمِنٌ وهذه نِعْمَةٌ تُوجِبُ الشُّكْرَ، حتى في فِتنَةِ القَرامِطَةِ وأخْذِهِمُ الحَجَر ما تغَيَّر الحرم بل بقي آمنًا، ولم تَتَعَطَّلْ فريضةُ الحجِّ.
قوله: [{أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} الباطِلُ: الصَّنَمُ]: وهذا فيه نَظَرٌ إلا إذا قَصَدَ
(1)
روى البخاري معناه في كتاب المغازي، باب من شهد الفتح، رقم (4059)؛ ومسلم: كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، رقم (1353) عن ابن عباس، ولفظ البخاري: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قام يوم الفتح فقال: "إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ بِحَرَامِ اللَّه إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَلَم تَحْلِلْ (تُحْلَلْ) لي قَطُّ إِلَّا سَاعَةً مِنَ الدَّهْرِ لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا (شَجَرُهَا) وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إلا لِمُنْشِدٍ". فقال العباس بن عبد المطلب: إلا الإذخر يا رسول اللَّه فإنه لا بد منه للقين والبيوت؟ فسكت ثم قال: "إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ حَلَالٌ".
المُفَسِّر التمثيلَ وأن مِنْ جُملةِ الأشياء الباطلِةِ الأصنامَ، وإلا فإن الباطِلَ يشْمَلُ كلَّ ما لا خيرَ فيه من صَنَمٍ أو دُنيا أو رِئاسة أو غيرها، كلُّ شيءٍ سِوَى الحقِّ فهو باطل، قال النبي عليه الصلاة والسلام:"أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالهَا الشَّاعِرُ لَبِيدُ: أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّه بَاطِلُ. . . "
(1)
.
فعلى هذا نقول: الباطلُ أعَمُّ مما ذَكَرَ المُفَسِّر رحمه الله.
وقوله: {يُؤْمِنُونَ} أي: يُصَدِّقُونَ ويَطْمَئنُّونَ إليه، فتَجِدُهُم في الأمورِ الباطِلَةِ مُطْمَئنِّينَ مصَدِّقينَ متَّبِعِينَ، لكن بنعمةِ اللَّه يَكْفُرونَ.
وقوله عز وجل: {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ} أي: بما أنْعَمَ اللَّه عليهم مِنَ المالِ والجاهِ والرئاسةِ وغيرها {يَكْفُرُونَ} ؛ لأن هذه النِّعَمَ تحتاجُ إلى شُكرٍ بالرجوع إلى طاعة اللَّه عز وجل، فإذا بَقِي الإنسانُ على مَعْصِيَةٍ معَ كَثْرَةِ النِّعَمِ صارَ بذلك كافرًا بالنِّعْمَةِ.
وبالنسبَةِ للمُسْلِمِينَ كُفْرهُم بنِعْمَةِ اللَّه يكونُ بكفْرِ النِّعْمَةِ المادِّيَّةِ والجسَدِيَّةِ والنعْمَةِ المعنَوِيَّةِ القَلْبِيَّةِ، فالإسلامُ أكبرُ النِّعَمِ، إذا كَفَرَ به الإنسان ولم يَقُمْ بواجباتِهِ فإنه يُوَبَّخُ ويقال له: ألَسْتَ مُسْلِمًا؟ فسيقول: بلى، فنقولُ: إذنْ لماذا لم تصلِ؟ لماذا لم تزكِّ؟ لماذا لم يفْعَل كذا وكذا من واجِبَاتِكَ؟
فشكر نِعْمَةِ الإسلامِ واجبٌ، كما أن شُكْرَ نِعْمَة اللَّه تعالى عَلَيْنَا في المالِ والبَنِينِ والأمْنِ والراحةِ وما أشبَهَ ذلكَ واجبٌ، بل الشُّكْرُ على نِعْمَةِ الإسلام أوجبُ، وكُفْرُ نِعمةِ الإسلامِ أخْطَرُ؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى يقولُ:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، وقال سبحانه وتعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه، رقم (5795)؛ ومسلم: في بداية كتاب الشعر، رقم (2256) عن أبي هريرة.
فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89]؛ لأن اللَّه يمكن أن يَنْزِعَ الإسلامُ من قومٍ لا يقومونَ بواجِبَاتهِمْ كما ينْتَزِعُ الأمنَ والرخاءَ من قومٍ لا يَشكُرونَ، فالنِّعَمُ واحدةٌ وسَبِيلُهَا واحد.
وقوله: {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} : قُولُه: {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ} مفْرَدٌ مضَافٌ فَيَعُمُّ، والدَّليلُ قوله:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، وقوله:{وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ} متَعَلِّقٌ بـ {يَكْفُرُونَ} وقُدِّمِ لإفادَةِ الحَصْرِ ولمراعَاةِ الفَواصِلِ.
* * *